تكوين
ما إن حطت معرفيات اليونان على أرض الاسلام،وانتشرت،بعد أن ترجمها المترجمون وشرحها الشراح،حتى استفاقت الحمية ضد الدخيل، و قد أخذ مكانه،مزاحما الأصيل على ساحته وفي عقر داره.راح كل منهما يشق طريقه إلى تلافيف الفكر العربي والإسلامي،يبني حضوره فيه،ويرسم معالم حوار لدود
يجري وراء الكلام أو تحت سطحه،بوساطة النحو والمنطق،علمين، تطورا بين مرجعيتين،عرفتا على مرّ تاريخ الفكر العربي بالعقل والنقل،لكل منهما،ماهيته الميتافيزيقية المخصوصة ،بلغ هذا الزوج حد الاستئثار بمفاصل الثقافة السائدة،يشترك في إنتاجها محاكيا واقع ا لمباينة التي تثوي بين طرفيه،فبدا الآخر،باختلافه الحضاري والمعرفي والأيديولوجي،مدعاة قلق يساور أصحاب العلوم المنبثقة من العربية لغة والإسلام دينا،قطبان متعاضدان،في تشكيل هوية مركبة يتقاطع في حقيقتها المعرفي والأيديولوجي والديني تقاطعا، حرص العلماء في كل منهما،على صون خصوصيتها،ورَدّ كل دخيل عليها أو عابث بفضائها الميتافيزيقي،وقد سوّرته علوم العربية وقوانينها،وأصول الإسلام وعلومه وأحكامه.
مع هذه الصورة المنقوشة في الوعي العربي والإسلامي ،بدأت ترتسم ملامح اصطفاف على الضفة الأخرى،قوامه،نظر مطمئن إلى الوافد من العلوم اليونانية وفي مقدمها علوم الفلسفة و المنطق،عبر عنه المشاؤون العرب،في اهتمامهم بمبادئها وآليات اشتغالها،مع سعي إلى تبيئة مفاهيمها من خلال مصطلح عربي مبين.
١-المناظرة
لا تخرج مناظرة السيرافي-متى* عن هذه الاشكالية،لقد عبّرت في شكلها ومضمونها وشروط إنتاجها عن جملة من الوقائع،تعكس حقيقة مفادها،أن المشهدية التي عرضت في مجلس الوزير الفضل ابن جعفر ابن الفرات(٣٢٦هج)لم تكن حوارا متكافئا بين النحوي والمنطقي،بقدر ما كانت بين أصيل ودخيل بكل المقاييس والاعتبارات،مع ما تحمله الأصالة في الحضارة العربية و الإسلامية من امتيازات معنوية وأخلاقية،أفصح عنها النهج الإستعلائي الذي سلكه السيرافي في مخاطبة متى،وما تثيره الدخالة في فضاء هذه الحضارة من مشاعر التشكيك عبرت عنها المواقف المكفرة والمبدعة للفلاسفة الذين رأوْا إلى الآخر اليوناني،في ما أنتجه،في علوم الفلسفة والمنطق،إنجازا معرفيا،يثري الحضارة الإنسانية الجامعة.
لقد هيّأ الوزير ابن الفرات المناخ المؤاتي لمنازلة متى، أرادها محسومة فبل أن تبدأ،لمصلحة السيرافي،لقد عبأه،ودفعه دفعا إلى خوضها،تحت شعار نصرة العربية ونحوها،والعربية هي الوليد البكر لحياة الأعرابي في صحرائه،و ومعلم الأصالة الأفصح والأنقى،ولغة القرآن المعمدة بقدسية كللت هامتها وفرضت هيبتها على مر التاريخ، قال ابن الفرات موجها كلامه إلى خيرة من العلماء الحاضرين في مجلسه “ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق،فإنه يقول لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل إلا بما حويناه من المنطق و ملكناه من القيام به واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده،فاطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه(١). لم يكن أمام السيرافي وهو النحوي المتبحر في علمه،وقد أحرجه استفهام الوزير المتعجب، إلا الاستجابة للتحدي،كيف لا،والنحو ملعبه،والقرآن كتابه،بالنحو يتحصل فهمه،وتتحقق حمايته من مخاطر اللحن والتحريف،به يتم إحكام المعنى،ويستقر تحديده،يقول الشافعي:من تبحر بالنحو اهتدى إلى كل العلوم….وقال:لا أسأل عن مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد النحو”،إنه العلم المنصرف إلى إبانة الفوارق بين المعاني،لصيق بعلوم الشريعة، يقول فيه ابن خلدون:إن مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة،وهي بلغة العرب و نَقَلَتُها من الصحابة والتابعين عرب…،فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة،وتكاد تكون موضوعات علم النحو و أبوابه مطلبا واجبا على المفسر،يتوسل بها لفك مقفلات النصوص وتجلية الأغراض الكامنة في كلام الله.
وعليه،فإن السيرافي،يمتلك العلم الأجدر،لمنازلة متى،و إفحامه في معركة تثبيت النحو منطقا أصيلا مستلا من رحم العربية،مستغنيا عن منطق اليونان وتصوراته و تصديقاته.
٢-حدّثني عن المنطق
يفتتح السيرافي المناظرة بتوجيه السؤال إلى متى:
“حدثني عن المنطق،ما تعني به؟أجاب متى:المنطق آلة من آلات الكلام التي يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه،وفاسد المعنى من صالحه كالميزان”(٢).وجد السيرافي في هذا التعريف فرصة للرد بالرفض ،فاعتبر أن النظم والإعراب،هما اللذان يحددان صحيح الكلام من سقيمه،و المنطق اليوناني ينبغي أن يبقى مقصورا على من أنتجه واستهلكه،فلا يلام الترك أو العرب إن لم ينظروا فيه ولا يلزمهم حكما أبدا؛لم يتأخر متى في تعقيبه مؤكدا أن الناس جميعا،سواء في المعقولات،والمنطق يلزمهم لا محالة،أفليس إضافة أربعة إلى أربعة تساوي ثمانية،عند جميع الأمم؟(٣).لم يقتنع السيرافي بما أورده متى،معتبرا أن المطلوبات بالعقل ليست واضحة و لا يمكن التوصل إليها دون معرفة اللغة،والمثال الذي ذكره يقع في إطار التمويه الذي درج عليه أهل المنطق (المناظرة…)،لقد بدا السيرافي متجاهلا حقيقة كون نظم المعاني في العقل يتقدم التعبير عنها، و جاهلا بقواعد المنطق وبأنواع المقدمات اليقينية والظنية،وأن بناء البرهان على مقدمات يقينية من شأنه أن ينتج نتيجة يساوي يقينها يقين أربعة مع أربعة تساوي ثمانية،كما فاته أن محاحجة العقائد المختلفة والتيارات الفلسفية الوافدة،لم يقم بها علماء النحو وإنما متكلمون متمكنون من المنطق،وحجة الإسلام خير مثال على ذلك.لم ينتبه السيرافي إلى هذه الأمور،واكتفى باتهام متى بالدعوة إلى تعلم لغة اليونان وليس إلى تعلم المنطق،لافتا إلى أن الترجمة غالبا ما تلحق التحريف بمقاصد النصوص الأصلية،،ما دفع متى إلى القول أن الترجمة حفظت الأغراض وأخلصت الحقائق(٤)،نافيا ما نسبه إليه بأن “لا حجة إلا عقول اليونان ولا برهان إلا ما وضعوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوها”(٥)،معترفا لهم بالعناية التي أولوها للحكمة وللبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه.
