تكوين
النهضة والتنوير والحداثة وما بعد الحداثة من المصطلحات والقضايا الوافدة التي شغلت المؤرخين والباحثين والمفكرين العرب الذين أشبعوا البحث فيها لردم الهوة المفترضة في الواقع الراهن بين العالمين: الغربي المتقدم والعربي المتخلف.
بداءةً لا بد أن نشير إلى التمايز الموضوعي بين مفهوم النهضة والتنوير الأوروبيين والنهضة العربية، ولقد أشارت الدراسات المستفيضة لهاتين النهضتين لخصائص كل واحدة وأسباب قيامها كل وحجم إنجازاتها سلبًا أو إيجابًا، وملخص ما انتهت إليه هذه الدراسات أن النهضة الأوربية التي امتدت من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر، والتي شَكَّلت مرحلة عبور من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، نتجت عن ظروف موضوعية استجدت في أوروبا وأهمها:
- تدفقِ الثروات بسبب الاكتشافات الجغرافية واستغلال مناجم الذهب والفضة في القارة الأمريكية (1492) (خصوصًا أسبانيا والبرتغال).
- التحولُ الذي امتدت إلى إيطاليا إثر انتشار مرض الطاعون في فلورنسا بين 1348 و1350 وتاليًا في جميع أنحاء أوروبا الذي أودى بحياة نصف السكان.
- ضعفُ الإقطاع بسبب موت الأمراء الفرسان في الحروب الصليبية (الحملة الأولى1096 والثامنة 1209، ماءتا عام) وانصراف البقية من الإقطاعيين إلى أعمال التجارة ونشأت الصناعات البسيطة وبشكل خاص النسيج، فتحرر الفلاحون وانخفضت أسعار السلع الغذائية والأراضي المتاحة للتملك من المتمولين الجدد.
- اختراعُ الطباعة (جوتنبرغ 1447) التي أسهمت في نشر العلوم.
- سقوطُ القسطنطينية (1453) وهجرة العلماء إلى إيطاليا.
النهضة الأوروبية
نشأت النهضة الأوروبية كونها ردةُ فعلٍ متقدمة على نمطٍ انتاجي إقطاعي وأسست لعلاقات إنتاج جديدة، وعلى الصعيد الثقافي ارتكزت على الموروث الأدبي والفني والفكري للحضارة اليونانية – الرومانية.
وبلورَ المذهبُ الإنساني المبادئ الأساسية للنهضة الأوروبية والتي تمحورت بشأن: الإيمان بالحرية الفردية وحرية التفكير واحترام كرامة الإنسان وبمعنى آخر تحرره من السلطتين المتحالفتين على مدى العصر الوسيط: الإقطاع والكنيسة، وركزت في استعادة الإنسان لإنسانيته عن طريق التعليم المعتمد على المصادر الكلاسيكية انطلاقًا من الثقة بطبيعة الإنسان واستعداداته للكمال، وإمكان تحقيق السعادة في الأرض وأن الشرور الحاصلة ليست بسبب الخطيئة وفق التعاليم الدينية المسيحية، وإنما سببها النظام الاجتماعي. ففكرُ النهضة يقومُ على إعطاء السلطة للعقل والانعتاق من ربقة الجهل وسيطرة المؤسسة الدينية. وعلى الصعيد السياسي تنامت فكرة القومية وإقامة الدولة الممالك- المدينة وعقد المعاهدات فيما بينها.
والأمر الذي لا بد من الإشارة إليه هو أن مصطلح النهضة أُعتمد لتوصيف حالة أدبية وفنية وفكرية وسياسية، استُعمل لأول مرة في سنة 1835، أي أنها تسميةٌ أُطلقت على مرحلة قد انقضت.
أما حركة التنوير فتعتبرُ أن “لا سلطان على العقل إلا للعقل” والتي تتجاوز العقائد الغيبية، ولا تجدُ غضاضةً في نقد الدين والنص المقدس، وتؤمن بقدرة الإنسان على الفهم والتحليل والتشريع وتقديم المنهج التجريبي الحسي المادي على سائر المناهج، وبناء الدولة العلمانية. وفهمت الأوساط الفكرية العربية التنوير بأنهُ حركةُ توعيةٍ وتثقيفٍ وتحديثٍ وتجديدٍ، وحددت نشأتها في العالم العربي بالغزو الأوروبي مع حملة بونابرت لمصر سنة 1789.
والوقوف عند كلام المفكرين العرب المعاصرين عن النهضة والتنوير يكشف بوضوح المفهوم من هذين المصطلحين ومنطلقاتهما المؤسسة، كما يضعنا أمام الارتباك في الفهم لهما ويدفع بنا إلى متاهات أيديولوجية متشابكة المسالك إلى درجة تكوينها شرنقة خانقة في أجواء عربية وعالمية محيطة تتسمُ بالضبابية.
وقد فنَّد حسن صعب الاتجاهات العربية والإسلامية المعاصرة إلى أربعة رئيسة:
1)_ اتجاه محافظ لا يرى في الحياة العصرية إلا الخطر على النسق الحياتي الإسلامي.
2)_ الاتجاه الوسطي الذي يرى في الحياة العصرية خيرها وشرها.
3)_ الاتجاه المسترسل مع الحياة العصرية.
4)_ الاتجاه العلمي العقلاني التطوُّري الذي تجاوز معالم الدين والروحانيات التراثية.
وبدت هذه الاتجاهات وكأنها تطبعُ حركة النهضة الحديثة، بل المعاصرة إلى درجة كبيرةٍ. (صعب، أت، ص25).
وربما كان مفيد لنا الأخذ بعين الاعتبار ملاحظة شرابي إلى أنه لم يكن قبل 1800 شعب عربي أو مجتمع عربي، وأن ما نسميه الشعب العربي بوصفه كيانًا اجتماعيًا وسياسيًا يعي ذاته بوضوح، هو أساسًا حصيلة النهضة التي حدثت في القرن التاسع عشر، نتيجة نفوذ أوروبا المباشر على الصعيدين السياسي والثقافي. ويبدو وفق هذه النظرة أن “العالم العربي” تحول إلى مجتمع نتيجة التأثير الأوروبي، بمعنى أن هذا التأثير فيه من مجموعة متباينة من الفئات القبلية والإثنية والطائفية المنعزلة والمبعثرة في المشرق والمغرب. وتحولت إلى “عالم” موحد بوصفها أمةً يشتركُ أفرادها في اللغة والوعي القومي والمصالح. ويقطع شرابي من هذه الزاوية أنها صنيعة أوروبا. (شرابي، بنب، ص72).
حتى أن عمليات نقد العقل العربي، من منظور الجابري تدخل أساسًا في صلب مشروع نهضوي عربي ويأخذ على النهضة العربية الحديثة إهمالها لهذا الجانب النقدي، الأمر الذي جعلها تتعثر باطراد (الجابري تعر ص5). إن حصرية النهوض بالنقد إخلاء صريح للمجالات الحيوية الفاعلة في مسارات التطور أو التشكُّل الحضاري لشعب أو لشعوب مترامية على جزء من المعمورة. والنقد يحتاجُ إلى معيار ضابط حتى ولو كان بصيغة المطلق، وإلا يكونُ ضربًا في عماية أو الانزلاق إلى خلاء لا قرار له ودون رافع لكل تطلعٍ واثبٍ إلى حالة حضارية أرقى تكون بيادقها وقادتها شاملة لكل شرائح المجتمع. ولعل العروي أصاب في وصف الذين أخرجوا العقل من بيئته العينية إلى فضاء تخييلي “بادعائهم النقد بالمتحسرين على ضياع آلات وفراغ تاريخ مكبوت، ويتعزَّون عن العمل الدؤوب النافع بالنواح والأنيين، كالمسلوخ من جلده تحت تصفيقات بعض الغربيين المرهفي الحساسية. وقد يأتي النقد أيضًا من داخل العالم العربي “من بعض التقدميين عشاق الغرابة الذين رفعوا راية حقِّ المخالفة” (العروي، أعم، ص86).
ولم تفرق “الموسوعة السياسية” لعبد الوهاب الكيالي بين مفهومي النهضة والتنوير العربيين، فتحددُ زمن النهضة مع دخول نابليون مع قواته إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر 1789، “وما رافقها من اتصال ثقافي بين الشرق والغرب. وترد الموسوعة الأسباب التي كانت وراء انطلاقة النهضة العربية وهي: نشوء المدارس الأجنبية وانتشار فن الطباعة، واهتمام أهل البلاد بالصحافة والتأليف وتأسيس الجمعيات العلمية والأدبية وبناء المكتبات، ودور المستشرقين، ونهضة التمثيل في المشرق العربي، وهجرة الشبيبة إلى الديار الغربية والاحتكاك بين الغرب والشرق من طريق التجارة. (انظر: الموسوعة السياسية. الجزء الرابع، الصفحات 118 ـ 119).
يشيرُ سعيد إلى أن مفهوم النهضة يرتبط ارتباطًا جذريًا بمفهوم التغيُّر، فمجرد قولنا “نهضة” ينقلنا بالضرورة إلى تصوِّر انتقالٍ من وضع سابق أو ماضٍ إلى وضعٍ حاضر، مغاير، ونعني بالضرورة أن الوضع الجديد متقدم نوعيًا في حركته العامة على الوضع الماضي. لذلك لا يصح أن يكون في مفهوم النهضة ما يمكن أن يشير إلى “التقليد” أو “الإحياء”، لأن فيهما تراجعاً، أي تبنيًا لأشكال حياتية- ثقافية، نشأت في عصر مضى، لتجيب عن مشكلات لم تعد هي نفسها المشكلات الراهنة” (سعيد ع، ثمت 3، ص56).
ولا يختلفُ مفهومُ النهضةِ عند غليون عن الذي قدمهُ سعيد، فمفهومُ النهضة عند غليون يحدد أولوية التغيير والتحوُّل، أي التغلب على الانحطاط وتمثُّل الإبداعات الجديدة، ويفترض التغيير الثورة على الوعي القائم وعلى منظومة القيم التقليدية السائدة”. ويضيف غليون قائلًا بأن الشرط الأول للتقدم هو في عقل الإنسان. والإنسان الواعي لتخلُّفه، وتقدُّم غيره هو الذي يندفع في طريق التقدُّم”. وهذا الشرط الذي يضعهُ غليون يدفعهُ إلى السؤال عن كيفية تحويل الوعي العربي وعاءً قابلًا وصالحًا للتغيير، أي أيضًا ما هي طريق النهضة ووسيلتها؟ (غليون، أغع، ص185).
ويذهب ناصيف نصار إلى ما ذهب إليه غليون وسعيد وهو أن النهضة لا تكون نهضة بالمعنى الحقيقي إذا لم تحقق تقدمًا بالنسبة إلى الواقع التاريخي الخارجة منه، وإذا لم يكن هذا التقدُّم من إبداعها الذاتي، وشرطهُ الأول من أجل تحقيق التقدم هو الاقتناعُ الواعي أن الإنسان هو الكائنُ الذي يصنعُ مصيرهُ بنفسه مدفوعًا بحاجاته ورغباته ونزاعاته، مجسدًا حرُّيته محددًا هويته مهتديًا بعقله في صيرورة مفتوحة. (نصار، تفه، ص334).
يقدمُ سعيد وغليون ونصار هنا المفهوم العامُ عن النهوض بقصد الوصول إلى هدف ما، وهو يضادُّ الجلوس والسكينة والاستقرار الرتيب على حال معينة. وفي مطلق الأحوال لا تكون النهضة مجرد ارتداد إلى الماضي، وتلميعُ صورته وإحيائه مهما كان عظيمًا ومتألقًا في مستوياته الثقافية والحضارية، بل هي استنهاضٌ للقوة الأولية التي انتجت الماضي العظيم أو استحضار لها لتأسيسات مستقبلية منسجمة مع حالة حضارية قائمة أو منتظرة.
إقرأ أيضاً: سؤالُ النهضةِ العربيةِ والعقلانية المأزومة
وهذا ما فهمه مطاع صفدي من النهضة كونها “فعلاً يتحد بالفعل الذي يخلق التراث، وليس مع الميراث. إنها ليست عودة إلى الأصول، ولكنها استنهاض لكل تلك القوة الأولى التي خلقت الأصول” (صفدي أتس 246). فالنهضةُ استنهاضٌ للقوة التي انتجت تراثًا وليس رجوعًا إلى ميراث حصلَ وتجمَّع في عهد مضى، فالنهضة خلقٌ جديدٌ وتقليدٌ لفعل الإبداع نفسه، وضدها الردة وفق تعبير طرابيشي، إذ النهضة عنده “فضلًا عن كونها سيرورة ماديَّةً – اقتصادية واجتماعية وتقنية وإدارية – هي أيضًا مفهوم النهضة. وهذا المفهوم أشبه ما يكون بذبابة سقراط: فدوره أن يوقظ لا أن ينوِّم، أن يلسع لا أن يخدِّر. وبمعنى آخر، فإن النهضة هي الحاجة إلى النهضة على مستوى الوعي. فلا نهضة بلا إرادة النهضة” (طرابيشي، منر، ص7).
وجاء موقف الملتزمين قومياً ودينياً من النهضة منظورًا إليها عربيًا أو إسلاميًا، في موقعها المواجه للنهضة الأوروبية مترددًا. وقد لخصَ لطيف المعاني المتعلقة بالنهضة العربية:
- – إن مفهوم النهضة العربية يستعملُ بصورة اجرائية في باب تحقيب التاريخ العربي. وهي (النهضة العربية) تشيرُ إلى الحقبة التي ظهرت فيها أزمة النظام الاستعماري التقليدي، وتمتد من تاريخ الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي (حملة نابليون على مصر) إلى منتصف القرن العشرين.
- – وفي المجال الأيديولوجي يحيلُ هذا المفهوم إلى الأدبيات الإصلاحية ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر وهي في جملتها تتضمَّنُ محاولات في الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي واللغوي.
- – ويستعملُ بنوع من المماثلة بينه وبين مفهوم النهضة الأوروبية، وهي النهضةُ التي ارتبطت بأدبيات فلسفة عصر الأنوار (السادس عشر وما بعده)، ومبادئ الثورة الفرنسية (الحرية والمساواة، والإخاء).
- ويستعملُ أيضًا بوصفه شعارًا معبِّرًا عن الأطروحات التاريخية للمجموعة العربية في التقدُّم. (لطيف، ممف، ص17).
ويرى لطيف كما نصار أن المماثلة بين مفهوم النهضة العربية والنهضة الأوروبية ساقطة. ويذهبُ نصار إلى القول بأن “النهضة لا تزال مشروع العرب في تطورهم الحضاري، بما تحقق منها حتى اليوم وما يجب تحقيقه في المستقبل”. ومن أجل الخروج من الأزمة الحضارية “الشاملة” التي يتخبط فيها العرب يدعو إلى نهضة ثانية تأخذ بالاعتبار التحولات العميقة التي وقعت بعد المراحل الثلاث التي شهدها العالم العربي في القرنين الأخيرين وهي: مرحلة النهضة (الأولى) ومرحلة الثورة، ومرحلة الهزيمة. وفكرة النهضة الثانية تفترض، في المقام الأول، قطيعة بالنسبة للمرحلة الراهنة (نصار، تفه، ص311).
والنهضةُ العربية الثانية في نظر نصار ليست منفصلة عن النهضة العربية الأولى، وليست تكملة مباشرة لها فقط. (تفه، ص322) فمن الضروري للنهضة الثانية أن تستأنف النظر في سؤال الديمقراطية انطلاقًا من الأسس التي تقوم عليها مثل نظام حكم وحياة اجتماعية، وهي على نوعين:
- نوعٌ يُنتجُهُ التطور التاريخي للعلاقات الاجتماعية.
- ونوعٌ يُنتجهُ التطور التاريخي للتفكير الفلسفي في الدولة بخاصة، وفي السلطة بعامة.
ويبني نصار أطروحته انطلاقًا من مقولة أهمية الوعي في عملية تحديد الواقع والأهداف والسلوك، ويعتبرُ أنه ليس من الخطأ إعطاء النوع الثاني أولوية منهجية بالنسبة إلى النوع الأول. (نصار، تفه، ص 336).
وهذه الفرضية الأخيرة تطرحُ فيضًا من الأسئلة لعل أبرزها ما يدورُ بشأن حالة الإحباط التي مُنِيَ بها الفكر الفلسفي، وخطابه الذي حُشر في زوايا الحاضر الاجتماعي والسياسي واستبعاده عن ساحة الإعداد التربوي على مدى مساحة العالم العربي، وربما جميع عوالم بلدان العالم الثالث. وفي هذا الاستبعاد مجانبة صارخةٌ لأهم شرطٍ من شروطِ التنوير الذي أشار إليه كانط في تعريفه أنهُ “خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر”. فتغييبُ التفكيرِ الفلسفي الناقد عن مناهج التعليم والتربية تقللُ ثقة الإنسان بنفسه وبقدراته وتفسحُ المجال للآخرين لاستغلاله وسحقِ كرامته الإنسانية. والشواهدُ المبثوثةُ في أنحاء دول العالم الثالث خيرُ شاهدٍ على امتهان الكرامة الإنسانية لأشكال الغطرسة المالية والعسكرية والسياسية وتفكك القيم الاجتماعية الضابطة للفساد المستشري.
ولعل علي حرب قد وضع الأصبع في الجرح عند توصيفه للنقد على ضوء الأسس التي انطلق منها العقل التنويري، يقول:
إن النقد الفعَّال كونه كشفًا وتنويرًا يُمارِسُ اليوم نقد الحداثة وعقلانيتها في ضوء المعاصرة ومنجزاتها، للكشف عما يمارسهُ العقل التنويري نفسه، في علاقته بذاته وبالأشياء من التعاملات الأسطورية أو الآليات اللامعقولة أو الأشياء اللاهوتية. وبالطبع فإن الذين ينتقدون العقلانية الحديثة لا يفعلون ذلك من مواقع العقل اللاهوتي، بل من موقع العقل التنويري، أي انطلاقًا من الإيمان بقدرة العقل على الكشف والمعرفة والاحتكام إلى مرجعيته في التقدير والتقرير. ولا شك في أن القول بحاكمية العقل هو مكسبٌ تاريخي، ولكن المكسب ليس نهائيًا بسبب تاريخيته بالذات تمامًا كما أن القول بالحاكمية ليس محكمًا بسبب إيمانيته نفسها.
والقول بأن العقل التنويري الحديث هو أمرٌ لا عودة عنه، يعني التعامل مع مفردات العقل والتنوير والحداثة والتقدُّم بمعايير العقل اللاهوتي ذي الطابع المطلق والثبوتي، ومثل هذا التعامل هو الذي يفسر لنا تحديدًا، انتكاس مشاريع التنوير أو تعثُرها أو فشلها سواء في الغرب أو في العالم العربي. (حرب، أسر، ص15).
والاعتقادُ السائدُ في أوساط النخب العربية كما تجلت في مشاريع وبرامج الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، أن النهوض والتقدم هما فعل إرادي شخصي بحت أو إسقاط لتطلعات مستقل عن المعطيات الموضوعية للواقع المراد تغييره.
وانطلاقًا من الواقع اللبناني يكشفُ شرارةَ عن الأوهام التي وقعت فيها الأحزاب قبل أن تُمسي أحزابًا وطنية أو طائفية إسلامية تركت مسألة الدولة الوطنية معلقة من غير جسم، وقويت العصبيات الأهلية بكافة أشكالها على الأبنية السياسية والاجتماعية والديمقراطية وسلطتها عليها، وألحقتها بها. فصوَّرت الحركاتُ الاجتماعية والسياسية في صورة الشقاق الأهلي وخلطت المخَالفةَ الاجتماعية والسياسية بالمخالفة الأهلية وجمعت المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية والسياسية في “تناقض” واحد” (شرارة، خأد، ص12).
إن التطور أو التحول لا يكون عن نزوة فكرية أو قرار إرادي فردي، ومقولة هيغل الشهيرة إن “العقل يتحكم بالتاريخ” مسألة فيها نظر، وربما كانت التطورات نتيجة تفاعلات مفتوحة لظروف موضوعية بعامة أو بخاصة واستعدادات مجتمعية حاصلة أو محصلة، ولعل نظريات تفريد الإنسان إلى قوى وملكات عقلية أو فكرية ووجدانية روحانية وجمالية والمجتمعات إلى متقدمة ومتخلفة أو في منزلة ثالثة بين المنزلتين أصبحت مُستبعدة في عصر العولمة، بسبب التشابك الإنساني المصلحي والعلمي والقيمي والفني الجمالي. والثابتُ أن الشعوب عند مواجهتها المحنُ الطارئة تعود إلى تجاربها الخاصة أو تجارب الآخرين السابقة الناجحة للبحث عن مخارج وحلول مناسبة، وما يُطرحُ في عالمنا العربي منذ غزو الفرنسيين لمصر مع حملة بونابرت على مصر من ضرورة استحضار عوامل تقدم الغرب وتفوقه فيها مجانبة للواقع والتطلعات الضبابية بفعل تسارع وتيرة التحولات والتطورات العلمية والاقتصادية والسياسية والفكرية.
فما الذي يريده العرب لأنفسهم بوصفهم أمة أو أي دور يريدون تحقيقه على الساحة العلمية وفي ظل النظم الاقتصادية والقيمية العالمية الجديدة؟ الجوابُ لا يُحتمل الإسقاط أو النحت في كومة من الرمال عن طريق نخب فاعلة حاضرة أو بديلة مستحضرة، أو الانسياق وراء تطلعات الرأي العام المجند والمفبرك على نحو يخدم الشركات العالمية ذات الرساميل المتعدد الجنسية والتي همشت الرساميل الوطنية، والقوة العسكرية الدولية الرادة لأي خروج مفترض على ما أجمعت عليه الدول النافذة (الدول السبع) حامية المعمورة والعباد واستقرارهم الوهمي في إطار مشاريعهم الآنية الخادمة لمشاريع عامة مبتغاة.
الخاتمة:
حتى تاريخه يبدو أن النخب تتحرك في شرنقةٍ نسجتها لنفسِها، طرفُها الأول نقد السلطة السياسية في دولها الهشَّة في مواردها وتركيبتها، وطرفُها الآخر نقد الدين أو العلمنة، تحت مسميات وشعارات مختلفة، ويُظن أن مهمة النهضة تقتصرُ على سوْق الأتباع والعامة بالحسنى إن أمكن وبالقوة إن تعذَّر الإقناع، وحصاد المواجهة الغبية في الغالب هو المزيد من الإحباط والفشل الذي يحفز على الاستقالة من ساحات التحوُّل ومراكز القرار ونقد النص أقصاهم عن الوجدان الشعبي وشلُّ فاعليتهم في التوعية، وحشرهم في شرنقة (قد تكون مذهبية لبعضهم) جعلتهم خارج تاريخهم الوطني والقومي والعالمي.
________________________
قائمة المراجع:
الكتاب ورمزه
- هشام شرابي، (بنب)، البنية البطركية، دار الطليعة، بيروت، 1987.
- وضاح شرارة، (خاد) خروج الأهل على الدولة، دار المسار بيروت، 1999.
- علي حرب، (أسر)، الاستلاب والارتداد. المركز الثقافي العربي، 2011.
- ناصيف نصاّر، (تفه)، التفكير والهجرة. دار الطليعة، 2004.
- مطاع صفدي، (أتس)، إستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية. ط 1، مركز الانماء القومي، 1986.
- برهان غليون، (أغع)، اغتيال العقل. دار التنوير، ط1 ،1985.
- علي أحمد سعيد، أدونيس، (ثمت 3)، الثابت والمتحول. دار الساقي 1973.
- عبد الله العروي، (أعم)الأيديولوجية العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي، ط1، 1995.
- محمد عابد الجابري، (تعر)، تكوين العقل العربي. دار الطليعة 1984.
- حسن صعب، (أت)، الإسلام وتحديات العصر. دار العلم للملايين 1983.