منظومة الإنسان المُتفلسف: الجزء الأول… الطفل بما هو أقل من فيلسوف

هذه مقالة، على هيئة منظومة حول الإنسان المُتفلسف، تتكوَّن من عدَّة حلقات، اجتهدُ في بلورة سياقاتها تباعاً، ما يُفضي إلى تشكُّل هذا المعمار الهام: معرفياً وحضارياً. مع التأشير، بدايةً، على سبع نقاط أساسية تُؤطِّر لآليات اشتغال هذه المقالة، والمآلات المُفترضة لها:

أولاً: سعيها للانتقال بالإنسان العربي من أُطُر الفلسفة إلى آفاق التفلسف، أو الانتقال من تاريخ الفلسفة إلى التفكير الفلسفي؛ نظراً للحاجة المُلحَّة في عالمنا العربي لإحداث نقلة من مرحلة إحضار المعرفة (إلى العقل) إلى مرحلة تحضيرها (في العقل). فعقب قرنين من التراكمات المعرفية المختلفة والمتنوعة، أظن أنه آن أوان إحداث إزاحة جوهرية في آليات اشتغاله في العالَم، وذلك

ثانياً: ثمة نسخة جديدة من هذه المنظومة بشكلٍ دائم، أي أنها قابلة للتطوُّر وفقاً لمواضعات الشرط المعرفي الإنساني، مع إحكام بنيتها الدَّاخلية وتجويد أنويتها، بحيث تكون ماكنة ومتينة وعلى درجة من الوعي الدَّاخلي. فالمرونة الخارجية المتعلقة بالتطوُّر المعرفي، يقابلها متانة على مستوى البناء الدَّاخلي.

ثالثاً: إضافة إلى الجزء الأول من هذه المنظومة: 1- (الطفل بما هو أقل من فيلسوف)، فإني سأتبعه بثلاثة أجزاء أخرى، هي: 2- (الإنسان المُتفلسف). 3- (الفيلسوف). 4- (الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف). بحيث تكتمل الحلقات، وتؤدي غرضيتها التي تسعى إلى تعميم ثقافة التفلسف، مع ما يستلزمه هذا التعميم من تبيئة للفلسفة، ابتداءً، في المجتمعات العربية.

رابعاً: بإزاء هذه المنظومة فإني أشيرُ إلى أن الإنسان يتفلسف حول سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء.

خامساً: مرة أخرى أشيرُ إلى أنَّ تفلسف الإنسان في مراحله الأربع التي ذكرتها آنفاً، لا بُدَّ أن تتجلَّى في حواضن سبع، ثلاث منها فردية وأربع جمعية، تتواشج معاً:

  • الحواضن الفردية، وهي: 1- الثقة النفسية. 2- القوة المعرفية. 3- الإمكان الإبداعي.
  • الحواضن الجمعية، وهي: 1- الأسرة. 2- المدرسة. 3- المجتمع. 4- القرار السياسي.

سادساً: سأدمج الحديث عن سُباعية الحواضن: (1- الثقة النفسية. 2- القوة المعرفية. 3- الإمكان الإبداعي. 4- الأسرة. 5- المدرسة. 6- المجتمع. 7- القرار السياسي)؛ بالحديث عن سداسية التفلسف: (1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأفكار)، ضمن أربع مقالات: (1- الطفل بما هو أقل من فيلسوف. 2- الإنسان المتفلسف. 3- الفيلسوف. 4- الحكيم بما هو أكثر من فيلسوف) تبلور منظومة الإنسان المتفلسف (17 محوراً) كما أطرحها في هذا المقام.

سابعاً: مشروع الإنسان المُتفلسف، كما سأطرحه تباعاً، في هذه المقالة وفي المقالات التي تليها؛ مُنسجم انسجاماً تاماً وبشكلٍ مبدئي، مع القيم الإنسانية العليا: الحق والخير والجمال، لكي تندمج الفائدتين: المعرفية والحضارية، مع الفائدة الأخلاقية، فبدون الرُّكن الأخلاقي في إقامة معمار الحياة، قد تُصبح المعرفة ضارَّة ومؤذية، بل قد تقود إلى كوارث كبيرة، لكن ضبطها أخلاقياً، منذ اللحظة الأولى، شأن إنساني رفيع، وإعلاء لمنظومة القيم التي كافحت البشرية أزماناً طويلة لغاية الوصول إليها.

(الطفل بما هو أقل من فيلسوف)

يجنح الأطفال –في كثير من الأحيان- إلى طرح أسئلةٍ قد تؤدِّي إلى إحداث:

  • دهشة[1] من قبل الآباء والأمهات.
  • حرج من قبل الآباء والأمهات.

مما يُفضي، بناء على ردَّة الفعل دهشة كانت أم حرجاً، إلى:

  • الاعتناء بتلك الأسئلة ورعايتها في حال قُوبلت بالدَّهشة، عبر تنميتها وتعزيز مساراتها، والاعتناء بسياقاتها المُختلفة من دعمٍ وتشجيع.
  • القضاء عليها وتحطيمها في حال قُوبلت بالحرج، عبر التحايل عليها لحظة انبثاقها وطمس معالمها مع الزمن، بعد أن يتم لوم صاحبها وتأنيبه وزجره ومعاقبته، إلى أنْ تتلاشى بشكلٍ كامل من حياته.

بإزاء أسئلة الأطفال المُثيرة للدهشة أو للحرج، وفقاً لآليات استقبال الأهل لتلك الأسئلة؛ ثمة سؤال موازٍ لتلك الأسئلة متمثِّل بـ: في أيِّ أُسْرَةٍ تنشأ حالة الدهشة من أسئلة الأطفال؟ وفي أيها أُسْرَةٍ تنشأ حالة الحرج؟ أو في أيِّ أُسْرَةٍ يُمكن أنْ يخلق السؤال الذي يمكن أنْ يطرحه الطفل حالة من الدهشة والانبهار لدى الأبّ والأمّ؛ وبالمقابل في أيِّ أُسْرَةٍ يُمكن أنْ يخلق سؤالاً يطرحه الطفل حالة من الحرج لدى الأبّ والأمّ؟

قبل ذلك، ما هي طبيعة تلك الأسئلة؟ وكيف تنشأ؟ ولماذا؟ وأية مآلات لها؟

منذ أزمان قديمة جداً نمت شجرة هائلة من الموَّرثات: 1- البيولوجية. ومن أزمان أحدث نمت شجرة هائلة من المُورثات: 2- الثقافية. التي (جمعت/ فصلت)، أعني المورثات البيولوجية والثقافية معاً، بني البشر عن بعضهم البعض. فاختلفت الأعراق والألوان والأجناس والألسن والحضارات والعلوم والمعارف والفلسفات والأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات، ونشأت مجتمعات كثيرة ومتعددة، لديها مشتركات عديدة مع غيرها من المجتمعات، ولديها اختلافات عديدة أيضاً مع تلك المجتمعات. فالمجتمع الآشوري القديم (مُتفِّقٌ/ مُختلفٌ) عن المجتمع الياباني الحديث، مثالاً لا حصراً، في كثير من النقاط. كذلك المجتمع الموريتاني الحديث (مُتفِّق/ مُختلفٌ) عن المجتمع المجتمع الصيني. وبرأيي أنَّ درجة (الاتفاق/ الاختلاف) بين مجتمعٍ وآخر تنطلق من تعريفات تلك المجتمعات لثُلاثية:

  • الإله. أو أيَّاً كانت تسميته وفقاً لمواضعات ثقافة ما أو حضارة ما.
  • الإنسان.
  • العالَم.

وتقاطعات تلك الثلاثية مع ثُلاثية:

  • الأشخاص.
  • الأفكار.
  • الأشياء.

أو المُحدِّدات المعرفية لعالَم المعقولات وتمثُّلات تلك المُحدِّدات في عالَم الماديات. أو المُنطلقات المعرفية في تعريف ثلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ على المستوى الذهني. ومآلات تلك التعريفات على: 1- الأشخاص. 2- الأفكار. 3- الأشياء؛ في الواقع العملي. أو بما هي، أعني تلك التعريفات للسداسية السابقة، جزء أساسي من المورثات البيولوجية والثقافية لمجتمع من المجتمعات.

وبرأيي –مرة أخرى- أنَّ جميع الأسئلة التي يسألها الرِّجال والنساء، من ماتوا ومن هم على قيد الحياة، الكبار والصغار، الأطفال والحكماء، الفلاسفة والعلماء، وجميع الأجوبة التي يقترحها الناس صغيرهم وكبيرهم، جاهلهم ومتعلمهم، تدور حول واحدة –يمكن أن تزيد وفقاً لاعتبارات شتَّى من أهمها الاشتغال المعرفي- من تلك السداسية، سواء أكانت على المستوى الذهني أم المستوى العملي. وبشيء من التفكُّر سنكتشف أنَّ أي فكرة حول أي شيء في الوجود، ستدور بلا شك حول واحدة من تلك السداسية، ما يجعل عناصر بمثابة المونادات أو الوحدات الصغيرة التي يقوم عليها معمار كل شيء في الوجود؛ كبر هذا الشيء أم صغر.

وعليه، فأسئلة الأطفال –موضوعنا في هذا المقام- تندرج بداية حول واحدة من ثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ أو ثُلاثية: 1- الأشخاص. 2- الأفكار. 3- الأشياء. وقد يكون ثمة سؤال من الأسئلة التي تطرح جامعاً لأكثر واحدة من هذه المبادئ. أي أنَّ طبيعة تلك الأسئلة أو ماهيتها تدور حول مبدأ من المبادئ التأسيسية التي يقوم عليها معمار الوجود الإنساني، لكنها طبيعة –أي طبيعة تلك الأسئلة- أو ماهيَّة ضبابية إلى حدٍّ ما، لسببين:

  • استنادها إلى خبرات غير واعية في النفس الإنسانية، فالطفل حامل –منذ لحظة ولادته- لصفات جينية: بيولوجية وثقافية، تجعله يندمج في مشتركات مع بقية الجنس البشري، فهو يجوع مثلهم ويعطش مثلهم ويُكافح للبقاء على قيد الحياة مثلهم. وعادة –بما أنه لا يملك وسائل أخرى، تحديداً في الفترات الأولى لولادته- ما يستخدم أداة البكاء لتنبيه أمه أو مُربيته أو مَنْ هم حوله إلى ضرورة إطعامه أو إشرابه أو تنظيفه أو معالجته…إلخ. لكن المُلاحَظ أنَّ مثل هذه الخبرات لا تجد لها تأطيراً واعياً، أي أنَّ الفرد لا يدخل في حالة تشذيب لخبراته اللاواعية إلا عبر تجربة الوعي، إذ يستفيد مع الزمن من خبرات الآخرين في هذا المجال، بما فيها المُحدِّدات التي يُحدِّدها المجتمع للتعامل مع تلك الخبرات في المجال العام.

ولأنها كذلك، أي بما أنها أسئلة الأطفال أسئلة غير واعية، فإنها:

  • تنبثق بطريقة فجائية، أي أنها غير زمانية، فهي تنبثق فجأة وتنطفئ فجأة، فبمجرد طرح سؤال يمكن للطفل أن ينتقل فوراً إلى شأن آخر من شؤون حياته. فمن جهة هو لا ينتظر إجابة بعينها على سؤاله، ومن جهة ثانية فإنه لا يعرف ما هي الضوابط الاجتماعية التي تُحدِّد له ما هي الصيغة الأمثل والأسلم التي تؤمِّن له الإطار النهائي لأسئلته التي يجب أن يسألها، وتلك التي يجب أن يغلق فمه –قبل ذلك عقله- عنها فلا يُعاود السؤال عنها.

وعليه، أيّ لأنها أسئلة: 1- غير واعية. 2- غير زمانية؛ فإنَّ المجتمعات البشرية تتعامل باستهجانٍ وحبورٍ ورضا وضحك مع أسئلة الأطفال تلك في المرة الأولى. لكن في حال تكرار أسئلة بعينها -تحديداً تلك التي تتجاوز مثاليات المجتمع واستقراره الهُويَّاتي وصيغه الأخيرة حول السداسية السابقة- تنبثق ساعتئذ الفروقات الثقافية بين المجتمعات، فتحدث حالة:

  • الدهشة من أسئلة الأطفال لدى البعض.
  • الحرج من تلك الأسئلة لدي البعض الآخر.

بلغةٍ أخرى، تنشأ أسئلة الأطفال وتتجلَّى في السياق الاجتماعي على مستوى الأسرة في المرة الأولى:

  • بطريقةٍ غير واعية، لناحية الاستجابة الأوتوماتيكية لتراكمات المُورثات البيولوجية والثقافية، التي تجسّدت فيه، عقب انتقالها جيلاً إثر جيل وصولاً إليه. أي أنها أسئلة غير واعية ولا تُعبِّرُ عن سياقٍ معرفي واعي وقصدي، ما يُبقيها في دائرة التشويش وعدم التنظيم.
  • بطريقة فجائية أو غير زمانية؛ تنطلق فجأة وتنطفئ فجأة، فهي لا تبحث عن إجابات بعينها أو حتَّى أي نوع من الإجابات. لكن آليات تعامل الأهل معها غاية في الأهمية لتوفير حاضنة الثقة بالنفس لديه، وعدم إيجاد كوابح تحدّ من قوة عقله وقدرته في التعبير عن أفكاره.

فالطفل يتدرج –من لحظة ولادته وصولًا إلى عُمر السنتين- وفقًا لتقسيمات جان بياجييه[2] Jean Biaget في تفاعله مع محيطه الخارجي، ابتداءً من نظرته الكُليّة للأشياء وصولًا إلى تشكيل بعض الصور الذهنية عن الواقع[3]

وحتى مراحل متقدمة من الطفولة، “تشير النظرية الشهيرة لـ (جان بياجييه، 1933م) حول التطور المعرفي إلى أن معظم الأطفال قبل عمر 11 أو 12 سنة غير قادرين على التفكير الفلسفي. وفي اعتقاده أن هذا يعود إلى أن الأطفال –قبل هذا العمر- لا يستطيعون التفكير حول التفكير وهو نوع أعلى من مستوى التفكير الذي يتصف به التفكير الفلسفي”[4]

“أما الفيلسوف (غاريث ماثيوز) فقد قطع شوطاً بعيداً في ذلك وناقش بإسهاب أن بياجيه عجز عن أن يرى التفكير الفلسفي الظاهر لدى كل طفل قام بدراسته”[5] ولتدعيم وجهة نظره قام بضرب أمثلة على بعض الأطفال من ذوي المواهب، مثل:

“جوردان البالغ من العمر خمس سنوات، عند ذهابه للنوم في الساعة الثامنة مساء سأل: إذا ذهبت إلى الفراش للنوم في الساعة الثامنة وصحوتُ في الساعة السابعة صباحاً، كيف أتأكد من أن العقرب الصغير قد دار مرة واحدة فقط؟ هل يتعين عليّ السهر طوال الليل لمراقبته؟ وإذا نظرت بعيداً حتى ولو لبرهة فلربما يدور العقرب الصغير مرتين”[6]

“تيم البالغ من العمر ست سنوات، بينما كان منهمكاً في لعق الإناء سأل: أبي، كيف يمكن أن نتأكد من أن كل شيء ليس حلماً؟”[7]

لكن بتدقيقٍ قليل سنرى أن نظرية “جان بياجيه” أكثر متانة من طرح “غاريث ماثيوز”. إذ تصلح، أي نظرية جان بياجيه، أن تكون قاعدة، في حين أنَّ وجهة نظر “غاريث ماثيوز” تصلح لأن تكون استثناء ولا يمكن تعميمها كقاعدة عامة لسببين:

  • على اعتبار أنَّ نظرية بياجيه تُعالج نموذجاً إنسانياً في عموميته، في حين أنَّ وجهة نظر ماثيوز تأخذ بعض العينات التي لا تصلح إلا على أناس بعينهم دون سواهم وفي مجتمعات بعينها دون سواها.
  • تنكُّر وجهة نظر “غاريث ماثيوز” للمخزون اللاواعي عند البشر، التي تتجلّى أبرز تجلياتها الواضحة في مرحلة الطفولة.

فأسئلة الأطفال، كما ترى هذه المقالة، شبيهة بردَّات فعلنا ساعة رؤيتنا لعقرب أو أفعى، أو رؤيتنا للطعام ساعة نجوع. أيّ أنَّ الطفل لا يبني معماراً معرفياً يستند فيه إلى خبراتٍ واعية تتدرج من مُقدِّمات بعينها تريد الوصول إلى نتائج من نوعٍ ما. فالطفل قد يسأل –وهذا يحدث كثيراً- سؤالاً على غاية من الأهمية حول طبيعة الإله أو طبيعة الشيطان…إلخ، لكن هذا السؤال قد يموت في اللحظة ذاتها، إذ لا يلبث أن ينساه أو يتغاضى عنه، أو ينتقل إلى شأن آخر غيره. بما يجعل الطفل في مرحلة ما قبل فلسفية، لكن فعل التفلسف كامن في أسئلته، وتجويد هذا الفعل رهن بأسرته وقدرتها على تبيئة هذا السؤال واحتضانه وتوطينه كجزءٍ من سيرورة الطفل الحياتية.

مع هذا الطرح –وهو بطبيعة الحال طرح غير نهائي لأنه لا ينطوي على أيِّ يقنينةٍ بقدر انطوائه على مقاربة معرفية- يبقى سؤال: لماذا يسأل الأطفال أسئلتهم؟ سؤالاً على غاية من الأهمية، لأنَّ عدم الإجابة عليه بطريقةٍ قاطعة ونهائية، جزء من مهمة التفلسف الإنساني. إذ يمكن للجدل حول سؤال (لماذا؟) أن يُوسِّع مدارك التفكير حول تلك الأسئلة، بما هو سؤال جدلي ابتداءً وعلى الأغلب تتأتَّ فائدته مع الزمن وليس لحظياً، لناحية خلق تراكمات معرفية ستفيد المجال العام أو ما يُطلق عليه عالِم الاجتماع رايت ميلز [8]C.Wright Mills بالخيال السوسيولوجي  The Sociological Imagination وكلما تعمَّق النقاش في المجال العام حول (لماذا) كُلمَّا توسَّعت مدارك ذلك الخيال، وأصبح أكثر قدرة على إبداع مزيد من الإجابات المُثمرة.

إذاً، بإزاء:

  • طبيعة أسئلة الأطفال.
  • كيف تنشأ هذه الأسئلة؟
  • لماذا تنشأ هذه الأسئلة؟

ثمة سؤال حول: ما هي مآلات تلك الأسئلة؟

هنا نعود إلى البداية ساعة أشرنا إلى أن النتيجة المبدئية لأسئلة الأطفال هي إما:

1- دهشة في بعض الأُسَر من قبل الآباء والأمهات. 2- حرجاً في بعض الأُسَر الآباء والأمهات أيضاً. وما يمكن أن تُفضي إليه هذه الدهشة أو الحرج من: 1- تنمية ورعاية واحتضاناً وتبيئة لتلك الأسئلة. أو 2- نبذاً لها وتدميرها ومعاقبة أصحابها حتَّى لا يعود إليها مرة ثانية.

لكن السؤال الأسبق لسؤال المآلات هو سؤال: كيف تنشأ الدهشة أو الحرج لدى الأهل أصلاً؟

أشرتُ سابقاً إلى أنَّ جميع الأسئلة التي تُطرح من قبل أيّ أحدٍّ في هذا العالَم بمن فيهم الأطفال، تدور حول ثُلاثية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم؛ وتعالقاتها مع ثُلاثية: 1- الأشخاص. 2- الأفكار. 3- الأشياء. لذا فإنَّ الدَّهشة أو الحرج يتأتَّى من وضع واحدةٍ من مفاهيم تلك السداسية موضع تساؤل. ففي المجتمعات الأولى؛ المجتمعات التي طورت مرجعياتها الفكرية حول تلك السُّداسية السابقة، بما أبقى على النقاشات والمراجعات الفكرية والبحثية لتلك السداسية قائماً ومفتوحاً، ستُنمِّي تلك الأسئلة وتحوِّل شغفها غير الواعي وغير الزماني إلى فعل واعٍ ومُتدرج في انبثاقته للعالَم، بحيث يتحوَّل الطفل إلى مُتفلسفٍ صغير. فالطفل في هذه اللحظة، في اللحظة التي يسأل فيها سؤالاً ويجد له صدى إيجابياً لدى مُحيطه الأسري؛ فإنه يتجاوز ولادته البيولوجية ومورثاته الثقافية، ويبدأ رحلة التحقُّق في ولادته الواعية في الزَّمن. وفي المجتمعات الثانية، المجتمعات التي راقبت مرجعياتها الفكرية حول تلك السداسية وأقامت حول مفاهيمها القديمة أسواراً نفسية وقانونية قاسية ومؤذية لكي لا بقترب منها أيّ أحد، ستُدمِّر أسئلة الأطفال وتحوِّل إمكانها المعرفي إلى نوعٍ من العار الاجتماعي، يُسْعَى للتكفير عنه لزمنٍ طويل. فالطفل في هذه اللحظة، في اللحظة التي يسأل فيها سؤالاً ويجد أنَّ محيطه الأسري قد أنبَّه وزجره وحذَّره وعاقبه؛ سيتحطَّم مشروع الإنسان المُتفلسف في داخله، وسيبقى ضمن دائرة الناس كما تُفرزهم هكذا مجتمعات مُغلقة ومؤذية؛ أناس بسماتٍ عقلية مُتشابهة إلى درجة انعدام أي إبداع.

بمعنى آخر، إنَّ المجتمعات التي خاضت –تخوص وستخوض ضمن فعل دائم ومستمر- نقاشات طويلة وعلى مستويات مختلفة حول السداسية السابقة، وتراكمت لديها خبرات هائلة ومُتحركة حول تلك المفاهيم الأصلية، لن تجد حرجاً أو إثماً ولن يُسبِّب لها ذك أي جُرح في هُويتها؛ فالمجال العام لا يجد في تلك الأسئلة أي تهديد لمنظومته أو لثوابتها التي تسند تلك المجتمعات، فهي ثوابت مُتحرِّكة بالأحرى. لذا فإنه يُشجِّع تلك الأسئلة ويُنمِّي سياقاتها المختلفة، بحيث تتعاظم قوتها المعرفية على المستويين الفردي والجمعي. فالطفل إذ يسأل على المستوى الفردي ويجد قبولاً وترحيباً لسؤاله في المجال الذي تتحرَّك فيه ذاته المُتسائلة، فذلك دافع قوي له لكي يستمر في طرح أسئلته، ونقلها -بمزيدٍ من الدربة والتجريب- من حالة اللاوعي واللازمانية إلى حالتي الوعي والزمانية. والمجتمع الذي يتقبَّل سؤال الطفل بشكلٍ جماعي، بحيث يتفاعل معه ويندهش به، فإنه يُقوِّي –هو الآخر- مجاله العام، ويُحوّله إلى حاضنة تستعصي على الفناء والخراب، نظراً لحجم الإبداع الكبير الذي يرفدها بما هو جديد ومُبهر على الدوام.

أما المجتمعات التي ختمت نقاشاتها مرة واحدة وإلى الأبد حول السُّداسية السابقة، وختنت عقول أبنائها بالمعيَّة، فتشابهت عقول عُلمائها وأطفالها، تلامذتها وأساتذتها، صغارها وكبارها، رجالها ونساءها، حول مفاهيمية تلك السداسية، ستجد في أيّ سؤال تهديداً لوجودها وزعزعة لثوابتها الوجودية. فالمجال العام ليس لديه تجربة في التعدُّد الفكري، لذا سيرى في الأسئلة –حتى تلك التي يسألها الأطفال- شيئاً غريباً يُشبه الجراثيم ينبغي مكافحته واجتثاث أسبابه. فالطفل إذ يسأل على المستوى الفردي ويجد رفضاً وتأنيباً له على سؤاله من محيطه الذي يتواجد فيه، فذلك دافع قوي لإحباطه وبلع لسانه وقتل مشروع الفيلسوف داخله. والمجتمع الذي يرفض سؤال الطفل بشكل جماعي، بحيث يُحرج منه وينجرح شعوره، فإنه يُضعف مجاله العام، ويُحوَّله إلى منطقة طرد كبير لأيِّ إمكان إبداعي.

وفي العموم فإنَّ المجتمع العربي –إلى حدٍّ كبير- خَتَمَ نقاشاته حول سُداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء؛ وخَتَنَ مع تلك الختمة عقول أبنائه، إذ بُترت مناطق الشهوة المعرفية في عقلولهم فأصيبت بـ عِنَة حضارية. وقد حُفَّ الاقتراب من هذه السُّداسية أو –بعض عناصرها- بمخاطر كبيرة وعقوبات جسيمة، دعت الغالبية العظمى إلى الإحجام عن الاقتراب من تلك السُّداسية ومفاهيمها الثابتة والقارة في الاجتماع السياسي. ومع هذا الإحجام الذي تراكمت مُحرماته عبر التاريخ، صار المجتمع ذاته عصياً على التغيير، إذ تأبَّدَ في زمنٍ تجاوزه العالَم منذ زمن طويل. وأصبح تداول (بحثاً/ نقداً/ تشذيباً/ تجديداً/ تأويلاً/ رفضاً) أي مفهوم من مفاهيم السُّداسية السابقة، أمراً محفوفاً بمخاطر جمَّة قد تُفضي إلى الإطاحة برأس صاحبها، إنْ لم يكن مادياً فمعنوياً. وهذا يحدث مع الأطفال أيضاً، وإنْ كان عقابهم محصوراً في أُسرِهم ابتداء، فالمجال العام مُغْلَق ومُحاصَر بشكلٍ شبه تام أمام أي سؤال، حتى ولو كان صادراً عن طفل صغير في أُسْرَةٍ صغيرة. فالأُسَر مُتشابهة في هكذا مجتمعات، فهي مرآة صغرى لمجتمع كبير، والمجتمع برمته انعكاس لتلك الأُسَر الصغيرة، ما يُفضي إلى قتل مبدئي لأي إبداع.

لكن الحرج، وما يتبع هذا الحرج من زجر ونهي وتأنيب وضرب وعقاب، من أسئلة الأطفال –ولاحقاً من بقية الأسئلة أيّاً كان مصدرها- ليس قَدَراً يَسِم المجتمعات البشرية، ومنها المجتمع العربي، بميسمه إلى أبد الآبدين، بل هو محض نهج تربوي يمكن تجاوزه بالدربة والتمرين على احترام العقل في مواضعاته المختلفة، سواء أكانت هذه المواضعات على هيئة سؤال شائق من طفل أو لوحة جريئة من فنان أو كتاب صادم من فيلسوف أو رواية مُبدعة من راوٍ أو قصيدة من شاعر أو أغنية من مطربة أو رقصة من راقص أو طبخة من صبية… إلخ؛ فالكُلّ شركاء في صياغة المنظومة الإبداعية وتفعيل محتوياتها في الاجتماع السياسي. لكن البداية، ينبغي التأسيس لها منذ الخطوة الأولى، أعني من الطفل بما هو بداية رحلة التفلسف الإنساني، ومن أسرته –كخطٍ موازٍ- بما هي الحاضنة الأولى لبلورة أسئلة الطفل حول سداسية: 1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم. 4- الأفكار. 5- الأشخاص. 6- الأشياء. لتهيئة المجال العام من بداياته، بما يسمح له بالتمدُّد والانطلاق انطلاقات مُبدعة تشمل الكل، ساعة تتوسّع الأنوية التأسيسية الأولى: أعني نواة الطفل ونواة الأسرة، وتصل إلى المدرسة كحاضنةٍ ثانية، والمجتمع كحاضنةٍ ثالثة، وترشيد تلك الحواضن ترشيداً قانونياً باسم الحاضنة الرَّابعة؛ أعني حاضنة القرار السياسي.

إذاً، كخاتمةٍ لهذه المقالة الافتتاحية، لا يمكن للطفل أن يكون فيلسوفاً، ولا ينبغي له أن يكون كذلك. لكن الأسئلة التي يطرحها، إذا ما تمَّ الاحتفاء بها، تضعه على بداية طريق التفلسف، الذي سيتعمَّق فيه أكثر كُلمَّا ازداد وعيه المعرفي في هذا العالَم. وإذا كانت الفرصة مواتية للطفل الذي ينطوي على إمكان فلسفي، أنْ يُبلور شخصيته الاعتبارية على مستوى الأسرة كخطوةٍ أولى؛ فإننا سنشهد بلورة أعمق وأنضج وأكثر وعياً لشخصيته الاعتبارية في المدرسة كحاضنة ثانية من حواضن مشروع التفلسف، والمجتمع كحاضنة ثالثة، وهذا ما سنبسط له في الجزء الثاني من مقالات هذه المنظومة تحت عنوان (الإنسان المتفلسف).

المراجع:

[1]  سأركّز، عبر التكرار، على موضوعي: الدَّهشة والحرج، على اعتبار الأهمية القصوى لهذه المرحلة من مراحل عمر الإنسان على المستوى المعرفي، فإذا بُنيت اللبنات الأساسية في فترة الطفولة، يمكن الحديث وقتها عن إقامة معمار إبداعي كبير، يُساهم مساهمة فاعلة في تقدُّم الحضارة الإنسانية.

[2]  جان بياجيه Jean Biaget عالم نفس اهتم بموضوعة بعلم المعرفة الوراثية. من كتبه التي تُرجمت للعربية: (سيكولوجيا الذكاء) و(الابستمولوجيا التكوينية)…إلخ. وفي كتاب (التطور المعرفي عند جان بياجيه) لـ موريس شربل، دراسة وافية عن مشروعه الفكري.

[3]  موريس شربل، التطور المعرفي عند جان بياجيه، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1986، ص ص 113- 120.

[4]  مايكل بريتشارد، فلسفة للأطفال، موسوعة ستانفورد للفلسفة، ترجمة سميرة أحمد بادغيش. يمكن الرجوع للمقالة على الرَّابط التالي:

https://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A/

[5]  المرجع السابق، موقع حكمة.

[6]  المرجع السابق، موقع حكمة.

[7]  المرجع السابق، موقع حكمة.

[8]  رايت ميلز Wright Mills عالم اجتماع أمريكي ولد في العام 1916 بولاية تكساس، وتوفي في نيويورك سنة 1962. من كتبه المُترجمة والمفيدة للغة العربية كتاب (الخيال السوسيولوجي).

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete