مناقشة بخصوص مُعضلة العنف الديني: الجزء الأول

تكوين

– 1-

الأصول التاريخية

لا يكاد ينقطع نزيف الدم في هذه المنطقة من العالم، حيث يرفعُ الجميع شعار التحدث باسم الله، سواء في مستوى الدول  أو بواسطة الفرق والجماعات والأحزاب التي يصعب حصرها الآن، والتي صارت تفرض نفسها بوصفها قوىً واقعيةً تُنافس الدولة على احتكار السياسة وممارسة السلطة، ينتصب الدين السياسي خلف عجلة القتل الدائرة بلا توقف فيما يتراجع الأمل بشأن المكاسب الحداثية النسبيةِ التي تَسربت إلى المنطقة في أثناء القرنين الماضيين، من مبادئ التفكير العلمي إلى فكرة القانون والحريات الفردية وصولًا إلى فكرة الدولة المدنية ذاتها.

بدءًا من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن التالي ظلَّ النظام التراثي التقليدي يتراجع أمام جاذبية الحداثة، خصوصًا في شقه السياسي الأكثر تهافتًا، وبدا وكأن بالإمكان زرع نموذج الدولة المدنية بالتوافق أو دون تناقض صارخ مع مبدأ الدين في ذاته، لكن هذا النظام سوف يعود ليعلن عن نفسه في رد فعل دفاعي مضاد، وذلك من طريق التيارات الأصولية التي صار يُفرزها بدءًا بجماعة الإخوان في أوائل القرن الماضي والتي حولَّت التراث الديني الراكد إلى أيديولوجيا سياسية مناهضة لأسس الدولة المدنية.

اللافت أن هذه التيارات ظلت تتطور تطورًا مُطّردًا في اتجاه أكثرَ تطرفًا في حدة التكفير ودرجة العنف، حتى تحولت إلى تشكيلات عسكرية مُنظمة، وبدا هذا التطور تلقائيًا ومتناغمًا مع مصادره المرجعية التي تُروج إلى فكرة الجهاد في سبيل الله تأسيسًا على أدبيات الفقه وسلطة النصوص التأسيسية.

هل العنف ظاهرة “إسلامية” خاصة، ترجع إلى المُدونة الإسلامية المتأثرة بالمناخات الخشنة للاجتماع السياسي العربي في القرن السابع؟ أم هو ظاهرة “دينية” عمومية، تنبع من نسق التدين التوحيدي الإبراهيمي العام الذي ينتسب إليه الإسلام مع اليهودية والمسيحية؟ أم هو ظاهرة “بشرية” عادية فحسب تأخذ شكلها الراهن من مثيرات حاضرة في الاجتماع السياسي المعاصر؟

بالطبعِ يُمكن الحديث عن دور فاعل لهذه المثيرات الحداثية في تحفيز العنف الأصولي وتلوينه بألوان الواقع الاجتماعي المأزوم في المحيط العربي الإسلامي، وهي قد تشرح جانبًا من لغة خطابه وآليات اشتغاله الراهنة، لكنها لا تفسر نشأته الأصلية وحضوره المتكرر في جميع السياقات الدينية داخل النسق التوحيدي.

وهو ما يَلْفَتُ النظر إلى “الثقافة” التاريخية المشتركة لهذا النسق التاريخي المُدعمة “نصيًا” في مستوى كل ديانة من دياناته الثلاث.

ويمكن الحديث كذلك عن طابع خطابي زاعق يَسِمُ العنف الإسلامي الراهن بسمات خاصةٍ موروثة بالطبع من سياقاته الاجتماعية القبلية في مراحل التأسيس.

لكن الفرضية المطروحة للنقاش هنا هي: أن العنف نتيجة ضرورية مُرشحة للتولد تولدًا دوريًّا عن نمط التدين الإبراهيمي السائد والموروث من التجربة العبرية، وأن التطرف الأصولي إجمالًا ظاهرةٌ لا يمكنُ تفسيرها بمعزل عن “المعضلة النظرية” الكامنة في هذا النسق من التدين.

بداءة من التدين الإبراهيمي يُشير الاستقراء إلى حالة من “التوتر” المُزمن في علاقة الدين بالفضاء الاجتماعي، وهي تظهر بوضوح في: مجازر التراث العبري المُفصلة بإسهاب في العهد القديم وفي حروب الكنسية المسيحية ومحارقها طوال العصور الوسطى، وفي صراعات المسلمين الخارجية والداخلية التي لم تنقطع منذ ظهور الإسلام.

هذا التوتر يرجع إلى بنية التدين التوحيدي التي تقوم على مبدأين أساسيين:

  1. القول باحتكار الحقيقة المطلقة، أى القول بحصرية الحق في الدين وحصرية الدين في صيغة لاهوتية بعينها، ما يعنى بالضرورة نفي الآخر المقابل، ومن ثم الصدام مع مبدأ التنوع البشرى أو التعددية وهو واحد من قوانين الاجتماع الطبيعي.
  2. القول بشريعة مُؤبِّدَةٍ منسوبة إلى السماء، أي تثبيت “القانون” في جميع السياقات الزمنية والجغرافية ما يعنى الصدام بمبدأ التطور، وهو بدوره واحد من قوانين الاجتماع الطبيعي.

مفهوم الحصرية مع التَأبيد يضمن الصدام مع الآخر، أما تصعيد الصدام إلى حد العنف الدموي فيأتى من فكرة “المقدس“، التي تحولت -في ظل التوحيد- من مفهوم مشترك يحتوي التعددية الدينية، إلى مفهوم حَدِّىٍ يطلب نفي الآخر المخالف ولو من طريق التضحية بالنفس، ومن هنا يرتبط بالقتال والقتل.

-2-

القتال في سبيل الله

تبدو هذه العبارة متناقضة ذاتيًا لدى الوعي النظري الحديث، فهي تتعارض ببساطة مع الطبيعة الاختيارية للإيمان ومع المعنى الأخلاقي المُفترض للدين، هل كان على الفكر البشري انتظار الحداثة حتى يقف على هذا التناقض؟

في المراحل السابقة على الحداثة لم تنظر الثقافة إلى الدين من زاوية كونه مصدرًا لإنتاج العنف ونشر التوتر داخل الفضاء الاجتماعي، ولم تناقش القتال تحت عنوان العنف بوصفه معنىً مرفوضًا في ذاته أو قابلٍ للإلغاء، وبدورها لم تُسفر الحداثة عن خلق مجتمع سلمى مثالي، لكنها أدت الى نشر ثقافة نظرية أكثرُ تطلبًا لحرية الفكر والتعددية الطبيعية، ومن ثم أقلُّ تقبلًا للعنف.

منذ مراحل قديمة كان الوعي الإنساني يُدرك “لا أخلاقيةالقتل، لكنه حتى نهاية العصور الوسطى لم يُدرك “لا أخلاقية” القتل على الدين، لأنه ظل بسبب الكهنة يستثنى الدين من إلزامية الأخلاق، أو ظل يصطنع للدين “أخلاقًا” خاصة فوق الأخلاق الكُلية، أي ظَلَّ خاضعًا لمفهوم الدين الموروث من تجارب التدين البدائية، والذي فرضه الكهنوت بوصفه نظامًا طقوسيًّا جماعيًّا لا بوصفه جوهرًا أخلاقيًّا موصولًا بحاجات الروح ووعى الذات الفردية.

أنساق التدين الكتابي الثلاثة تكونت داخل هذا التاريخ الاجتماعي “القديم” وتطبعت بتقاليده الثقافية السياسية ذات الطابع الشمولي الجمعي، والمتساهلة إجمالًا حيال فكرة الغزو والقتال، ثم حولت هذه التقاليد “الاجتماعية” عبر النصوص والفقه إلى جزء من بنية الدين المطلق المنسوب إلى الله.

 

-3-

البداءة العبرية

مع التوراة ظهرت الحصرية وبدأ تاريخ العنف الديني الذي لم ينقطع من العالم حتى اليوم، تاريخ اليهودية كما نقرأه مُفصلًا في الكتاب هو تاريخ الألوهية الغاضبة التي تَحُضُّ على سفك الدماء من أجل تثبيت الشعب في هذه البقعة من العالم، الله هو “ربُّ الجنود” الذي يُحب رائحة الجلود وهي تحترق، وهو لا يأمر بقتل الرجال من محاربي الشعوب المجاورة، بل يأمر بقتل النساء والأطفال والحيوانات، ويظهر الأنبياء “مدججين بالسيف” لقتل الجماعات الإثنية والدينية المُتاخمة باسم الوعد الإلهي بتملك الأرض:

“وَبَعْدَ ذلِكَ ضَرَبَ دَاوُدُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَذَلَّلَهُمْ، وَأَخَذَ دَاوُدُ «زِمَامَ الْقَصَبَةِ» مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَضَرَبَ الْمُوآبِيِّينَ وَقَاسَهُمْ بِالْحَبْلِ. أَضْجَعَهُمْ عَلَى الأَرْضِ، فَقَاسَ بِحَبْلَيْنِ لِلْقَتْلِ وَبِحَبْل لِلاسْتِحْيَاءِ. وَصَارَ الْمُوآبِيُّونَ عَبِيدًا لِدَاوُدَ يُقَدِّمُونَ هَدَايَا. وَضَرَبَ دَاوُدُ هَدَدَ عَزَرَ بْنَ رَحُوبَ مَلِكَ صُوبَةَ حِينَ ذَهَبَ لِيَرُدَّ سُلْطَتَهُ عِنْدَ نَهْرِ الْفُرَاتِ. فَأَخَذَ دَاوُدُ مِنْهُ أَلْفًا وَسَبْعَ مِئَةِ فَارِسٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَاجِل. وَعَرْقَبَ دَاوُدُ جَمِيعَ خَيْلِ الْمَرْكَبَاتِ وَأَبْقَى مِنْهَا مِئَةَ مَرْكَبَةٍ. فَجَاءَ أَرَامُ دِمَشْقَ لِنَجْدَةِ هَدَدَ عَزَرَ مَلِكِ صُوبَةَ، فَضَرَبَ دَاوُدُ مِنْ أَرَامَ اثْنَيْنَ وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُل. وَجَعَلَ دَاوُدُ مُحَافِظِينَ فِي أَرَامِ دِمَشْقَ، وَصَارَ الأَرَامِيُّونَ لِدَاوُدَ عَبِيدًا يُقَدِّمُونَ هَدَايَا. وَكَانَ الرَّبُّ يُخَلِّصُ دَاوُدَ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ” (صمويل الثاني 1/7-8).

أما النبي إيليا فكان يُمارس “الذبح” فوق جبل الكرمل بعد أن جمع له الملك أخاب

“أنبياء البعل أربع المائة والخمسين، وأنبياء السواري أربع المائة الذين يأكلون على مائدة إيزابيل.. أَمْسِكُوا أَنْبِيَاءَ الْبَعْلِ وَلاَ يُفْلِتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ». فَأَمْسَكُوهُمْ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِيلِيَّا إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ وَذَبَحَهُمْ هُنَاكَ” (ملوك الأول، 17/18 -40)، وبعد إيليا استكمل خليفته “الشيع” الحرب التي انتهت بإبادة جماعية لكهنة وأنصار البعل: ” وَلَمَّا انْتَهَوْا مِنْ تَقْرِيبِ الْمُحْرَقَةِ قَالَ يَاهُو لِلسُّعَاةِ وَالثَّوَالِثِ: «ادْخُلُوا اضْرِبُوهُمْ. لاَ يَخْرُجْ أَحَدٌ». فَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَطَرَحَهُمُ السُّعَاةُ وَالثَّوَالِثُ. وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ بَيْتِ الْبَعْلِ، وَأَخْرَجُوا تَمَاثِيلَ بَيْتِ الْبَعْلِ وَأَحْرَقُوهَا، وَكَسَّرُوا تِمْثَالَ الْبَعْلِ، وَهَدَمُوا بَيْتَ الْبَعْلِ، وَجَعَلُوهُ مَزْبَلَةً إِلَى هذَا الْيَوْمِ” (ملوك الثاني، 25/10 – 30).

في سفر التثنية يُفَصِّلُ الرب قواعد القتل والسبي التي تختلف بين المُدن البعيدة والقريبة:

“«حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِكَيْ تُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا إِلَى الصُّلْحِ، فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلَى الصُّلْحِ وَفَتَحَتْ لَكَ، فَكُلُّ الشَّعْبِ الْمَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لَكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لَكَ. وَإِنْ لَمْ تُسَالِمْكَ، بَلْ عَمِلَتْ مَعَكَ حَرْبًا، فَحَاصِرْهَا. وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ، كُلُّ غَنِيمَتِهَا، فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ، وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ الَّتِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. هكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ الْمُدُنِ الْبَعِيدَةِ مِنْكَ جِدًّا الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مُدُنِ هؤُلاَءِ الأُمَمِ هُنَا. وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا، بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، لِكَيْ لاَ يُعَلِّمُوكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا حَسَبَ جَمِيعِ أَرْجَاسِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا لآلِهَتِهِمْ، فَتُخْطِئُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ.” (تثنية، 20/10 – 18).

وفقَ النص يُفِرقُ الربُ بين نوعين من المدن:

  • بخصوص “المدن البعيدة” يعرضُ على شعب المدينة قبول الصلح، وهو يعني التسخير والعبودية، وإلا يقتل جميع الذكور ويسبي النساء والأطفال، القتال هنا هو غزو هجوميٌّ مبتدأ ضد شعب بعيد لا يُزاحم العبريين على الأرض الموعودة، ولذلك فالنص يُبدي نوعًا من التساهل” بدرجة ما وهو يسمح لهذا الشعب بخيار الصلح والعبودية بدلًا من القتل، ويبدو فعل الغزو هنا شبيهًا بـ “جهاد الطلب” الإسلامي الذي يبادئ الشعوب بالحرب، غير أنه لا يتضمن خيار الدخول في اليهودية، خلافًا للجهاد الإسلامي الذي يُتيح للشعب خيار الدخول في الإسلام كي يتجنب القتل أو الجزية.
  • بخصوص “مُدن الشعوب القريبة” التي تُنافس الشعب العبري على الأرض فلا يجوز دعوتها إلى الصلح، بل يجبُ إبادتها عن آخرها فلا يستبقي منها “نسمة ما” بما في ذلك النساء والأطفال وحتى البهائم.

 

-4-

المسيحية

وُلِدَتْ المسيحية مُحَمَّلَةٌ بخصائص البنية الحصرية اليهودية التي انشقت عنها، وخصائص التاريخ السياسي الروماني الذي تكونت فيه: في مرحلة الاضطهاد المُبكرة وحتى أواخر القرن الرابع، ظلت الكنيسة تُعلن عن تمسكها بالنصوص الكتابية التي تُبشر بالسلام ومملكة المسيح السماوية، لكنها ارتدت إلى مصادرها الحصرية وشرعت في ممارسة العنف بعد امتلاكها لسلطة الدولة لما يزيد على ألف عام بإمتداد العصور الوسطى، قبل أن تعود من جديد إلى النصوص السلمية تحت ضغوط التطور الحداثي في الغرب.

الشروح المسيحية التقليدية للعهد القديم سوف تُفسر القتال ببساطة بوصفه وسيلةً مشروعةً للدفاع عن شعب الله، وسوف تقرأُ القتل بوصفه عقابًا إلهيًّا طبيعيًّا على الخطية، وهي قراءة مفهومة في ظل الثقافة السائدة في العصور الوسطى والخاضعة كليًا لهيمنة التفكير الديني، لكن التنظيرات المتأخرة -وخصوصًا الكاثوليكية- المُشَرَّبَةُ بمفاهيم الثقافة الحداثية ستبدو أكثر “تحرجًا” من لغة العنف المفرطة في العهد القديم، وسوف تُعيد “تأويله” بطريقة رمزية في ضوء النصوص السلمية في العهد الجديد: فنصوص الحرب الواردة في التوراة لا تشير إلى حكم نهائي مُؤَبَّد، بل إلى حالة ظرفية مؤقتة بسياقات الشعب العبري في مراحل التأسيس، وقد تُجُوِزَت ببشارة المسيح التي تحمل المحبة والسلام، وبنوع من التبسيط التأويلي سوف يصبح القتال ضد الأعداء رمزًا  لمجاهدة الخطايا والشرور.

يمكن الحديث عن تخفف تدريجي من سلطة العهد القديم، الذي لم يَعد “التأويل” كافيًا لاستيعاب مشاكله مع الوعي الحداثي.

وهذا يعني الإقرار بزمنية النص التوراتي فيما يتعلق بالشريعة رغم كونها من كلمة الله، لكن الفكر المسيحي ظل مُحَمَّلًا بعبء التراث الدموي للكنيسة والدولة بامتداد العصور الوسطى، خصوصًا وأن الكنيسة وفق التقليد هي سلطة معصومة مدعمة بقوة الروح القدس، فهذه السلطة لم تمنع الصراعات المبكرة داخل المحيط الروماني، ولا ممارسات التنصير القسرى ضد اليهود والوثنيين، ولا الحروب المذهبية الداخلية، ولا المجازر الهائلة التي صاحبت الحملات الصليبية، ولا الحروب الإسبانية ضد المسلمين، ولا الممارسات الوحشية في محاكم التفتيش.

تلقائيًّا وبعد توفرها على السلطة صارت المسيحية تُطور نسختها الخاصة من مبدأ “الحاكمية الإلهية” الكامن في صلب التدين التوحيدي/الحصري، وذلك من طريق إجبار الأمراء الزمنيين على محاربة الهرطقة والإلحاد، أي توظيف سلطة الدولة لفرض صيغة بعينها من صيغ الإيمان كي تسود كلمة الرب على العالم، وهو بعينه المعنى الإسلامي الذي يوجب استخدام السيف “كي تكون كلمة الله هي العليا”.

تأسس هذا المبدأ على تأصيلات مبكرة لآباء الكنيسة ومنهم القديس أوغسطينوس، الذي أباح في القرن الخامس استخدام العنف ضد “الدوناتيين” المنشقين على الكنيسة الكاثوليكية، لكنه سوف يحظى بخدمات تنظيرية أوسع على يد توما الأكوينى في القرن الثالث عشر:

ففي كتابه الشهير “الخلاصة اللاهوتية” وهو واحد من أهم المصادر المرجعية المُعتمدة في الكنيسة الكاثوليكية يُقدم الأكوينى مناقشة مُفصلة تحت عنوان “تشريع القتل لهلاك الجسد وخلاص الروح في يوم الرب يسوع“، ويؤكد في الفصل الثالث أن

“المُبتدعة يرتكبون الخطيئة التي لم يستوجبوا بها أن يفصلوا عن الكنيسة بالحرم، بل أن ينفوا من العالم بالموت، فإن فساد الإيمان الذي به تقوم حياة النفس لأفظع جدًا من تزيف الدراهم التي هي قوام الحياة الزمنية، فإذا كان مزيفوا الدراهم أو غيرهم من المجرمين يقضى عليهم عدل الولاة بعاجل الموت، فإن العدل على المبتدعة عند ثبوت ابتداعهم ليس بعاجل الحرم فقط بل بعاجل الموت أولى”

(انظر الخلاصة اللاهوتية، النسخة العربية عن الترجمة اللاتينية، ترجمة المطران بولس عواد، بيروت 1908).

يبدو هذا العنف بدائيًا ومتطرفًا بمقاييس الوعي المدني الحديث، وقد تراجعت عنه الكنيسة الكاثوليكية، لكنه كان فكرة “طبيعية” قابلة للتمرير في وعى العصور الوسطى، حيث كان الدين هاجسًا جماعيًا يُهيمن على الثقافة داخل المجتمع والدولة، استطاع الأكويني مستخدمًا التأويل والجدل الأرسطي الالتفاف على الأدلة النافية المُستمدة من الانجيل وتعاليم الآباء، والتي تَنهى عن الإكراه والعنف وتحض على السلام والموادعة، والمعنى الواضح من تغيير موقف الكنيسة هو: أن السياق الثقافي السياسي في حقبة زمنية بعينها يفرض نفسه على مادة “المنطوق الديني“، التي يمكن تطويعها لتأويلات ملائمة لنسق التفكير الاجتماعي السائد، وهي واقعة تكشف عن الطبيعة الزمنية للنشاط الديني ومحركاته الأرضية المباشرة.

-5-

في هذا السياق ثار النقاش بشأن حقيقة الطابع السلمي الذي يشتهر به العهد الجديد ذاته، وتوقف بعضهم أمام إشارات عنيفة واردة على لسان المسيح، مثل قوله مثلًا طبقًا لإنجيل لوقا (19/ 27):

” أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي”. بالمقياس النسبي كانت مثل هذه الإشارات قليلة عدديًا، وأمكن استيعابها تأويليًا بسهولة في إطار التوجه السلمي الغالب للعهد الجديد، حيث تنتشر النصوص التي تدعو إلى السلام والمحبة، (راجع مثلًا متى 5/ 44″: ” وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ”، وفي متى 26/ 52: ” رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ”! ومتى 5/ 38 – 39: ” سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا”.

ومع ذلك تظل هذه النصوص قابلة للنقاش من جهة كونها لم تستطع منع التدين المسيحي من ممارسة القتل باسم الرب، وكونها كانت حاضرة عندما اضطرت الكنيسة إلى استخدامها تحت ضغوط الحداثة، وكذلك من جهة قابليتها للغياب من جديد عند توافر السلطة، فهي دائمًا ما تَنزع إلى القوة للتعبير عن نزعاتها السلطوية.

بعامة وفي جميع السياقات الدينية الكتابية لم تكن النصوص في ذاتها كافية لصنع السلام، فقد ظلت خاضعة على الدوام لسلطة التفسير التي يفرضها الكهنة والفقهاء، ويبقى السؤال مطروحًا في خصوص التدين الإسلامي الذي يحفل كتابه التأسيسي بنصوص سلمية وافرة: لماذا يبدو العنف الديني اليوم وكأنه خاصية إسلامية؟

يتبع

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete