تكوين
انطلقت التصورات الميثولوجية القديمة من مفهوم الجنس كضرورة لبقاء الحياة، إلى نموذج الجنس المقدس على المستوى الطقسي، فحفلت المعابد بممارسات البغاء المقدس في بلاد الرافدين وبعض الحضارات القديمة، بداعي محاكاة الطبيعة وتحفيزها على الخصب والإنماء. قبل أن يتحول الجنس إلى مكافأة سخية للمؤمنين في العالم الآخر، دون قيد أو شرط، فمن المعبد انطلقت الفكرة إلى العالم الأخروي، حيث النعيم الأبدي، والتمتع بسائر الملذات، وعلى رأسها ممارسة الجنس.
وكان زواج الآلهة، على المستوى الميثولوجي، هو البادئ والمحرك لعالم الطبيعة الحية، وهو ما يتجلى بوضوح في قدسية اللغة المليئة بالرمز الجنسي، الذي استخدمه الشاعر السومري والبابلي على لسان الآلهة، في إشارة إلى أهمية المواقعة المقدسة وعلاقتها بالخصب، ممّا يحرك الدافع الجنسي، ويضمن التكاثر، فتمتلئ ضروع الماشية باللبن، ويهطل المطر وتنبت الأرض[1].
كما كان لطقس ممارسة الجنس شرعيته، وكانت هناك كاهنات يتم اختيارهن لتقمص الربيع؛ عبر أداء الطقس الجنسي الرمزي، الذي يتم مع الملك، وقد حلّ بجسده الإله ديموزي، إلى جانب طقوس الخصب الأخرى، والرقص التعبدي المتنوع الأشكال، ومع الوقت انتقل هذا الطقس من حيز الممارسة الدينية، إلى حيز الهيمنة الذكورية؛ “لإخضاع المرأة عبر التستر بالمؤسسة الدينية، والإله الذكوري”[2].
هذه المشاعية الجنسية، حاصرتها الديانات الإبراهيمية، وحاولت إعادة تصنيفها داخل حيز ضيق، لا يتجاوز نطاق الأسرة، وربما يعود ذلك إلى طبيعة البيئة الرعوية التي ظهرت فيها، حيث لا حاجة لإسقاط الخصب على المجال المحيط؛ نظراً لطبيعته القاحلة؛ ومن ثمّ تمّ إخراج الممارسة الجنسية من المجال الطقسي، وتجاوزها في العالم الآخر، كما هو الحال في المسيحية، أو اعتبارها مكافأة للمؤمنين، كما هو الحال في الإسلام.
أولويات الاجتماع وقبليات المعرفة
يمكن القول إنّ الحضور المكثف للجنس في الطقس أو النص الديني، يستمد منطلقاته من الاجتماع، فالجنس المقدس أو التجاري (الدعارة) يستمد حضوره أينّما تقلصت الممارسة الجنسية الحرة أو صارت محدودة، بوصفها بديل عن الاتصال الجنسي الشرعي[3]. ومن ثمّ كان الوصول إلى مأسسة هذا الحضور ضمن طقوس الدينية، ضرورة اجتماعية.
ولا يمكن القول إنّ الإسلام جاء في مجتمع يفتقد إلى شيوع الممارسة الجنسية، على العكس بلغ العرب حد الاشباع، حيث عرفوا التعددية، سواء في الزوجات أو الجواري، ولما بلغ العرب مرحلة الترف، كانت الإباحية الجنسية، أهم بنية اجتماعية من بنيات بيئة الرق، حيث شاع الهوس الجنسي، والانغماس في اللهو والعربدة، مع الجواري والغلمان (غلمان المتعة)، الأمر الذي كسر النظام الثنائي (ذكر وأنثى)[4]. وكان من اللافت أنّ ذكر المخنثين بات شائعاً في بغداد، في القرنين الثامن والتاسع، تحت حكم العباسيين. وفي هذه المرحلة، كان الفقهاء أكثر اهتمامًا بتحريم المثلية الجنسية، عن سلوكيات تغيير الجنس. ومع ذلك، نظرًا لأنّ القرارات القانونية خلال هذه الفترة، كانت تنظر إلى السلوك المتحول، باعتباره أثرًا جانبيًا للرغبة الجنسية المثلية. وبينما اعترف فقهاء هذه الفترة بوجود أشخاص تختلف أجسادهم بشكل طبيعي عن الذكور أو الإناث، فإنهم لم يعتقدوا أنّ الجنس يمكن أن يكون أيضًا بشكل طبيعي ومشروع مختلفًا عن الذكورة أو الأنوثة[5].
وبالتالي انعكس كلّ ذلك على المجال الديني، فإذا كانت القيود الدينية حدّت من الإباحية الجنسية، وكذا المثلية، فإنّ الحضور المكثف للمتعة الحسيّة الجنسيّة في تصورات الآخرة، والتي حظت باهتمام المفسرين، أدّت إلى موضعة مفهوم الحور العين ضمن الأطر المركزية لهذه المرجعيات.
وعرف العرب قبل الإسلام معنى الحور، حيث جاء كلمة “حور” في أكثر من موضع في أشعار أمية بن الصلت، ولم يكن العرب يعرفون مصدر كلمة حور واشتقاقها، عندما أدخلوها في لغتهم، فقالوا إنّها من فعل حار، وأنّ سبب تسميتهن بالحور هو سواد أعينهن. وللكلمة جذور هندية (الأبسارس) وهن فتيات حسان ورفيقات ملذات الآلهة، ومن أوصافهن أنّ لهن شعور طويلة[6].
وبدورها انبرت أدبيات القيامة في أسلمة مفهوم الحور، حيث طرحت الطبيعة النورانية لأنثى الفردوس وبياضها وصفاء لونها، وهي في كل مصنفات أدب القيامة وهّاجة مشعّة وساحرة مثل الشمس، في تعالق واضح مع المعنى الوارد في الزرادشتية، حيث تعني “الحورية” الشمس وضياها[7].
كل هذه القبليات، انعكست بدورها على تعاطي أهل التفسير مع المفهوم، حيث جاءت التفسيرات من وحي البيئة، وبدافع من المواصفات الذكورية التي تصور من خلالها العرب جمال الأنثى.
في تفسيره لمعنى الآية (54) من سورة الدخان “كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ”. يقول ابن كثير: أي: هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين الحسان اللاتي “لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان”. (الرحمن/ 56 ، 74 ). “كأنهن الياقوت والمرجان”. ( الرحمن/ 58 ). قال ابن أبي حاتم: لو أنّ حوراء بزقت في بحر لجي، لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.
ويسهب الطبري في وصف الحوريات، فيقول: والحوراء: البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها، ويرى الناظر وجهه في كعبها، كالمرآة من دقة الجلد وبضاضة البشرة وصفاء اللون. ومعنى الحور هنا: الحسان الثاقبات البياض بحسن. وذكر ابن المبارك أنّ المرأة من الحور العين، ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وقال مجاهد: إنّما سميت الحور حورًا؛ لأنّهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن. وقيل: إنّما قيل لهن حور لحور أعينهن. والحور: شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حوراء بينة الحور. يقال: احورت عينه احورارا ، واحور الشيء ابيض . قال الأصمعي : ما أدري ما الحور في العين ؟ وقال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر . وقال العجاج: بأعين محورات حور. يعني الأعين النقيات البياض الشديدات سواد الحدق. والعين جمع عيناء، وهي الواسعة العظيمة العينين.
من اللافت هنا الإجماع على بياض البشرة حدّ المبالغة، وهي صفة افتقدها العرب في نسائهم، فلجأ المتخيل إلى استدعاءها وموضعتها ضمن الصفات المحببة للحورية.
مقاربة مغايرة
يقول تعالى في سورة الدخان: “إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ{51} فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{52} يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ{53} كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ{54} يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ{55}”.
من الواضح هنا أنّ الخطاب الموجه للمتقين في الآيات السابقة، يشمل الذكر والأنثى، وبالتالي فإنّ الفعل “زوجناهم” يشمل كلاهما؛ فالتزويج هنا، وفقًا للنص، لا يمكن أن يكون حصرًا على الرجال من نساء الحور العين، وإلّا انقطع مسار المعنى، الأمر الذي يبعث على طرح بعض التساؤلات بخصوص المقصود بــ”حور عين”، وهل تعني أزواج الدنيا؟ أم أزواج الآخرة؟ وإذا كانت متعة مخصصة لكلا الجنسين وليست للرجال دون النساء المتقين، فكيف هو الأمر بالنسبة للنساء؟
ويمكن القول إنّ معنى النكاح، لم يأت في الجنة بمعنى التسرية أو المشاعية الجنسية على الإطلاق، فالنص واضح في تحديد مسار واحد للعلاقة بين الرجل والمرأة في الجنة، “وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”. (البقرة/25). وعليه ربما يكون التزويج هنا بمعنى الإلحاق، لا النكاح، “وزوجناهم بحور عين”، أي قرناهم بهم ولازمناهم، وهن أشبه بالخادمات في الدنيا.
وعلى كل، فإنّ مستويات الوعي التي تتلقف أي مفهوم، تسقط عليه رغباتها واحتياجاتها، وبالتالي فإنّ معايير الجمال المتخيلة للحوريات، ارتبط بمعايير العرب في الجزيرة، وفق عاملي الندرة والرغبة، قبل أن يقوم الفقه بتعميم ذلك بشكل ناجز ونهائي.
أمّا عن تجاوز المثلية في الجنة، رغم وجود إشارات قرآنية يمكن تتبعها، فإنّ ذلك ربما يرجع إلى القلق، بشأن الهويات الجنسية غير المعتادة، ليس بشأن هؤلاء المثليين أنفسهم، ولكن بشأن ما يعنيه وجودهم بالنسبة للرجال والنساء. والأهم من ذلك، المعايير الاجتماعية والثقافية والدينية، التي ترتكز على افتراض أن الجنس البشري ثنائي بطبيعته، وأن الجنس يجب أن يتبع هذه الثنائية.
كانت هناك شبه اجماع على تفسير معنى “الولدان المخلدون” الواردة في الآيات: “وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ الطور/ 24 . وقوله تعالى: “وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا الإنسان/ 19”. وقوله تعالى: “يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ . لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ . وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ . وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ الواقعة/ 17 – 21 “.
رأى الفقهاء على اختلافهم أنّ الآيات عبارة عن بيان لحال خدم أهل الجنة، والذين خلقهم الله لذلك الأمر على أكمل صورة وأبهاها؛ وليس من مهمتهم ممارسة الجنس. وإنّما هم خدم لأصحاب الجنة، يطوفون عليهم بالطعام والشراب لا غير.
لقد كان هناك أشخاص مثليون ومتحولون جنسياً في كل مجتمع وثقافة، يتم تصنيفهم أحيانًا على أنهم فئة فرعية من الأشخاص المثليين، وأحيانًا يُفهمون على أنهم موجودون في حد ذاتهم. وكانت للمجتمعات طرقها الخاصة في تنظيم وإدارة التنوع بين الجنسين، سواء من خلال المحو القسري، أو النبذ، أو إعطاء دور اجتماعي مميز وإيجابي. وكانت المعايير الدينية عنصرًا مهمًا في طريقة فهم التنوع بين الجنسين ومعارضته في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من أنّ التقاليد الفقهية، بما في ذلك المحافظة منها، والتي كانت تميل إلى أن تكون محافظة بشأن أمور مثل الأدوار الجنسانية والتوجه الجنسي، احتوت على مساحة مفاهيمية للمثليين، لكنّها لم تكن تجرؤ على موضعة هذا المفهوم ضمن أدبيات القيامة، واكتفت هنا بالمقاربة بين الغلمان والخدم، رغم أنّها لم تتورع عن التأكيد على الوظيفة الجنسية للحورية، في تضاد منهجي يكشف عوار المقاربة الفقهية.
المراجع:
[1] ميادة كيالي: المرأة والألوهة المقدسة في حضارات وادي الرافدين، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2015، ص ص 190-191.
[2] ميادة كيالي: هندسة الهيمنة على النساء، المركز الثقافي، الدار البيضاء، 2018، ص ص 65-66.
[3] نفسه: ص 68.
[4] وفاء الدريسي: الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2016، ص 152.
[5]Susannah Cornwall: Gender Variance and the Abrahamic Faiths, Department of Theology and Religion, University of Exeter, p6.
[6] لويس صليبا: المعراج من منظور الأديان المقارنة، ط2، دار بيبليون، جيبيل، 2009، ص ص 259 – 260.
[7] لطيفة كرعاوي: الفردوس والجحيم في المتخيل الإسلامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، ص 182.