تكوين
عندما يستوي النص القرآني موضوعا للنظر والتفكر،يكون الجهد منصبا على شرح ماينطوي عليه من معان ومفاهيم وما يضمه من أحكام أو ما يثيره من أسئلة أو ما يطرحه من حـلول أو ما تشي به آياته من غموض والتباس في ظاهر معانيها أو تناقض فيما بينها أو تعارض مع حركة المجتمع وحياة البشر اليومية، وقولي هذا،وليد المعاينة للكم الهائل من الكتابات والإصدارات المنشغلة به كنص منزل،يحتل في الثقافة العربية والإسلامية موقعا تأسيسيا حاسما،شغل حيزا مهما من جهود الباحثين والمفكرين،بنزعاتهم الفكرية والإعتقادية المختلفة و أدواتهم التشريحية المتعددة،عبروا من خلال أعمالهم عن انهمام الناس، مسلمين وغير مسلمين،في مجتمعات إسلامية وغير إسلامية أو مختلطة،بالقرآن باعتباره نصا محايثا لحياتهم ،فاعلا إيجابياعند البعض، في تقعيد أنماط عيشهم وتوجيه بصائرهم وتنقية بواطنهم،وسلبيا عند البعض الآخر،يرخي بثقله على قناعاتهم في كيفية تدبير شؤون وجودهم الحي والناشط،في وجوهه المتنوعة.
ما معنى المعنى لغة واصطلاحا؟
شكل معنى المعنى،بما هو حقيقة ثاوية وراء المعنى الظاهر،يمكن اكتشافه بأدوات معرفية مختلفة،موضوعا للصراع بين شراح النص القرآني،تفاوت النجاح في اقتناصه باعتبار تفاوت الأدوات المعرفية وكيفية استثمارها في العبور من المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي،وهو معنى المعنى،ضالة أصحاب النظر المجاوز،الذين لا يقفون في شرحهم للنصوص والوقائع والأحداث عند حدود ما ظهر منها أو بان وأفصح،بل يرون إليه علامة منصوبة،تحث الناظر على بذل الجهد وإعمال العقل ودفعه للمشاركة في اكتشاف ما اختفى تحتها واستتر من معان ودلالات.
المعرفيات الشارحة
أبدأ القول بالإشارة إلى أن الشرح(1) في هذا الباب، مأخوذ بما هو إسم جامع لشتى المعرفيات المنصرفة إلى تحقيق الفهم بعد الكشف عن الخفي وتبيينه وتفسير ما أحاط به من أسباب وعوامل أدت إلى إهماله وعزله في دائرة اللامفكر فيه، كرها(فتح الكاف) كان هذا العزل أو كرها(ضم الكاف)،وعليه،فالمعرفياتالشارحةعموما،هي الآليات المعرفية،بمسمياتها المختلفة، التي انشغلت بشرح النص القرآني تبيينا وتوضيحا وتأويلا وتشريحا وتفكيكا،هي شارحة،لأن أصحابها،على
اختلاف مذاهبهم وأدواتهم،لم يدع أحد منهم العمل على استحداث مرجعية بديلةعن النص القرآني،أو العبث بأحكامه الإيمانية،ومقاصده الكلية،إنما ادعى شرحا يرى إليه الأكثر تعبيراعن فهم ملائم للإسلام الصحيح ولرسالته الإنسانية الجامعة. على أن من هذه المعرفيات ماهو تراثي،يقف عند حدود اللغة ومواضعاتها وينتهي عند القياس بالصيغة التي أرسى دعائمها،ووضع أركانها الشافعي(150-204هج)،القياس باعتباره الآلية السائدة الموصلة،مع الإلتزام بجملة من القواعد البلاغية والفقهية إلى معنى المعنى،وحكم(الفرع) الحكم(الأصل)،ومنها ماهو معاصر،يتجلى في معرفيات علوم الإنسان والمجتمع،وهي آليات ناشطة في سعيها إلى شرح النص بعد تفكيكه والوقوف على شروط إنتاجه الحاسمة في تبيين المهمش واللامفكر فيه من المعاني والدلالات المنسية بين طبقاته العميقة.
معرفيات الشرح التراثية
لقد تولت العلوم(2) التي نمت على هامش القرآن، بمعرفياتها الشارحة،مهمة تبيين ثرائه وإبراز أحكام رعايته لشؤون المؤمنين وتدبيره لأوضاع غيرهم من أهل الكتاب وأهل الكفر،شرحا مطلوبا، أملته الوقائع والمستجدات التي فرضها ويفرضها صخب الحياة وتجارب المجتمعات وحراكها اليومي الضاغط.سوف أتوقف عند نموذجين من الآليات المعرفية لعلمي البلاغة وأصول الفقه،العلمين الأصيلين بامتياز والفاعلين بامتياز أيضا، في تقعيد التفكير العربي والإسلامي السائد، وتقييد حركته،وضبط انفعالاته وتصويب جنوحه.
شكلت علوم اللغة والبلاغة منها تحديدا،إلى جانب علم أصول الفقه،المجالين الأصيلين اللذين برزت فيهما فاعلية العقل الإسلامي،وتجلت خصائصه البنيوية وسماته المعرفية،فأسهم إلى حد كبير في تكريس “فهم” للنص القرآني وشرح، وصل،في سياق توسيع حقوله الدلالية، إلى حد الإستفادة من المعنى للعبور إلى معنى المعنى،ومن حكم الأصل إلى حكم الفرع،من خلال آليات معرفية استطاع علماء البلاغة وعلماء الأصول أن يبلوروا قواعدها،ويبرزوا طابعها الإستدلالي ويعينوا الشروط الفنية التي تضبط مداها وترسم حدود فاعليتها المنتجة.
ماذا نسمي المعنى المقصود من الكلمة؟
في سياق تأكيده الطابع الإستدلالي الذي يجعل الذهن يعبر من المعنى إلى معنى المعنى،يشرح الجرجاني(400-471هج)(3) الآلية المعرفية التي تحكم دور العقل في تحقيق هذا العبور،شرحا مفصلا،يبرز إسهام المتلقي أو السامع وشراكته في إنتاج المعنى المقصود أو معنى المعنى.يقول:”الكلام على ضربين،ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده…وضرب آخرلا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده،ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك
المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض…”،وعليه،فالجرجاني،في تمييزه بين هذين الضربين،يختصر العلاقة بين “ما تصل إلى مرادك منه بدلالة اللفظ الظاهرة”وما لا تصل إلى مرادك منه إلا بدلالة الخفي الذي تقودك إليه الدلالة الظاهرة،وبعبارة مختصرة تقول:المعنى ومعنى المعنى، فالمعنى هو المفهوم من ظاهراللفظ،تصل إليه بغير واسطة أو قرينة،ومعنى المعنى هو أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر،ولعل ما يترجم هذه الصيرورة للمعنى،ما أجادت به صيغ مجازية مثل الكناية والإستعارة والتشبيه.و عليه،”إذا نظرت إلى الكناية،وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنها إثبات لمعنى،أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ”،وعلى سبيل المثال،فإذا كيل المديح إلى فلان بالقول أنه “كثير رماد القدر”،فتعود لتسأل نفسك ما علاقة المديح بكثرة رماد القدر،حتى تدرك بعقلك لا باللفظ أن الأمر مرتبط بإعداد الكثيرمن الطبخ للضيافة وإطعام الكثير من الناس،مايعني الإشارة كناية إلى كرم الممدوح بذكر صفة أو أكثرمن صفات الكريم.وكما في الكناية، فالعلم بالمعنى في الإستعارة طريقه المعقول،فإذا استعرت لفظ الأسد للإنسان،فمدار الإستعارة قرينة الشجاعة،كذلك الأمر في التمثيل،وقرينته التردد،فالعاجز من الناس عن اتخاذ موقف من قضية معينة هو مثل من يقال له أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى(4).
إقرأ أيضاً: الدين والشعر في تداول المعنى
هذه الآلية المعرفية المستلة من علم البلاغة،تكشف عن الجانب العقلي الإستدلالي الذي يتبدى في تجاوز المعنى الحقيقي للفظ، المنشأ بالوضع،إلى المعنى المجازي المحقق بالإستعمال،بواسطة القرينة،إنه خروج لمعنى المعنى من رحم المعنى مع ما يرافقه من شروط ضابطة تمنع الإنحراف عن المواضعة،وتحفظ للمعنى حصته منه(من معنى المعنى).ولعل ابن رشد(520-595هج)(5) في قوله، ِشارحا معنى التأويل،أنه” إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل بعادة لسان العرب في التجوز…”يؤكد مشروعية التأويل(المشروط بالمواضعة) باعتباره أحد مسالك الشرح الآمن والمنضبط المهيمنة في النظام المعرفي البياني.وعليه،فإن هذا النظام المعرفي نفسه، المحقق لشئ من الإجتهاد في استكشاف إمكانات المعنى،ينسحب إلى حد كبير على القياس الفقهي باعتباره بنية معرفية مؤثرة في عملية استنباط الأحكام من الأصول، على الوقائع المستجدة ومداره حكم الحكم.
-من الحكم(الأصل) إلى حكم(الفرع) الحكم.
يشكل القياس(6) الآلية المعرفية التي يتوسل بها العقل الإجتهادي في شرح أساليب ربط المستجد من الوقائع التي لا حكم بشأنها في النصوص، بما يشبهها من الوقائع المحكوم فيها،وإجراء الحكم نفسه عليها،شرط وجود علة،تستوفي شروطها، تسمح بترجيح هذا الحكم.وعليه،تستوي هذه الآلية المعرفية على أركان أربعة،الأصل،الفرع،العلة والحكم،وهي في جوهرها تتوخى شرح المدى التشريعي لحكم الأصل وشروط تعديته إلى الفرع،بواسطة العلة التي تجيزهذه التعدية،بعد تخريجها وتحقيقها وتنقيحها.وعليه،إذا كانت علة تحريم الخمرقد استقرت بعد تفحص صفاته وتنقيحها،عند كونه مسكرا،فإن قياس النبيذ عليه وتحريمه حكم جائزلإشتراكهما في العلة نفسها.
يبدو جليا أن الآلية المعرفية التي تشرح عملية العبور من المعنى الحقيقي أو الحاصل بالوضع،إلى المعنى المجازي أو الحاصل بالإستعمال،مع توفر القرينة،هي نفسها التي تشرح عبور حكم الأصل أوتعديته إلى الفرع مع توفر العلة،وعليه فالقرينة والعلة وجهان لنظام معرفي واحد،سائد ومهيمن،يقف دوره عند حدود شرح الأصل،واقعة كان أو عبارة أونصا،شرحا ملتزما شروط المواضعة،ومعتصما بمبدأ التداولية في اللغة،ومعتبرا قصد المتكلم،ولعل القاضي عبد الجبار(359-415هج)(7)،المعتزلي،في تأويليته،قد انتبه إلى جدوى التكامل بين هذه الأركان الثلاثة(المواضعة،قصد المتكلم،القرينة)،في عملية توصيل مراد المخاطب من الخطاب،إلى المتلقي.،على قاعدة أن لاخطاب بدون قصد،ولا قصد بدون مواضعة في الكلام.يقول القاضي”لا يحسن استعمال العبارة المفيدة إلا على الوجه الذي وضعت له في سائر ما تنقسم إليه من الكلام وإلا كان الكلام بها عابثا أو في حكم العابث”(المغني في أبواب التوحيد…ج5،ص187.)وعليه،لما كانت المعاني سابقة للألفاظ والعبارات،فإن دلالة هذه على تلك تتوقف على المواضعة وقصد المتكلم،يقول صاحب المغني:”وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لوتكلم به ولا يعرف المواضعة…لم يدل، وإذا تكلم به وقصد وجه المواضعة، فلا بد من كونه دالا إذا علم من حاله أنه يبين مقاصد”(المغني،ج16،ص347)،و هكذا فالكلام “قد يحصل من غير قصد فلا يدل‘ ومع القصد يدل ويفيد،فكما أن المواضعة لا بد منها فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقا للمواضعة”(المغني…ج15،ص161).وعليه،يستكمل عبد الجبار شرحه لآلية فهم مراد الله في القرآن،بالإعراب عن بداية مفادها،إذا كان القرآن قد نزل بالعربية،وهو أمرثابت،فأول شرط لفهمه،هو المعرفة بهذه اللغة والإلتزام بقوانينها،والتقيد بالمعاني المتعارف أو المتواضع عليها لألفاظها وعباراتها،وهذا هو شرط المواضعة الذي لا يعني فقط إدراك المعاني الظاهرة،وإنما أيضا المعاني المجازية،باعتبارها ليست من وضع الفرد،بل من وضع الجماعة واختيارها.أما الشرط الثاني،فمحمول على قصد المتكلم،الذي تبقى معرفته ممكنة إذا كان المتكلم شاهدا محسوسا،وواقعا في في مجال مشاهداتنا وتجاربنا،أما كونه غائبا و يقع خارجها،وهو هنا قصد الله،فمعرفته تحصل بالإستدلال عليه، قياسا على قصد المتكلم بالشاهد بتوسط دليل يسمح بهذا القياس.
إن المتبصرفي هذه النماذج من معرفيات الشرح التراثي المضيق،يستطيع أن يتعرف إلى نوع من العقلية العاقلة المخصوصة والقائمة على مبدأ الوصل، بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،أوبين الأصل والفرع،أوبين الشاهد والغائب،بمعونة أمارة راجحة من أمارات الشبه،نسميها قرينة،أو علة أو دليلا،إنه عبور منضبط ومراقب، من المعنى إلى معنى المعنى، مأخوذين بمسمياتهما المختلفة في أكثر من علم، وباعتبارهما ركنين ثابتين وناظمين لمسالك الشرح والتبيين.
وعليه،
فإن سيادة هذا النمط من التفكير بأدواته المعرفية التقليدية،لم يستطع إحداث التجديد المنشود في شرح النص القرآني،أوتسليط الضوء على حقول دلالية فيه أوفيما يحيط به من وقائع وأحداث،ما زالت مهمشة أو مغمورة،ما دفع بالعديد من رواد الفكر النقدي إلى اعتباره نظاما معرفيا مؤبدا للجمود الفكري والثقافي في آن،ومكرسا للعوائق المعرفية والأيديولوجية التي تحول دون نهضة العقل الإسلامي،وتمنع عليه أسباب تحديث بنيته وتطويرزوايا نظره إلى هذا النص وشرو ط إنتاجه.
في ضوء ما تقدم،أكتفي بالإشارة،بعيدا عن الإسترسال واحترازا من التكرار، إلى مثلين من الشرح الموسع،الأول شرح محمد عابد الجابري لآية الإرث(8)،والثاني شرح محمد أركون للآية الخامسة من سورة التوبة(9)،حيث اعتمد كل من المفكرين النقديين، في تفكيك النص القرآني،على معرفيات حفارة أفرزتها علوم الإنسان والمجتمع.
يقدم الجابري لقراءته بتحديد المنهج(10) الذي يعتمده،وهو المنهج التحليلي بفهم مخصوص للتحليل،الذي”ينطلق من النظر بموضوعاته لا بوصفها مجرد مركبات بل بوصفها بنى”،وتحليل البنية هو تخريج العلاقات القائمة بين عناصرها بوصفها منظومة ثابتة،والقضاء عليها بتحويل ثوابتها إلى تحولات ليس غير،وهذا النوع من التحليل هو التفكيك،تفكيك العلاقات الثابتة في بنية ما بهدف تحويلها إلى لا بنية،إلى مجرد تحولات،يعني تحويل الثابت إلى متغير،والمطلق إلى نسبي،واللاتاريخي إلى تاريخي واللازمني إلى زمني،والكشف عن المعقولية الثاوية وراء كثير من الأمور التي تقدم نفسها كسرمغلق،كميدان للامعقول…مقطوع الصلة عن زمانيته وأسباب نزوله”(11).
في ضوء هذا المنهج،يتوخى الجابري إعادة هذا الحكم،حكم التوريث، إلى زمانيته ،إلى أن يكون معاصرا لنفسه،مستثمرا الشروط التاريخية والإجتماعية والإقتصادية التي كانت سائدة في المجتمع القبلي إبان نزوله فيه،ففي المجتمع القبلي،تعود الملكية للقبيلة وليس للفرد،وعلاقة القبائل ببعضها تقوم على النزاع على المراعي ووسائل العيش.لكن بناء التحالفات على التزاوج بين القبائل البعيدة مع تحريم زواج المحارم، كان أمرا مطلوبا،وتنمية العلاقات السلمية بينها كان يقتضي نوعا من “تبادل النساء”بتعبير ليفي شتراوس،ما يعني تزويج البنت خارج قبيلتها،الأمرالذي كان يثير الكثير من الخلافات المتصلة بالإرث عند وفاة أبيها.فانتقال نصيبها من الإرث،سواء كان من المواشي أو المراعي، إلى زوجها،يعني الإخلال بالتوازن الإقتصادي في المجتمع القبلي،مما يكون مجلبة للمشاكل والإضطرابات،في هذا المجتمع،الذي يحتكم فيه الناس إلى القوة ويكون فيه الحق للأقوى،فكان حرمان البنت من الإرث بمثابة تدبير فرضته الشروط المتحكمة بالواقع الإجتماعي، درءا للفتنة والإقتتال.
مع مجيئ الإسلام،ونزول القرآن بأحكامه التشريعية،بدأت مسيرة الإنتقال من المجتمع الجاهلي،مجتمع اللادولة إلى مجتمع الدولة،فأقر حلا متوازنا لحكم الإرث،يمنح البنت الثلث من الإرث،بالإضافة إلى نفقة لها فرضها على زوجها تحقيقا لنوع من التوازن.
لقد انتهى الجابري في قراءته للآية”للذكر مثل حظ الأنثيين”إلى شرح يؤيد فيه التدبير الوسطي والعادل الذي أتت به الشريعة،معتبرا أن العقل المعاصر يستطيع أن يفهم ويتفهم استجابة الحكم الشرعي الإسلامي لواقع اجتماعي قبلي،تحكمه شبكة من القواعد والأعراف والقيم،يصعب تجاوزها بالكلية ودفعة واحدة،بداالجابري في شرحه المفصل لمكونات هذه الشبكة،متكلما معاصرا،يحاذرتجاوزمنطوق النص،يسترسل في تفصيل الحجج والأدلة التي استلها من تاريخ الإجتماع القبلي،والتي أثرت حقل المعنى المحيط بالنص، لكنها وشت بحرص ما على نوع من التبريرلمضمونه الشرعي،ماأضفى عليه شيئا من المعقولية الضامنة لقبوله،عند الناس،زمن نزوله، والإقتناع بمقاصده المنصفة،كان واضحا في شرحه للمتلقي كيفية جعل النص معاصرا لنفسه،لكن كيفية جعله معاصرا لنا بقيت في حيز الإشتباه والغموض،بل سؤالا معلقا،ترك الجابري الإجابة عنه لاجتهاد القارئ المتصالح مع تاريخية النص،أما المؤمن بقدسيته وتعاليه على التاريخ،فالسؤال عنده غير مطروح،لأنه حكم من الله،أنزله لكل زمان وكل مكان.
لم يكن هذا الحذر حاضرا في شرح أركون(12) التفكيكي للآية الخامسة من سورة التوبة،والأمر يعود إلى فهمه المختلف للوحي وصلته بالخطاب القرآني الشفهي،وتمييز هذا الخطاب عن المدونة النصية الرسمية المغلقة والنهائية أو المصحف،لقد رفض مبدأ المطابقة بين الإثنين لأن كمال الخطاب القرآني في نظره، يكمن في العبارات الشفهية التي تلفظ بها النبي والتي لم تنقل كلها بحذافبرها وبأمانة
محمد أركون وتحريف القرآن
(راجع،محمدأركون،الفكرالإسلامي:نقد واجتهاد،ص.89).وعليه،كان من نتائج هذا التمييز،تعامله مع المدونة النصية الرسمية، بعيداعما أسبغ عليها من سمات القداسة والتعالي على التاريخ،لقد قدم باحتراف عال واستثمارمتمكن،لمعرفيات علوم الإنسان،لاسيما التاريخية والألسنية الحديثة، شرحا تفكيكيا للحيثيات التي أحاطت بإنتاج الحمولة الدلالية للآية الخامسة من سورةالتوبة،لقد شرح كيف أن التفاعل المتواطئ،إذا جاز التعبير بين المثلث الأنتروبولوجي العنف والتقديس والحقيقة،قد أسفر عن تشكيل المعنى وتحديد المشروعية المعتمدة في الخطاب الديني.
يقول،”لا توجد طريقةأخرى لتفسير أي نوع من أنواع ما ندعوه بالوحي أو أي مستوى من مستوياته خارج تاريخية انبثاقه،وتطوره أو نموه عبر التاريخ” ،وعليه،فإن من غالى من المؤمنين في تبنيه للآية الخامسة (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)بحرفيتها،مع اعتبارمشروعية استثمارها في كل زمان ومكان،من ،أجل ترسيخ ثقافة الجهاد والحرب العادلة والنظيفة دفاعا عن الحقيقة الموحى بها،وكذلك،من أحرجتهم من الليبراليين الذين يعتنقون مبادئ حقوق الإنسان، فالتفوا عليها بآيات تدعو إلى التسامح والرحمة،كلاهما قد أنكر تاريخية القرآن بالقدر الذي ينكر فيه تاريخية الزمن الذي نحن فيه(راجع،أركون،القرآن:من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني،ص.56).
في ضوء ما تقدم، يفتتح أركون شرحه بالقول أن اختياره للآية الخامسة من سورة التوبة جاء وليد تعبيرها الكثيف عن ذروة العنف الموظف “في خدمة الله”،وسردها المنتشي، إلى جانب الآيات الأخرى من السورة،وقائع الإنتصارالسياسي والإجتماعي والثقافي،الذي حققته الجماعة المختارة بقدرة الله،حليفها الأعظم وقيادة رسوله.لقد مارس المؤمنون العنف بقناعة كلية،لأن ما يقومون به من قتل ومحاصرة وترهيب، يأتي في باب الدفاع عن الله المرجعية المطلقة ،في وجه الظالمين المنكرين للحقيقة والقانون والعدالة(13).
قراءة النص الديني عند محمد أركون
عمل أركون على تفكيك هذه العلاقة التحالفية الميثاقية بين الله والمؤمنين،متخذا هذه المرة،الألسنية الحديثة أداة معرفية لتحقيق غايته في الشرح الموسع والمحيي لحقول معنوية ابتلعها العبث بالتاريخ الوقائعي وسلامة التدوين.وجد أن من غير الممكن قراءة هذه الآية خارج البنية التي تتحكم بمستويات التواصل في الخطاب القرآني بين العاملين أو الضمائر التي تنوب عنهم.فالعامل- الذات-المرسل الأول(أي ألله) يظهر أولا بصورة”أنا”خارجية،متعالية على الخطاب،ثم يظهر ثانيا بصورة “أنا-نحن”،حاضرة في جميع مستويات الخطاب القرآني،وعبره في التاريخ الأرضي بوساطة محمد،.وعليه فإن المرسل الأول (ألله) هو في علاقة تحالفية معه باعتباره مرسل إليه أول،لأنه أول من يتلقى الخطاب،وهو في الوقت نفسه مرسل ثان،لأنه المبشر الذي يتمتع بمزايا قيادية،وقدرة كلامية ولغوية تمكنه من تحيين الرسالة بمعونة المرسل إليه الثاني الجماعي،المشار إليه في القرآن بالقوم أو الناس أو المؤمنين،ويمكن تصور إطلاقه ذهنيا على آدم وذريته الموصولين بالله الخالق المرسل الأول بحكم الميثاق،لكنه يتشكل واقعيا من أهل مكة ثم المدينة ثم دار الإسلام عموما مع تأكيد الآية الخامسة على وجوب إخضاع المعارضين،من مشركين ومنافقين وفاسقين ويهود ونصارى،بتخييرهم بين التوبة واعتناق الدين الجديد أوالتهميش الإجتماعي والتحقير المعنوي والحصار المادي وصولا إلى القتل.
مع إقراره بصعوبة الأدوات المعرفية التي توسل بها في شرحه والمصطلحات التقنية التي رافقتها،استطاع أركون أن يقدم،من خلال التحليل الألسني لكلمة”الله”وللشبكة الضمائرية المحركة للنص،شرحا مفصلا لفاعلية حضور الله في التاريخ وكيفية تشكيله له بكل أبعاده السياسية والإجتماعية والثقافية،وأن يوفرمادة تربوية وتثقيفية،أغنت الفضاء الإسلامي بسيل من الرؤى والمعاني والمفاهيم،المعبرة عن عقل نقدي مجدد،وبسيل من الأسئلة أيضا،التيتحمل الكثير من الإرتياب والتشكيك بمشروعه،والرفض القاطع للمقدمات التي انطلق منها وللمناهج التي اعتمدها.
ومع ذلك،
إن تعدد المسالك المعرفية،تبقى على تنوعها،المتحرك بين حدي اللغة وعلومهامن جهة،والمنهجيات التي بلورتها علوم الإنسان والمجتمع من جهة أخرى،منشغلة بشرح النص القرآني،إما شرحا مضيقا،محكوما بقواعد البيان اللغوي وتقنيات الربط والوصل،وإما شرحا موسعا،يقوم على التفكيك والفصل، يتوسل بالأدوات المعرفية التي توفرها هذه المنهجيات المتطورة،سعيا إلى إثراء الفضاء الدلالي للنص القرآني،وتطعيمه بنكهات من المعاني الحداثية المتمردة،لم يكن سهلا على العقل البياني المقفل والمهيمن هضمها واستيعاب حداثة الأنساق المعرفية التي أنتجتها.
المراجع
1-شرح الشيء شرحه شرحا وشرحه،فتحه وبينه و كشفه…لسان العرب. ج4
2-راجع:الغزالي،أبو حامد،المستصفى في علم الأصول،دار الكتب العلمية بيروت2000
3-راجع:الجرجاني،عبدالقاهر،دلائل الإعجاز،تحقيق محمد بن تاويت،المغرب-تطوان،المطبعة المهدية د.ت.
4-راجع:الجابري،محمد عابد،بنية العقل العربي(النظام المعرفي البياني)،تكوين العقل العربي…
5-راجع:إبن رشد،فصل المقال…مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت1997
6راجع:الشافعي،محمد بن إدريس،الرسالة،تحقيق محمد شاكر،القاهرة 1940
7-راجع:القاضي عبد الجبار،المغني في أبوابالتوحيد،ج5
8-“يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”(سورة النساء،الآية 11).
9-“فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و حاصروهم وخذوهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم”.
10-راجع:الجابري،محمدعابد،التراث والحداثة،دراسات ومناقشات،م.د.الوحدة العربية،بيروت1991
11-الجابري…،التراث والحداثة…47-48 –
12-راجع:محمد أركون،القرآن،من التفسير إلى تحليل الخطاب،دار الطليعة،بيروت2000 -تاريخيةالفكرالإسلامي،المركزالثقافي العريي،بيروت1996 ،-الفكر الإسلامي،نقد واجتهاد،دار الساقي1990
13-راجع:محمد أركون:الفكر الإسلامي:قراءة علمية…
+يرد في “مستصفى…”الغزالي عند كلامه على العلوم الشارحة لحقول
النص القرآني ما يأتي:”العلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام،وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية،لأن المفسرلا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة،والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث والفقيه لا ينظرإلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية،وعلم الباطن يعني علم القلب (تطهيره من الأخلاق الذميمة) والمتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود…”ص6