تكوين
التيارات النقدية الحديثة
– 1 –
مقارنة بمراحل التدوين المبكرة، يواجه الإسلام المعاصر تيارًا نقديًا أكبر، ولائحة نقدية أوسع في مستوى الموضوع، وأعنف في لُغة الطرح. وكما ناقشت في المقالة السابقة، كان التيار النقدي المبكر في مُجمله “ربوبيًا” لا يُنكر وجود قوة إلهية خالقة، بل يُنكر وجود “أنبياء” مرسلين لهداية البشر. فالعقل وهو إلهام إلهي أصلي، قادر على تحقيق غرض الهداية تحقيقًا أفضل من آلية إرسال الرسل، التي تُفضي إلى الاختلاف والصراع بين البشر.
أما التيارات النقدية الحديثة فهي طيفٌ واسعٌ يضمُّ أنواعًا من اللادينيين الربوبيين والملحدين والمتشككين والمتوقفين، بالإضافة إلى بعض “المؤمنين” العقلانيين الذين يوجهون طاقتهم النقدية لا إلى الإسلام بوصفه دينًا في ذاته، بل إلى منظومة الفقه التاريخية الموروثة من عصر التدوين، و”المنسوبة” خطًا إلى الله.
تنطلق التيارات النقدية المعاصرة من خلفية ثقافية مُغايرة، تعكس حركة التطور الواسعة التي جلبتها الحداثة في طريقة التفكير حيال الإنسان والعالم، وغيرت وجهة النظر إلى الدين وعلاقته بالاجتماع.
إقرأ أيضًا: معضلات نظرية أمام الفكر الإسلامي المعاصر: مشكلة الدين والأخلاق
يُمكن الحديث عن تحول جوهري لصالح الوعي بفاعلية الإنسان وموقعه “المركزي” في الكون، على حساب القوى الغيبية التقليدية، ولصالح الوعي بالفردانية التعددية على حساب القوى السلطوية التقليدية ذات الطابع الجماعي من القبيلة والعشيرة والأسرة إلى الكنيسة والدولة. وفي ذاك السياق تبلور الوعي بنوع قَبْلي من “المرجعية” سابق على الدين، ويمكن عدهُ “أخلاقًا” إنسانية كلية وعامة. وهذا واضح في طريقة الاعتراض “الإلحادية” على الدين، فهي تقدم -ببساطة- حيثيات قِيَمية تفترض وجود تلك المرجعية.
– 2 –
تناقش هذه المقالة حالة الاشتباك الأخلاقي القائمة بين التيارات اللادينية المتعددة والفكر الإسلامي المعاصر، الذي يجد نفسه الآن في وضعية “دفاعية” غير معتاد عليها، سواء من جهة الموضوع بمفرداته الشائكة التي تطرح بلا سقف، أو من جهة المنهج الذي يتطلب أدوات عقلية وعلمية وتاريخية، تتجاوز آليات التأويل السلفي التقليدية ذات الطابع اللُغوي النقلي. يبدو المُشكل في الواقع أكثر تعقيدًا مما يصوره العقل الفقهي بشقيه المدرسي والأصولي، أي بوصفه حزمةً من “الشبهات” رد عليها السلف من قبل.
تطرح التيارات اللادينية لائحة نقدية موسعة مبنية على اعتبارات أخلاقية. وهي مُوجِّهةً للإسلام في أصوله الكلية التي يتشارك فيها مع اليهودية والمسيحية، وفي مادته التشريعية وسردتيه التاريخية التي يتمايز بها عن الديانتين الكتابيتين. ويمكن تجميعها إجمالًا على النحو الآتي:
- مشكلة السيف، أو العنف الزائد.
- مشكلة العبودية وسبى النساء.
- مشاكل تتعلق بالتمييز في الحقوق (الرجل/المرأة – الحر/العبد – المسلم/غير المسلم).
- مشاكل تتعلق بالممارسات المنسوبة إلى النبي (الامتيازات المالية كما في الغنائم والخمس، المسائل الخاصة بزواجه من النساء، وبسلوكه الجنسي عموما، أفعال الاغتيال والعنف المفرط، ارتكاب السب والقذف في حق الخصوم).
أولًا، في مشكلة السيف
يأتي هذا المشكل على رأس اللائحة بوصفه المأخذ الرئيس على الأخلاق الإسلامية. وهو مأخذ تقليدي متكرر في التراث النقدي الموجه إلى الإسلام، لكنه سيأخذ هنا أبعادًا تحليلية أوسع من صيغته التراثية. فمن طريقه سينفتح النقاش على مفهوم “الحق الحصري” أو التوحيد، الذي يحرض على نفي الآخر المخالف وقهره بقوة السلاح، ما يعني التنكر لقانون أساسي من قوانين الاجتماع وهو قانون التنوع أو التعددية الطبيعية.
الوعي اللاديني المعاصر يدرك أن “العنف” سمة مشتركة في الديانات الإبراهيمية الثلاث، بوصفها تمثلات متعددة لنسق التدين الحصري ذاته. لا تستطيع أي ثقافة كتابية تبرئة نفسها من تهمة “القتل” الموجه إلى الآخر الديني، لا في النصوص ولا في مستوى الممارسة التاريخية.
ومع ذلك فهو ينظر إلى الإسلام بوصفه الديانة الكتابية الأكثر خشونة وعنفًا، على الأقل في الوقت الحاضر. إذ ما يزال بمرجعيته المدرسية، الديانة الأقل قابلية للتخلي عن مبدأ الحق الحصري، وما يزال -بنسخته الأصولية- يقدم النموذج الأبرز للعنف الديني عبر العالم.
بالمقارنة التاريخية تخلت المسيحية تحت ضغوط الحداثة عن سلطتها السياسية وممارساتها التفتيشية التي امتدت عبر العصور الوسطى، وفي المستوى النظري قدمت الكنيسة الكاثوليكية، تنازلات لاهوتية ملموسة فيما يتعلق بمبدأ “الخلاص” الحصري والتعاطي مع التعددية الدينية، وتخففت من طريق التأويل من سلطة العهد القديم مبُدية رُوحًا تسامحيًا يستوعب وجود الآخر داخل العالم، وأعادت تأسيس ذلك على النصوص الأصلية للعهد الجديد.
لكن المقارنة مع اليهودية تبدو أكثر تعقيدًا، بسبب تداخلها النظري والتاريخي في بنية المسيحية والإسلام من جهة، وبسبب طابعها السياسي الاجتماعي الأصيل الذي يسبق المعنى الروحي ويطغى عليه من جهة أخرى.
تاريخيًا ومنذ ما قبل العصر المسيحي، تراجع الحضور السياسي للشعب العبري بقوة الدولة الرومانية، وتلاشت ذكريات المجازر الدموية التي ارتكبها اليهود ضد الشعوب والجماعات المجاورة وسجلها العهد القديم. لم تكن فكرة “الخلاص الديني” كامنة خلف هذا العنف، بل فكرة تملك الشعب للأرض، يكتسب الدين فيها معنىً إثنيًا صريحًا ومباشرًا. لا يقاتل اليهودي كي تكون “كلمة الله هي العليا” كما في الصياغة الإسلامية، لكن من أجل الأرض التي اختص بها الله هذا الشعب، لأنه اختاره وفضله على بقية الشعوب. الهدف من القتال ليس إدخال الشعوب في اليهودية فهي ليست ديانة دعوة أو تبشير، فالشعب لا يعمل لخدمة الدين، بل الدين يعمل لخدمة الشعب.
إقرأ أيضًا: نصارى أم مسيحيين؟ قراءة في تاريخ المسيحية المبكرة
بعد الشتات الروماني وبامتداد العصر المسيحي الطويل، تلاشت قدرة اليهودية على إثارة الحرب، لكنها ظلت قادرة من وقت إلى آخر، على خلق بؤر محلية للتوتر السياسي والاجتماعي، داخل المناطق المسيحية وأراضي الإمبراطورية العثمانية. وسيؤدى ذلك إلى ما صار يُعرف في الغرب بالمسألة اليهودية، التي صُدرت إلى الشرق الأوسط بإنشاء “وطن قومي لليهود” في فلسطين.