لكن السيرافي استرسل في الكلام على النحو كأنه أستاذ متمرّس يعطي درساً في هذا العلم لطالب هو بحاجة إلى تعلّمه،فراح يسأل متى عن ال(و)ووجوه دلالتها،وعن التفضيل وصيَغه،وغيرها من المسائل النحوية،فلم يستطع متى مجاراته،إلا أنه لم يتأخر في الردّ بالأسلوب عينه،فقال له،لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياءَ،لكان حالك كحالي(٦)،لكن السيرافي ضاعف من وتيرة هجومه على المنطق،معتبراً أن كلام المناطقة في الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض…كله تخليط وتهويل…وانتهى إلى القول:”من جادَ عقله و لَطُفَ نظره…استغنى عن هذا كلُّها بعون الله وفضله…وإنارة النفس من منائح الله البهية ومواهبه السنية،يختصّ بها من يشاء من عباده(٧)،ممعناً تأكيد رأيه هذا،بلفت النظر إلى شحِّ معارف متى في علوم العربية،موجهاً الكلام إليه”أنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم،ووقفت على عورهم في نظرهم،وغوصهم في استنباطهم وحسن تأويلهم لما يرِد عليهم،وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة،لحقّرتَ نفسك،وازدريت أصحابك،ولكان ما ذهبوا إليه أقلَّ من السُها عند القمر…(٨).والسُها والقمر مستدام من مثل عربي يقول:”أُريها السها وتويني القمر”،يُرضرَب للدلالة على عقم حوار يجري بين شخصين في موضوع ما،يقول الواحد منهما كلاماً فيه،فيجيبه الآخر بكلام لا علاقة له به من قريب أو بعيد،ما يعني أن كلّاً منهما يعزف منفرداً ويغرّد بعيداً عن الآخر،ويقف على أرضية غير الأرضية التي يقف عليها،وينطلق من مقدمات غيرتك التي ينطلق منها،ويتكلم لغة لا يفهمها،إنه “حوار طرشان” كما يقال في العامية،والناظر بإمعان في الذي جرى بين السيرافي ومتى،لا يلزمه جهد كبير لكي يكتشف هذه الحقيقة،وفي الوقت الذي أعلن فيه متى صراحة اهتمامه بالمنطق لا بالنحو،ودعوته إلى حصر النقاش فيه،اكتفى السيرافي،في سياق تهفيت اعتبار المنطق آلة يُعر ف بها الحق من الباطل،بذكر بعض المصطلحات المنطقية،لاتهام المناطقة بالتمويه واستثمار وقع العجيب من الكلام في نفوس الآخرين،دون السعي إلى تفنيد مواطن الخلل فيها،وصرَفَ الوقت كله،يصول ويجول في ملعب البيان،محوّلاً المناظرة إلى محاضرة حول علم النحو، وسائر العلوم الاسلامية،داعياً متى إلى التعمّق في علوم العربية والاعتراف بتماسك منطق النحو وتفضيله على منطق أرسطو،مضيفاً بشيء من السخرية،أن ما جاء به اليونا يُضحك الثكلى ويشمت العدو.
٣-المناخ المناصر للسيرافي
يعلّق أبو حيان على لسان ابن عيسى،بعد انفضاض المجلس،أن الإعجاب بأبي سعيد،كان بادياً على وجوه الحاضرين،ثابت الجأش متفوق اللسان،متهلل الوجه…أما الوزير فوجد كلام السيرافي مبيّض الوجوه…وهو طراز خالد لا يبليه الزمان…،وعليه،لقد انتهت المناظرة إلى نتيجة تعلي من شأن النحو على حساب المنطق،وترفع الأصيل والموروث وتحطّ من قدر الوافد والدخيل.
لقد عزّز شكل المناظرة ومضمونها الانطباع بوجود فجوة عميقة،تفصل بين بين علمين(النحو والمنطق)تطوّرا على شفير مرجعيتين(العقل-النصّ)تختلفان عند الأفق الميتافيزيقي لكل منهما،وقبل الاشارة إلى بعض مواطن الافتراق في المضمون،لا بدّ من لفْت الانتباه إلى بعض الاختلالات الشكلية التي رافقت سياقات المناظرة،والتي تجلّى معها المنسوب العالي لمستوى الخلاف وطبيعة الاختلاف،بين العلمين والعالمَيْن على حدٍّ سواء.
في مقدمة كتابه”فقه اللغة وأسرار العربية”يقول الثعالبي(٩٦١-١٠٣٨)”من أحب الله أحب رسوله ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها.
هذا الفهم للتلازم في العلاقة بين اللغة والدين،الذي عبر عنه الثعالبي والكثيرين قبله وبعده، والتداخل الحميم بينهما،،كان حاضراً بقوة في المناظرة،ممّا ولّد القناعة بطغيان المشاعر المتعصبة لعلم النحو،كان انحياز الحاضرين، وعلى رأسهم الوزير،رمز السلطة،إلى السيرافي مافراً،تمادوا في تشجيعه وحثّه على الإمعان في تقبيح المنطق اليوناني وتشويه صورة متى المعادي للغته،وأمته،والمنادي بعلم لم يُسعفه بالخروج من شرْكه(كونه مسيحي)يقول:”أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة وأن الواحد أكثر من الواحد،وأن ما هو أكثر من واحد هو واحد وأن الشرع ما تذهب إليه والحق ما تقوله؟”(٩)،ولعلّ في هذا المسّ بعقيدة متى الدينية والطعن بجوهرها،ما يؤشّر إلى العدة الايديولوجية التي يوظفها السيرافي في معركته ضدّ متى،المسيحي عقيدة وإيماناً والمنطقي منهجاً وثقافة،لقد حرّم بأسلوبه الحامي إلحاح الحضور عليه من أجل المضي في تقزيم هذا المشّائي،وإبراز هشاشة بضاعته في علوم العربية والنحو منها تحديداً.
لم يُعِر السيرافي كبير اهتمام،إلى الالتزام بآداب الحوار وشروطه،فاستأثر بأكثر من ثلثي الوقت الذي استغرقه النقاش،ويكفي احتساب عدد الأسطر،في النص،التي حملت مداخلات السيرافي،والتي بلغت (٢٨٦ سطراً) تلك التي حملت مداخلات متى والتي لم تتجاوز ال(٣٠سطراً)،حتى ندرك حقيقة هذا الاستئثار،ناهيك عن اللغة المستعملة والألفاظ النابية التي تنمّ عن ازدراء بالخصم والتشهير به،مثل:أخطأت،موّهت،تعصّبت،ملت مع الهوى،هذا جهل وعناد،…لست نازعاً عنك حتى يصحّ عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة…وكذب،وخداع.
استمرّ السيرافي على هذاالنحو من الكلام المستفزّ،يمتحن متى في مسائل هي أقرب إلى”الحزازير”اللغوية منها إلى المنطق،لم يقل شيئاً مفيداً في أركانه ومسائله،لم يناقش مواطن الخلل في بنيته المتمثلة بالحدّ والقضية والقياس البرهاني،يسأله تارة عن حكم الواو ماهو؟وطوراً يقول له:قال قائل:لفلان من الحائط إلى الحائط،ما الحكم فيه؟ وما قدر المشهود به لفلان؟ها هنا مسألة قد أوقعت خلافاً،فارفع ذلك الخلاف بمنطقك…مضيفاً بشيء من السخرية،”هاتِ الآن آيتك الباهرة ومعجزتك القاهرة”(١٠).لقد بدا واضحاً أن السيرافي قد نجح في تغيير مسار المناظرة،فبدل أن تكون حواراً حول صلاحية المنطق كأداة للفصل بين الحق والباطل،إذا به يحوّلها إلى ندوة بصوت واحد،أو خطبة عصماء في أصالة علم النحو ومحاسن اعتماده،ناسباً القبائح إلى المنطق وأهله،شاهراً نفسه مقاتلاً شرساً يواجه عدواً يخفي ميلاً إلى محاصرة عقل الأمة وزحزحة مبانيه وإفساد معانيه.
٤-الفجوة بين مقولات المنطق ومشتقات النحو**
هذا الاختلاف الحاد الذي برز في المناظرة بين علم النحو وعلم المنطق،وعبّرت عنه محاججات السيرافي ومتى،ليس في الحقيقة سوى تجلّ من تجليات الفجوة العميقة بين بين مقولات المناطقة ومشتقات النحاة.هذه الفجوة التي تعود في أساسها إلى جملة أمور،يمكن استشعار ملامحها عند اكتشاف غياب مقولتي،المصدر واسم الآلة عن لائحة المقولات،وغياب مقولات الملكية والإضافة والوضع عن لائحة مشتقات النحاة،ما يشي باستحالة التطابق بين الفكر الذي يعتمد اللائحة الأولى والفكر الذي يعتمد اللائحة الثانية،أضف إلى ذلك،أن مقولات أرسطو فيها من الصورية المنطقية بقدر ما فيها من اللغة والنحو،وتنطوي على مضمون ميتافيزيقي معيَّن،كذلك الأمر بالنسبة لمشتقات النحاة،فهي بدورها تختص بسمات منطقية وتحمل في الوقت نفسه مضموناً ميتافيزيقياً مخصوصاً،وعليه،فإن الافتراق العميق بين المقولات والمشتقات،من شأنه أن يفضي إلى فجوة ميتافيزيقية بين الرؤية اليونانية البرهانية والرؤية العربية البيانية،وغياب مقولة الملكية عن المشتقات يأتي في سياق تأكيد هذه الحقيقة”لأنه ينسجم مع التصوّر العربي الاسلامي الذي يجعل الملك والملكية للّه وحده”،أما الانسان فانه أن يتصرف بالأشياء بوصفها من ملكوت الله،وهو على وعي بذلك،وإدراك لسوء مآل الادّعاء بملكيتها،لما فيه من تعدٍّ على حقوق الله.أما غياب اسم الآلة عن لائحة المقولات،فستوافق مع نظر أرسطو إلى مفهوم الجوهر وعلاقة المقولات التسع الباقية به وهي علاقة حماية،باعتبار أنها تقال عليه،واسم الآلة ينأى عن هذه الوظيفة،وهو فقط “يدلّ على آلة الفعل باعتبار أن مشتقات النحاة لا تحمل على الفعل،بلداّ على من تعلّق به الفعل موعاً من التعلّق”(١١).إن حملَ سائر المقولات على الجوهر أي على الذات،يعبّر عن تفكير،يُخرِج العبارة ناطقة بحكم،وهو ما يختلف كل الاختلاف عن مبدأ التأسيس على الفعل واشتقاق الأسماء منه،فتخرج العبارة مع هذا النمط من التفكير لتبيّن من صدر منه الفعل أو قام به،أو ارتبط معه نوعاً من الارتباط،وفي السياق نفسه،فإن الجملة الاسمية في العربية وعند النحاةتحديداً،لا تقوم على موضوع ومحمول موصولين برابطة الحمل،بل تتألف من مبتدأ وخبر،وتقتصر على الأخبار عن إسم وقع في ابتداء الكلام،يقول ما فعله أو ما هو عليه من حال،والمبتدأ في الأصل فاعل صدر منه الفعل أو قام به،فتقول قام فلان وفلان قائم،وعليه،فالجملة العربية،إسمية كانت أو فعلية،لا تنطق بحكم،كما هو الحال في اللغات الآرية،بل هي عبارة عن بيان وإعراب وإخبار(١٢).
لقد بدا هذا الخلاف أشدّ وضوحاً،عندما حاول السيرافي أن يمتحن متى في أفعل التفضيل،فسأله عن وجه الصحة أو البطلان في العبارتين الآتيتين:زيدٌ أفضل الأخوة وزيد أفض أخوته؟فأجابه متى:العبارتان صحيحتان،ما دفع السيرافي إلى التعليق بالقول،أصبْت في الأولى،ووجه الصحة أن زيداً أحد الأخوة،ولكنك أخطأت في الثانية ووجه البطلان أن زيداً خارج عنهم،بحيث لو سأل سائل مَن هم أخوة زيد؟لما ذكر زيد بينهم(١٣).
يظهر جلياً أن المسألة المطروحة في العبارتين لا تتعلّق بالنحو والإعراب بقدر ما هي نظرٌ في علاقة المفاضلة باعتبارها علاقة منطقية،وإذا كان متى المنطقي لم يتوقّف عند فرق بينهما،فلأنه يفهم “الإضافة” وهي هنا “الأخوّة”،كمقولة منطقية،ينظر إليها من زاوية المفهوم ومضمونه الكلي،في حين انعقد فهم السيرافي”الإضافة”،في النظر إلى الأشياء وتعريفها،على النسبة “الماصدق”وموضوعه الجزئي،وهو فهم موصول بآليات التفكير البياني ومسالكه المعرفي(١٤).
أخلص إلى أن مناظرة السيرافي-متى،في صورتها ومادتها،تستحضر مباشرة أو مداورة المسائل الإشكالية التي سادت على امتداد تاريخ الفكر العربي الاسلامي،بين ما هو”لنا”وما هو ل”غيرنا”،بين فكر ينتج ببنيته المخصوصة ثقافة تحمل هويته وتدافع عنها،و بين فكر ال”آخر”،في بنيته البرهانية،وما تنتجه من ثقافة موسومة بالعمومية والشمول،وتستأنف النقاش حول المفاضلة بين نظامين معرفيين،أحدهما بيانيّ نحوي متحيّز،مقيم في اللغة،والآخر منطقي ميتالغوي متجاوز،مقيم في حقول المعاني الكلية والمفاهيم الكونية.
٥-التجليات المعاصرة لإشكالية المناظرة
لم تغب هذه المناظرة بإشكالياتها الأساسية وبطرفيها عن الخطاب العربي المعاصر،فوقف الجابري،على سبيل المثال،يناصر متّى انسجاماً مع انحيازه لابن رشد،دفاعاً عن المنطق الأرسطي،معتبراً أن السيرافي لم يقدّم أمثلة تشرح التعارض بين النحو والمنطق،بل اكتفى بأمثلة قصد من ورائها إفحام خصمه وإظهار عدم معرفته باللغة العربية وعلومها،ويأتي موقف الجابري هذا نتيجة اعتقاده بفشل العقل العربي البياني،والنحو خير ما يمثله،من حيث هو بيان وإعراب وكشف وإيضاح،في استدماج المعطيات البرهانية اليونانية،وهي مهمة تصدّى لها ابن رشد عندما فصل في فصل المقال في فصل المقال فيما ما بين الحكمة والشريعة من اتصال(١٥).
على الضفة المقابلة،وفي سياق مناهضته للمنطق الأرسطي للفلاسفة الذين انتصروا له،دافع طه عبد الرحمن عن السيرافي،منطلقاً من اعتقاده أن العقل “متكوثر”، وأن لكل لسان ميزانه وأن النحو ميزان اللسان العربي،وقد أخطأ الفلاسفة المسلمون وعلى رأسهم ابن رشد عندما أصرّوا على اعتبار التفكير الفلسفي واحداً متوحداً،حتى ولو تعدّدت اللغات واختلفت نُظُمُها الداخلية،واعتبر في ضوء استفادته من دراسة بنفينست،التي تقطع بأن المقولات الأرسطية هي تجريد لمقولات الصرف والنحو اليونانيين،أن السيرافي قد تنبّه إلى هذه المسألة عندما قرّر أن المنطق اليوناني لا يلزم باقي الأقوام(١٦).
٦-الحوار المفقود
أختم بالقول أن سياق المناظرة،والظروف التي أحاطت بها والحيثيات التي رافقتها،شوّهت معنى الحوار وأدّت بالسريالية إلى تضييع فرصة إثبات نفسه عالماً يتمتع بمنهجية الباحث المحاور الذي يعترف ابتداءاً أنه لا يمتلك وحده كل الحقيقة،لقد رافقه في مرافعته هاجس الغلبة،واستبدّت به العصبانية ومشاعر العداء للآخر المختلف،فجاء خطابه مفعماًًبالأيديولوجيا،ممهوراً بوثوقية مفرطة،منشغلاً كل الانشغال بعلوم الكتاب،وعلى رأسها علم النحو بوصفه علم جزئي بياني،في حين استطاع متى،مع ما افتقرت إليه المناظرة من شروط الحوار،أن يقدّم نفسه مدافعاً عن المنطق الأرسطي،بما هو علم كلّي برهاني يبحث في المعقول الذي يشترك فيه جميع الناس،لقد نجح الطرفان،كلّ من موقعه،في اللعب على حافة الأص الميتافيزيقي الذي يؤصل علمه،و يمتّن خطابه،ويقرأ في ضوئه أشياء العالم وتجارب الحياة.
لكن،
إذا كان الحوار في أصله الفلسفي،يتغيّا وجهاًن وجوه الوصل بين متحاورين،فإن السيرافي ومتى قد فشلا في تحقيق هذه الغاية،وذهبا إلى إبراز مواطن الفصل بين العلمَين،مقاومَيْن كل انتباه إلى مواطن التقاطع بينهما،لكأنّ المنظرة لم تكن حواراً بقدر ما كانت سجالاً ينأى في أهدافه عن التفاعل الإيجابي،ويغامر بعيداً في إلغاء الآخر وكسر حضوره ووإنجاز الغلبة عليه.
اليوم كما بالأمس،الخصم هو نفسه،الآخر،الأجنبي،الغريب،العجيب،المختلف،والمناظرة بين السيرافي ومتى،هي شكل من أشكال التعبير عن هذه الثقافة،وقد تجلّت على امتداد مسيرة الفكر العربي والإسلامي،في مواقف كثيرة،لعلّ أبرزها موقف الغزالي وابن تيمية من الفلسفة والفلاسفة،وموقف الأفغاني وعبدو والاصلاحيين عموماً من الحداثة وقيمها،وموقف الاسلاميين الجدد من الفكر الغربي وإنجازاته،مثل طه عبد الرحمن وغيره من الذين أصابتهم لوثة الفكر الإخواني،مسيرة واحدة تحكي في حِقباتها المتداعية وأفكار رموزها،تجربة الفكر العربي والاسلامي السائد،مع الخوف على هوية،بلغ القلق عليها والتعسف في صون خصوصيتها،مبلغاً جعل منها واحدة من الهويات المخيفة،المقلقة والقاتلة في آن.
——————-
مراجع:
*_السيرافي،أبو سعيد الحسن بن عبدالله المرزبان السيرافي النحوي المعروف بالقاضي(٢٨٤هـ-٣٦٨هـ)…راجع:ويكيبيديا.
-أبو بشّر متى بن يونس القنائي،مترجم وفيلسوف نصراني،قرأ المنطق على يد إبراهيم القويري…أجاد اللغات،اليونانية،السريانية،العربية…راجع:ويكيبيديا.
١-راجع:أبوحيان التوحيدي،المقابسات،دار سعاد الصباح،الكويت٢٠٠-
٢-م.ن.ص٧٠
٣-م.ن.ص٧١
٤-م.ن.ص٧٢
٥-// // //
٦-م.ن.ص٨١
٧-م.ن.ص٨٢
٨-راجع:أبو حيان التوحيدي،الإمتاع والمؤانسة،ص١١٣
٩-التوحيدي،المقابسات ص٨٣
١٠-محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت١٩٨٦،ص٥١
١١-م.ن.ص٥٢
١٢-التوحيدي،المقابسات،٧٩
١٣-راجع:بنية العقل العربي ص٥٢-٥٣
١٤-راجع:الجابري…التراث والحداثة،م.د.الوحدة العربية،بيروت٢٠٠٨.
١٥-راجع:طه عبد الرحمن،اللسان والميزان أو التكوثر العقلي،م.الثقافي العربي،بيروت١٩٩٨.
**_
المقولات. المشتقات
الجوهر. الفعل
الكم. إسم المرة
أفعال المبالغة
الكيف. إسم الهيئة
أفعل التفضيل
الصفة المشبهة بالفعل
الزمان. إسم الزمان
المكان. إسم المكان
الفعل. إسم الفاعل
الانفعال إسم المفعول
الوضع. ؟
الملكية. ؟
الإضافة. ؟
؟. إسم الآلة
؟. المصدر