تكوين
تكتسب الجماعة/الأمة شرعية وجودها من تحقيق الانتصارات ورفض الهزيمة، التي تحفر مساراتها في الذاكرة الجمعية عبر مستويين؛ أحدهما هوياتي، والآخر تعبوي دعائي، لتتجلى في نهاية الأمر مكانتها وقدرتها على الانطلاق نحو مراميها؛ حيث تمنح الأمة المنتصرة المعنى للمنضوين تحت عباءتها؛ ذلك أنّ النصر يُعزز الهوية، ويعيد صياغة الأولويات الوازنة في المجتمع، تجاه تعزيز العقيدة المهيمنة، أو السلطة الحاكمة، أو الإثنية الغالبة.
والانتصار يعزز القدرة على جمع عناصر الهوية، حتى لو كانت متنافرة أو غير منسجمة، قبل أن يعيد إنتاج تاريخ الجماعة، والذي يبدأ عادة بانتصار ساحق؛ يُعلن في لحظة تاريخية فارقة، عن ميلاد أمة موحدة ومنسجمة، قادرة على التمدد في المكان والزمان، وبشكل مواز تتشكل ذاكرتها المشتركة، في إطار رؤيتها للعالم.
الاستحقاق الهوياتي في مواجهة العالم
على النقيض من ذلك، فإنّ الهزيمة تقطع سردية الاستحقاق الهوياتي للجماعة بحدة، وتؤدي إلى تحلل النزعة القومية، والتي يرى المؤرخ البريطاني، أريك هوبزباوم، أنّها وحدها تملك ذلك الحضور الفاعل ضمن مقومات بناء الأمة، وبما أنّ مفهوم الأمة، في ظنه، “ليس اصطلاحًا اجتماعيًا ثابتًا”، فإنّ الهزيمة قادرة على قطع ذلك الحضور التاريخي لأمة من الأمم، وإجهاض كافة التمثلات والتشكيلات الذهنية حول قيم البطولة ومعايير التمايز؛ الأمر الذي يُعرّض الأمة إلى خطر الزوال أو التهميش، ومن ثمّ كان من المهم اعتبار الهزيمة حدثًا عارضًا في تاريخ الأمم، أو إعادة إنتاج سردية الهزيمة بمعطيات معكوسة، يمكن من خلالها تأويل الحدث أو اختلاق متغيرات جديدة تعيد صياغته.
ربما يكون من المناسب الاشتباك مع حادثتين مهمتين وردتا في كتب السير والمغازي، قبل تناول مفهومي النصر والهزيمة بالدراسة والتحليل؛ ذلك أنّ الإحالة قد تساعد هنا على إزالة الالتباس، وبناء هرم اصطلاحي جديد، على قاعدة تتكون من شبكة التشكيلات الأيديولوجية لمعنى مفهوم الانتصار، الذي يحتل قمة التصورات البنيوية لأي جماعة.
الانتصار في غزوات المسلمين
الحادثة الأولى؛ جرت في صباح اليوم التالي لموقعة أحد، عندما خرج المسلمون سريعًا؛ لمحو آثار السقوط أمام قريش، ومنع ترسيخ الهزيمة؛ كمفوم دلالي في حقل الصراع بين الحق والباطل. يقول ابن اسحق: ” كان أحُد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال: أذّن مؤذن رسول في الناس بطلب العدو، وأن لا يخرج معنا إلّا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه فأذن له، وإنّما خرج مرهباً للعدو، وليظنوا أنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم ” .
وبحسب الرواية، فإنّ خيار الخروج وملاحقة جيش قريش، إنّما كان معنويًا؛ بهدف التخلص من مرارة الهزيمة والإحباط، ورد اعتبار المقاتلين، وإعادة التماسك إلى مجتمع المدينة. وعليه كان الخروج مقتصرًا على الجيش المثقل بالجراح، لمطاردة جيش قريش المختال بالانتصار.
