معضلات نظرية أمام الفكر الإسلامي المعاصر: مشكلة الدين والأخلاق

 تكوين

التاريخ النقدي للأخلاق الدينية

-1-

ناقشت في المقالة السابقة كيف وُجهت سهام النقد إلى الأخلاق المسيحية من داخل فضائها الثقافي، بِدءًا من فلاسفة التنوير الفرنسيين قبل الثورة، ومن طريق كانط وفيورباخ ثم نيتشه. رغم اختلاف الرؤى وحيثيات التأسيس، توافق الجميع على وجود تناقض بين هذه الأخلاق والطبيعة البشرية، وعلى جسامة الدور الذي لعبه الكهنوت في صنع هذا التناقض وتكريسه عبر التاريخ. وتدريجيًا ظل هذا التوجه يتصاعد مع حركة التحول الحداثي الواسعة التي بدأت في الغرب منذ عصر النهضة، وطالت أنساق الوعي والتفكير، وغيرت وجه النظر إلى الدين وعلاقته بالاجتماع.

الحديث عن تناقض الطرح الديني مع الطبيعة البشرية، ينطوي في الواقع على نقد أخلاقي، بمعنى أنه يُحاكم الدين كما يطرحه الكهنوت إلى قيم معيارية أسبق. هذه القيم ذات مصدر اجتماعي أرضي، وتبدو مشتركة في الحس الإنساني العام، بصرف النظر عما إذا كان مصدرها العقل كما ذهب كانط أو الوعي الكلى كما يشرح فيورباخ أو حتى الغريزة الحيوانية كما يقول نيتشه.

والمعنى هو أن المُشكل الأخلاقي يأتي في صلب النقد الحداثي للدين التاريخي (الكهنوتي/الفقهي). وهو لا يُطرح من التيارات التجديدية المعتدلة التي تؤمن بوَحْدة الدين والأخلاق وبمرجعيتهما الإلهية المشتركة فحسب، بل يُطرح أيضًا من التيارات الإلحادية التي يفترض الوعي الديني أنها تيارات متحللة أخلاقيًا، وهي تفصل بين الدين والأخلاق، وتؤكد أصلهما الأرضي الاجتماعي المشترك.

– 2 –

النقد الأخلاقي للدين لم يبدأ مع الحداثة، لكنها طبعته بطابعها “الإنساني” المادي والأكثر حسية: تاريخيًا وقبل انتشار الديانات الإبراهيمية، تعرض الدين اليوناني لقراءات نقدية مُعمقة من التيارات الفكرية “الموازية” التي اهتمت بفكرة الهداية والسعادة الإنسانية، ولقيت انتشارًا واسعًا في المناطق الإغريقية وفي المحيط الروماني منذ القرن الثالث قبل الميلاد. أشير هنا خصوصًا إلى الفلسفتين الإبيقورية والرواقية.

إبيقور الذي كان يُفسر الكون والإنسان تفسيرًا ماديًا وفق نظرية “ديموقريطس” الذرية، لم يُنكر وجود الآلهة بالمعنى اليوناني البعيد، لكنه – خلافًا لأفلاطون – لم يربط الأخلاق بالدين، ورأى أن وسيلة السعادة في نقطتين: 1- تحقيق رغبات الإنسان وليس تجاهلها أو كبتها. وانتهى في ذلك إلى القول بمبدأ “اللذة” بوصفه دافعًا أصليًا للسلوك الأخلاقي الخير، شريطة الاعتدال حتى لا تنقلب إلى معنى الشر.

2- التحرر من عقدة الخوف الذي هو الدافع الأول للتدين، وأشار خصوصًا إلى الخوف من الموت والألم الذي يربطه الناس بالآلهة.

في القرن الثالث (ق.م)، أكد إبيقور الوجود الطبيعي للمادة والمصدر البشرى للأخلاق، ولفت الانتباه إلى المشاكل الأخلاقية التي ينطوي عليها الدين وتؤدى إلى كثير من الآثام والشرور. وفي هذا السياق قدم إبيقور أول صيغة عقلية “لمشكلة الشر” بوصفها معضلة دينية صعبة التأويل: “إن الله إما أنه يريد أن يمحو الشر ولا يستطيع، أو أنه يستطيع ولا يفعل، أو أنه لا يريد ولا يستطيع، أو أنه يستطيع ويريد في الوقت نفسه. فالفروض الثلاثة الأولى غير مقبولة إذا كان إلهًا بمعنى الكلمة، وعلى هذا فلا يبقى إلا الفرض الأخير، فإذا كان يستطيع إزالة الشر ويريد إزالته فلماذا بقي الشر… ويستخلص من ذلك أنه لا يوجد إله… إذا كان المقصود بهذا الاسم مُدبرًا لهذه الدنيا”. (جون باجنيل بيوري، حرية الفكر، الترجمة العربية، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010، ف 1، ص 39).

مشكلة الشر كما صاغها إبيقور في مواجهة الدين اليوناني، ظلت تشمل تحديًا جديًا لعلم الكلام التوحيدي ولا تزال تطرح عليه مفرداتها نفسها من التيارات اللادينية المعاصرة، ولم تُفلح الجوابات المسيحية التي قدمها أوغسطينوس، ولا النقاشات الإسلامية التي خاضها المعتزلة والأشاعرة في حلها بأدلة عقلية ذات طابع برهاني.

– 3 –

في طبيعة الأشياء

في القرن الأول (ق.م) ظهرت أفكار إبيقور في نطاق واسع في الأوساط الرومانية، بفضل شروح الشاعر الرُوحاني “لوكريتيوس“، في عمله الشهير “في طبيعة الأشياء“، وهو قصيدةٌ مطولةٌ (7419 بيتًا موزعة إلى ستة أقسام). ومن طريقها يُقدم لوكريتيوس عرضًا تفصيليًا لفيزياء إبيقور الذرية وعلاقتها بالعقل والروح والأخلاق: كل شيء في العالم يُكمن تفسيره بقوانين طبيعية وليس بفعل قوة عُليا مفارقة، وينطبق ذلك على الأجسام والمشاعر والأفكار، كل مشاكل البشر تأتي من فكرة الخوف من تسلط الآلهة، والرعب من غضبها الذي يجلب المصائب في الدنيا، ويُنذر بالعذاب الأبدي بعد الموت. هذه الفكرة تُعكر على البشر حياتهم، وتمنعهم من تحسينها أو التمتع بها، ولذلك فخير البشر يكمن في التخلص من هذه “العقائد” التي تسبب الخوف. وهذا ممكن لأن الآلهة -التي لا يُنكر لوكريتيوس وجودها – لا تعبأ بما يجرى في العالم، ولا تتدخل فيما يفعل الناس من خير أو شر.

تُعد القصيدة تحفةً “أدبية” رفيعة المستوى، رغم مضمونها العلمي الفلسفي الذي يُعالج طبيعة التكوين الأول للمادة والأفكار. ثمة شيء مدهش في قدرة الشعر على احتواء الفيزياء والفلسفة مع الحفاظ على رُوحه الجمالية، لكن مكانتها العالية التي لا تزال تحتلها حتى الآن، ترجع إلى تأثيراتها اللاحقة في تاريخ الفكر الغربي: فمنذ بداءة عصر النهضة، وباستحضارها لفيزياء إبيقور الذرية وأخلاقه الطبيعية، لعبت دورًا “محركًا” في عملية بحث “المذهب الإنساني” الذي يُمثل مقدمة لأفكار التنوير الحداثي، فضلًا عن تأثيرها المُلهم في تطوير البحوث العلمية في: الأنثروبولوجيا والبيولوجيا والفلك، وبوجه خاص في مجال النظرية الذرية بدءًا من “بيير كاسندي” في القرن السابع عشر حتى “أينشتاين” في القرن العشرين، وكذلك في نظرية التطور لدى “داروين“.

تبدأ القصيدة بخطاب موجه إلى “فينوس” ربَّةُ الحب والجمال عند الرومان:

“يا واهبة الحياة.

يا من تملئين – من خلف بُرجك السماوي المتحرك برشاقة- البحر المليء بالسفن، والأرض المُحملة بالثمار.

إذ إنه من خلالك تنشأ كل أنواع الكائنات الحية، وتنمو وترى الشمس بعد مولدها…”

فهو إذًا -مثل إبيقور– يُقر للآلهة بمبدأ الخلق، لكنه يعتقد مثله أيضًا أن:

“جُل طبيعة الآلهة ينبغي أن تتمتع في ذاتها بحياة خالدة، وبأقصى درجات السكينة،

فهي في معزل وبعيدة كل البعد عن شؤوننا

إذ إنها لا يُصيبها أي ألم ولا تتعرض للخطر.

فهي ذاتها قوية بقدراتها الذاتية، ولا تحتاج إلينا في شيء على الإطلاق.

فلا تُسترضى بصلوات “العبد الصالح” ولا يعتريها الغضب (من المسيء).

ثم يتحول بالخطاب إلى صديقه مميوس:

يبقى أن توجه أذنيك الخاليتين من الأفكار،

وعقلك الحصيف المتحرر من الهموم نحو الفلسفة الحقيقية.

وذلك كي لا تهجر هباتي التي ازدريتها من قبل أن تعيها، تلك الهبات التي عرضتها عليك بعناية مفرطة خالصة.

إذ سأبدأ بمناقشة النظام الأسمى للسماء والآلهة، وسأكشف لك عن بداءات الأشياء، من أين أتت الطبيعة بجميع الموجودات، وكيف ترعاها وتجعلها تتكاثر.

وإلى أي شيء تتحول الطبيعة نفسها مرة أخرى بعد تحللها.

تلك الأشياء هي التي اعتدنا نحن أن نطلق عليها “المادة”، التي تُدعى في الفلسفة الأجسام المُنتجة للأشياء، ونسميها أصل الموجودات. كما اعتدنا أن نُطلق على هذه الأشياء العناصر الأولى، لأن كل الموجودات تنشأ من تلك الأجسام الأولى. ومن ثم ينتقل بالحديث إلى “الحياة البشرية”، وكيف تأثرت سلبًا بمعتقدات الدين التي جلبت كثيرًا من الآثام والشرور الأخلاقية: عندما دبت حياة البشر على نحو خاطئ على الأرض فإنها، كما هو واضح للعيان، قد عانت وطأة المعتقدات الخاطئة.

التي كانت تُطل برأسها من أنحاء السماء،

وتُزعج البشر بمظهرها المخيف.

وهنا يستدعى إبيقور، ويمتدح الدور الذي لعبه في مواجهة المعتقدات، ويصوره بطلًا من أبطال الملاحم الإغريقية:

“في البداءة تجاسر رجل إغريقي بأن رفع عينيه البشريتين

في وجه المعتقدات، وكان أول إنسان يقف في مواجهتها.

لم تنهَهُ عن موقفه قصص الآلهة والصواعق والسماء بهزيم رعدها ذي الوعيد.

بل إن ذلك أثار، إلى حد بعيد، شجاعة عقلهِ القوية، إلى درجة أن صار أول إنسان يرغب في تحطيم الأقفال مُحكمة الإغلاق لأبواب الطبيعة…”

ثم يشرع لوكريتيوس في توجيه نقده الأخلاقي إلى هذه المعتقدات الدينية، وكيف تؤدى -على عكس الفلسفة- إلى كثيرٍ من الآثام والشرور:

“قد تظن أن دراستك للفلسفة تُمثل عدم التقوى، وأنها تُمهد الطريق نحو الجريمة.

بل على العكس، إن تلك المعتقدات هي أكبر أسباب ارتكاب أفعال تتسم بالجرم وعدم التقوى:

فبأي حق لطبخ صفوة القادة الدادائيين (الإغريق) قادة الحملة العسكرية، مذبح الرَبَّة “تريفياالعذراء في أوليس على نحو آثمٍ بدماء “إفيجينيا“.

وفور أن ربط الشريط ضفيرتيها العذريتين.

المتدليتين بالتساوي على كل جانب من وجنتيها،

وفور أن رأت أباها المكلوم وهو واقف أمام المذبح،

والأتباع بجواره يُخفون السكين،

والجنود يذرفون الدَّمع لظهورها،

جثت على ركبتيها من الخوف ثم انبطحت أرضًا في صمت.

لم يكن بمقدور أي شيء في ذلك الوقت أن ينفع الفتاة البائسة، وقد كانت أول من خلع على الملك لقب الأب إذ حملتها أيدي الرجال وأحضروها إلى المذبح وهي ترتعد. ولم يكن باستطاعتها أن تزف بأنشودة الزواج المهيبة كما كان يجري العرف المقدس للشعائر الدينية.

بل إن الفتاة الطاهرة، وهي في أوجِّ سن الزواج، سقطت على نحو آثم كقربانٍ حزينٍ كي تُذبح بيد أبيها، كل ذلك كي يحصل الأسطول على مخرج موفق وميمون. لقد استطاعت المعتقدات البالية أن تُقنع الناس بارتكاب شرور كثيرة.

أنت نفسك الآن، أو في أي وقت آخر، وقد أُثقلت بأقوال الكهنة المُرعبة، سوف تَنشد الابتعاد عنا.

نعم بالتأكيد، كم هي كثيرة الأوهام التي يستطيع الكهنة أن يخترعوها كذبًا في التو،

أوهام كافية لأن تُحول مبادئ الحياة،

وأن تقلب بالخوف، رأسًا على عقب، كل أقدارك”.

انظر لوکريتيوس، في طبيعة الأشياء، الترجمة العربية، القاهرة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2018 ، الكتاب الأول، ص 95 – 100).

في هذا المقطع يُقدم لوكريتيوس نموذجًا للشر الأخلاقي الذي ينتج عن طاعة المعتقدات الدينية، التي يُروج لها الكهنة، وتقوم على فكرة الخوف من غضب الآلهة؛ يستحضر من الميثولوجيا اليونانية قصة القائد “أجاممنون” الذي يُقرر التضحية بابنته “إفيجينيا” لاسترضاء الإلهة “أرتميس” حتى تسمح للرياح بمساعدة الأسطول الإغريقي على الإبحار في أثناء حرب طروادة، وذلك بناءً على طلب الكاهن “كالنحاس” الذي أخبر القادة اليونانيين أن “أرتميس” حجبت الرياح بسبب إساءة أجاممنون إليها حين قال إنه اصطاد وعلاَّ برمية سهم بارعة، فاق فيها الربة أرتميس ذاتها.

(وردت الإشارة إلى مأساة “إفيجينيا” في إلياذة هوميروس، لكنها تُعرض عرضًا مُفصلًا في مسرحية “يوربيديس” الشهيرة “إيفيجينيا في أوليس” التي عُرضت في أثينا عام 405 ق.م).

واضح أن الإبيقورية تفصل بين الأخلاق والدين، وتدعو ضمنًا إلى التخلص من العقائد كي تصبح الفضيلة ممكنة. وهي بذلك تخرج عن الخط العام للفلسفة اليونانية الكلاسيكية كما رسمه أفلاطون.

لدى أفلاطون يدخل الدين ضمن أسس الدولة المثالية أو المدنية الفاضلة، وترجع ضرورة الدين إلى دوره في نشر الأخلاق لدى الجماهير ومن ثم في حفظ النظام داخل المجتمع. يتعلق الأمر بضرورة عملية سياسية بغض النظر عن قوتها البرهانية. وهي الفكرة التي سادت في الأوساط الرومانية الرسمية، وعَبَّر عنها شيشرون في القرن الأول (ق.م)، وسوف يعتمدها ميكيافيلي وهو يُصرح بأن الدين ضروري لقيام الحكومة، وأنه قد يتعين على الحاكم أن يُروج لديانة لا يؤمن بها في نفسه.

– 4 –

الرواقية الرومانية والأخلاق المسيحية

في القرن الثالث (ق.م)، وبالتزامن مع الإبيقورية، ظهرت الفلسفة الرواقية في اليونان، لكنها انتشرت في نطاق أوسع في السياق الروماني منذ القرن الأول، فصارت تُمثل الثقافة الرسمية للدولة.

ومن هذه الزاوية تأتى أهميتها التاريخية بوصفها الأيديولوجيا السياسية التي واجهت المسيحية المبكرة في روما حتى نهاية عصر الاضطهاد، ووجهت إليها سهام النقد “الأخلاقي” بوصفها ديانة حصرية نافية للتعدد ونافرة للانخراط في العالم الأرضي، ومن ثم مناقضة لـ “قانون الطبيعة”.

رأت الرواقية أن “قانون الطبيعة” أسبق وأسمى من العرف والعادات والتشريعات الوضعية، وأنه الطريق الوحيد لسعادة المجتمع والفرد. في صلب هذا القانون تأتي الفضيلة الأخلاقية بوصفها غاية خيرة وواجبة بذاتها، وليست وسيلةً إلى السعادة كما يذهب الإبيقوريون. الفضيلة هي الخير الحقيقي الوحيد، وهي تعني الحكمة والشجاعة والعدالة والاعتدال، وبعبارة “ماركوس أوريليوس“: “لا يوجد شيء شرير إذا كان وفقًا للطبيعة”.