بظهور دولة إسرائيل عادت اليهودية من جديد لامتلاك السلطة، ولتمثل مصدرًا لإنتاج نيران إضافية في المنطقة القابلة أصلًا للاشتعال الديني. مارست إسرائيل العنف على نطاق واسع، لكنه كالعادة وبطبيعة التكوين الطبيعي، اتخذ مظهرًا سياسيًا علمانيًا يُغطى على مضمونه الديني، فقد طرحت إسرائيل نفسها بوصفها دولة مدنية علمانية حديثة، وقدمت مفهوم “الشعب اليهودي” ليكون مصطلحًا سياسيًا يُحيل إلى مضامين قانونية اجتماعية. مُرر هذا المعنى في البداية في ظل الثقافة القومية السائدة في المنطقة منذ بداية القرن الماضي، لكنه سيتراجع تدريجيًا مع تفاقم المد الأصولي الإسلامي، الذي سيفرض “تديين” الصراع، ويُعيد قراءة العنف الإسرائيلي بوصفه عنفًا “يهوديًا” صريحًا في منظور الإسلام.
– 3 –
يحتل الجهاد/القتال موقعًا مركزيًا في صلب الديانة الإسلامية وهو مؤسس على النصوص، ما يضع الدين، وليس الفقه الاجتهادي فحسب في تناقض مع الأخلاق. وطبقًا للطرح اللاديني المعاصر: يشير هذا المعنى إلى أخلاق خشنة ووحشية عمومًا، فهو يعكس الطابع البدوي الجاف لمرحلة التأسيس، ويُعبر عن حاجاتها ومشاغلها. لقد جرى الخلط بطريقة سلبية بين فكرة الدين بوصفه معنىً رُوحيًا أخلاقيًا، وأهداف المشروع السياسي الخاص للنبي محمد في الجزيرة العربية. فقد وُظفت فكرة “الجهاد في سبيل الله” لخدمة هذه الأهداف، التي جرى تصعيدها بعد وفاة النبي لتتحول عبر الغزو إلى إنشاء دولة عربية واسعة ذات بناء إمبراطوري. وفي ذاك السياق يُنظر إلى “الفتوحات” الإسلامية بوصفها نماذج استعمارية صريحة ذات أغراض سياسية، تنطوي على قهر مباشر لإرادة الشعوب، وتتعارض -ببساطة- مع المعنى الأصلي الرُوحي البسيط للدين.
في المقابل ويفعل الخطاب الموروث من ثقافة الفقه، لا يشعر الوعي الإسلامي العام بهذا التناقض بين الغزو الإسلامي والأخلاق. فاستخدام العنف أي القتل لنشر الدين ليس جائزًا فحسب، وإنما هو تكليف شرعي مُلزم، وعلى شعوب البلاد المفتوحة أن تكون ممتنة لهؤلاء الغزاة الذين كانوا سببًا لهدايتهم إلى الإسلام وإنقاذهم من النار.
في العبودية
– 4 –
يتساءل العقل اللاديني المعاصر: لماذا لم يُحرم الإسلام العبودية رغم ما تنطوي عليه من تناقض فادح مع الأخلاق؟ هل التشريع الإسلامي ليس إلهيًا؟ أم التشريع الإلهي ليس أخلاقيًا؟ أم أنه ليس ثمة تشريعات إلهية أصلًا، بل مواضعات اجتماعية تنشأ اتفاقًا عبر تاريخ البشر ثم تُنسب باسم الدين إلى قوة سماوية مفارقة؟
يجرى التعاطي مع السؤال بطريقتين مختلفتين من الفكر الإسلامي المعاصر بشقيه: الأصولي (السلفي)، والمدرسي (الرسمي). الأول، يُجاهر صراحة بالدفاع عن الرق كما هو، بوصفه فعلًا مباحًا بالنص الشرعي. والآخر، يتصدى للسؤال بآليات تبرير تأويلية ذات طابع اعتذاري.
