من الإسلاموفوبيا إلى الغربوفوبيا

تكوين

العلاقة بين الشرق والغرب كانت دوما مقترنة بالحروب والصراعات أو الحذر والتوجس في أحسن الأحوال، علاقة تعبر عن إرث ثقيل تراكم عبر التاريخ، مما أدى إلى نوع من الفوبيات المتبادلة، الناتجة عن تلك الصور النمطية المكرسة من قبل كل طرف عن الطرف الآخر، والتي انتهت إلى تجافي وصراع دائم، بالرغم من المبادرات التي تم إطلاقها منذ سنوات من قبل بعض المفكرين والهيئات السياسية، والداعية إلى نوع من الحوار أو التواصل بين الثقافات والحضارات والأديان، على غرار دعوة روجيه غارودي إلى حوار الحضارات، أو دعوات ندوة تحالف الحضارات التي قادتها مجموعة من الشخصيات البارزة على المستوى العالمي كالرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، والرئيس الإسباني الأسبق خوسيه لويس ثاباتيرو والعلامة يوسف القرضاوي رحمه الله وأمير دولة قطر الأسبق وغيرهم، غير أن هذه الدعوات لم تؤت أكلها ولم تستطع حتى بلوغ أبسط أهدافها من إقامة حوار أو تواصل يزحزح الصور النمطية القائمة عند كلا المجالين الحضاريين. فقد انتهت صورة الغرب عن الشرق وعن الإسلام خصوصا إلى ظهور مصطلح الإسلاموفوبيا، أو الخواف من الإسلام باعتباره خطرا يحدق بالبشرية، وفي مقابل ذلك شكل الشرق أيضا صورة عن الغرب أنتجت هي الأخرى ما يمكن تسميته بالغربوفوبيا.

إن انبثاق مصطلح الإسلاموفوبيا أو خواف الغرب من الإسلام والمسلمين هو نتيجة متوقعة بالنظر إلى تاريخ العلاقات بين المجالين الإسلامي والغربي، هذه العلاقات التي اتسمت دوما بالاضطراب، الصراع، الخوف والحذر في تعامل كل طرف مع الطرف الآخر، فمنذ ظهور الإسلام نظر إليه غير المسلمين على أنه يمثل خطرا لابد من محاربته، ومن ثم كانت العلاقة بين الإسلام والغرب تحتكم دوما إلى منطق القوة والسلاح وإرادة الهيمنة: الفتوحات الإسلامية، الحروب الصليبية، الاستعمار الحديث..الخ، وقد نتج عن هذا النوع من العلاقة ترسيخ صور نمطية سلبية في مخيال كل طرف عن الطرف الآخر، وهي صور تصعب زحزحتها بفعل التقادم والتراكم والترسب من جهة، وبفعل بعض الأطراف التي تعمل على تغذيتها وتفعيلها باستمرار لتحقيق مصالحها المادية والسلطوية.

أحداث 11 سبتمبر

ورغم حداثة مصطلح الإسلاموفبيا إلا أنه من الخطأ ربطه بوقائع راهنة على شاكلة أحداث 11 سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية أو أحداث إرهابية عرفتها العديد من العواصم الأوروبية(باريس، لندن، مدريد..الخ) فظاهرة الخواف موجودة منذ ظهور الإسلام إلى الآن ولم تأفل أبدا، المتغير في الموضوع أنه يتم استدعاؤها وتوظيفها في كل مناسبة بمسميات جديدة ولأغراض جديدة، ومن ثم فهي ظاهرة تاريخية تحتاج إلى مقاربة عميقة، ومع ذلك يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات العامة المتعلقة بهذه الظاهرة، أولها: أنها ظاهرة معقدة تتشابك فيها حقول كثيرة، حيث يتبناها ويتحدث عنها السياسي لينقلها إلى الاجتماعي والنفسي عبر الإعلامي، متكئا على الديني ليستفيد منها الاقتصادي في نهاية المطاف، ثانيا: تستند هذه الظاهرة على ما يمكن وصفه بالرؤية التكتيلية الستاتيكية للإسلام والمسلمين؛ بمعنى النظر للمسلمين ككتلة واحدة ثابتة جامدة خارج التاريخ وغير قابلة للتغير والتطور، ومع أن النسبية والتاريخية من الأوتاد التي يتكئ عليها الفكر الغربي الحديث والمعاصر بصورة خاصة، إلا أنه يتخلى عنها بكل “مكر” و”خبث” حينما يتعلق الأمر بالحديث عن الإسلام والمسلمين، وهنا لابد من الإشادة بتلك الأصوات الموضوعية في كثير من المجتمعات الغربية غير المعنية بهذا الانحراف الإيديولوجي الخطير، مع أن هذه الأصوات تظل في كثير من الأحيان تعاني نوعا من التهميش خاصة على المستوى الإعلامي والسياسي، ولا يلتفت إليها كثيرا في صناعة القرار السياسي الغربي، ثالثا: من خلال ما وصفناه بالتكتيل يتم القفز على معطى مهم جدا وهو عدم التمييز بين الإسلام وبعض الناطقين باسمه من المسلمين، ومن ثم يتم وصف الإسلام ككل بالإرهاب والعنف والتعصب والتطرف..الخ، فيتحول إلى عدو دائم يجب الحذر منه، بل واستباق محاربته والتضييق عليه وعلى أتباعه اتقاء شرهم القادم لا محالة. رابعا: لا يمكن فصل الكثير من المنظمات المحسوبة على الطرف الإسلامي -والتي يتم توظيفها لتدعيم أطروحة الخطر الإسلامي- عن استراتيجيات الهيمنة التي تتبناها أطراف غربية، سواء تعلق الأمر بإنشائها أو تمويلها أو توجيه نشاطاتها، أو استفزازها ثم استغلال ردود أفعالها لتبرير تدخلها المباشر في كثير من المناطق والذي يكون ظاهره شعارات رنانة كنشر الديمقراطية وحماية حقوق الأقليات وباطنه استغلال الثروات وبسط النفوذ والهيمنة وتحقيق الأرباح.

إذا ما تحولنا إلى الجهة الإسلامية، فيمكن الإشارة أيضا إلى بعض الملاحظات التي نعتقد أنها تفضح إسهام بعض الأطراف الإسلامية في تدعيم واستمرار فوبيا الإسلام في الغرب، أولا: لنعترف أن هناك إسلاموفوبيا داخل العالم الإسلامي نفسه، ومن ثم فهذه الأخيرة ليست موقفا للغرب من الإسلام فقط، بل هي موقف لبعض المسلمين أيضا؛ إذ أن هناك خوافا كبيرا لدى بعض الأنظمة الحاكمة والنخب السياسية من الأحزاب الإسلامية والوقائع تؤكد ذلك، ومن ثم فالصورة السلبية التي رسمها الغرب عن الإسلام تعضدها صورة بعض المسلمين عن بعضهم، فقد كفروا بعضهم بعضا، واقتتلوا فيما بينهم وتبادلوا أوصاف الإرهاب والتعصب والتطرف وغير ذلك من مكونات الصورة السلبية المنتشرة لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين. ثانيا: من غير المعقول أن نطالب الغرب بتبني صورة مشرقة عن الإسلام ما لم نقدم تفاصيل تلك الصورة المشرقة ونجعله يراها في خطاباتنا وسلوكاتنا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمطابقة ما في أذهاننا عن الإسلام لما في أعيانهم عن المسلمين، حتى يروا في الإسلام دين تسامح وانفتاح وقبول للآخر المختلف، غير أن واقعنا يؤكد عكس ذلك، فخطاباتنا في واد وأفعالنا في واد آخر مواز له، نحن نتبنى وندافع عن الإسلام بأقوالنا وتأبى أفعالنا ترجمة ذلك في الواقع، وطالما أننا نعيش تمزقا وتناحرا وتخلفا وفسادا في أوطاننا، بل ونصدر تلك الآفات عبر جالياتنا في الغرب، فلا يحق لنا أن نطلب من الآخر إنصافا وإحسانا وتسامحا لا حقا ولا استعطافا.

من الملاحظات السابقة يتأكد لدينا أن مقولة الإسلاموفوبيا وإن كانت هناك بعض الأفعال التي تبررها إلا أنها تبقى تعميما غير دقيق ولا يعبر عن حقيقة الإسلام والمسلمين بصورة عامة، لأنه يجب التمييز بين الإسلام كدين، وممارسات المسلمين الخاضعة للتاريخية والنسبية، والمتباينة بتباين الأطر السياسية والاقتصادية التي يعيشون ضمنها، كما أن هذا التصور يقوم على تقييم الأعمال –وهي في الغالب فردية معزولة- دون فحص الأسباب التي تقبع خلف تلك الأعمال، إذ لا يلتفت لتلك الظروف القاسية التي يعيشها بعض المسلمين والسبب الرئيس فيها هو الغرب الإمبريالي الرأسمالي الذي لا يهمه زيادة الأرباح والنفوذ؛ فكيف نمارس العنصرية والاضطهاد على جماعة معينة ونسلبها خيراتها ثم نطالبها بأن تكون متسامحة ولا تقوم بأي رد فعل؟؟ أتذكر هنا قصة حدثت في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حين عاد أحد الجنود الفرنسيين لبلدته بعد أن أمضى سنتين خدمة عسكرية بالجزائر، وفي جلسة مع أصدقائه سأله أحدهم :” كيف وجدت الجزائريين؟”، فأجابه قائلا: “الجزائريون همجيون، متوحشون، مستعدون لأكل لحوم البشر!! تخيلوا أني حينما كنت أهم بذبح أحدهم كان يحاول أكل يدي”. هناك معطى مهم أيضا في دحض هذه “الإسلاموفوبيا” وهو أن ملايين المهاجرين المسلمين يعملون في الدول الغربية في مختلف الوظائف، وهم مواطنين عاديين جدا، متعايشين مع الآخرين، محترمين للقوانين قائمين بواجباتهم على أكمل وجه، فلماذا يركز الخطاب الإعلامي وبعض رجال السياسة على أعمال العنف القليلة والمعزولة، ويغفل عن هذه الملايين المتعايشة بصورة عادية جدا مع الآخر؟ وفي المقابل يجتهد هذا الخطاب في إيجاد الكثير من المبررات حينما يتعلق الأمر بأعمال عنف يقوم بها غير المسلمين، وهي كثيرة جدا خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية.

إن استمرار دعم هذا الخواف خصوصا عبر وسائل الإعلام لن يكرس إلا المزيد من التمييز والعنصرية وبالتالي زيادة كراهية المسلمين للغرب وتوجيهها نحو ما سميناه بالغربوفوبيا المقابلة للإسلاموفوبيا، وهذه المقابلة ستزيد الشروخ وتغذي الصراع الذي لا يخدم أي طرف في المستقبل، وتفاديا لذلك، من ثم من الضروري التساؤل حول مآلات الوضع في المستقبل، وهو ما انتبه إليه الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي(1922-1993) في بداية سبعينيات القرن الماضي حين أكد أن “عالم الغد سيتحقق بتعاون الجميع ومن أجل الجميل، أو لا يتحقق إطلاقا”، ولكن، “هل توجد، اليوم، فلسفة قادرة على تهيئتنا لعالم الغد؟ (الحبابي: عالم الغد..ص21). وعليه فإن الرهان الحقيقي الذي يفترض أن تلتف كل الجهود حول تحقيقه هو البحث عن السبل الكفيلة بتجاوز الفوبيات المتبادلة والبحث عن مستقبل يتعايش فيه الجميع بكل أمن، وهذا لن يكون إلا بإعادة رسم كل طرف لصورته عن الآخر بكل موضوعية وبعيدا عن الأغراض السياسية أو الإيديولوجيات الضيقة، والمسؤولية الكبرى تقع على الغرب لأنه المسؤول عن تعقيد الوضعية وتأزيمها، ممن خلال تمركزه حول ذاته، ونرجسيته المفرطة التي عبر عنها محمد عزيز الحبابي قائلا: “إن الغرب النرجسي يكتشف نفسه جميلا جدا، أجمل من الواقع، لأنه لا ينظر إلا في مرآته الخاصة، تلك التي صنعها بنفسه” (عالم الغد..ص 18)، ويضيف في موضع آخر مبينا خطر هذا التمركز على الغربي على ذاته قائلا: ” لعل أكبر شيء يحول دون إيجاد الحلول المناسبة هو ارتكاب الغرب نفسه خطيئة التمركز على الذات، ذلك هو ضرره الجذري، وما دام الغربيون لم يعوا ذلك، ولم يعالجوا أنفسهم بنقد ذاتي جذري، فلا أمل يرجى لا لإنسانية اليوم ولا لإنسانية الغد”(عالم الغد، ص 22)، بعد النقد الذاتي، يجب على الغرب أن ينفتح على التجارب والتراثات الإنسانية الأخرى، وينظر إليها بعين التقدير والاحترام والاعتراف بالحق في الوجود المختلف، حتى لا يجد نفسه مستقبلا في مواجهة الغربوفوبيا.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete