مقولات إشكالية في الفكر الأيديولوجي العربي المعاصر

تكوين

مقدمة:

شاع في الفكر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصًا في العقدين الأخيرين منه، مفاهيم ومقولات أيديولوجية لا تزال إلى الآن في منأى عن القراءة النقدية الجدية، حتى ليبدو كأنها من المسلمات لتكرار تداولها واستعادتها في الخطاب السياسي، كلما فشل هذا الخطاب في تجاوز مآزقه وأزماته.

من هذه المقولات: مقولة الوَحَدَةُ العربية والدولة القُطرية والغرب والهُوية والتراث والحداثة.

هذه المقولات وغيرها تكونُ عصبًا أساسيًا في الفكر العربي المعاصر وقد ميَّزت على نحو لافت نهاية القرن المنصرم ومطلع القرن الحالي، ففي “أركان القومية العربية” (دار الطليعة) يقول محمد طارق قائدبيه:

“الدولة القُطرية هي لعنة في حياة الأمة العربية، إنها مصدر المعاناة واللؤم والشؤم والمسخ… إنها عاهة الأمة عن حق لأنها دولة لا شرعية، لا منطقية، لا تاريخ لها كدولة، لا حياة فيها، لا إمكانات، لا مُقدرات، لا أسباب وجود، لا أسباب حياة، لا أسباب مستقبل… ومع كل هذا الإفلاس كان الإصرار قويًا على خلقها ووجودها على حساب الأمة”.

وفي نظرة مشابهة إلى الدولة القُطرية يرى خلدون حسن النقيب في “آراء في فقه التخلف” (دار الساقي) أن الدولة القُطرية:

“مخلوق دخيل ليس له أسس في التراث، وليست له مقومات مادية إثنية أو لُغوية أو حضارية، وإنما جاء مرتبطًا بفعل قوى خارجية تمثلت بإدارات الانتداب والقوى الإمبريالية “.

وبما أن الدولة القُطرية هي كذلك، فإن البديل هو إلغاء الحدود إلغاءً فوريًّا بين البلدان العربية من أجل إقامة الدولة القومية.

استرجاع مثل هذه المواقف وتكرارها على هذا النحو أغفل ويغفلُ حقائق أساسية، قد لا يكون أهمها كون الدولة القُطرية مرحلةً متقدمةً في تحول العرب من قبائل وعصائب وطوائف إلى نموذج الدولة الوطنية الحديث الذي من دونه لا أمل للعرب في وَحَدَةٍ عربية على قاعدة صلبة، وبين أقطار غير مهددة من الداخل بالتفتت والحرب الأهلية. وكون الدولة القُطرية العربية هي الواقع الوحيد القائم، ليس فقط نتيجة الاستعمار وسايكس-بيكو، وإنما أيضًا وأساسًا بفعل عوامل تاريخية وجغرافية وإثنية وثقافية، فليس من السهولة شطب أو الاستهانة بدورها في طريق وَحَدَةٍ عربيةٍ لا يمكن أن تقوم إلا على إرادات الدول القطرية واحترام خصوصياتها التاريخية أيًّا تكن هذه الخصوصيات، وما لعن الدولة القُطرية وتَتَفِيْهُ دورها في المرحلة الراهنة، مهما تكن النيات، سوى إسهام غير مباشر في تمزق العرب وتأجيل وَحْدَتِهم المنشودة.

الغزو الثقافي وتهديد الهُوية

وتستعاد من جديد مقولة الغرب العدواني الموروثة من القرن التاسع عشر، غرب الغزو الثقافي وتهديد الهُوية، فتلقى عليه مسئولية التخلف العربي وإيصال العلاقات بين الأمم والشعوب إلى طريق مسدود، وإجبار العالم العربي على تبني نموذج الدولة القومية الغربي وتطبيقه المُتخلف، كما يرى خلدون حسن النقيب في “آراء في فقه التخلف“.

هذا بالذات ما كان إدريس هاني في “العرب والغرب” (دار الطليعة) حَذَّرَ منه بصورة هَلَعِيَّةٍ، إذ رأى أن العالم العربي بات مُهددًا “بغزو حقيقي يهدف إلى إطراحه من الوجود”، وأنه “ما لم يستيقظ الضمير العربي من سباته وغفلته لمواجهة هذا الخطر ويستنهض عقله المقاوم، فان عملية تدمير مُحققة سوف تلحق به لا محالة”.

