تكوين
يطيب لي أن أوجه خالص الشكر الى القيمين على مؤسسة تكوين التي تضم كوكبة من الأدباء والمفكرين ممن يسكنهم هاجس التغيير والنهوض بالفكر والثقافة العربية بل بالإنسان العربي عموماً. وقد تسنى لي الإستفادة من أبحاث معظمهم وكتاباتهم الرصينة والإطلاع على مؤلفاتهم حيث يتآلف الأدب والفلسفة والتاريخ في محاولةٍ للبحث عن الحقيقة بعيداً عن المسلمات والأحكام المسبقة.
كما أود أن أثمن عالياً المرتكزات الفكرية التي بُنيت عليها مؤسسة تكوين وهي التحفيز على المراجعة النقدية للتراث، وإعادة طرح السؤال حول النهضة العربية وانتكاساتها كي لا نقول فشلها، وكذا التوجهات التي تحكم استراتيجتها والتي إذ تؤكد على أهمية بناء العقل النقدي والبحث المجرد عن الحقيقة، لا تقصي الفكر الديني كونه من المكونات الأساسية للحضارة العربية بل الإنسانية عموماً. وأزعم أن هذا التوجه يشكل عنصر تميز لهذه المؤسسة ويدل على رؤية موضوعية للواقع كما يبرهن على ممارسة عملية للمبادىء التي قامت عليها، وخصوصاً، إرساء قيم الحوار وقبول الآخر، ونبذ العنف.
مقدمة
إن محور هذه الجلسة أدبي بشكل خاص، فقد تميز طه حسين بإنتاج أدبي تنوع بين القصة والسيرة والمذكرات وأثرى الأدب العربي بأعمال تعتبر من الروائع حتى يومنا هذا، وقد انتقيت من هذا البحر الواسع قصته الموسومة “أحلام شهرزاد” والتي صدرت مؤخراً مترجمةً إلى الفرنسية، ما يشير إلى أنها تتمتع براهنية تتجاوز الجغرافيا العربية. ولكن قبل أن أتناول موضوع التجديد في هذا الكتاب وبما أن عميد الأدب العربي، هو أيضاً مفكر ومثقف إشكالي، وددت أن أضع مقاربتي في إطار إشكالية عامة، هي إشكالية التجديد في الفكر العربي، خاصةً وأن أسئلة عصر النهضة لا تزال تطرح نفسها اليوم وربما بشكل أكثر حدة، كأن الزمن العربي أسير دائرة مغلقة، محكوم بالتكرار والجمود.
إن أحد أسباب نكوص النهضة العربية هو في رأيي عزلة المثقف النخبوي الذي يبقى عاجزًا عن التأثير على الجمهور، فيما قوى الجمود والأمر الواقع تمتلك الأدوات الناجعة لاستتباعه والسيطرة عليه، خاصةً وأن الإنسان العادي يركن الى المسلمات، ويطمئن إلى الأجوبة المعلبة. وما يحضّ على ذلك في مجتمعاتنا العريية والإسلامية هو الجهل والأمية وتحكم الفكر الغيبي والبنية البطركية، مما يعرِّض كل محاولة للتجديد ولخلخلة البنى الثقافية القائمة للهجوم ويثير حولها الشبهات. وهذا ما حدث لطه حسين حين أصدر كتابه الشهير “في الشعر الجاهلي”. وبغض النظر عن اختلاف الآراء حول هذا الكتاب يبقى أن الأزمة التي أثارها إنما تدلّ على رفض القبول بالرأي المختلف، وبأن الذهنية السائدة سمتها الأحادية الإلغائية، فيما الحقيقة متعددة الوجوه ويمكن النظر إليها من زوايا مختلفة وهذا شرط أساسي لكل حوار.
بالعودة إلى موضوع مداخلتي، أشير إلى أن نواحي التجديد في رواية أحلام شهرزاد عديدة، وهي رواية تحتمل أن توصف بالرواية الفلسفية وتنضوي على بعد صوفي وتكتنز رسائل ومضامين فكرية واجتماعية وسياسية وجندرية وميتا شعرية متنوعة، لا يتسع المجال للتوقف عندها كلها.
التجديد في فن الرواية
يتمثل التجديد أولاً في بنية الرواية ذاتها، وهي بنية تنضوي على رسالة ضمنية مفادها إمكانية التجديد من قلب التراث: فقد استلهم طه حسين كتاب “ألف ليلة وليلة”، كغيره من الأدباء العرب والعالميين، لكن الإضافة التي حقّقها تتمثل بقلبه المعادلة، ذلك أن شهرزاد تقصّ هنا على شهريار حكاياتها وهي تغطّ في نوم هانىء مطمئن، فيما الملك يقضي ليله ساهرًا يؤرقه القلق والخوف من المجهول فلا يجد له من مغيث سوى صوتها الذي يطرق مسامعه كما لو أنها ليست غارقة في أحلامها الليلية. تظهر شهرزاد في موقع قوة، فهي امرأة حرة، ذكية، متمردة، فيما شهريار يبدو ضعيفًا مسكونًا بالهواجس. “لم يكن شهريار كعهد الناس به… ثائر النفس، جامح الشهوة، سيء الظن بالمرأة، وإنما كان رجلًا آخر قد خلقته شهرزاد خلقًا جديدأ” (ص.17). تبدأ “أحلام شهرزاد”، إذن، من حيث انتهى السرد في ألف ليلة وليلة، وتحديدأ في “الليلة التاسعة بعد الألف” كما يشير الكاتب في مطلع الفصل الأول.
كما أن تقنية التضمين المعتمدة في بناء الحكاية، تشكل ملمحاً من ملامح التجديد في ذلك الوقت. إذ أن الأحداث تتطور في حبكتين مختلفتين تنفتح الأولى على الثانية وتتضمنها، وتدور في زمنين متشابكين وفضاءين مختلفين تتقابل بينهما الشخصيات في لعبة مرايا: شخصية شهريار، يقابلها في الحكاية المتضمنة، شخصية ملك الجن طهماز، فيما يمكن اعتبار شخصية فاتنة ابنة الملك، الوجه الآخر لشهرزاد إذ أن الكاتب يجري على لسانها تفصيلاً ما يرد إيحاءً على لسان الأخيرة ويحملها بالتالي رسائل للقارىء فترتسم علاقة ثلاثية تجمع شهرزاد وفاتنة والروائي نفسه.
إضافةً إلى ذلك يتوسل طه حسين تعدد الأصوات: هناك الراوي العالم، وراويان آخران يرتفع صوتهما من داخل السرد: شهرزاد، و”طائف الحلم” الذي يمكن اعتباره ناطقاً بلسان طه حسين نفسه الذي يقتحم السرد ليعلق على الأحداث.
هذا في الشكل، أما في المضمون، فإن الكتاب يطرح قضايا عدة ويقاربها من زاويةٍ نقدية تغييرية، ولعل أهمها صورة المرأة والعلاقة بين الجنسين، مسألة السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، قضية الشرط الإنساني وعلاقة الإنسان بالعالم، وأخيراً ماهية الأدب وعلاقته بالمجتمع.
صورة المرأة والعلاقة بين الجنسين
لطالما تشكّلت الصورة التقليدية للمرأة من خلال نزعة جوهرية تقيمها في سجن ماهية ثابتة سمتها الغموض. فهي بالنسبة للرجل لغز يصعب عليه تفسيره ويثير لديه خوفاً يحاول التعويض عنه بالسيطرة والتفوق. إذ يعرض طه حسين هذه المقولة من خلال التركيز على صفة الغموض التي تحيط بشهرزاد في عيون شهريار الذي يلح عليها بسؤال يشكل لازمة في الرواية: “من أنت؟ وماذا تريدين؟ فإنه يفعل ذلك ليدحض هذه المقولة وكذلك النظرة الموروثة الى المرأة وهي نظرة محكومة بثنائية حواء الغواية/ والعذراء المقدسة.
تجسد فاتنة ابنة ملك الجن صورة المرأة الجديدة المتمردة على الواقع والساعية الى تغييره، وإلى تحمل مسؤوليتها في اختبار الحياة وتحقيق ذاتها كوجود مستقل، متسلحة بالعلم والمعرفة: “إنما انتهيت الى هذه المنزلة (من العلم) لأني صُرفت عن هذه الحياة الباطلة التي تحياها بنات الملوك… مفكرات فيمن يسعى إليهن محباً أو متملقاً أو خاطباً. صُرفت عن هذا كله وعن أشباهه إلى النظر في حكمة الأولين والمحدثين وإلى كثير من التجربة والاختبار” (ص.15). وقد تمكنت فاتنة بالفعل، من تغيير السائد في أحوال المملكة وعلاقتها بالممالك الأخرى، ونجحت في إرساء السلام القائم على الاعتراف والاحترام المتبادل.
من جهة أخرى، إذا كانت العلاقة بين الجنسين وفق المنظور الذكوري محكومة بمنطق السائد والمسود فذلك بحسب طه حسين هو نتيجة التربية ولا علاقة له بحكم الطبيعة، وهو بذلك قد سبق سيمون ده بوفوار التي كانت بدورها سباقة إلى تبني نظرية الجندر أو النوع الاجتماعي الرائجة راهناً. وكما يغير الكاتب النظرة إلى المرأة كذلك يفعل بالنسبة للرجل الذي تسجنه التربية التقليدية في صورة واضحة المعالم فهو القوي الشجاع المسيطر وفارس الأحلام. يلاحظ “طائف الحلم” الناطق بلسان طه حسين أن شهرزاد تضيق بوضوح شهريار، كما يضيق هو بغموضها. بمعنى آخر يمكن القول أن طه حسين لا يعترف بهوية قبلية نهائية وقطعية للأنوثة والذكورة على حدٍ سواء. فالهوية رهن بالممارسة والوجود، وأظن أنه قد سبق في ذلك جان بول سارتر الذي أسس فلسفته الوجودية على رفض أسبقية الماهية على الوجود.
يؤسس الكاتب العلاقة بين الجنسين على الحرية والاعتراف المتبادل فيصبح الحب وصلاً بالمعنى العميق للكلمة أي اتحاداً بين كيانين وتفاعلاً بين حريتين وذاتين مكتملتين، فيستعاض عن الامتلاك بالتكامل، وعن التسلط بالشراكة، وعن الإخضاع بالتعاطف، وعن الأنانية بالغيرية، ويعيش طرفا العلاقة، كل للآخر ومن أجله وبه (ص.22). لكن ثمة مسافة لا بد من الاحتفاظ بها تتيح للذات أن تتفتح وتتنفس بحرية، فلا تختنق العلاقة تحت وطأة العادة وتبقى لذة اكتشاف الآخر المحبوب، فالحب، كما تقول شهرزاد “لا يقتله شيء كما تقتله المعرفة” بل إن “الحرب بين الحب والمعرفة” (ص.24) هي سر التجاوز والتغيير وهي بالتالي قوة الدفع في الحياة.
مسألة السلطة ونظام الحكم أو “في فلسفة الحكم وتدبير شؤون الرعية”:
تتميز الرواية بمضامينها السياسية والاجتماعية، وما الحوار الجاري بين ملك الجن وابنته الأميرة سوى ذريعة لمناقشة أساليب الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وبالتالي فرصة للتعبير عن آراء الكاتب السياسية. فمن جهة، هناك انتقاد للنظام السائد، ومن جهة أخرى، تصور لنظام بديل. يوجّه طه حسيب سهامه باتجاه الحاكم المستبد وباتجاه المحكومين الخاضعين، في آنٍ معاً، متوسلاً خطاباً وصفيا تقريريا يجريه على لسان طهماز الملك الذي بعد أن بلغ من العمر عتيًا يقف أمام المرآة ليمارس نوعاً من النقد الذاتي يكشف في الواقع عن مقدرة الكاتب على النفاذ الى سيكولوجية الحاكم المتسلط بشكل عام: “نحن قد ألفنا أن نأمر ولا نأتمر، وأن ننهي ولا ننتهي، وأن نطاع ولا نطيع؛ فأصبح الشذوذ لنا طبيعة، والجموح لنا فطرة، والاستبداد بالحياة والأحياء لنا قانوناً” (ص.29). تصرفات الحكام تمليها الأنانيات، والرغبة الجامحة في السيطرة، يعيشون في بروجهم العاجية، منفصلين عن الواقع، مطمئنين الى ما تكيل لهم بطاناتهم من مديح يزيدهم طغياناً: “نحن لا نتنزل إلى مخالطة الرعية لنشهدها حين تبتهج وحين تبتئس وحين يمسها جناح من لين أو يصيبها عارض من شدة” (ص.27). يتسلط الحكام على ثروات البلاد ويستغلون الشعوب الرازحة تحت نير البؤس والجهل، يقول طهماز:” من القسوة أن ننعم وهم بائسون، وأن نقوى وهم ضعفاء، ونثري وهم فقراء، ونستبد من بؤسهم نعيماً، ومن فقرهم ثراء” (ص.28). يقررون الحرب والسلم وفقًا لأهوائهم ومصالحهم الضيقة، فيغامرون بمصير الشعوب: “لإن أثرة الملوك والسادة والزعماء، هي التي تثير الحرب دائما، وهي التي ترهق الشعوب دائماً، وأكاد أعتقد أن الشعوب إنما خلقت ليرهقها الملوك والزعماء بالحرب والسلم جميعا” (ص.29). غير أن غاية طه حسين تتجاوز رصد الواقع نحو اقتراح طرق لاستبداله وتغييره. مما يستدعي تغييراً في العقليات، سواء لدى الحاكم والمحكوم، فيدرك الحاكم أنه مسؤول أمام رعيته وأن عليه واجباتٍ يؤديها تجاه شعبه، فيما على المحكوم أن يتحلى بالجرأة على المطالبة بحقوقه وعلى الانتفاض في وجه التعسف، وبالقدرة على مراقبة الحاكم ومحاسبته. وذلك لا يتم إلا بالتسلح بالعلم والمعرفة، ومقاومة الجهل. وانسجاماً مع توجهه الفينومينولوجي، يرفض طه حسين التسليم بوجود فئتين مختلفتين في الجوهر، حاكم ومحكوم، تميّز كلا منهما طبائع خاصة يفرضها قانون الطبيعة: “أليس من الممكن وقد ارتقت عقولنا ونفذت أبصارنا إلى كثير من حقائق الأشياء، وعلمنا أن هذه الفروق بيننا وبين الرعية مصطنعة لم تأت من الطبيعة، وإنما جاءت من الحضارة، أفليس من الممكن أن نصلح أغلاطنا” (ص.31). بل يذهب طهماز إلى أبعد من ذلك فيصبح ناطقا بلسان طه حسين الذي يعلن مبدأ المشاركة كأساس للحكم. (ص.31). يكفي أن نضع هذه الآراء في سياقها الزمني كي ندرك المنحى التجديدي في فكر طه حسين وتوجهاته السياسية. فهو جمهوري في ظل حكم ملكي، وديموقراطي في مجتمع يقوم على التمييز الطبقي بين الأرستقراطية الحاكمة، والعامة.
في الأدب ووظيفته بحثا عن المعرفة
لا ينتسب طه حسين الى مذهب الفن للفن، ولا يرى أن هدف الأدب يقتصر على توليد الإحساس بالجمال، وأن الكاتب يعيش في عزلة عن مجتمعه ويستجيب لإملاءات ذاته الفردية، بل نراه ينيط بالأدب مهمة تنويرية. فغاية الرواية لا تقتصر على تسلية القارىء، بل هي على العكس تعميق وعيه للواقع واستثارة فضوله للبحث عن المعرفة بمنأى عن الأفكار النمطية، والأحكام المسبقة. دليلنا على ذلك الشحنة الرمزية والمعاني المُضمرة التي يختزنها السرد والتي يدعونا طه حسين تلميحاً إلى اكتشافها فيميز بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الذي يستدعي التأويل. ذلك أن القراءة العالمة، القلقة، المهجوسة بالسؤال والتي تحفر عميقاً في جسد النص لتقبض على جوهره هي مفتاح المعرفة وقوة الدفع الأساسية نحو التجاوز والتجديد. ولا يصح ذلك على قراءة النص الأدبي وحده، بل على كل نص ينضوي على تجربة ما أو على معرفة ما. يختلف شهريار ألف ليلة وليلة، عن شهريار أحلام شهرزاد، في أن الأول يبحث في القصة عن اللهو والتسلية، في حين أن الثاني تقلقه المعاني الغامضة فيسعى الى التأويل والتعليل عله يجد إجابات على أسئلة تشغله. ويمكن القول أن طه حسين في مقاربته هذه قد أسس لنظرية التلقي في النقد المعاصر. وإذا كان سؤال المعرفة أساساً في عملية القراءة، فهو ركيزة ومحرك لكل إبداع وهو ملازم لعملية الكتابة. هذا ما يوحي به الكاتب الذي يلبس قناع شهريار ليصف نفسه: “كان كثير التفكير متصل التروية، لا يرى شيئاً إلا اجتهد في أن يعرف مصدره وغايته. ولا يسمع شيئاً إلا جدّ في أن يفهم ظاهره وتأويله (ص.17). بل يمكن القول أننا أمام تصور للمثقف التنويري الذي يأخذ مسافته من القائم ليعيد النظر فيه وليكوّن قناعاته الخاصة، ما يؤدي في غالب الأحيان إلى غربة عن القطيع الذي اعتاد الركون الى المألوف: “كان أمر شهريار قد شقّ على الناس جميعاً” أما شهرزاد فكانت “تلقى… تفكيره بتفكير أشد منه تعمقاً… حتى استعجمت أحاديثهما، أو كادت تستعجم على الحاضرين في مجلسهما، “فهما يقولان ما لا يُفهم” (ص.17). في هذي السطور ما يكشف عن قناعة لدى كاتبها بضرورة التمييز بين الخاصة والعامة لناحية النظر الى الأشياء وفهم الوجود بكليته. وهو إذ يطرح على نفسه سؤال الوجود، منذور للقلق والبحث الدائم عن المعرفة التي كلما اقترب منها زادت في ابتعادها لتعمِّق السؤال وتحرِّك التوق الى اكتشافها. يتماهى البحث عن المعرفة مع التجربة الصوفية كما يمكن الاستدلال من بعض المشاهد الروائية المكتوبة بلغة مجازية تغرف من قاموس التصوف بعض المضامين والمفردات. ها هو شهريار يعيش حالة انخطاف وانقطاع عن الواقع يعبر عنها الاستعمال المتكرر لفعل ذهل ومشتقاته (ذهول مذهولاً) وتثيرها متعة التأمل في جمالات الطبيعة من حوله، فيتحد بها ” ويفنى فيها ويصبح جزءاً من أجزائها وعنصراً من عناصرها ساعة أو ساعات”، ما يوحي بإيمان الكاتب بمبدأ وحدة الوجود الذي يشكل أحد مرتكزات التصوف. في انخطافه يفقد شهريار، إحساسه بوجوده المستقل ويتخلى عن فردانيته ويتخفف من حضوره المادي “فلا يكاد يحس خطاه لأن قدميه لا تمسان الأرض” (ص.19) ليسمو في فضاءات الروح، ” نشوان ثملاً وقد صرفته الحياة عن الأحياء وصرفته الطبيعة عن الناس والأشياء” (ص.20). لكن التجربة لا تكتمل إلا بالكشف الذي لا يتحقق بالمعاينة بل بالحدس والذي يقصِّر القول عن التعبير عنه: في نهاية مشهد مجازي يصوِّر حالة التجلي يتوجه طه حسين للقارىء بهذه العبارات: “وكيف تريدني أن أصف لك ما لا يوصف، أو أن أصور لك ما لا سبيل إلى تصويره؟” (ص.48). الحياة الحقيقية هي إذن الحياة الروحية وهي تجربة خاصة فريدة ومتفردة.
هذه النزعة الصوفية الواضحة في الرواية والتي يعبَّر عنها بلغة الرمز والمجاز تشكل في ظني مدخلاً الى تجديد الفكر الديني، وإلى التأسيس لحوار بين الأديان يتجاوز اختلافات العقائد والعبادات ويحرر النصوص الدينية من الجمود ليكشف عن الجوهر الروحاني المشترك الذي يسمو بالإنسان فوق الأنانيات والمصالح ليعيش الأخوة البشرية، والشراكة مع الطبيعة وكائناتها.
ختاماً، يتضح أن طه حسين في استلهامه لرواية ألف ليلة وليلة، وفي استحضاره للتجربة الصوفية، قدد أثيت في روايته قدرته على التجديد من قلب التراث الثقافي والفكري في العالم العربي، مبتعداً عن المنحى التوفيقي الذي انتهجه العديد من مفكري عصر النهضة، ويمكن أن نضيف أنه يلاقي نزعة وجودية ارتسمت في الشعر العربي لدى طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى وأبي العلاء المعري، لم يتسع المجال للإضاءة عليها في هذه العجالة.