1- بخصوص التيار الأصولي، ليس ثمة مُشكل على الإطلاق، “فإباحة” الرق ثابتة بالنصوص القطعية التي تنظم أحكام العبيد والإماء في القرآن والسنة. وهي أحكام مُؤبَّدَةً في الزمن لارتباطها بفريضة الجهاد في سبيل الله التي لا يجوز التوقف عنها. ليس ثمة ما يدعو إلى الخجل من حكم الرق، أو الاعتذار عنه بتبريرات ملتوية استرضاءً لثقافة الحداثة التي يروج لها العلمانيون وعملاء الغرب بحديثهم “الزائف” عن الأخلاق الإنسانية، فالنصوص الصريحة وممارسات النبي وأفعال السلف التي فصلها الفقه، تقطع بمشروعية الاسترقاق وتمنع النقاش بشأن تقييمه بأي معيار أخلاقي خارجي، فالأخلاق على الحقيقة هي ما شرعه الله، وليس ما يُتعارف عليه الناس بوصفه قيمًا مطلقة.
قياسًا بالتيار المدرسي الرسمي، وكما سيظهر بعد قليل، يبدو الطرح الأصولي في مسألة الرق أقل تكلفًا، وأكثر تناغمًا مع ذاته، أعنى أكثر توافقًا مع أصوله المرجعية التي تتمثل في النصوص والفقه وممارسات الواقع التاريخي. لا يخجل التيار الأصولي المعاصر من فكرة قتل الناس على الدين تحت مسمى “جهاد الطلب”، ومن ثم فهو يُرحب بأحكامه التفصيلية التي تعطيه الحق في تملك غنائم الحرب، وتبيح له استرقاق الأسرى وذويهم من النساء والأطفال عوضًا عن قتلهم.
تبدو هذه الأفكار تاريخية وغريبة بمقاييس الوعي الإنساني الحديث، وهي مؤثمة بنصوص المواثيق والاتفاقيات العالمية التي يتكون منها القانون الدولي. ومع ذلك فهي تظهر صراحة في فتاوى الشيوخ “السلفيين”، الذين أفرزتهم مرحلة المد الأصولي، وصاروا يمثلون ظاهرة تستحق النقاش بحضورهم الإعلامي الواضح، وسلطتهم الثقافية الموازية لسلطة الفقهاء الرسميين التابعين للدولة.
لكن الأخطر هو أنها صارت تُطبق تطبيقًا عمليًا على يد الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي استطاعت الاستيلاء على بعض الأراضي في ظل حالة الترهل السياسي والاجتماعي الراهن في المنطقة. وما يزال العالم حتى اليوم مصدومًا من الممارسات الهمجية لتنظيم داعش حيال النساء الأيزيديات والمسيحيات اللاتي أسرن بعد ذبح رجالهن من المدنيين في شمال العراق، وتحويلهن إلى إماء يَتسرى بهن “المجاهدون” ويعرضن للبيع والشراء في أسواق نخاسة حقيقية. وكذلك من الممارسات الهمجية لتنظيم بوكو حرام في نيجيريا وغرب أفريقيا، حيث تتواصل -باسم الله والشريعة- عمليات اختطاف الأطفال والبنات التي بدأت سنة 2014 بأسر 276 فتاة من مدرسة ثانوية في شيبوك بولاية برنو النيجيرية. لقد صرح قائد هذا التنظيم بكل فخر أنهم بحكم الإسلام، سوف يستعبدون الكفار الذين ينتصرون عليهم، وسيسبون نساءهم رغم أنف العالم.
2 – التيار المدرسي (الرسمي)
يتمثل هذا التيار في طبقة الفقهاء التقليدية التابعة رسميًا للدولة، ويُشار إليها مجازًا باسم “المؤسسة الدينية“. وهو بحكم تكونه التاريخي داخل السياق السني، تيار وسطي توفيقي يحاول الجمع بين منطوق النص النقلي الثابت، وحاجات الواقع الاجتماعي المتغيرة. ومن موقعه القريب من الدولة (الوطنية) يعمل على التوافق مع أهدافها التجديدية، ويسعى إلى الالتقاء مع الوعي الحداثي العام في منتصف الطريق، ليقر بإلغاء العبودية من العالم بوصفها أمرًا واقعًا يتماشى مع الأهداف البعيدة للإسلام، مع الإبقاء على مصداقية النصوص، التي صدرت في حينها لاعتبارات اجتماعية واقتصادية.
بوجه عام ينطوي الموقف المدرسي على اعتراف ضمني بصعوبة المُشكل، لكنه من موقعه الدفاعي لا يُقدم حلولًا كافية لحسمه. فهو يطرح في الواقع حزمة من التبريرات “الساذجة” لإباحة الرق في الإسلام، ويتجاهل صلب المسألة التي تنصب على “أخلاقية” الحكم بالإباحة. ولبيان ذلك يمكن التوقف أمام نموذجين من نماذج الفتوى الفقهية: الأول، ينتمي إلى السياق الوهابي السعودي، والآخر، إلى السياق الأزهري المصري.
تحت عنوان “الحكمة من عدم تحريم الاسترقاق” نشر موقع إسلام ويب فتوى برقم 4341 ردًا على السؤال الآتي: “لماذا لم تُحرم العبودية في الإسلام؟ وكيف يمكن لشخص أن يعاشر جارتيه وهو لم يتزوجها؟ أليس لها الحق كبقية البشر أن تختار زوجها؟”.
وجاء نص الجواب كالآتي: “لله كمال العلم والحكمة واللطف والرحمة، فهو عليم بشئون خلقه، رحيم بعباده، حكيم في خلقه وتشريعه. فشرع للناس ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، وما يكفل لهم السعادة الحقة والحرية والمساواة، لكن في نطاق عادل، وهدي شامل، وفي حدود لا تضيع معها حقوق الله ولا حقوق العباد.
وأرسل بهذا التشريع رسله مبشرين ومنذرين، فمن اتبع سبيله واهتدى بهدى رسله كان أهلًا للكرامة، ونال الفوز والسعادة، ومن أبى أن يسلك طريق الاستقامة نزل له ما يكره من قتل أو استرقاق، إقامة للعدل وتحقيقًا للأمن والسلام.
ومحافظةً على النفوس والأعراض والأموال، من أجل ذلك شُرع الجهاد أخذًا على يد العُتاة، وقضاءً على عناصر الفساد، وتطهيرًا للأرض من الظالمين، ومن وقع منهم أسيرًا في يد المسلمين كان الإمام مُخيرًا فيه بين القتل إن فحش شره ولم يرجَ صلاحه، وبين العفو عنه، أو قبول الفدية منه، وبين أن يسترقه إن رأى أن بقاءه بين أظهر المسلمين يصلح نفسه، ويُقَوِّمُ اعوجاجه، ويُكسبه معرفة بطريق الهدى والرشاد، وإيمانًا بها واستسلامًا لها، لما يراه من عدل المسلمين معه وحسن عشرتهم وجميل معاملتهم له.
ولما يسمعه من نصوص التشريع في أحكام الإسلام وآدابه فينشرح صدره للإسلام ويحبب الله إليه الإيمان، ويُكره إليه الكفر والفسوق والعصيان. وعند ذلك يبدأ حياة جديدة مع المسلمين يكون بها أهلًا لكسب الحرية بطريق الكتابة، كما قال تعالى: “والذين يبغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم” (النور: 33). أو بطريق العتق في كفارة يمين أو ظهار أو نذر، ونحو ذلك، أو بطريق العتق ابتغاء وجه الله، ورجاء المثوبة يوم القيامة إلى غير ذلك من أنواع التحرير.
وبهذا عُلم أن أصل الاسترقاق إنما هو عن طريق الأسر، أو السبي في جهاد الكافرين، لإصلاح من استرقوا بعزلهم عن بيئة الشر، وعيشتهم في مجتمع إسلامي يهديهم إلى سبيل الخير، وينقذهم من براثن الشر، ويطهرهم من أدران الكفر والضلال ويجعلهم أهلًا لحياة مرة يتمتع فيها بالأمن والسلام.
فالاسترقاق في حكم الإسلام كأنه مَطْهَرَةٌ، أو سوق حمام يدخله من استرقوا من باب ليغسلوا ما بهم من أوساخ، ثم يخرجوا من باب آخر في نقاء وطهارة وسلامة من الآفات.
فإذا ثبت هذا الحكم الشرعي علم أن للسيد حقًا في هذه الجارية الثابت رقها من خدمة وغيرها لسيدها. ثم أعلم أن الإسلام لما أباح وطء ملك اليمين رتب عليه أحكامًا، فمن ذلك أن تصبح هذه الأمة حرة إذا استولدها ومات عنها، وأولادها يصحبون أحرارًا، وأنه بعد ذلك لا يجوز بيعها ما دامت أم ولد… وهذا يا أخي الكريم دين الله وشرعه، وله الحكمة البالغة: لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون” (الأنبياء: 23)، والله أعلم”. انتهى نص الفتوى.
تعمدت إيراد هذا النص كاملًا رغم طوله لبيان مدى سذاجته وضعفه الاستدلالي. وهو يكشف عن خصائص الطرح الديني السلفي عمومًا بتكوينه النقلي وطابعه الإنشائي العاطفي. وواضح أنه لا يتجاهل لب المشكل موضوع النقاش، وإنما يحتج فيه بمحل النزاع.
ورغم أنه يُشير في البداية إلى الاسترقاق بوصفه عقوبة مكروهة “تنزل بمن أبى أن يسلك طريق الاستقامة… إقامة للعدل وتحقيقًا للأمن والسلام”، إلا أنه يعود فيصرح في عبارة تقريرية بأنه نعمة من نعم الإسلام الكبرى التي يسبغها على أعدائه، ففيه “إصلاح لمن استرقوا بعزلهم عن بيئة الشر، وعيشتهم في مجتمع إسلامي يهديهم سبيل الخير، وينقذهم من براثن الشر، ويظهرهم من أدران الكفر والضلال، ويجعلهم أهلًا لحياة حرة يتمتع فيها بالأمن والسلام”. فكأنه يريد القول بأن الرق “الإسلامي” ينقل الأسير إلى حياة مثالية أفضل من حياته السابقة في ظل الحرية.
– 5 –
النموذج الأزهري
في فتوى صادرة عن دار الإفتاء المصرية في يونيو 2013م، ردًا عن سؤال بخصوص جواز الإتجار بالبشر، جاءت خلاصة الجواب نصًا کالآتي: “لا تجوز التجارة في البشر. وكل البشر بهذه الاتفاقيات (الدولية) أحرارًا وليسوا محلًا للبيع والشراء. وقد وقع المسلمون المعاهدات الدولية التي تقضى بإنهاء الرق والعبودية للبشر، وكان ذلك متفقًا مع ما أراده الإسلام من تضييق منابعه، وتوسيع أبواب العتق، ليكون الناس كلهم أحرارًا كما خلقهم الله تعالى”.
طبقًا لهذه الفتوى لم يعد الاسترقاق جائزًا حتى بسبب الحروب، خلافًا للفتوى الوهابية التي ما تزال تُجيز الرق إذا تحققت شروطه الموصولة بحكم الجهاد.
وخلافًا للطرح الوهابي لا تقوم خُطة الدفاع الأزهرية على نفي التناقض بين الرق والأخلاق أو محاولة إثبات أخلاقية الرق، بل تنطلق بحكم خلفيتها “الأشعرية” من إقرار ضمني بعدم خيرية الفعل في ذاته، وتهدف إلى “التخفيف” من مسؤولية الإسلام عنه، وتلفت إلى كراهة الإسلام له، وسعيه في تضييق منابعه وإلغائه في نهاية المطاف.
تبدأ الفتوى الأزهرية حيثياتها الدفاعية فتشير إلى أن “الإسلام جاء فوجد الرق موجودًا في كل أنحاء الدنيا، وكانت وسائله متعددة، بعضها يقوم على الخطف والسرقة، وبعضها يقوم على الحروب، وبعضها يقوم على استرقاق الغرماء، فألغى الإسلام كل تلك السبل وأبقى الاسترقاق بالحرب، لكن لم يمنعه الإسلام مرة واحدة على عادته في التدرج في الأحكام، حتى لا يحصل الاختلال الاجتماعي، فإن الرق كان ظاهرة موجودة عند كل الأمم، وكان الرقيق قوة بشرية لها أثرها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية”.
الفكرة الواضحة هنا هي أن الفتوى تقول بزمنية الحكم الشرعي الخاص بالرق وارتباطه بالسياق الاجتماعي الذي نشأ فيه. وهذا موقف تقدميٌّ صريح قياسًا بالموقف السلفي، لكنه في الوقت نفسه موقف يصعب الدفاع عنه بآليات الفقه التقليدية السائدة، وهو لا يُعبر عن توجه عام ودائم حيال النصوص التشريعية ما تزال تتمتع بحصانة المطلق المُؤَبَّدَةُ في الزمن.
والأهم أن هذا الموقف لا يحسم المُشكل جوهريًا، إذ يظل السؤال مطروحًا: لماذا أباح الإسلام العبودية في المراحل المبكرة رغم أنها اعتداء صريح على كرامة الإنسان، وتدخل من ثم في دائرة القيم المطلقة؟ تذهب الفتوى إلى أن الدين ليس مسئولًا عن حضور العبودية في التاريخ، وتُلقي بالمسؤولية على عاتق الظروف الاجتماعية، “وهو ما يعني اعترافًا متأخرًا -تحت ضغط التطور- بمسئولية الاجتماع عن التشريع حتى في ظل حضور الدين. في واقع الأمر وإذا ما كنا ننطلق من كون الأخلاق الكلية إلهية بالضرورة، فإما أن الدين متناقض في جملته، وإما أن التشريع فعل اجتماعي لا ينتمي إلى جوهر الدين، يقول المنطق الديني إنه جاء ليحكم الاجتماع بالأخلاق وكان عليه، لذلك أن يتدخل لتأثيم العبودية مونها فعلًا اجتماعيًا مناقض لماهيته.” (انظر في كتابي “الدين والتدين، الفصل الأول، العبودية: الأخلاق الكلية والدين. دار التنوير، ط 1، 2012، ص 223 -241).
طبقًا للفتوى يبدو الإسلام وكأنه كان يودُّ لو لم يكن ثمة رق منذ البداية، وأنه كان يستهدف إلغاءه في نهاية المطاف، لكنه لم يُحرمه مرة واحدة حتى لا يحصل الاختلال الاجتماعي حيث كان الرقيق قوة لها أثرها في الحياة الاقتصادية، وهو دفاع مُناقض للخصائص الإلهية التي تتصف بالقدرة المطلقة والعلم الكلي والإرادة الخيرة.
وفي السياق ذاته تلفت الفتوى إلى فكرة أن الإسلام ضَيَّقَ منابع الرق “فجعله حرامًا إلا إذا كان سببه هو القتال والجهاد لدفع الطغيان ورد العدوان” وكأن ذلك يُعد سببًا كافيًا لجعل الرق فعلًا أخلاقيًا. لقد كان مقتضى ذلك أن يقتصر الاسترقاق على أسرى الحرب من الرجال المقاتلين، لكن الفتوى تُشير إلى أن الرق يسري أيضًا على من معهم في دار الحرب من النساء والأطفال. ثم تضيف -بسذاجة- أن “ضرب الرق على الأسير يكون بأمر الحاكم إن رأى فيه المصلحة، أما غير المُحاربين فلا يجوز استرقاقهم أصلًا، واسترقاق المحارب أهون من قتلة وحُرَّم قتل المرأة في الحرب وجعلَ سبيها عوضًا عن قتلها…”