في مقابل الإبيقورية التي تقول بمادية الكون تأسيسًا على النظرية الذرية حيث كل شيء مصنوع من جزيئات تتحول وفقًا لنظام مستقل عن إرادة الآلهة، وأن الآلهة لا تتدخل في شئون الإنسان، يؤمن الرواقيون بعالم عقلاني مُنظم تحكمه سببية كُلية، أو (لوجوس) طبيعي يمكن عدهُ إلهيًا.

لكن ذلك لا يعنى أن الرواقية تنفي مادية العالم ولا أنها فلسفة دينية، كل ما في الأمر أنها أقل تصادمًا مع الدين قياسًا بالأبيقورية، أو بعبارة أدق أقل اهتمامًا بالتأثير السلبي للدين في الأخلاق، فهي لم تقف طويلًا أمام فكرة الخوف من الآلهة.

في الإطار العام لا يلعب الدين دورًا رئيسًا في صناعة الأخلاق البشرية، على الإنسان أن يصنع حياته بنفسه من داخله بالتوافق مع قانون الطبيعة لا من الظروف الخارجية، وبغض النظر عن وجود الدين أو عدم وجوده:

هذا الموقف الرواقي من الدين والأخلاق يشرحه “ماركوس أوريليوس” (الإمبراطور الروماني من 181/161م، وفيلسوف الرواقية الأكثر شهرة) على النحو التالي:

“عِشْ حياة طيبة، إذا كان هناك آلهة وعادلة، فلن يهتموا بمدى تقواك، بل سيرحبون بك على أساس الفضائل التي عشت بها. إذا كان هناك آلهة لكنها ظالمة، فلا ينبغي لك أن ترغب في عبادتها. إذا لم يكن هناك آلهة، فستموت، لكنك ستعيش حياة نبيلة، ستظل حية في ذكريات أحبائك”.

“الموت هو التحرر من انطباعات الحواس، ومن الرغبات التي تجعلنا دُمَى في أيديها، ومن نزوات العقل، ومن الخدمة الشاقة للجسد”.

أما الكاتب الرواقي “إبيكتيتوس” فيُعبر عن الموقف نفسه بطريقة أخرى في النص الآتي:

“لقد عهد الله إلىَّ بنفسي. لا أحد ما لم يكن سيد نفسه. ينبغي على الإنسان أن يعيش على نحو يجعل سعادته تعتمد إلى أدنى حد ممكن على الأشياء الخارجية. فالعالم ينحرف ليسمح بمرور أي إنسان يعرف إلى أين يتجه”.

– 5 –

في الرواقية -كما في الإبيقورية– لا يبدو الموقف من الدين بسيطًا، فكلتا الفلسفتين تحاول الجمع بين التصور الميتافيزيقي للآلهة والقول بمادية علَّية طبيعية تُحرك العالم وتصنع الأشياء، وكلتاهما فلسفة أخلاقية تنزع إلى الطابع العملي وتُعنى بالسلوك البشري وطريقة العيش، وكلتاهما تنسب الأخلاق إلى الإنسان، لكن فيما تؤكد الإبيقورية ذلك من طريق نفي التدخل الإلهي صراحة في الشأن الإنساني، تسمح الرواقية بالقول إن الآلهة أوكلت هذا الشأن إلى الإنسان ذاته، وأن إرادة الآلهة تتناغم كُليًا مع قانون الطبيعة.

مع ذلك ونحن نناقش هذه المسألة، علينا التنبه إلى طريقة التعاطي مع فكرة الدين في السياق اليوناني القديم ومن ثم في مثيله الروماني، مقارنة بالمحيط السامي، لا يحظى الدين في الوعي اليوناني بالحضور السلطوي الطاغي نفسه، أعني لا يُؤخذ بالجدية والحساسية الخائفة نفسها. بعامة لم تكن الآلهة قوة غامضة بعيدة، ويمكن الحديث عن مسحة من الخفة في مقاربة المعنى المقدس، تكون الآلهة فيه كائنات قريبة تعيش داخل العالم، وتبدو بوضوح ذات خصائص بشرية، فهي تسكن في جبال الأوليمب وفي الأحراش والغابات، وهي تفرح وتغضب وتلعب وتمزح، وقد تسخر من آلام البشر، وهي تتزاوج معهم، وتنجب منهم أشخاصًا أسطورية، وشعوبًا مُهجنة: فينوس ربة الحب والجمال عند الرومان هي الربة اليونانية أفروديتي“. وقد تزوجت من الراعي “أنخيسيس” وأنجبت منه أينياس” الأمير الطروادي الذي هو طبقًا للأسطورة مؤسس رُوما وأبو الجنس الروماني. كانت “فينوس” زوجةً لـ “هيفايستوس“، لكنها خانته في علاقة عاطفية مع إله الحرب الروماني مارس” (آريس اليوناني). ومن هذه العلاقة أنجبت فينوس إله الحب والرغبة إيروس“، تقول الأسطورة إن هيفايستوس صنع فخًا لزوجته ودعا الآلهة ليشهدوا على خيانتها وهي عارية في أحضان عشيقها، وعندما رآها الآلهة تمنوا جميعًا لو كانوا في مكان “آريس“. وتشير الأدبيات اليونانية إلى أن الإله زيوس” كان مثل شقيقه “بوسيدون“، شهوانيًا يسعى خلف النساء، خلافًا للإله “هاديس” أو بلوتون” إله العالم السفلي أو عالم الموتى الذي لم يكن يُحب إثارة المشاكل أو إيذاء البشر.

– 6 –

كان هذا التصور اليوناني يُمثل خلفية الثقافة الإلهية للديانات الوثنية في المحيط الروماني عند القرن الأول وحتى أوائل القرن الرابع، وهو المحيط الذي اشتبك مع المسيحية في مرحلة التكون المبكرة، وواجهها بالاستهجان والرفض من الدولة والشعب على السواء، بلاهوتها الحصري الموروث من اليهودية أبدت المسيحية نفورًا صريحًا من الخضوع لسلطة الإمبراطور، ورُوحًا معادية وصدامية حيال جميع الآلهة. صار انتشار المسيحية لدى الدولة يُمثل خطرًا على استقرار المجتمع ووحدته السياسية التي تقوم على التنوع والتعددية، أما الشعب “فصار يشعر بالفزع من ذلك المذهب الشرقي الباطني، الذي يُجاهر بكراهية الآلهة جميعًا، ويدعو إلى دمار الدنيا، وكان ينسب ما يحدث من الكوارث كالمجاعات وتدفق السيول، وخصوصًا نشوب الحرائق إلى سحر المسيحيين الخبيث”.

في كتابه التأسيسي “حرية الفكر“، الذي أنقل عنه هذا الاقتباس الأخير، يناقش جون بيورى تطور هذا المبدأ منذ العصر اليوناني الروماني وفي العصور الوسطى وصولًا إلى ازدهار المذهب العقلي في القرن التاسع عشر. وفي الفصل الثاني من الكتاب يعرض بيوري لطبيعة النقد الأخلاقي السياسي الذي وُجِّهَ إلى المسيحية المبكرة، والذي يَنْصَبُّ بالأساس في تكوينها التوحيدي الحصري المناقض للقانون الطبيعي.

وفق بيورى كانت “فضائل الوثنيين -أي الفضائل الوثنية البحتة- تُعد رذائل في نظر التعاليم المسيحية “الإنسانية”، فقد كان الأطفال إذا ماتوا من غير “تعميد” ظلوا إلى الأبد في عقيدة المسيحيين يزحفون على بطونهم فوق حصير الجحيم، ولذلك لم يكن عجيبًا أن العالم لم يرَ مثيلًا لقسوة الاضطهاد الذي نبت من أمثال هذه المعتقدات.

ويرى بيورى أن هذه القسوة تعود إلى الدور الذي لعبه الكهنوت المسيحي نقلًا عن العهد القديم؟ “فقد كان من سوء الحظ أن المسيحيين ضموا إلى كتابهم المقدس “مقطوعات يهودية” بها أصداء أفكار همجية هي وليدة حضارة عامية متأخرة. ومن الصعب أن نُعدد الشرور التي لحقت بالأخلاق الإنسانية من جراء الآراء والأمثلة الوحشية والقوة الغاشمة والتعصب الأعمى الذي لا بُد أن يقبله المسيحي المؤمن بقداسة “العهد القديم“. وبالبناء على ذلك يعتقد بيوري أن الاضطهاد الذي واجهه المسيحيون الأوائل في روما لا يُمكن مقارنته بقسوة الاضطهاد الذي صنعه المسيحيون في العصور الوسطى“.

يتبع

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete