تكوين
- 1
إذا كان العنف ضرورياً في سياقات التدين الإبراهيمي عموما بحكم البنية الحصرية المشتركة، وكان ذلك واضحاً سواء على مستوى الممارسة التاريخية أو فى متن النصوص، فلماذا يبدو الإسلام وكأنه ديانة السيف على نحو خاص؟ لماذا يظل العنف الإسلامي زاعقًا إلى هذه الدرجة حتى اليوم؟
من بين النسخ الإبراهيمية الثلاث لا يزال الإسلام هو الديانة التي لم تقر بتراجعها أمام الحداثة كما فعلت المسيحية، ومن قبلها اليهودية تحت ضغوط التطور التاريخي.
وهذا مفهوم جزئيًا بالنظر إلى أنها خلافاً للمسيحية الغربية، لم تتعرض داخل محيطها الجغرافي لضغوط حداثية كافية، أعنى لتحول جذري على مستوى الهياكل الاقتصادية والعقلية والاجتماعية.
بوجه عام، لا يزال الفكر الإسلامي يؤمن بمشروعية القتال من أجل نشر الدين وليس فقط بغرض الدفاع عن النفس. وخلافاً للوعى الحداثي السائد، لا يشعر هذا الفكر بأى تناقض أخلاقي أو منطقي في فكرة “جهاد الطلب” كما يطرحها الفقه التقليدي تأسيساً على قراءته الخاصة للنصوص .
في هذا السياق يمكن الحديث داخل الفكر الإسلامي المعاصر عن تيارين متقاطعين:
- التيار المدرسي، أو شبه الرسمى القريب من الدولة، والذي يريد أن يبدو معتدلاً. وهو يقدم حيال مسألة العنف خطاباً مضطرباً، يعكس الاضطراب الظاهر في المدونة المرجعية الإسلامية، فهذه المدونة تحتوى على نصوص كلية سلمية ونصوص تحريض هجومية. وتحت ضغوط الإشعاع الحداثي الذي صار يتسرب إلى ثقافته، ينفى التيار المدرسي “تهمة” العنف عن الإسلام کدين، ويفرق بين الإسلام وتاريخية السياسي المشرب بالدماء من ناحية، وبين الإسلام وممارسات الحركات الأصولية العنيفة من ناحية ثانية.
لكنه في الوقت ذاته لا ينفى مفروضية الجهاد كحكم تكليفي فقهي مدعم بالنصوص، ويقرأ “الفتوح الإسلامية” من داخل هذا الطرح كفعل “ديني” مشروع، لا كفعل “سياسي” تاريخي صادر عن دوافع الدولة. وكمسلك عام، يشير – عادة – إلى الغرض الدفاعي للجهاد، ويجادل بتكلف، حول شروطه التفصيلية في الواقع السياسي الراهن (الوسائل/ الأطراف/ التوقيت/ الملائمة) ومدى انطباقها على ممارسات الجماعات الأصولية الجهادية.
في الترويج للغرض الدفاعي، يستخدم التيار المدرسي آليات تأويلية متنوعة. لكنه يلقى صعوبات حقيقية في مواجهة الحقائق المناقضة التي تتضمنها المدونة المرجعية الإسلامية. لا أشير هنا إلى المصدر الثانوى الذي يمثله “الفقه” الاجتهادي فحسب، بل إلى المصادر الأصلية الممثلة في “النصوص”، وفي “السردية التاريخية” لمرحلة التأسيس: الآيات الهجومية الصريحة في القرآن المدنى/ الأحاديث النبوية التي تحض على القتال الابتدائي/ الروايات الإخبارية التي تشير إلى ممارسات عنف موثقة منسوبة إلى الرسول/ فضلاً عن تاريخ التوسع عبر الغزو فيما يسمى بحركة الفتوح.
2. التيار الأصولي المتطرف مع بعض الفوارق فى درجة التطرف، لا يحفل التيار الأصولي بغرض التوافق مع الحداثة أو أسس الدولة المدنية، ولا يشعر بأي حرج حيال فعل القتال الهجومي من أجل الدين، فهو فعل مبرر في ذاته لكونه فريضة صادرة عن أمر الله. وهو ينظر إلى التبرير الدفاعي كموقف متساهل يصدر عن تيار مهزوم فكرياً أمام الحداثة الغربية، وخاضع لسطوة الحكام الخارجين عن الإسلام. ومقارنة بنظيره المدرسي يبدو هذا التيار أكثر تناغمًا مع بنيته النظرية، أعنى مع المدونة المرجعية الإسلامية بشقيها الفقه، والنصوص.
- 2
الفقه : تقنين حالة التوسع وزيادة “الطلب” على العزو.
بدأ الفقه يتشكل منذ منتصف القرن الثاني، أي بعد ظهور واستقرار الدولة، وفي ظل الصراع المذهبي على السلطة، وتزايد حركة الغزو والفتوح. فهو لم يصدر عن تأمل نظرى فى مادة النصوص، بل ترجمة لحركة الاجتماع السياسي في مرحلتي التأسيس والتدوين. ومن هذه الزاوية كان الفقه يعكس حالة التغلب والاستعلاء التي فرضتها سياسة الغزو والتوسع تحت مسمى الجهاد، ثم أعاد تأسيسها على المواد النصية التي كانت جاهزة بالفعل منذ مرحلة التأسيس المدنية، والتي صارت متوفرة على نطاق أوسع بعد تدوين الروايات النبوية وتحويلها تحت مسمى السنة إلى جزء من بنية النص / الوحي.
نظرياً، كان الفقه يكرس مفهوم النفي التوحيدي وهو يقسم العالم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب، أى يفرض على المسلمين الدخول في حالة قتال مع العالم إلى نهاية الزمان. وهو مفهوم مناسب تماماً لأغراض الدولة المتغلبة التي تمارس التوسع بفائض القوة واندفاع السلطة. وهو بدوره موقف “مفهوم” فى سياقه التاريخي القروسطي الخاص، حيث تخضع الثقافة إجمالاً لهيمنة التفكير الديني، ويتعاطى الوعى ببساطة مع واقعة الغزو والقتل، وتشهد المنطقة حالة ظهور وتمدد واسعة لقوة الدولة الإسلامية. قنن الفقه هذه الحالة الهجومية في شكل أحكام نهائية مطلقة مسندة إلى الله، فيما هي في الواقع ترجمة حرفية للحظة الاستعلاء السياسي التي صنعتها الدولة في عصر التدوين، والتي تمتد أصولها إلى اجتماعيات التأسيس القبلية الخشنة في الجزيرة العربية.
نظريا، يشير الفقهاء المسلمون إلى نوعين من الجهاد القتالي: “جهاد الدفع” أي القتال لصد العدوان الذي يقع على بلاد المسلمين، وهو فعل دفاعي مبرر أخلاقيًا، و”جهاد الطلب” أي مبادءة الكفار بغزو بلادهم وإن لم يعتدوا بغرض نشر الدين أو إظهار قوته، وهو فعل هجومي عدواني صريح يصعب تبریره بمقاييس الأخلاق؛ يشرح الزيلعي من فقهاء الحنفية: “الجهاد فرض كفاية ابتداءً، يعنى يجب علينا أن نبدأهم بالقتال وإن لم يقاتلونا لقوله تعالى “وقاتلوا المشركين” ( التوبة / 36).
وعليه إجماع الأمة. وكونه فرضاً على الكفاية لأنه لم يشرع لعينه. إذ هو قتل وإفساد في نفسه، وإنما شرع لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، ودفع الفساد عن العباد” (انظر الزيلعي/ تبيين الحقائق، شرح كنوز الدقائق، المطبعة الأميرية، القاهرة ط 1، 1314 ه).
وفي الفقه الحنفى أيضا يؤكد المرغيناني في كتابه “الهداية في شرح البداية” “أن قتال الكفار واجب وإن لم يبدؤا للعمومات. ويفسر ابن الهمام ذلك بأن “الأدلة الموجبة له لم تقيد الوجوب ببداءتهم، وهذا معنى قوله (للعمومات) وصريح قوله عليه السلام في الصحيحين وغيرهما “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله” يوجب أن نبدأهم بأدنى تأمل” (انظر ، ابن الهمام، فتح القدير شرح كتاب الهداية في شرح البداية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 1 ، 1970).
وفي الفقه المالكي يشير القرطبي إلى جهاد الطلب بقوله قسم ثان من واجب الجهاد، فرض أيضا على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، يرغبهم ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم حتى يدخلوا في الإسلام” (انظر الجامع لأحكام القرآن).
وعند الشافعية يقول الشيرازي “وأقل ما يجزئ في كل سنة مرة، لأن الجزية تجب في كل سنة مرة، وهي بدل عن القتل.
فكذلك القتل، ولأن في تعطيله في أكثر من سنة يطمع العدو في المسلمين، فإن دعت الحاجة إلى تأخيره لضعف المسلمين، أو قلة ما يحتاج إليه قتالهم من العدة، أو للطمع فى إسلامهم، ونحو ذلك من الأعذار جاز تأخيره” (انظر أبو اسحاق ابراهيم بن على الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي، تحقيق محمد الزحيلي، دمشق، دار القلم).
وفي الفقه الحنبلي يكرر ابن قدامة في المغني أن “أقل ما يفعل مرة كل عام إلا من عذر ، فيجوز تركة بهدنة، فإن النبي (ص) قد صالح قريشاً عشر سنين وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده، وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وإن دعت الحاجة إلى القتال في عام أكثر من مرة وجب ذلك”.
وفي محاضرة له بعنوان “ليس الجهاد للدفاع فقط“، يؤكد الشيخ ابن باز ممثل الأصولية الوهابية المعاصرة أن “آية السيف (الآية الخامسة من سورة التوبة) ناسخة لما مضى قبلها من الآيات التي فيها الأمر بالعفو والصفح وقتال من قاتل والكف عمن كف، وأمر الله بقتال أهل الكتاب، ولم يأمر بالكف عنهم إلا إذا أدوا الجزية من صغار، ولم يقل حتى يعطوا الجزية أو يكفوا عنا، بل قال حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقال في الآية السابقة، آية السيف: “فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم” فدل ذلك على أنه لا يكف عن الكفار إلا إذا تابوا عن كفرهم .. فلا بد من الإسلام أو السيف” (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (3/ 171)
ويتوافق الفقه الشيعى مع الفقه السني في مشروعية جهاد الطلب بوصفه واجبًا شرعياً، لكنه، خصوصاً في المراحل المبكرة، ظل ينكر جواز إعلانه فى زمن غيبة الإمام “المعصوم”، ويجادل حول جواز الانخراط فيه تحت راية الحكام الذين اغتصبوا سلطة الإمام، أي تحت راية الحكام السنة.
- 3
تعكس هذه النقول نوعية المشاغل التي كان الفقه يعالجها في مرحلة التدوين. ومن جهتي الكم والموضوع، توحي بوضعية عسكرة كثيفة ودائمة. يحظى القتال بموقع مركزي في الثقافة والسلوك الاجتماعي، ويبدو كشأن يومى دارج، ومقارنة بالأغراض الدينية الروحية تغطى نصوص القتال المساحة الأكبر من مادة التشريع والتكاليف. وهى وضعية تعكس حجم المعنى “السياسي” وجسامة حضوره في “المشروع الإسلامي” المعلن منذ الهجرة إلى المدينة، وبامتداد مرحلة التدوين حيث تزامن الفقه مع توسع الغزو وحركة الفتوح.
في هذا السياق الثقافى، لم يواجه الوعى الفقهي أزمة نظرية حيال جهاد الطلب، أعنى لم يشعر بالحاجة إلى تقديم مبرر أخلاقي لعمليات الغزو والقمع العسكري التي مارستها الدولة الإسلامية باسم الله ضد الشعوب المجاورة. لكن هذه الحاجة ستظهر لدى الفكر الإسلامي المعاصر، الذي يجد نفسه ملزماً بالدفاع، بأثر رجعي عن هذه العمليات، والدفاع في الوقت نفسه عن مشروعية القتال في مواجهة العالم كحكم تكليفي مؤبد حتى نهاية الزمان.
تتفاقم الأزمة في الوعي الإسلامي المعاصر تحت ضغط المثيرات الحداثية التي طالت بنية الثقافة، وصارت تلفت الانتباه إلى التناقض المنطقي بين فعل القتال والمعنى الأخلاقى الاختياري المفترض للدين. ويتزايد المشكل لدى الوعي الإسلامي بفعل الضغوط الموازية من قبل الحالة الأصولية القائمة التى صارت تشده بقوة إلى مدونته الفقهية الموروثة، أو بعبارة أدق إلى المناطق الأكثر خشونة وعتامة من هذه المدونة.
من هذه الزاوية ومقارنة بالفقه، تبدو الحداثة أكثر تمثلًا لمنطق الأخلاق. ويبدو الفكر الإسلامي المعاصر مضطربًا ومتكلفًا وهو يحاول التوفيق بين مطالب الحداثة ومقولات الفقه:
فقهيًا، لا يستطيع إنكار جهاد الطلب ويصر على استخدام المصطلح، لكنه يحاول التخفيف من مدلوله العدواني بالحديث عن أغراض إنسانية واسعة، لا علاقة لها بأغراض الفقه الثابتة. ويروج لذلك بلغة خطابية لا معنى لها ومتناقضة بشكل واضح. كنموذج لهذا النوع من الخطاب أشير إلى الطرح الذي قدمه “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” التابع لما يسمى “منظمة التعاون الإسلامي” في مارس 2015 تحت عنوان “قرار رقم 207 (22/3) بشأن جهاد الطلب وجهاد الدفع”:
“جهاد الطلب هو الذي يهدف إلى حماية نشر الدعوة وإزالة العوائق أمامها، كما يهدف إلى الدفاع عن المستضعفين والمضطهدين بالأرض وفقاً لضوابط وشروط حددها الفقهاء، تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للمفسدة. قال تعالى “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” (الأنفال 39). وغاية جهاد الطلب تبليغ رسالة الإسلام دون إكراه الناس على الدخول فيه).
هذا تلفيق إنشائي واضح لأول وهلة: فمن حيث المبدأ يتناقض مفهوم الدعوة مع آلية القتال. والحديث عن استخدام السلاح بحجة إزالة الموانع التي تمنع الناس من اختيار الإيمان بحرية، لا يعنى أكثر من استبدال عائق بعائق، لأن القوة التي أزالت العائق تمثل بالضرورة مانعًا جديدًا لحرية الاختيار. إزالة العوائق مصطلح سبق استخدامه من قبل سيد قطب والمودودي، وهو ليس أكثر من صياغة حداثية للغرض الفقهي التقليدي من جهاد الطلب، وهو نشر الدين وإعلاء كلمة الله.
أما الدفاع عن المستضعفين والمضطهدين بالأرض، فهو غرض إضافي غريب على مشاغل الفقه، وغير مطروق في أدبياته التقليدية. ولم يسبق استهدافه عملياً عبر تاريخ الإسلام القتالي الطويل، فحركة الفتوح التي جرت بدوافع التوسع السياسية، ظلت تقرأ من الجانب الآخر كأعمال قمع لإرادة الشعوب المستضعفة بقوة السلاح. وبحسب النص يخضع هذا الغرض “لضوابط وشروط حددها الفقهاء تحقيقا للمصلحة ودرءاً للمفسدة، ما يعنى الإحالة من جديد إلى أحكام الفقه الموروثة التي لا تفهم المصلحة إلا من زاوية الدين. هل يمكن للفقه أن يستهدف الدفاع عن مستضعفين ومضطهدين من غير المسلمين؟ هذا المعنى “الإنساني” الكلي لا وجود له في نسق فقهي حصري. غرض الجهاد بحسب الفقه إدخال الناس جميعاً في الإسلام تطبيقا لمفهوم الآية “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”. ومن الغريب أن هذا المجمع الفقهي يستشهد بهذه الآية التي تنص صراحة على أن غرض القتال هو إنهاء وجود أى دين إلا الإسلام بحيث يكون الدين كله لله. أى على العكس تماماً من القضية التي يستشهد عليها.
- 4
بثقافته التقليدية الساذجة، يتصور الفقيه المعاصر إمكانية تمرير مثل هذا الطرح التلفيقي عبر استخدام مصطلحات حداثية.
مثل هذا الطرح قد يجدي نسبياً في أوساط التدين الإسلامي العامي، التي لا خبرة لها بتفاصيل الفقه، والتي تفهم الدين ببساطة على أنه مرادف للأخلاق. لكنه لا يعنى شيئاً بالنسبة إلى “الآخر” الديني المخالف، ولا بالنسبة إلى أوساط التفكير النقدى المعنية بمشكل الحرية وحاجات الذات الفردية ومطالب العقل، وهي الأوساط التي تتسع مساحتها بشكل مضطرد عبر العالم وفي المحيط الإسلامي، والتي تعيد طرح الأسئلة الأولية على أنساق الدين التقليدي وسردياته التاريخية.
صار من الواضح الآن أن دفع تهمة العنف عن الإسلام غير ممكن من داخل “المفهوم الفقهى التاريخي” للدين بآلياته التأويلية الموروثة. فقط يمكن دفع هذه التهمة بالرجوع إلى “مفهوم الدين في ذاته” كجوهر روحي أخلاقي. ما يعنى ضرورة التخلص من سلطة المدونة الفقهية ونظامها التفكيري القابض (في الكلام، والتفسير، وأصول الفقه)، والعودة مباشرة إلى منظومة الأخلاق الكلية ذات الروح الإنساني التي يحتوي عليها النص الإسلامي خصوصاً في مادته المكية، والإعلان – ببساطة – عن نفي ما يسمى “بجهاد الطلب” كحكم تكليفي مؤبد مسند إلى الله، بدلاً من تبريره عن طريق التأويل، والتخلي – ببساطة أيضا – عن فكرة الدفاع عن تاريخ المسلمين السياسي المشرب بالدماء، والذي قننه الفقه، بما في ذلك عمليات الغزو أو الفتح، التي لم تصدر عن أمر إلهي، بل عن نزوعات التوسع لدى الدولة في مراحل التأسيس.
- 5
العنف نتيجة ضرورية للدمج التاريخي بين الدين والسياسة.
مفهوم الحصرية الديني الكامن في النسق التوحيدي، يترجم سياسيًا إلى نفي الآخر بقوة السلاح، تستدعى السياسة هذا المفهوم وتوظفه في تحقيق أغراضها الزمنية المباشرة. ينتمى السياق في مجمله إلى معطيات الاجتماع القبلي القديمة ذات الطابع الجمعي، والمتساهلة حيال فكرة الغزو والإغارة، ويمثل الشعار الدينى مثيراً إضافياً في عملية الشحن والتجييش المطلوبة للحرب.
متى بدأ هذا الدمج في تاريخ الإسلام؟ هل بدأ من نقطة تشكل الدولة بتداعياتها الداخلية (تفجر الصراع على السلطة الذي تحول إلى تقاتل مذهبى)، والخارجية (عمليات التوسع ذات الطابع الإمبراطوري التي بلغت ذروتها في العصر العباسي، أي بالتزامن مع تبلور الفقه)؟
أم أنه يرجع إلى نقطة التأسيس المبكرة مع الرسول في الحقبة المدنية، التي صارت تكشف عن نشاط زمانى عسكرى، تسبق السياسة فيه اعتبارات الدين الروحية التي طبعت المرحلة المكية، إلى درجة تدفع البعض للحديث عن مشروع سياسي مباشر موازً للمشروع الأول، الذي بدا دينياً خالصاً في مكة؟
عملية الدمج تظهر بوضوح في مادة الفقه. والمعنى هو أن هذه المادة لا تفتقر إلى أسانيد أصلية، أي نصوص مستمدة من حقبتي التأسيس. الفقه – وهو مجموعة أحكام تكليفية ذات طابع تفصیلی – نصب نفسه في صدارة الدين كوجه مباشر يسبق مكانة الروح والضمير الأخلاقي، وترجمة للغرض السياسي في الحقبتين، قسم العالم إلى معسكرين، وقنن حالة القتال الواقعية كحكم ديني مؤبد مسند إلى الله، مكرسًا الخصومة التقليدية المزمنة بين الدين والحرية وحاجات العقل.
- 6
إذا كان الفقه يؤسس أحكام القتال الهجومي على النصوص، فهذا يعني أن الدين – وليس الاجتهاد الفقهي – وهو ما يتناقض مع الأخلاق ومع الوعي الحداثي أى الواقع، وهذا هو جوهر المشكل الذي يواجه الفكر الإسلامي المعاصر، والذي يحاول حله من خلال عملية التأويل. لكنه يواجه صعوبات حقيقية في هذه العملية: 1- لأن الغرض الهجومي للقتال يرد صريحًا ومتكررًا في النصوص، 2- ولأن النصوص لا تقرأ من قبل الفقه قراءة حرة مباشرة، بل من خلال نظام تفسيري جامد يقوم على “مفهوم خاص للنص”، ومقدمات كلامية وأصولية ثابتة.
تشكل هذا النظام مع الجيل الثاني في مرحلة التدوين خصوصاً عبر التنظيرات التي كرسها الشافعي في أصول الفقه، والتي حول بها الروايات النبوية الشفوية إلى جزء من بنية النص الملزمة مثل القرآن.
مفهوم “النصية” ذاته من حيث الأصل مفهوم مشترك موروث من النسق الكتابي: النص معطى نهائي مقدس في بنيته اللغوية، وهو مطلق في جميع أجزائه. ولذلك لا يقر العقل الديني بأن النص يحتوى إلى جوار الكليات المطلقة على أحكام نسبية متغيرة خاصة بسياقات إنتاجها التاريخية. وبالنتيجة كرس الفقه وقائع القتال التي سجلها النص كأحكام نهائية مطلقة ومؤبدة في الزمان، متجاهلاً طبيعتها الاجتماعية وسياقاتها البيئية المحلية الخاصة.
لقد حول الفقه الوقائع إلى قيم؛ وآية السيف ( الآية 5/ التوبة) التي كانت تعكس الوضعية الأخيرة لميزان القوى بين الجماعة المسلمة وخصومها في الجزيرة عند وفاة النبي – وهي وضعية التغلب التي ظلت قائمة لعدة قرون عبر الفتوح – جرى تقنينها في شكل أحكام نهائية تفرض على المسلمين مقاتلة الناس حتى يدخلوا في الإسلام، وتربط صراحة بين عدم الانتماء للإسلام وحل الدم. وهي أحكام في غاية الخطورة من حيث مخالفتها لجوهر الأخلاق وللنصوص المطلقة التي يحتوي عليها القرآن ذاته، ومن حيث فداحة الآثار التي ترتبت عليها، أعنى التوجه العنيف الذي اتخذه تاريخ التدين الإسلامي على المستويين الداخلي والخارجي، وانعكس على مستوى الذات الإسلامية المعاصرة، التي صارت عرضة للتناقض بين مفاهيمها “الفقهية” الموروثة وثقافتها الحداثية المكتسبة.
يتبع