ويمكن القول إنّ التظاهرة العسكرية لم يكن الهدف منها مطاردة الجيش المكي أو الاشباك معه من جديد، حيث تحصن المسلمون عند حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة، وأقاموا فيها ثلاثة أيام. وبالمنطق لم يكن لدى جيش الجرحى مقدرة قتالية على مواجهة جديدة في اليوم التالي للهزيمة، ولم يلح المسلمون في طلب القتال، بينما اكتفت قريش بما تحقق، وعاد جيشها إلى مكة.
وفي طريق العودة إلى المدينة، أسر المسلمون شاعر قريش، أبو عزة الجمحي، الذي نقض اتفاق إطلاق سراحه بلا فدية، عندما كان ضمن أسرى بدر؛ فأمر النبي بقتله. ثم عاد الجيش، الذي انهزم بالأمس، ليدخل إلى يثرب تحت أقواس النصر، وقد أفسد انتصار قريش، ما رفع الروح المعنوية للمسلمين، حتى أنّ البعض يرى أنّ ما جرى في أحد وحمراء الأسد هو انتصار عسكري؛ لأنّ جيش قريش انسحب، ومن ثمّ فشلت خطته في القضاء على المسلمين.
الحادثة الثانية، جرت في العام الثامن للهجرة، بين جيش المسلمين من جهة، وجيوش الروم والغساسنة من جهة أخرى، حيث خرج المسلمون طلبًا للثأر من قتلة الصحابي، الحارث بن عمير الأزدي، فكانت موقعة مؤتة، التي قتل فيها قادة جيش المسلمين الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، على الترتيب، وفي اليوم السابع قام قائد الجيش خالد بن الوليد بتنفيذ انسحاب ناجح بأقل الخسائر.
وعلى الرغم من أنّ الجيش المنسحب حاكى ما فعلته قريش في حمراء الأسد، وفضل العودة إلى عرينه، مع الفارق في النتائج؛ حيث حققت قريش انتصارها الأول وربما الأخير على المسلمين، بينما فشل جيش مؤتة في إلحاق الهزيمة بالغسساسنة والروم، وفقد الجيش عددًا كبيرًا من الصحابة، على رأسهم قادة الجيش الثلاثة. ممّا دفع المسلمون إلى السخرية من المنسحبين، وبحسب ابن اسحق: “جعلوا يحثون عليهم التراب، ويقولون يا فرار، فررتم في سبيل الله، فقال رسول الله: ليسوا بالفرار ولكنّهم الكرار إن شاء الله”.
وتجمع المصادر الإسلامية على عبقرية خالد بن الوليد في تنفيذ انسحاب تكتيكي، في حدث احتل مساحة المعركة كلها، بينما تمّ إغفال النتائج، حيث اُعتبر تحدي الروم وحلفاؤهم من القبائل العربية، والنجاة من الهلاك أمام جيوشهم الجراراة انتصارًا في حد ذاته.
وفي سياق آخر، وبحسب ابن كثير، فإنّ جيش خالد حقق انتصارًا كبيرًا قبل أن يعود، مستشهدًا برواية عن رسول الله وهو على المنبر: “ثمّ أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله على يديه”. وانبرت بعض الأقلام؛ لتؤكد أنّ المقصود بالفرار هم أولئك الذين فروا في بداية المواجهة، بعدما أفزعهم التباين الكبير في العدد بين الجيشين.
هنا تصبح الهزيمة نسبية وقابلة للتأويل، ما يلفت إلى الكيفية التي يعالج بها الاجتماع هزيمته، وتفادي تبعاتها عبر التخفيف منها، بل وعكس النتائج في أحيان كثيرة، بحيث تصبح النجاة من الهلاك انتصارًا، بغض النظر عن مسار المعركة.
صناعة الانتصار اللحظي الخاطف
تلجأ الجماعة عادة إلى التخييل، بوصفه آداة من أدوات المحاكاة التمثيلية؛ لإبراز مكانتها وحضورها التاريخي، عبر شبكة الدلالات السوسيو ثقافية، التي تنتجها ضمن حواضنها الدينية العميقة، التي تشكلها جملة التصورات المفارقة حول الفئة الناجية، فيعيد المجتمع بذلك إنتاج تاريخه؛ لتتجلى الذات الجماعية كموضوع في مواجهة العالم.
وفي أحيان كثيرة، تبحث المجتمعات المهمشة والمهزومة عن صيغ ضمنية للبقاء، من خلال تحدي عدو أكثر بطشًا وقوة، وتوجيه ضربة مباغتة إليه، تفقده توازنه للحة، يتوقف عندها التاريخ، بحيث يبدأ منها ويدور حولها، بغض النظر عن النتائج المروعة الناتجة عن مواجهة وحش جريح متعطش للدماء.
ويمكن تمييز عدة خصائص؛ يتصف بها هذا النوع من صناعة الانتصار اللحظي، لعل أبرزها هو توظيف الإمكانيات القتالية البسيطة، فلا يستدعى الانتصار اللحظي الخاطف، وجود عدة عسكرية متطورة، أو عدد كبير من المحاربين، حيث تتضافر في لحظة تاريخة مفارقة، مجموعة من المعطيات التي يتحقق عبرها النصر، ضمن جملة من الممارسات البطولية الخارقة، التي تستوطن بدورها مركز الذاكرة التاريخية للجماعة، فيبدأ من عندها التاريخ وينتهي، ويصبح الحديث عن أي هزيمة لاحقة مستحيلاً. حيث تتشكل الذاكرة التاريخية، بحسب أريك ديفيز، وفق شبكة معقدة من التصورات الجماعية المشتركة، بين جماعة معينة، تسلط من خلالها الضوء على أحداث جرت في الماضي، شكلت بدورها هوية الجماعة ومكانتها.
في موقعة بدر، تجمع المصادر التاريخية الإسلامية، على التفاوت الكبير بين عتاد وعدد الفرقين المتحاربين، فقيل إنّ عدد المسلمين فى غزوة بدر بلغ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، معهم فَرَسان وسبعون جملاً، بينما كان تعدادُ الجيش المكي، نحو ألفَ مقاتل معهم مئتا فرس، أى ثلاثة أضعاف جيش المسلمين من حيث العدد.
بانتقال حدث مركزي مثل موقعة بدر، من الواقع إلى المتخيل، تجري عملية إعادة صياغة التاريخ، وفق طبيعة المتخيل وأطره التكوينية، وهنا تتجلى البطولة الفردية الخارقة، وتلعب الأسطورة، كمكون فاعل في صناعة الذاكرة، دورًا في تكثيف الحضور الدلالي لانتصار يبدو مستحيلا، ضمن شروط الواقع المادي.
ويتجلى حضور الآية (65) من سورة الأنفال: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا )، عبر ربطها مباشرة بالآية (9) من سورة الأنفال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم، أنّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين)؛ ليتجسد الحضور الدلالي لكائنات ما ورائية، تثبت المؤمنين وتقاتل ضمن صفوفهم.
وعادة ما ينتهي الانتصار اللحظي الخاطف بنهاية الحدث، حيث ينتهي تاريخ الصدام مع العدو، بنهاية الهجوم اللحظي والانتصار الخاطف، ولا مانع من الخطبة للمنتصر على المنابر، وإقامة صلاة الفتح، رغم اليقين بعودة جحافل العدو بشكل تدميري. ففي هجومه الخاطف على جيوش العثمانيين الغازية، نجح طومان باي، آخر سلاطين المماليك في مصر، من إلحاق خسائر كبيرة بالعثمانيين، الذين اختل توازنهم بفعل عامل المفاجأة، لبعض الوقت، وعلى الرغم من أنّ بقايا الجيش المملوكي، لم تكن أبدًا لديه القدرة على طرد الغزاة، إلّا أنّ المنابر خطبت، وكان يوم جمعة، للسلطان المنتصر، طومان باي، الذي عُلقت رأسه فيما بعد على باب زيلة.
ويمكن القول إنّ قدرة الجماعة على امتصاص الخسائر البشرية، وبقاؤها، يكرس لهذا النوع من الانتصارات التي لا تعترف بالهزيمة، حيث تتشظى التطلعات رويدًا وريدًا، لتتراجع من الاحتفاء بالانتصار الساحق، إلى الاحتفاء بالقدرة على الصمود والبقاء، في مواجهة عدو يفوقها عدة وعددًا.