وعلى الصورة ذاتها رأى الطيب تيزيني في “حوارات في الفكر العربي، الواقع العربي وتحديات الألفية الثالثة” أن العلاقة بين الغرب والعرب هي علاقة لا تكافؤ بينهما تسمح بإمكان اختراق الأول للآخر على نحو كُلي، ما يكونُ صيغة من أخطر صيغ التحدي الذي يواجهه الواقع العربي، وهي صيغة الاستباحة التي هي بمعنى ما تفكيك هُوية الطرف العربي وإعادة بنائها من موقع هُوية جديدة.

في ظل هكذا مواقف من الغرب يطرح وجيه كوثراني في مجلة “العربي” سؤالًا مركزيًّا عن الفكر العربي: أي باحث يتوخى في ظل التحولات الكبرى الراهنة دروس التاريخ وتجاربه وخبراتها؟

ويرى كوثراني أن بعض الباحثين العرب ما يزال يَنعى على الحضارة الغربية “ترديها” وينتظر انهيارها، وبعضهم يدعو إلى دراسة الغرب في ثنائية الاغتراب المعكوسة على طريقة حسن حنفي، والبعض الآخر يتوجس خوفًا على هُوية مأزومة وعولمة لم تدخل بعد في وعيه، وبعضهم يضيع بين باحث خبير وباحث مُناضل، وهنا في رأي كوثراني مكمن اللبس في تعبيرنا عن التحولات التي لم نسهم فيها في التاريخ العالمي المعاصر.

الإجابة عن كل هذا اللبس في الموقف من الغرب يجب أن يبنى على أسس مختلفة غير تلك التي لا تزال تحكم رؤية المفكر العربي ونظرته إلى الغرب وحضارته، وأول، هذه الأسس أن الغرب منذ بدء نهضته لا ينفكُّ يطرح علينا مشروعًا حضاريًّا وإنسانيًّا لم نُفلح بعد في مشاركته فيه مشاركةً فاعلة ومميزة، ولهذا لم نبدأ معه حوارًا متكافئًا يُنهي الإشكال التاريخي القائم بيننا وبينه. وآخرها، أن الحضارة الغربية إرث إنساني متقدم، لكن علاقتنا معه تخضع لجدل المصلحة والصراع.

من هذه الحقائق بالذات يمكن تفكيك المقولات المتداولة في الفكر العربي الراهن بشأن الغرب والنظام العالمي الذي يقوده وموقعنا في هذا النظام، ومن هنا تبدأ إزالة اللَّبس والتناقض ويمكن التعامل مع الغرب من منظور مختلف ورؤية جديدة.

الثقافة الليبرالية الغربية

من المقولات الشائعة المتداولة في الفكر العربي المعاصر مقولة خصوصية الثقافة الليبرالية الغربية وعدم ملاءمتها للواقع والمجتمع العربيين.

من المتحمسين لهذه المقولة جلال أمين الذي دأب على رفض الحداثة الغربية بوصفها شكلًا من أشكال الهيمنة والتسلط والعدوان على قيمنا الدينية والأخلاقية والتراثية، ففي “قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر” رأى أمين أن شعارات التنوير الغربية:

  • الحرية
  • المساواة
  • التسامح
  • العقلانية
  • الموضوعية

كانت لها استخدامات معينة وحدود لا تتعداها وتفسيرات تلائم الظروف التي نشأ فيها التنوير الغربي ولا تلائمنا نحن، وهذه الشعارات قد لا تكون حتى جزءًا من أي “تنوير” حقيقي لدينا.

رفض الثقافة الليبرالية

يشاطر أمين هذا الرأي كُتاب ومفكرون آخرون، فلؤي صافي يرى أن النهضة الحضارية للأمة لا يمكن أن تتم انطلاقا من الواقع الغربي الحداثي، بل انطلاقًا من الذاتية التاريخية للأمة العربية، وتأسيسًا على هذه الرؤية رأى بعضهم ومنهم راشد الغنوشي، أن عالمية الميثاق العالمي لحقوق الانسان ما هي إلا عولمة فرضتها حضارة غربية سائدة. فهؤلاء يرون أن هذا الإعلان صاغه الغرب في أوج هيمنته الاستعمارية وبات من الضروري الآن صوغ ميثاق أكثر ملاءمة للواقع العالمي في المرحلة الراهنة.

إن الإصرار على مقولة خصوصية الثقافة الغربية حتى في مجال حقوق الإنسان يعكس وجهًا من وجوه تعامل العرب مع الحداثة، فلقد نظروا إليها بوصفها “غربية” تخص الغرب وحده لا “إنسانية ” تخص الإنسان عمومًا وتُمثل مرحلة متقدمة من مرحل صراعه مع الكون والطبيعة والتخلف أيا يكن شكله وطبيعته. هذه المحاولة القديمة المُتجددة في الفكر العربي لرفض الحداثة باسم الخصوصية لا يمكن أن تعني سوى الإصرار على التخلف ورفض الاندراج في الحركة الإنسانية الشاملة التي كان الغرب طليعتها التي ليست في الحقيقة سوى مرحلة على طريق الارتقاء الإنساني الشامل.

تقود مقولة رفض الثقافة الليبرالية باسم الخصوصية والخوف على الهُوية إلى مقولة أخرى لازمتها منذ الولوج الأول للحداثة إلى الثقافة العربية، إنها مقولة التجديد من داخل التراث التي عاود محمد عابد الجابري طرحها في “نحو مشروع حضاري نهضوي عربي” رأى فيه الجابري أن الطريقة التي سلكها ابن رشد من موقعه بوصفه فقيهًا هي الأفضل والأقوم للتعامل مع الحداثة ومقتضياتها من ديمقراطية وعقلانية وحقوق الانسان، وما الخطوة الأولى وفق هذه الطريقة سوى وضع قضايا الحداثة واحدة تلو الأخرى في ميزان الشرع، لهذا يخلص الجابري إلى أنه

لا بد من الامتلاء بالثقافة العربية والتراث العربي الإسلامي عند الخوض في الحداثة الأوروبية وقضاياها وإمكان تبنيها أو اقتباس شيء منها”

ويؤكد هذه المقولة من جديد في مجلة “المستقبل العربي” إذ يقول:

“القضية الأساسية التي أدافع عنها هي أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل تراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعًا معاصرًا لنا”.

التعامل مع الحداثة

إن استعادة ابن رشدالفقيه” وطريقته في التعامل مع الحداثة بعد أكثر من ثمانية قرون على وفاته ما هي إلا دلالة مأساوية على حال العجز والمراوحة التي تنتاب الفكر العربي المعاصر. فهل “الرشدية” قادرة على الإجابة عن التحديات المتلاحقة التي ما انفكت تطرحها من دون هوادة الثورة العلمية والتقنية والفكرية في كل المجالات، والتي يقف إزاءها حائرًا ليس فقط الفقه الرشدي في صيغته الفائتة، بل الفكر الفلسفي برمته الذي بات يواجه أسئلة حرجة

  • بشأن دوره وموقعه ومداه؟
  • هل يجد الفكر العربي ضالته في رد تحديات الحداثة، في الفلسفة الرشدية، في وقت تواجه الحداثة بالذات تحديات “ما بعد الحداثة “؟

هذه الأسئلة لم تواجه في العمق وإن كنا نجد بعض قراءات نقدية لها، جِدية وإن محدودة، مثلما فعل أبو يعرب المرزوقي في “آفاق النهضة العربية ومستقبل الانسان في مهب العولمة” (دار الطليعة)، إذ رأى أن الدواء الرشدي الذي عالج المرض الغربي لم يعد صالحًا الآن، وأن إشكالية العلاقة بين الحكمة والشريعة في الشكل الذي عالجها فيه ابن رشد لم تعد ذات دلالة لدينا، في حين أن أكثر من تسعةٌ وتسعون في المئة من التشريعات أصبحت عندنا وضعية. ومن هنا فان استعادة الرشدية في رأي المرزوقي ما هي إلا “تنغيص حياتنا من جديد بمشكلات جدودنا“.

خاتمة

ثمة أوهام وانحرافات ونتائج كارثية لحقت بالسياسة والفكر والمجتمع العربي من طريق تداول هذه المقولات في الخطاب السياسي العربي، ليس أقلها مشاريع التوحيد القسري وأزمة التواصل العقلاني مع الحضارة الغربية وتَعَثُّر الحداثة العربية وهيمنة التفكير الأصولي على المجتمعات العربية، على رغم كثافة المنتجات المادية للحداثة.

ولا يمكن إطاحة هذه الأوهام والانحرافات والخلاص من نتائجها من دون تفكيك مقولات الفكر العربي وقراءتها مقولةً مقولة، قراءةً نقديةً تكشف تهافتها وتؤكدُ الحاجة إلى رؤية جديدة وصياغة جديدة لكل مقولات الفكر العربي والتعامل معها من منظور مُختلف يأخذ في تصوره حراك التاريخ وتحولاته.

 

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete