مناقشة حول الإسلام السياسي والفلسفة المعاصرة: الجزء الثالث…أوليفييه روا: التجربة الفاشلة والجهل المقدس

تكوين

-1-

تناقش هذه المقالة كتابين من كتب روا المتعددة حول الإسلام السياسي، والتي صدرت ضمن دراساته الموسعة في الأصولية الدينية عموماً وعلاقتها بالحداثة. الكتاب الأول هو: “فشل الإسلام السياسي” 1992، والثاني هو: “الجهل المقدس” 2012.

تصنف أعمال روا كبحوث في الاجتماع السياسي، فهي تقوم على منهجية الفحص والرصد الميداني، وتحاول تجنب التعميمات الواسعة من خلال تقديم صور تفصيلية ذات طابع وصفي. ومع ذلك فهي لا تخلو من لمسة فلسفية، تظهر في أدواتها التحليلية، وانشغالها بالبعد التاريخي، فضلاً عن طابعها النقدي المقارن.

عبر الكتاب الأول، سنجادل روا حول مسألتين:

  • واقعة فشل الإسلام السياسي؛ هل أخفق بالفعل في تحقيق أغراضه المعلنة، وإلى أي مدى؟
  • أسباب هذا الفشل؛ هل يتعلق بعوارض طارئة خاصة بالظروف السياسية والاجتماعية المزامنة، أم يرجع إلى علل ثابتة في طبيعته البنيوية وفي طبيعة الاجتماع الراسخة؟

وعبر الكتاب الثاني، سنجادل روا حول علاقة الدين بالثقافة؛ لماذا يعتبر أن الطابع الكوني المتعدي للدين التوحيدي ظاهرة حداثية ناجمة عن العلمنة والعولمة، وأنه نوع من فهم الدين عن ثقافته، في حين أن هذا الدين التوحيدي عموماً يقوم على فكرة “المطلق”، التي هي بالتحديد تعني فصل الدين عن أي سياق اجتماعي أو ثقافي كي يكون صالحاً لكل زمان ومكان؟ هل بإمكان أحد في أي زمن أن يفصل الدين عن ثقافته التي أفرزته في عصر التأسيس؟

-2-

هل فشل الإسلام السياسي.

يذهب روا إلى أن الجماعات الأصولية، التي أخذت تنتشر في المنطقة منذ ظهور الإخوان المسلمين، هي بالأساس حركات احتجاج اجتماعية بمقاييس العالم الثالث.  فهى “وليدة العالم الحديث سواء على المستوى النظري أو الاجتماعى. فغالبية أفرادها ينحدرون من طبقات وسطى تعرضت للإفقار، أو عائلات حديثة العهد بالمدينة والتحضر بحكم أصولها الريفية. وذلك فى ظل فشل وفساد دولها في عملية تحديث مجتمعاتها بعد أن تحولت إلى ديكتاتوريات معلمنة”.

ويلاحظ روا أن معظم الشبان فى هذه الجماعات لم يتلقوا تربيتهم السياسية في المدارس الدينية بل تخرجوا في مدارس التعليم المدني، ومن حظى منهم بتعليم جامعي ينتمون إلى الكليات العلمية ولم يدرسوا العلوم الإنسانية. وبحسب روا، استعارت الجماعات الإسلامية نطاقها المفاهيمي من الحركة الماركسية وأضافت إليه مصطلحات قرآنية. فهى على نحو ما نوع من التعبير اليساري، وقد ملأت الفراغ الذي تركه تراجع الحركات الثورية العلمانية ذات التوجه الماركسي والقومي. لكنها ترفع شعارات لا يتشارك معها اليسار فى الغرب أو فى دول العالم الثالث. وفي هذا السياق تساءل روا “عما إذا كان الإسلام السياسي إسلامياً حقاً، أو إلى الحد الذي يعتقد؛ فالإسلاموية كانت أحياناً مجرد غطاء لممارسات قبلية، أو أحقاد شخصية، أو تنازعات إقليمية أو محلية، وهى لم تعرف قط كيف تتجاوز القومية” .

-3-

يفرق روا داخل الإسلام الأصولي بين تيارين: الحركات النضالية الثورية، والنشاطات الإصلاحية التي يسميها “السلفية الجديدة” أو سلفية العلماء التقليديين. ما يجمع بين التيارين هو قالب مفاهيمي مشترك، يقوم على التمسك بالقرآن والسنة، وتبني الفقه السلفي؛ وهدف أسلمة السلطة. لكن التيار الأول يتمايز عن سلفية العلماء الإصلاحيين بالثورة السياسية، والمطالبة الفورية بالشريعة، وقضية المرأة، وانخراطهم العملي في العملية الاقتصادية وفقاً لآليات الحداثة وأنماطها الاستهلاكية، مع نوع من المداورة اللفظية لإضفاء مقبولية إسلامية، الفكرة المبدئية هي أن الإسلام نظام كلي شامل يتضمن السياسة، ويصلح لكل زمان ومكان، ويجب فرضه على المجتمع والدولة كواجب شرعي، ومن هنا يأتي تكفير الحكومات القائمة وشرعية الخروج عليها بالثورة.

وبحسب روا، فشل الإسلام السياسي يظهر بصورة أوضح فى خصوص الحركات النضالية الثورية، “فهذه الحركات، التي لم تظهر إلا بعد حرب 1967، هي التي مني نهجها الثوري بالإخفاق الأكبر: فالثورة الإيرانية غرقت فى صراعات البلاط والأزمات الاقتصادية. والمجموعات المنشقة عن حركة الإخوان المسلمين لم تنجح فى إحداث تغيير في نظام أي بلد عربي و المجموعات السنية المتطرفة تهشمت، في حين أصبحت نظيراتها الشيعية أدوات تهويل فى استراتيجيات الدول واستخدامها للمجموعات الإرهابية”.

قدم روا هذا التحليل فى كتابه، “فشل الإسلام السياسي” سنة 1992 (حيث لم يكن الإخوان المسلمون قد تمكنوا من التسلل إلى السلطة ) ، ثم عاد إلى التأكيد عليه فى شروحه اللاحقة مشيراً إلى فشل الإسلام السياسي كمشروع إدارة للسلطة والمجتمع. ومثال ذلك الإخوان المسلمون الذين فشلوا سواء بسبب القمع، أو بسبب خسارة قاعدتهم الشعبية، كما حدث في تونس حين فقدوا قدرتهم على جذب الشرائح الرافضة في المجتمع مع دخولهم في لعبة الديمقراطية” (حوار أوليفيه روا مع b.b.c   نيوز عربية في سبتمبر 2021). وعلى المستوى النظري يشير روا إلى أن فشل الحركات الثورية يتمثل في أنها لم تستطع أن تتجاوز الأدبيات المؤسسة التى وضعها السلفيون الأوائل، والذهاب إلى ما هو أبعد منها . واقتصر إنتاجها الفكري على كراريس ومواعظ بلاغية، وتفاسير واقتباسات من كتب الفقهاء، ولم تقدم فلسفة سياسية لمفهوم الدولة الإسلامية المنشودة ومؤسساتها، غير فكرة الحاكمية التي تعود إلى الله، والشريعة كقانون مؤبد ومنزل سلفاً.

ما ينتهي إليه روا هو أن الإسلاموية إخفاق تاريخي؛ فلم نشهد بوادر قیام مجتمع إسلامى فى أى بلد نشطت فيه. والاقتصاد الإسلامى القائم على فكرة “الفضيلة” والعدل ليس أكثر من وهم جميل وخطاب بليغ لا يقيم عدالة ولا يشبع فقراء. لم يعد الإسلام السياسى رهانا جغرافياً استراتيجياً، بل مجرد ظاهرة اجتماعية ، والثورة الإسلامية صارت ظاهرة تنتمي إلى الماضي.

-4-

في تعليله لفشل الإسـلام السياسي يؤسس روا رؤيته على أسباب كلية تتعلق بالتناقض الطبيعي بين “الديني” بما هو مطلق مثالي ثابت، و”السياسي” بما هو نسبي واقعي متغير؛ يشرح روا: “ما أ سمية فشل الإسلام السياسي هو استحالة إنشاء دولة إسلامية حقيقية تكون الشريعة فيها هى القانون الوحيد، ويكون كل شيء فيها إسلامياً بدءاً من المؤسسات والتعاليم وصولًا إلى العلوم والمصارف والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية. هذا وصف للمدينة الفاضلة، ونموذج يوتوبيا يمثل الأمة الأولى (كما يتصورها الإسلاميون). ونظريتي هي أنه عندما نشيد دولة فإن السياسة هي التي تقرر ما هو مكان الدين من هذه الدولة. ليس الدين الذي يقرر السياسة، بل العكس. وخير مثال على ذلك هو الثورة الإسلامية في إيران. ففكرة أن الدولة ستكون إسلامية فعلية طرح سؤال ما الإسلام؟ وما الشريعة الإسلامية؟ ومن يتحكم بالشريعة؟ وبعد انتخاب مجلس النواب، اشتكى كثير من رجال الدين من أن النواب لا يعرفون شيئًا عن الإسلام. وقرروا إنشاء لجنة من الأوصياء تشرف على التدقيق الإسلامي في القوانين التي صوت عليها مجلس النواب. لكنهم يختلفون دائمًا. لقد كانت الأيديولوجيا هي التي قررت ما هو ديني في النهاية. لذلك أعتقد أنه لا يوجد شيء اسمه دولة إسلامية فحسب، بل هناك دولة دينية”.

أصولية جديدة

لكن، مع التأكيد على تراجع الإسلام السياسي في صيغته الثورية، واهتزاز الثقة في إمكانية إنشاء حكومة إسلامية، يلاحظ روا أن الفكرة الأصولية لم تتراجع، بل تزايد حضورها في صيغة مغايرة على مستوى المجتمع والدولة: فـ بموازاة فشل الإسلام كمشروع سياسي (مباشر)، ظهرت لدينا الأصولية الجديدة، والأسلمة الثقافية للمجتمع خارج أي نموذج سياسي، من خلال إعادة تدوير الأسلمة على يد الحكومات الاستبدادية العربية، إن عدنا إلى سنوات التسعينيات، سنجد أن الإسلاميين كانوا من يطبق الحسبة، ويلاحقون المثليين، وينادون بتطليق الخارجين عن الإسلام. والآن من يفعل ذلك؟ المحاكم التابعة للدول. فرضيتي هي أننا بعد حقبة الإسلام السياسي في التسعينيات، انتقلنا الآن إلى ما يمكن وصفه بحقبة ما بعد السلفية. النموذج السلفي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهناك تنويع للحقل الديني”.

-6-

يتحدث روا عن أسلمة “ثقافية” يعاد تدويرها، وهي ملاحظة صحيحة ، قد تسهم في شرح المشهد الثقافي والاجتماعي “المربك” في المحيط العربي الراهن: حيث تظهر شواهد متعددة على تفاقم الطرح الأصولي وتمدده داخل المجتمع ومؤسسات الدولة، فيما تظهر في الوقت نفسه شواهد مضادة تشير إلى اتساع مساحة الوعي المدني، والانفتاح على ثقافة الحداثة الأكثر تسامحًا واعترافَا بالتعددية.

بالطبع، يمكن التأكيد على أن جماعات الإسلام السياسي فشلت في تسويق فكرة الدولة الإسلامية، سواء على المستوى النظري أو من خلال ممارساتها العملية الخاطفة. (هذا الفشل يرجع إلى استحالة قيام هذه الدولة واستمرارها، بسبب التناقض الطبيعي بين بنية الدين التاريخي التي تقوم على الحصرية والجمود، وبنية الدولة في ذاتها ككيان اجتماعي مضطر إلى التعددية والتطور. لقد صار هذا التناقض أكثر وضوحًا في ظل الدولة الحديثة، التي ولدت أصلًا في سياق صراعي مع الثيوقراطية. المسألة لا تتعلق بيوتوبيا مثالية يتعذر تحققها كما يصفها روا، فالدولة الإسلامية لم تكن كذلك قط في أي مرحلة تاريخية، بل يتعلق بفكرة “الدولة الدينية” عمومًا بوصفها فكرة متناقضة ذاتيًا.)

لكن مع ذلك، نجحت جماعات الإسلام السياسي بشكل جزئي في قطع مسار “الحالة المدنية” التي أخذت تتشكل في المنطقة على امتداد القرن التاسع عشر، وتفاقم زخمها على مستوى الدولة والمجتمع حتى منتصف القرن العشرين.

لم تأخذ الحركة المدنية موقفًا مضادًا لفكرة الدين، لكنها مثلت انقلابًا صريحًا على النظام التراثي الفقهي السائد منذ قرون، بدءًا بشقه الأكثر ضعفًا وهو الشق السياسي الدستوري، ثم تمددت إلى مساحات ثقافية واجتماعية أوسع.

كان النشاط الأصولي قد ظهر في أوائل القرن الماضي من خلال جماعة الإخوان المسلمين، كرد فعل مضاد لحركة التحديث. وعند منتصف القرن ورغم فشله السياسي، كان هذا النشاط يكتسب المزيد من الطابع السلفي، وراكم جملة من الظواهر الاجتماعية والثقافية الجديدة، التي تشير إلى تراجع نسبي في زخم الحالة المدنية:

1- على مستوى المجتمع، يمكن رصد عدد من التحولات الارتدادية ذات الطابع الشكلي، تتعلق بحجاب المرأة، وملابس الرجال، وبعض مفردات الخطاب اليومي. وهي مظاهر خارجية لا تنتمي إلى جوهر الدين، بقدر ما تعبر عن تقاليد اجتماعية مستعارة من ثقافة التدوين العربية المبكرة التي قننها الفقه. وجرى توظيفها أيديولوجيًا من قبل الأصولية كنوع من الاحتجاج الثقافي والسياسي المضمر في مواجهة الحداثة والدولة معًا.

موضوعيًا، لم يسفر النشاط الأصولي عن تغير إيجابي جوهري، أعني لم يؤد إلى تطوير “أخلاقي” عملي على مستوى السلوك والعلاقات الاجتماعية، أو في قيم العمل والإنتاج المادي، بل على العكس، أدى إلى تضخيم الوعي بالتمايز الديني والمذهبي، وخفض منسوب التسامح الوطني الذي كرسته الحالة المدنية. وإلى حد ما، خصم من رصيد “الاعتدال” الذي يميز التدين الشعبي.

(لاحقاً، سيتباطأ إيقاع هذا التحول السلفي بحكم التفاعل مع الثقافة المقابلة التى ظلت حاضرة، وستظهر، مثلا، أشكال مخففة أو أكثر عملية من حجاب المرأة، الذي سيفقد شيئًا من صرامته الفقهية، بعد أن صارت ترتديه مع ملابسها الحداثية. تعبير صريح عن حالة الازدواجية الثقافية السائدة في المحيط العربي الإسلامي، حيث لا يستطيع السلفي نفي الحداثي كلياً أو العكس).

من إحدى زوايا النظر، تبدو الموجة الأصولية متراجعة، وتبدو من زاوية أخرى وكأنها لا تزال تتمدد: ما تراجع بشكل واضح هو زخمها السياسي، وحماسها الأيديولوجى الزاعق. لكنها تمددت أفقياً في مظاهر السلوك الاجتماعي العام. أعنى أن “السلفية” صارت جزءاً من الثقافة اليومية “الظاهرة”، وليست مجرد خلفية تراثية كامنة في جوف الوعي. وبالنتيجة، صارت تتخفف من الأيديولوجيا، وتتحول إلى فعل اجتماعى دارج، وخاضع لآليات الضبط الروتينية التى تفرضها طبيعة التدين الشعبي.

  • على مستوى الدولة :

باستحضار النموذج المصري، كان ظهور الدولة الوطنية فى حد ذاته ظاهرة تجديدية، وهي لا تزال حتى الآن تمثل أوضح مظاهر الحالة المدنية، والمحور المركزى الذى تقوم عليه. تقليدياً، كانت الدولة منذ محمد علي هي التي بدأت “المشروع الحداثي” وحملت عبء تنفيذه والترويج له داخل المجتمع، وما يمكن قوله -الآن- هو أن الضغوط الأصولية نجحت فى تبطيئ حركة الاندفاع العلماني التى انطلقت قوية على يد الدولة منذ نشأتها فى أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن الماضي. ثمة شواهد واضحة على المستويين التشريعي والتنفيذي، على تراجع وعي الدولة بدورها التجديدي المدني. وقبل ذلك على نقص وعيها الأصلي بمفهوم “الدولة في ذاتها” ككيان علماني بطبيعة الاجتماع. وهذه مسألة تحتاج إلى تناول موسع، لمناقشة الأداء العام للدولة التي لم تستكمل شروط التحول العلماني، بمقتضياته الاقتصادية والفكرية اللازمة لربط المجتمع بقيم الثقافة المدنية. وفى هذا السياق يلزم مناقشة أدائها التشريعي المبكر الذي أدى إلى خلق إشكالية الازدواجية القانونية، حيث تتنازع عناصر مدنية وفقهية متضاربة داخل النظامين الدستوري والقانوني. كما يلزم مناقشة الأداء المتردد للدولة حيال الحركات الأصولية المتطرفة على المستوى السياسي والأمني والفكرى. وأخيراً، يلزم مناقشة أدائها المبكر حيال الطبقة الفقهية، التي جرى ضمها إلى الجهاز الحكومي بغرض احتوائها وتوظيفها سياسياً، حيث تم استلحاق هذه الطبقة كما هي بكل حمولتها التراثية، دون تأهيل ثقافي واجتماعي يضمن تناغمها مع التحولات الحداثية.

بانضمامها إلى جسم الدولة، اكتسبت الطبقة الفقهية حضوراً قانونياً، وتحولت إلى نوع من “المؤسسة الدينية”. وبحكم خصائصها الأشعرية، ظلت واعية بموقعها التابع للدولة، وقريبة من توجهاتها السياسية، دون أن تفقد شيئاً من طبيعتها السلفية الكامنة. لكن، مع تفاقم المد الأصولى، وارتخاء القبضة العلمانية للدولة ستكشف “المؤسسة” عن نزوعاتها السلفية بشكل محسوب، وفى بعض الأحيان ستبدو أكثر جرأة وانتهازية في مواجهة السلطة، وأكثر تقمصاً لدور “الوصي الشرعي”، على المجتمع. وبالنتيجة، صارت طرفاً فاعلاً فى تكريس “الحالة الأصولية”. بصيغتها الثقافية الشعبوية الراهنة.

-7-

الجهل المقدس

يقول برتراند راسل “يمكن أن تكون المجتمعات جاهلة ومتخلفة، ولكن الأخطر أن ترى جهلها مقدساً” يشير راسل هنا إلى المجتمعات الدينية بالأساس، وإلى التدين فى حد ذاته كنوع من تقديس الجهل، بما هو تعظيم لأفكار خرافية لا تستند إلى أى أساس علمي.

أما أوليفييه روا، فلم يقصد الوصول إلى هذه النقطة وهو يتحدث عن “الجهل المقدس” فى كتابه الذى يحمل هذا العنوان. فهو لم يكن يناقش فكرة الدين فى ذاته، بل نوعاً من التدين المعاصر هو التدين الأصولي المتطرف، الذي صار يتجاوز سياقاته الثقافية التي نشأ فيها إلى مناطق جغرافية جديدة، فصار المؤمنون الجدد لا يفهمونه تماماً ومع ذلك فهم يقدسوه. أصبح الإنسان يؤمن بما لا يعرفه، أى بما يجهله.

بحسب روا: “ثمة ظاهرتان تلعبان دوراً رئيسياً في طفرة التيار الديني اليوم هما: زوال الصفة الإقليمية، وفقدان الهوية الثقافية”. وهو يلاحظ أن الإسلام ينتشر بين الأوروبيين، والهندوسية والبوذية تغزو أوروبا، والأفارقة هم أكثر المسيحيين محافظة، وفيما تتراجع الكاثوليكية فى أوروبا، ينخرط الأوروبيين في داعش.

ويعزو روا هاتين الظاهرتين إلى العلمنة والعولمة:

فـ”ما نشهده اليوم هو إعادة صياغة مناضلة للديني في فضاء معلمن، أعطي الدين استقلاله الذاتي، وتالياً شروط توسعه. فقد أرغمت العلمنة والعولمة الأديان على الانفصال عن الثقافة، وعلى أن تعتبر نفسها مستقلة، وتعيد بناء ذاتها في فضاء لم يعد إقليميًا، وبالنتيجة لم يعد خاضعًا للسياسي”.

-2-

لكن طرح روا للمسألة على هذا النحو يفتح النقاش على علاقة الثقافة بالدين عمومًا، والنسق الإبراهيمي التوحيدي بوجه خاص؛ السؤال الأول هنا هو: هل صحيح أن التجاوز الإقليمي للدين وليد الحداثة العلمانية المعولمة، و خاص بالنشاط الأصولي المعاصر؟

بالطبع، يمكن التسليم باتساع نطاق التجاوز في المراحل المتأخرة بفعل العولمة وآليات التواصل الحديثة. لكننا ندرك أن انتقال الديانة من بيئتها الأولى إلى بيئة ثقافية مغايرة، هو ظاهرة قديمة ومتكررة في تاريخ التدين المعروف. وفي هذا السياق يشار إلى عمليات التناقل المباشر للآلهة بين روما، واليونان، ومصر، وسورية، والرافدين: فالإله السوري “أدونيس” ينتقل إلى ثقافة الرافدين باسم “تموز” إله الشمس والربيع، الذي سيقترن بـ “عشتار” أو “عشتروت”، وهي ذاتها الإلهة السورية “نينتود”. وقد انتقلت عشتار إلى اليونان باسم “أفروديت”، وإلى روما باسم “فينوس”، وحولها الفرس الزرادشتيون إلى “أناهيتا”. ووصلت عشتار أيضًا إلى التدين المصري ضمن عدد من الآلهة الأجنبية التي صورها المصريون على جدران المعابد مثل: بعل، وعنات، ورشف، وهما من جلب الهكسوس (1674 ق.م). ومن مصر انتقلت عبادة “حتحور” ربة الأمومة والجمال والحب إلى سورية، وانتشرت عبادة “إيزيس” على نطاق واسع عبر الإمبراطورية الرومانية. وفي الشرق الأقصى يسهل ملاحظة التناقل اللاهوتي في وصول البوذية إلى الصين، وتداخلها مع الطاوية والكونفوشيوسية، وتمدد البوذية إلى اليابان وامتزاجها مع ديانة الشنتو الوطنية. (انظر: Frankfort, Henri, «Kingship and the Gods», A study of ancient Near Eastern Religion as the integration of society and nature. Chicago university press,1948.)

و كنموذج أوضح لعملية التجاوز الإقليمي يشار إلى انتقال المسيحية من بيئتها السامية الأصلية إلى البيئة الرومانية المشبعة بالثقافة اليونانية. في هذه البيئة الأخيرة تشكلت المسيحية في صيغتها النهائية، فهي في الواقع ليست نتاج ثقافة واحدة بل ثقافتين متداخلتين.

وندرك الآن أيضًا، أن التجاوز الإقليمي للدين ليس وليد الفعل الأصولي، وليس ناتجًا عن الفصل العلماني بين الدين والدولة، بل كان على العكس من ذلك، وليد الربط بين الدين والدولة، فقد انتقل الإسلام إلى مناطق بعيدة عن بيئته الثقافية، على يد الدولة بفعل الغزو وحركة الفتوح، أي بسبب تسييس الدين وتوظيفه في غرض التوسع.

-9-

ما أهدف إلى بيانه هنا هو أن فصل الديني عن الثقافي هو عرض ناتج عن طبيعة الديانة التوحيدية ذاتها، بما هي تقوم على فكرة المطلق، أي اللازمني واللاجتماعي. وهذا يدخل في صلب العقيدة للتأكيد على مصدرها الإلهي المفارق، ونطاقها العالمي، ونفي المعني البشري الإقليمي.

المشكل يكمن هنا، في أصول الطرح التوحيدي التاريخي الذي يقول بكونية الدين وتجاوزه لحدود المكان والثقافة الزمنية.

والسؤال هو إلى أي مدى يستطيع الدين أن يفرض هذا المعنى الكوني على أرض الواقع؟ فالذي يحكم الواقع هو قوانين الاجتماع الفيزيائية وفي مقدمتها قانون التعدد وقانون التطور وهما نقيض مباشر لفكرة المطلق.

وفقًا لطرحه التاريخي السائد، لا يستطيع الدين أن يتجاوز إطاره الثقافي الذي اكتسبه في عصر التأسيس، لأنه ببساطة إفراز مباشر لهذا الإطار.

يمكن الحديث عن الثقافة عمومًا كجزء من حالة “الاجتماع الخام”. مع ذلك، وبسبب التداخل مع فكرة المطلق، تبدو العلاقة بين الدين والثقافة شديدة التعقيد: في البداية ورغم حضور الفكرة المطلقة تتشكل الديانة داخل السياق الاجتماعي المزامن لها، وتكتسب خصائصه الثقافية. لكنها تعود في مرحلة التدوين فتظهر عناصرها المطلقة وتؤكد استقلالها عن الثقافة من خلال عمليات تنظير منظمة.

تمثل مرحلة التدوين بالنسبة إلى المجتمع لحظة التدين القصوى، ومن ثم تبدأ الديانة عملية التأثير في الثقافة وتعيد تشكيلها، بحيث يصبح الدين هو المكون الرئيسي المهيمن على بنيتها الكلية.

إقرأ أيضاً: “المحنة” أو “فقه الابتلاء”.. سرديات الإسلام السياسي التلفيقية

لاحقًا، وبشكل طبيعي متدرج، تعود عناصر الاجتماع الخام فتظهر على السطح بجوار العناصر الدينية أو بالتداخل معها.

يظل الدين حاضرًا كرافد واضح من روافد الثقافة، لكنه صار يكتسب خصائص السلوك اليومي الاعتيادي أى صار يتحول إلى معطى ثقافي دارج، كواحد من مكونات “التراث” وبالوصول إلى هذه النقطة، يكون الدين قد فقد شيئًا من معناه الجوهري كعقيدة حارة وحادة الحضور، وتحول إلى عنصر من عناصر الهوية القومية أو الإثنية، وهذا ما انتهى إليه الوضع في ظل الحداثة العلمانية خصوصًا في الغرب الأوروبي.

في تعليقه على موقف اليمين الأوروبي المناهض لتوغل الإسلام في الغرب، يلاحظ روا أن الذين يريدون الحفاظ على مسيحية أوروبا من القوميين ليسوا مسيحيين تمامًا، بمعنى أنهم لا يذهبون إلى القداس، ولا يعيشون تعاليم الكنيسة. علاقتهم بالمسيحية هوياتية وثقافية صرف. ويشير إلى اعتراض البابا بنديكس على هذا الموقف بقوله أننا إذا فرغنا الدين من الإيمان و حولناه إلى موضوع ثقافي فإننا بذلك نقتل الدين. ما يجب هو مقاربة الدين من خلال الإيمان والحب.

فإلي أى مدى يمكن لمثل هذه الدعوة أن تصمد في مواجهة الواقع من جهة، وفي مواجهة الأصوليات الدينية التي لا تقبل بطرح الدين كمعطى أخلاقي، بل كمنظومة تكليفية نافية للآخر، من جهة ثانية.

يتبع

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete