تكوين
-1-
يقولُ عبد السلام بنعبد العالي بمناسبة تكريم سالم يفوت (رحمه الله) ما يلي؛ “…نقطة التقاءٍ، إذن، كانت تجمع بيْننا، الأستاذ يفوت وأنا، هي هُروبنا معاً إلى مجال الفلسفة الأوربية. هو بعدَ أنْ جرَّبها في البحث في الدبلوم [دبلوم الدراسات العليا المعمقة] وأنا بعد أنْ خبرت الصعوبات التي يطرحها مجال الفلسفة الإسلامية. أعودُ بكم إلى هذا الماضي ليس فحسب بقصد التذكير بالصعوبات التي كانت تواجه الأستاذ والطالب بحثاً وإشرافاً، وإنما أساساً بهدف إعطاءِ التكريم معنىً فلسفياً وإثارة قضية هامَّة من القضايا التي تشغلُنا، وأعني تلكَ الازدواجية التي أشرتُ إليها (..) تكلَّمتُ عن ازدواجية، وربما هي أكثر من ذلك، إنه الانفصام الذي يطبع أبحاثنا، والذي يجعلنا في دراساتنا في مجال ما عهدنا تسميته بالدراسات الإسلامية نتحوَّل في الأغلب الأعم إلى مجرَّد مؤرخين نسرُد الحكايات، ونستعرض الآراء، ونحصي الفِرق. وحتى إنْ آثرنا ما يُمكن أن يُعدَّ من قبيل إعمال الفكر، فغالباً ما يكونُ ذلك مقارنة بمفكر غربيٍّ عسى أنْ نجدَ في تراثنا ما يُمكن اعتبارُه سبقاً في هذا المجال أو ذاك. عقليةٌ أخرى نتقمَّصها إنْ نحنُ حاولنا البحث في مجال ما عهدنا تسميته فلسفةً أوربية. هنا تتحوَّل أساليبُ البحث وتتغير مناهج الدرس والتدريس. فنشعر أن علينا مقارعة أفكار ومقارنة مواقف. هنا يعمل الفكر عمله، أو على الأقل يحاول ذلك ما أمكنه، فيجهد نفسه لتوليد الأسئلة وعقد المقارنات“[1].
لا تكمن أهمية هذا القول في إشارته إلى “لحظة” تحوُّل في مسار صاحبها كباحث في الفلسفة، وإنما في ما يكشف عنه من حالة انفصامٍ ظلَّت تجثم بطيفها على مجال البحث الأكاديمي في الفلسفة داخل ربوع الجامعة المغربية. يتعلق الأمر بازدواجية فرضها الانشطار بيْن قُطبَين يتجاذبان اهتمام الفكر الفلسفي العربي؛ التراث الفكري الإسلامي والفلسفة الغربية الأوربية. يمثل مسارُ بنعبد العالي وسالم يفوت علامة فارقة على سطوة هذه الازدواجية؛ ففيما انتقل يفوت من الفكر الغربي إلى التراث الإسلامي، وفيما كان عليه أن يرجع بعد ذلك إلى مدارات الفكر الغربي، كانَ على بنعبد العالي أن يسلك الطريق المعاكس؛ أن ينتقل من دراسة الفلسفة السياسية عند الفارابي إلى دراسة أسس الفكر الفلسفي المعاصر وإشكالية مجاوزة الميتافيزيقا، وما تناسل من اهتمامه ذاك من تفكير في التراث الفلسفي الغربي وطرق محاورته.
يقرّ بنعبد العالي بأنَّ بيْنَ الفكر الإسلامي والفلسفة الغربية فارقٌ كبيرٌ على مستوى الرؤية والمنهج، مردُّه إلى الثورات المعرفية التي نضج الفكر الغربي الحديث في تربتها، والتي لم تكُنْ تدخل في الأفق الذهني للفكر الإسلامي ومدارات اشتغاله، لتكونَ النتيجةُ شعورَ الباحث في الدراسات التراثية بأنَّ كلَّ ما يقومُ به هو “سردُ الحكايات“و”استعراض الآراء” و”إحصاء الفِرق“، بل وتغشاهُ حسرةٌ كلما علمَ أنَّ أقصى ما يُمكن أن يتشوَّف إليه في هذا المجال هو عقدُ مقارنةٌ بين الفكر الغربي وتراثنا، أملاً في أن نعثر عند مفكر من مفكرينا عن سبق تاريخي إلى هذه الفكرة أو تلك. هنا يستوي التراثُ الإسلامي مع غيره من التقاليد الفكرية، ويسري عليه ما يسري على إشكالية التراث التي تبقى إشكالية ألمانية في نظر بنعبد العالي[2]، تنبعث كلما تعلّق الأمر بالتفكير في الهوية ومجابهة الآخر المغاير[3].
يقول بنعبد العالي في هذا السياق؛
“لا عجب إذن أن يدأب التقليد على وصل الأصول بالفروع، والبحث عن التأثيرات والاملاءات والتناغمات والتشابهات، والتنقيب عن أسباب السكون والرتابة، والدوام والثبات؛ ثبات الحقائق ورسوخ المعارف وركود المؤسسات”[4].
واضح أنَّ مُشكلة التراث لا تكمن فيه من حيث هو “موضوعٌ” للدراسة، وإنما في المنظور التأويلي الذي يفرِضُه على الباحث الذي يتحرَّك في دوائره؛ وهو “المنظور الاتصالي” لتاريخ الأفكار الذي يقوم، بدوره، على مفهوم مبسط ومتناغمٍ عن الهوية، أقامت فتوحات الفلسفة المعاصرة الدليل على سكونيته وأظهرت مقدار الحاجة إلى نقده ومجاوزته. وهذا ما يفسِّر مقاومة التقليد لمنطق الاختلاف والانفصال؛ فـ “لطالما أبدى التقليد الفكري- يقول بنعبد العالي- نفوره من مفهومات العتبة والقطيعة والفراغ والتحول كي ينشغل بتكريس الفعالية التركيبية للذات، والحفاظ على مفهوم مبسط متناغم عن الهوية، والإبقاء على الأنا كدوام ووحدة، وعلى التراث كتقليد واسترسال، وعلى التاريخ كامتداد وذاكرة. لذا ظلّ شغله الشاغل صون الاتصال والدوام؛ دوام الهوية وخلودها، دوامُ الثوابت التي نركن إليها، واللغة التي نتكلمها، والعادات التي نألفها، والحقائق التي نعتنقها، والعبارات التي نلوكها، والآراء التي نتداولها. ظلّ الاتصال مستقراً للذات تخلد عن طريقه إلى الهدنة واليقين والتصالح والاسترخاء الفكري“[5]. خلف المنظور الاتصالي للفكر وتاريخه يثوي موقفٌ تقليدي من الذات والهوية والزمن ينتظم التراث، ويفرض نفسه على الباحث في مداراته. غير أنّ الوعي بمفعول هذا الموقف التقليدي لا يتحصَّل إلاَّ إنْ تسلَّح الباحثُ بمكتسبات المعرفة الحديثة وتشبع بمنظورها النقدي الانفصالي[6].
هي إذن صورةٌ تَكادُ أنْ تكونَ حالكةً تلك التي يرسُمها بنعيد العالي عن مجال البحث في الفكر الإسلامي وهو يرجع بذاكرته إلى لحظة انعطافه صوب مجال الفلسفة الغربية، بل وتزداد الصورة تلكَ قتامةً عندما يُقارن بين المجاليْن، فيُسجّل ما يتيحه البحثُ في الفلسفة الغربية من إمكانيات منهجية تسعفُه بإعمال الفكر وتوليد الأسئلة. وحتى إن نحنُ تحوَّلنا فيه إلى مؤرخين للفكر، فلن يكون ذلك، كما هو الشأن في مجال التراث الإسلامي،
“وفقَ منهج كرونولوجي يُقسّم التاريخ إلى أدوار متعاقبة، وعهود متلاحقة، يتوحّد فيها التاريخ السياسي مع التاريخ الأدبي وتاريخ الأفكار. وإنما نحاولُ تاريخاً صقلته الأبحاث الإبستيمولوجية، ومحصته الدراسات التاريخية”.
إننا أمام تأريخ يتسِم بالبحث عن القطائع والفواصل؛ تاريخ انفصالي مهووس بالكشف عن التباينات والاختلافات، لا ينفكّ يتبرَّم من منطِق الوحدة والتشابه، ويعي بالتمايزَ القائمَ بين المجالات المعرفية وسياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية. في مُقابل ذلك، فإنَّ “تأريخَنا لتراثِنا الفكري- يقولُ بعبد العالي- غالباً ما يطبعُه الوصل، بل الرغبة الدؤوبة في إعادة ربط الصلة والبحث في الماضي عمَّا يشكل جذور الحاضر وأصول الأفكار” فهو تأريخ يخلو من الأسئلة القلقة التي رافقت الثورة المتعلقة بالمناهج التاريخية في مجال دراسة العلوم على حد تعبير سالم يفوت (نحن والعلم، ص. 18).
يتعلَّق الأمرُ، إذن، بـ”مُنعطفٍ” حقيقيٍ في مسار بنعبد العالي، فضَّل وصفه بعبارة “الهروب“؛ هروبٌ من التراث الإسلامي إلى الفلسفة الغربية؛ من مجالٍ يقومُ على منظورٍ اتصالي لتاريخ الأفكار، إلى آخرَ يؤمن بالمنظور الانفصالي المحكوم بالقطائع والتباينات والاختلافات؛ من أفق بحثي غير قادرٍ على فهم ذاته بما يملكه من منهج ومنظور تقليدي، إلى آخر كانَ نتيجةَ ثوراتٍ معرفية ومنهجية قلبت رؤية الإنسان إلى العالم والمعنى. لذلك يشعرُ القارئ في متْن الرجل أنَّ عمله عن الفارابي، الذي ينتمي إلى مرحلة مبكرة من مساره الفكري، ظلَّ نصاً “مُهمَّشاً”، لاسيما بعدَ أنْ استطاعَ صاحبهُ فرضَ اسمه كواحدٍ من أهم ممثلي الفكر الحديث والمعاصر في السياق العربي.
بيْد أنَّ الباحثين في مجال الفلسفة السياسية الإسلامية يدركون أنَّ عمل بنعبد العالي عن الفارابي ظلَّ، منذ تأليفه إلى اليوم، مرجعاً لا غنى عنه بالنسبة إلى كلّ الذين خاضوا مجازفة البحث في هذا الموضوع، كما أُعيدَ طَبْعُه أكثرَ من مرَّة، وقُرِءَ على نحو واسع من طرف المتخصصين في هذا المجال. كلّ ذلكَ يشي بمكانته التي لا تقلُّ أهميةً عن تلك التي شغلتها أعمالُه المُنجزة في مجال الفلسفة المعاصرة. كتبَ بنعبد العالي نصاً اعتَبَرَ أنه ينتمي إلى تقليدٍ بحثي لا يستجيبُ لتطلعات الباحث المعاصر وطموحه، ومضى يقارع نصوص الفلسفة الغربية بحثاً وترجمةً، غيرَ أنَّ نصَّه ذاك بقي يشتغل في مجاله، بقدر كبيرٍ من الصمت، يسترشدُ به الباحثون ويحاورونه في قراءتهم للفارابي ومتنه السياسي. هكذا ظلّ طيف الفارابي وفلسفته السياسية جزءاً لا ينفصل عن صورة بنعبد العالي في السياق الفلسفي العربي المعاصر، ولا يكفي حديثُه عن “هروبه” من هذا المجال صوب الفلسفة الغربية لنفي مفعول عَمله عن الفارابي وأهميته.
هل يتعلَّق الأمرُ بمفارقة تخصُّ حالةَ بنعبد العالي دون غيره؟ هل “الازدواجية” و”الانفصام” مسألةٌ مُرتبطةٌ بطبيعة المسار الذي سَلَكهُ الرجل وبعضٌ من مجايليه، أم أنها ناجمةٌ عن طبيعة الممارسة الفلسفية في المغرب والعالم العربي، المشروطة بهذا الانشطار الذهني بين التراث والفكر الغربي؟ هل كانَ بمُكنة باحث كبنعبد العالي أنْ يتمثَّل مهمة الفلسفة، ودورها، ومعيقاتها من دون أنْ يخبر مفارقات التراث الفلسفي وضيْق أُفقه التاريخي؟
ليسَ غرضي من طرح هذه الأسئلة وضعَ فرضياتٍ من شأنِها أن تُسَوِّغ “حديث” بنعبد العالي عن أفضلية البحث في الفلسفة الغربية قياساً إلى نظيرتها الإسلامية، ولا الدفاع عن أوْلوية البحث في الفلسفة الإسلامية، والتراث الذي تنتمي إليه بالتالي، بالنسبة إلينا نحنُ اليوم، وإنما التفكيرُ في أهمية كتابه عن الفارابي بعيداً عن الصورة التي رَسَمها هو نفسه عن البحث في مجال الفلسفة الإسلامية، ومن خلاله في شرط الازدواجية الحاكم للممارسة الفلسفية عندنا. إذ يبدو لي أنَّ وعي الرجل بالحاجة إلى تأريخٍ انفصاليّ للفكر الفلسفي هو الذي وجَّه دراسته للفارابي، وهذا ما يعني أنّ هذا الحسَّ النقدي، والوعي بالتمايز بين المفاهيم وسياقاتها التاريخية، كانَ حاضراً عنده قبْل أنْ يَشْرَع في التأليفِ في مجالِ الفِكْر الفلسفي الغربي، وقبل أن تتضحَ ملامحُ تشبعه برؤية انفصالية تنتهلُ من مرجعيات هذا الفكر؛ من حديث نيتشه عن الجينيالوجيا، وهايدغر عن المجاوزة، وفوكو عن الأركيولوجيا، ودلوز عن الاختلاف والتكرار، ودريدا عن التفكيكية؛ رؤيةٌ تمتدح الانفصال، وتنظُر إلى الفلسفة باعتبارها مقاومةً تسعى
“وراء إحداث الفجوات في ما يبدو متصلاً، وخلْق الفراغ في ما يبدو مُمتلئاً، وزرع الشكّ في ما يبدو بديهياً، وبعث التحديث في ما يعملُ تقليدياً، وتوليد البارادوكس في ما يعملُ دوكسا”[7].
لا مرية أنَّ هذا المنظور كانَ سليل الرجّات العنيفة التي عاشها الفكر الفلسفي الغربي المعاصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، والذي نشأ على هوامش نقد العقلانية الكلاسيكية على مختلف المستويات الفكرية[8]؛ ولا شكّ، كذلك، في أن إسقاط هذا المنظور الانفصالي على التراث الفلسفي الإسلامي، والبحث له عن أصول عند هذا الفيلسوف المسلم أو ذاك، قد يبدو مجازفة غير مضمونة النتائج، غير أن ذلك كله لا ينفي فائدة التفكير الجدي في أهميته ومدى حاجتنا إليه، خاصة في سياق فلسفي يعيش على إيقاع التمزق بين مرجعية تراثية وأخرى غربية حديثة، بما يفرضه ذلك من توجس من الخصوصية والكونية معاً، ومن اننزلاق صوب التفكير في التراث من داخل دوائره، لأنه يحملنا على التفكير في التراث بشكل مغاير لمنطق التراث نفسه.
على هذا النحو من النظر، سنسعى إلى البحث في قراءة بنعبد العالي للفارابي وفلسفته السياسية عن تجليات انفلات صاحبها من قبضة المنظور الاتصالي لتاريخ الفكر الفسلفي الإسلامي. ذلكَ أنَّ أنَّ “الرهانَ” الأبعد لكتاب الفلسفة السياسية عند الفارابي كانَ منهجياً بالدرجة الأولى؛ حيث ضخّ صاحبُه عناصر تصورٍ انفصالي لتاريخ الفكر في تضاعيف دراسة التراث الفلسفي الإسلامي، ممَّا مكَّنه من تجنب سطْوَة التراث. لم يعد هذا الأخير يتلخَّص، هنا، في “الثقافة العالمة”، “ولا تؤول مسألته إلى مجرَّد مسألة معرفية ترتدُّ إلى مجرَّد صعوبات منهجية تتمثل في كيفية استعادة الماضي ودراسة التاريخ وتأويل النصوص وتحقيقها“[9]، بقدر ما بات يرتبط “بثوابتنا الفلسفية؛ بمفهومنا عن اللغة وعن التاريخ والهوية بل وعن الكائن ذاته“[10]. هكذا تكون مقاربةُ بنعبد العالي للفارابي أدخل في باب تصوُّره لإشكالية التراث كما استلهمها من النقد المعاصر للتاريخ والزمن، الأمر الذي يشي بإمكانية الإفادة من مكتسبات نقد الميتافيزيقا، الذي يبقى المحور الرئيس للفلسفة المعاصرة[11]، في إعادة ترتيب فهمنا للتراث وعلاقتنا به. يقول بنعبد العالي؛
“لا ينبغي أن ننسى أننا إنْ كنا قد تعودنا الحديث عن التراث بصيغة المفرد فذلك لأننا اعتدنا أن ننظر إلى أشكال التراث في مركزيتها الرسمية فأخذنا نعتبر ما اعتبره هو كذلك، ونهمش ما همشه وما تفتأ تهمشه الصورة السائدة عنه. ربما حان الوقت لخلخلة تلك المركزية وإعطاء الكلمة للهوامش”[12].
كتب بنعبد العالي هذا الكلامَ في فترة لاحقة على تأليف عمَله عن الفارابي، لكنَّ ذلك لا يمنع من البحث عن إرهاصات مثل هذا التصوُّر الانفصالي في عمله ذاكَ؛ وفي ما يلي بيانُ ذلك.
–2–
فرَضَ السياق الفكري والمناخ الثقافي، الذي تناوَل فيه بنعبد العالي فلسفة الفارابي السياسية، مجموعةً من والاختيارات المتعلقة بالرؤية والمنهج على الباحثين في مجال الفلسفة الإسلامية. لم يكُن الصراع على التراث في أدبيات المشاريع الفكرية الكبرى، التي أثَّثت مشهدَ الفِكْر العربي المعاصر، صراعاً على الماضي في حدّ ذاته، لأن التراث كانَ، في ذلك الحين كما هو اليوم، أشبه برأسمالٍ رمزيٍ ومعرفيٍ يقود تملُّكه إلى تملك الحاضر كذلك. ولعلَّ هذا ما يفسر الحضور القويّ للتراث والصراع على تأويله في المشاريع الفكرية العربية، التي اتخذت، بشكل من الأشكال، صورة قراءات مختلفة للتراث[13]، جعلته أكثر اقتراناً بالحاضر وأسئلته الكبرى. وعندما كان الجابري يشدّد على ضرورة الوعي بالموقع الذي يطلُّ منه الباحث على التراث، كما على ضرورة الوعي بالمضمون الإيديولوجي للتراث الفلسفي الإسلامي باعتباره أهمَّ مدخلٍ إلى فهمه، فإنَّه لم يكُنْ يسعى، بموقفه هذا، إلى التورُّط في انحيازٍ إيديولوجي داخل هذا التيار التراثي أو ذاك، مع التراث أو ضده، بقدر ما كان يهدفُ إلى إظهار أهمية الوعي بخصوصية الرؤية التي يصدر عنها الباحث في فهمه وتأويله لمتون الفلسفة الإسلامية[14].
في هذا السياق يُمكن أنْ نفهم سعيَ الجابري إلى الإفلات من قبضة القراءات المادية للتراث، كتلك التي قدمها حسين مروة وطيب تيزيني، كما من القراءات السلفية التي ادعت السدانة عليْه واحتكار القول فيه. بل وما تردَّد الجابري في نقد المقاربات الاستشراقية التي تسعى إلى إرجاع التراث الإسلامي إلى أصولٍ سابقة له، والتي تصدر عن رؤية تقدمية إلى التاريخ يغدو فيها التراث الإسلامي مجرد مرحلة تم تجاوزها وفق منطق التقدم نفسه. كان الجابري علامةً فارقة على هذا الضرب من القراءات النقدية للتراث الإسلامي؛ وأرسى دعائم تصوُّر معقول لعلاقتنا بالتراث قوامها الاتصال به قبل الانفصال عنه، في رفض جذري لفكرة القطيعة المُطلقة معه[15]، وفي خطوة جريئة كان الغرض منها رفع الحجر الذي ضربته القراءات الدوغمائية على التراث العربي الإسلامي، باعتبار ذلك خطوة ضرورية في طريق الاستقلال التاريخي للذات العربية على حدّ تعبيره[16].
يبدو أنَّ مُقاربة بعبد العالي للفلسفة الإسلامية لم تخرج عن مدارات هذا الموقف الذي أرسى الجابري دعائمه في تقاليد البحث في الفلسفة الإسلامية؛ تقليد يرمي إلى الوقوف على مظاهر أصالة تلك الفلسفة بعيداً عن كل محاولات اختزالها في التقاليد الفكرية السابقة والمغايرة لها، انطلاقاً من وعي نقدي بمضمونها الإيديولوجي ومقاصدها السياسية الخفية. على هذا النحو من النظر، يرفض بنعبد العالي القراءات الاختزالية للتراث الفلسفي الإسلامي، مُعتبراً أنَّ
“النظر إلى الفكر الفلسفي الإسلامي بهذا الشكل قد أدى، ويؤدي دوماً، إلى تفكيك وحدته وقطع صلته بالحضارة التي نما في حضنها، وعزله عن السياق الاجتماعي الذي أنتجه وحدَّد وجودَه”[17].
ولا يتردد بنعبد العالي في وصْف هذا الضرب من القراءة بـ التمركز على الذات الغربية؛ فهي تستسهل إمكانية تعقُّب تطوُّر الفكر اليوناني من أثينا إلى بغداد من دون وعيٍ بالصعوبات التاريخية والمنهجية التي تطرحها مثل هذه الخطوة.
لا نتزيَّد بالقولِ إنَّ الفارابي يبقى واحداً من أبرزِ ضحايا هذه الرؤية الاختزالية إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية. لذلك يجوز أن ندرج قراءة بنعبد العالي لفلسفته ضمن المجهود الذي بذله المفكرون العرب المعاصرون لتخليص التراث الفلسفي الإسلامي من قبضة هذا المنظور، وشقّ دروب جديدة صوب تفهم هذه الفلسفة في تاريخيتها. والرجل، بقراءته تلكَ، يكون قد أسهم في مشروع نقدي وَجَد في الجامعة المغربية التربة الحاضنة له، ابتدأ بأعمال الجابري وأومليل، ووجدت أقوى تعبير عنه في أعمال محمد مصباحي وجمال الدين العلوي وطلبتهما.
يُمكن أنْ نميِّز بيْن مواقف ثلاثة من التراث الفلسفي الإسلامي نضجت في تربة الجامعة المغربية في ذلك الإبَّان؛
- يذهبُ أوَّلُها إلى القول، مع الجابري، إنَّ قراءة التراث الفلسفي تستلزمُ الوعي بمضمونه الإديولوجي، وأنَّ الاتصال به يبقى شرطاً جوهرياً للانفصال عنه، باعتبار ذلكَ خطوةً لا محيد عنها لتأصيل الحداثة عندنا من طريق نقد العقل الثاوي في تضاعيف هذا التراث.
- في مقابل ذلك، ينحو علي أومليل[18] صوبَ موقف نقديّ تاريخي من التراث الفلسفي، يعملُ على تقييمه بناءً على الإطار المعرفي والتاريخي الذي نشأ فيه، متجنباً، بالتالي، كلّ نزعة أصولية ترى فيه عنوان الكمال وسبيل النجاة من وضعية التأخر التاريخي.
- وفي مُقابل هذا وذاك، يتقدم محمد المصباحي في صورة الباحث المنقِّب في بنية النصّ الفلسفي الإسلامي الذي يفهمه على ضوء منطقه الخاص، وفي أفق البحث عن معالم عقلانية (رشدية) نحن في مسيس الحاجة إليها لبناء الحداثة في العالم العربي اليوم.
امتازت هذه المواقف الثلاثة عن القراءات الاستشراقية للفلسفة الإسلامية من حيث إنها تتصلُ بالتراث وهي مهجوسةٌ بأسئلة الراهن العربي المقلقة، لتتجنب بذلك المنظور البرَّاني (الخارجي)، والبرودة المنهجية، اللَّذين صدر عنهما المستشرقون في تعاملهم مع التراث الإسلامي[19]. كما امتازت تلك القراءات برغبتها في إظهار مكانة الفلسفة الإسلامية باعتبارها مرحلةً مفصلية في تاريخ الفكر الفلسفي عامةً، كما اختصَّ بعضُها بسعيه إلى الكشف عن معالم العقلانية التي رسم فلاسفة الإسلام معالمها الكبرى، بصرف النظر عن مدى تناسُبها مع الفهم الحديث والمعاصر للعقلانية. بل ومكَّن هذا الضربُ من التعامل مع نصوص فلاسفة الإسلام من مساءلة صلتها بالمرجعيات الفلسفية السابقة لها، والتفكير في العوامل الموضوعية التي حكمت نشأة الفلسفة الإسلامية وتطورها، بل وحددت مآلها كذلك.
أين يُمكن أنْ نُمَوقعَ قراءة بنعبدالعالي للفارابي في سياق كل هذه القراءات؟
يقولُ بعبد العالي؛
“لن يكونَ مرمانا إثبات مدى وفاء المعلم الثاني أو (خيانته) لنص الجمهورية، أو مدى خروجه عنه واللجوء إلى (الأخلاق النيقوماخية) أو كتاب أفلوطين. وإنما سنُعنى بنوعٍ من القراءة التي أملاها واقعٌ سياسيٌّ اجتماعي ديني ثقافيٌّ معيَّن، على شخصٍ تغذى على تلكَ الثقافة واعتنقَ دينَ الإسلام، وأشبع بقيم حضارية معينة فانكبَّ على تعلُّم الفلسفة الإغريقية وتعلميها وعلى فهمها من خلال ذلك الواقع والاستنجاد بها لإصلاحه”[20].
فائدتان على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية ينبغي استخلاصهما من هذا القول؛ أوُلهما أنَّ قراءة الفارابي لن تستهدفَ ردّه إلى أصوله الفلسفية اليونانية (أفلاطونية كانت أم أرسطية) أو الأفلوطينية، فتلك خُطوة، بصرف النظر عن أهميتها، لا تُفيد كثيراً في تبيُّن جِدَّة فلسفته وصلتِها الوطيدة بالمجال الاجتماعي والسياسي الذي نشأتْ فيه. لذلك يُفَضّل بنعبد العالي تناولَ الفارابي في سياقه الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني المخصوص درءاً لأي محاولة تسعى إلى النظر إليه كمرآة انعكست فيها الفلسفات السابقة له. وثانيتهما أنَّ هذه القراءة ترمي إلى إظهار البُعد الإصلاحي في فلسفة الفارابي، وهو بعدٌ غالباً ما جرت عادة الباحثين الغربيين على طمره في ثنايا الطابع الميتافيزيقي والمنطقي لكتاباته، تحت ذريعة نزعة انسحابية طغتْ على مواقف الفيلسوف المُسلم إزاء واقعه السياسي والاجتماعي. لا يعني هذا الاختيار، وتجنبا لكل سوء فهم، أن صاحبه ينكر كل صلة للفارابي بالتقليد الفلسفي السابق له، غيْر أنهُ يُدرك أنَّ البحث عن “فرادة” هذا الفيلسوف يستلزمُ النظر “إلى المفاهيم الفارابية، بل وحتى المفاهيم الأفلاطونية والأرسطية، في حياتها كمفاهيم” أي “في انتمائها لحقل دلالي معيَّن، لأنّ إخراج المفهومِ من ذلكَ الحقل معناهُ قتْلُه والقضاء عليه”[21]. لإعمال مفهوم “الحقل”، هنا، دلالته المنهجية؛ فهو يكشفُ عن تمسُّك بنعبد العالي باستحضار مختلف الشروط التي تثوي وراء إنتاج فلسفة الفارابي ومفاهيمها الأساسية، بما يتيحه ذلك من تجاوز للثنائيات الميتافيزيقية التي تفضل الفكر عن الواقع، والفلسفة عن شروط نشأتها ومقاصدها السياسية ومضمونها الإيديولوجي. غير أنَّ مفهوم الحقل، رغم ذلك كله، يسعف الباحث بالوقوف على البنية الداخلية للخطاب الفلسفي كذلك، وهو ما اتضح في تعقب بنعبد العالي لفرادة فلسفة الفارابي من خلال الإنصات لنصوصه والتنقل المرن بينها.
يشكّل وصلُ المشروع الإصلاحي للفارابي بالبنية الداخلية لخطابه خطوةً مهمَّة في طريق البحث عن فرادة فكره وخصوصيته؛ لأنها تجنبنا السُقوطَ في قراءة ميكانيكية لمفاهيمه تُضْحي فيها هذه الأخيرة مجرَّد انعكاسٍ مباشرٍ وساذج لطموحه الإصلاحي. كما من شأن تلكَ الخطوة أنْ تكشفَ عن خصوصية ما اعتبره بعض الدارسين نزعةً طوباوية في فلسفة الفارابي السياسية[22]، بسبب ما ينضحُ به متنه من احتفالٍ بالمدينة الفاضلة وامتعاضٍ من خصومها الذين كانوا، في عُرف أولئك الباحثين، خير تعبيرٍ عن واقعٍ سياسيٍ لم يتردد الفارابي في الدعوة إلى هجرته. وبمقدار ما يصعُب على الباحث أنْ يُنكر النفَس المثاليَّ الطاغيَ على فلسفة الفارابي، لاسيما عندَ حديثه عن صفات رئيس المدينة الفاضلة، فإنه مدعوٌ إلى التحوُّط من المعنى الذي يُمكن أن نفهم به عبارة “الطوباوية“ كلما عمدنا إلى استعمالها في توصيفه؛ فهذه الأخيرة ليست، على حدّ قول فرونسوا شاتليه، “احتقاراً للوجود التاريخي للإنسان، بل إنها، على العكس من ذلك، مجهودٌ يائسٌ لوضع حدّ لوضعية مأساوية“[23]. متى نظرنا إلى فكر الفارابي من هذا المنظور، واعتبرنا فلسفته السياسية ضرباً من الطوباوية- أي من المجهود اليائس لوضع حدٍ لوضعية مأساوية- أدركنا أنَّ مدينته الفاضلة أتت تعبِّر عن علاقةٍ مُركبة ما انفكت تجمعُ الفكرَ بالواقع في التجربة الفلسفية الإسلامية، وهي علاقةٌ لا يُمكن إرجاعُها إلى انعكاسٍ ميكانيكي يجعلُ من الفكر مرآة للواقع الاجتماعي، ولا إلى إسقاط مقولات التحليل المادي/الاقتصادي على مدينة الفارابي كما يفعلُ طيب تيزني، عندما يرى في المدينة الفاضلة “مدينة المسحوقين في المدينة والريف من أرقاء وفلاحين معدمين، هؤلاء الذين ما كانَ لآفاق التطور البورجوازي المبكر أن تستوعب مشكلاتهم“[24]. فهذه كلها، في نظر بعبد العالي، قراءاتٌ تصدُر عن فلسفةٍ في التاريخ تسعى إلى إسقاط هُموم الحاضر على الماضي من دون وعيٍ بالمسافة التي باتتْ تفصلُ بينهما، وهي في ذلك لا تختلفُ عن القراءات السلفية التي ترهن الحاضر بالماضي كما تتأوَّله هي. وفي الحالتيْن معاً، نكون أمامَ
“نظرة تُحاول أن تتحرَّر من سِجْن التمركُز حول الذات الأوروبية، ولكن لا لتستعيد ذاتها وترتمى في المستقبل، بل لتبدع ذاتاً أخرى تتمركزُ حول الماضي وتستمد مقوماتها منه، فتسعى لإيجاد بذور تفكيرٍ عقلاني متقدم داخل بنية فكرية لم تكن لتعرف تلك العقلانية ولا عناصر التحليل الطبقي”[25].
بذلك يكون إدراكُ الأُفق المعرفي الذي تحرَّك فيه وعيُ الفارابي ومفاهيمه شرطاً قبلياً لفهم فلسفته السياسية ومقاصدها، بما يستتبعه ذلكَ من تسليمٍ بضرورة إبقاء فلسفته تلكَ بمعزل عن راهننا وأسئلته، كما عن هواجسنا ورغبتنا الجامحة في البحث عن عقلانية منبعثة من التراث تضارع، من حيث الأهمية، عقلانية الحداثة. يعني ذلك أنَّ بنعبد العالي يريد فهم فلسفة الفارابي وفق منطقها الذاتي، وفي سياقها التاريخي الذي أفرزها، وفي قطيعة تامة عن راهننا؛ فهو لا يريد أن يجعل من الفارابي، ولا من غيره من فلاسفة تراثنا الإسلامي، شخصا معاصرا لنا.
لم يكن بعبد العالي في جملة الذين يقرؤون فلسفة الفارابي بعيداً عن مقاصدها السياسية، وإنما اعتبر، سيراً على هدي بول كراوس ومحسن مهدي[26]، أنَّ الفلسفة السياسية تبقى أهمَّ بُعد من أبعاد فكر الفارابي. لهذا التأويل مقدماته ونتائجه؛ فمن جهة أولى، كانَ الفارابي أوَّل فيلسوفٍ يتقدَّم إلى مشهد الثقافة الإسلامية في صورة مؤسس لفلسفةٍ سياسيةٍ (مدنية) أدارَ عليها مُختلف كتاباته الأساسية، وهذا ما يقتضي الاعتراف بأنَّ الهاجس السياسي يبقى خير مدخلٍ إلى فهم فكر الفارابي. ومن جهة ثانية، فإنَّ النفَس الميتافيزيقي الحاكمَ لكتابات الفارابي- والذي جعلهُ يُفرِد الحيِّزَ الأكبرَ من كُتبه للبناء الميتافيزيقي للعالم وفق ما تقتضيه نظرية الفيض ورؤيتها الاتصالية إلى الوجود- أقول إنَّ ذلك لا ينبغي أن يحملنا على الاعتقاد بأننا أمام فيلسوف يحصُر جهده الفكريَّ في الأسئلة الميتافيزيقية التي تحدَّرت إليه من نظريات فلسفية سابقة له. بذلك يكون التفكير في الميتافيزيقا، أي في مبادئ الموجودات، مقدمة للتقعيد للعلم المدني الذي يتسلم مقدماته منها[27]. ينجم عن ذلك كلّه أنَّ الفارابي لم يفْصِل العِلْم المدنيَّ عن تصوُّره الميتافيزيقي للوجود، لذلك ينبغي أنْ نقدم على البحث “في الأصول التي يبني عليها الفارابي تركيب المدينة الفاضلة والسياسة المدنية والمنهج الذي استخدمه في هذين الكتابين” كما يقول محسن مهدي[28]. لا يعني هذا أنَّ الميتافيزيقا تشكِل، بالنسبة إلى الفارابي، الإطار النظري الذي سيتناول على ضوئه مشكلة السياسة، ‘فلو كان اهتمام الفارابي– يقول بعبد العالي – اهتماماً ميتافيزيقياً قبل كلّ شيء، لما تطرق للسياسة مثلما سيفعل خلفه ابن سينا الذي لم يُفرد للسياسة أكثر من قسم صغير عند تقسيم العلوم العقلية”[29]. ليست السياسة، إذن، نتيجة للميتافزيقا في فكر الفارابي، ولا يمكن النظر إلى الإلهيات بحسبانها مقدمةً للعلم المدني حسب بنعبد العالي، بل إنَّ “السياسة المدنية هي غاية مبادئ الموجودات، ومشروع الفارابي سياسيٌ في مرماه”[30].
-2-
يأبى بنعبد العالي إلاّ أن يُصوِّرَ الفارابي في صورَة الفيلسوف المهْجوس براهنه والواعي بخصوصية شرطه التاريخي ووضعه السياسي والاجتماعي. وليس ينحصرٌ ذلك، فقط، في تنبيهه إلى دعوة الفارابي إلى ضرورة “التأمُّل في أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم“، وإنما كذلك في الإشارة إلى وعيه الشقيّ براهنه الذي فضل التواري من مشهده وهجرته، معتبراً أنه “حُرِّم على الفاضل من الناس المقامُ في السياسات الفاسدة ووجبت عليه الهجرة إلى المدن الفاضلة”[31]. وبين الإنصات للواقع والدعوة إلى هجرته، توجدُ مسافة زمنيةٌ ونظريةٌ كانَ الفارابي بحاجة إليها ليبلور موقفه من السياسة الذي أقامه على وعي دقيق بالتمايزات الموجودة بين أشكال الاجتماع البشري ومدنه الممكنة، والنموذج المثالي للمدينة الفاضلة، بعد أن أعرب عن اقتناعه بحاجة الإنسان إلى الاجتماع والسياسة من أجل تحقيق السعادة التي هي الغاية القصوى من العلم المدني[32]، وبعد أن آمن في قارة نفسه بأنَّ الفلسفة قادرةٌ على الإسهام في حلّ مشاكل السياسة التي عجزت عن جبهها أكثر العلوم اتصالاً بالثقافة الإسلامية؛ الفقه والكلام[33].
يُدْرك الباحثون في تاريخ الدولة الإسلامية أنَّ أهمَّ ما ميَّز الوضع السياسي في زمن الفارابي دخولُ دولة الخلافة أُفُق أزمة السلطة التي ستعصف بها بسبب تصاعد الدول السلطانية وتكالبها على وحدة الإمبراطورية العباسية، وبروز دوْر الجيش في إضعاف سلطة الخليفة العباسي.. في خضم هذا الوَهَن السياسي كانَ من الطبيعي أن يجثم الانشقاقُ المذهبيُّ بطيْفه على المجتمع الإسلامي، وقد خبر الفارابي هذا الأمر عبر الصراع الذي دارَ بين الحنابلة والشيعة، عندما غدت بغداد مركزاً لهما معاً[34]. غير أنَّ هذا المعطى التاريخي سرعان ما حمل بعض الباحثين على إقحام الفارابي في هذا الصراع، فنظروا إلى حديث الفيلسوف عن صفات رئيس المدينة الفاضلة كترجمةٍ للتصوُّر الشيعي للإمامة وشروطها. بل ووَجد فاخوري في النزعة التوفيقية، الطاغية على كتابات الفارابي، خاصة بيْن أفلاطون وأرسطو، علامةً دالة على تشيُّعِه. وما تردَّد في البحْث عنْ أثر الإسماعليين (إخوان الصفا) في فلسفة الفارابي التي تقوم على الوصل بين العالمين السفلي والعُلْوي. بذلك يكون ردّ فعل الفارابي على الصراع السياسي، حسب هذا التأويل، الاصطفاف إلى جانب الشيعة وتسخير مفاهيمه الفلسفية للتأصيل لموقفهم من الإمام. يرفُض بنعبد العالي أنْ يكون الفارابي شيعياً، بل ويذهب إلى حدّ القول، مع الجابري، إنَّ الفارابي “لم يكن يعبّر عن رأي فرقة من الفرق المذهبية والكلامية في الإسلام”[35]، وفضَّل، بدلا من ذلك، التمسك بالفلسفة لتجنب التورط في هذا الصراع.
إقرأ المزيد: تاريخ الفرق الإسلامية: قراءة سوسيولوجية الشيعة الجزء الأول
من أمارات تبرُّم الفارابي من الاصطفافات المذهبية، في نظر بنعبد العالي، موقفه المعلن من علم الكلام والفقه اللّذيْن رأى فيهما علوماً تكرّس الفرقة والصراع أكثر ممَّا تمد المرء بآليات لتحقيق الجمع والوحدة. وبيانُ ذلك أّنَّ الفقه والكلام يسعفان الصراع المذهبيَّ بما يحتاجه من مفاهيم ومواقف تكرِّسُ الفوضى الاجتماعية التي هزَّت كيانَ الدوْلة العباسية. هذا هو السبب الذي دفع الفارابي، في كتاب الإحصاء كما في كتاب الملة، إلى اعتبار الفقه والكلام علوماً لا ترقى إلى مستوى الفلسفة؛ فهذه الأخيرة تتغيا توحيد آراء أهل المدينة باعتبار ذلك من مقومات المدينة الفاضلة. هكذا عوَّل الفارابي على الفلسفة للخروج من الصراع وفتنته كما يرى بنعبد العالي، “فإنْ كانت وظيفةُ الفلسفة هي الجمعُ والتوحيد، فإنَّ وظيفة الكلام هي التشتيت والتفرقة“[36]. إنَّ المُقابلة بيْن الجدلِ والفلسفة لم تكن مجرَّد مقارنةٍ بين البُرهان وفن الدحض والتغلَّب، وإنما كانت مقارنةً بين دربيْن في التفكير لهما مفعولُهما في الواقع الاجتماعي والسياسي؛ فلئن كانَ الجدلُ يُذكي الصراعات ويؤجّج المواقف المتنازعة، فإنَّ البُرهان، الذي اختصَّت به الفلسفة، قادرٌ على الجمع بيْن الآراء التي تُعتبرُ شرطَ وحدة المدينة الفاضلة.
يعني ذلكَ، في جُملة ما يعنيه، أنَّ لجوءَ الفارابي إلى الفلسفة كانَ خيْر جوابٍ عن وضع الانقسام المذهبي الذي وسم المجتمع العباسي في ذلك الإبان. وهذا ما رأى فيه بنعبد العالي دليلاً على افتقار المُجتمع ذاكَ إلى قوَّة اجتماعية “بإمكانها أنْ تشكل سلطة مركزيةً تُحقّق الوحدة في مجتمع طغتْ فيه الكثرة“[37]. كان التعويل على الفلسفة، أي على المعرفة، اختياراً انتهجه الفارابي لحلّ مشكلة الفرقة والتفتت المذهبي والسياسي، وهو بذلك لم يختلف عن سلفه أفلاطون الذي ربط الحكم بالفلسفة في شخصية المَلك الفيلسوف. على أنَّ ذلك لا يعني أنَّ كل ما قام به الفارابي هو إسقاطُ تصوُّر أفلاطون على الاجتماع العربي الإسلامي، من دون أن يأبه بالاختلاف الكبير القائم بيْن التجربة السياسية اليونانية ونظيرتها الإسلامية، لأنَّ رهانه على المعرفة كانَ يرمي إلى توحيد الدولة من خلال توحيد آرائها، باعتبار ذلك الشرط القبلي لكلّ إصلاحٍ سياسيٍ ممكن. يقول بنعبد العالي في هذا السياق؛
“لقد شعر الفارابي، أمام ضَعف السلطة المركزية وتخليها عن السلطة الدينية، وأمام هيمنة أرستقراطية عسكرية، شعرَ بصعوبة إصلاح الخلافة وإيجاد رئاسةٍ صالحة. لكنه كانَ يعتبر أنَّ العلاج الحقيقي لخراب البلد، كان يتمثَّل بالدرجة الأولى في إعادة توحيد السلطة وإبعاد الطُغيان وذلكَ بتوحيدِ الرأْي وجمع الشتات الفكري وإيجاد عقيدة أقوى بإمكانها أنْ تقومَ على البراهين اليقينية، لا مُجرد الاقتناعات والظنون. فالجدالات الكلامية والفقهية لم تزد الناسَ إلاَّ فرقةً ولم تستطع أنْ تُوَحِّد شملهم فتقيمُ مدينةً فاضلةً، لذا وجب اللجوء إلى المعرفة البرهانية والاستعانة بالحكمة الفلسفية”[38].
واضحٌ أنَّ بنعبد العالي لم يُرِدْ لبحثه أنْ يكونَ مجرَّد تنقيب عن أصول أفلاطونية لمفاهيم الفارابي وفلسفته. فهو مسكونٌ بهاجس البحث عن فرادة تلك الفلسفة وجِدَّتها وتجليات الإبداع فيها. ويُمكن القولُ إنَّ الهدف الأعمَّ لكتاب بنعبد العالي هو استلال صورة الفارابي من براثن الصورة النمطية التي رسَخت في ذهن الباحثين في فلسفة الإسلامية، من خلال التنبيه المستمر إلى صلة فكر الفيلسوف المسلم بسياقه التاريخي الذي يعتبر المفتاح الرئيس لفهم الاختلاف الدقيق الموجود بين فكره وفكر من سبقوه من فلاسفة اليونان. ويبدو أنَّ هذا هو السبب الذي جعلَ هذا العمل يتخذ صورة بحثٍ عن الاختلافات والحدود التي تفصل المعلم الثاني عن المرجعيات الفلسفية التي انتهل منها جلّ عناصر فلسفته. إننا لسنا أمام تأريخٍ اتصالي لفكر الفارابي، ولا أمام تذويب مفاهيمه في منظومات فكرية سابقة له، بقدر ما إننا أمام تأريخ يبحث عن المنطق الخاص بفكر هذا الفيلسوف يسعى إلى تعقب مسارات فكره وتشكل مفاهيمه. بوسعنا أن نسوق من كتاب بنعبد العالي أكثر من شاهد نقيم به الدليل على قوة هذا المنزع الانفصالي في التأريخ لفلسفة الفارابي؛ من مقارنته بين الملك-الفيلسوف عند أفلاطون ورئيس المدينة الفاضلة عن المعلم الثاني؛ كما من المقارنة بين تصورهما للعدل والعدل..الخ، لكن نكتفي، هنا، بالوقوف عند المقارنة التي عقدها بين تصور الفيلسوفين للمدن ومراتبها.
-3-
جرت عادةُ الباحثين على النظر إلى فلسفة الفارابي السياسية على أنها استمراريةٌ لفلسفة أفلاطون وتنظيره للمدينة الفاضلة. الأسبابُ وراء هذا الحكم متعددة لعلَّ أبرزها اقتناعهم بأنَّ الفارابي كانَ على وعيٍ لمجاوزة أرسطو لأفلاطون على مستوى نظرية المعرفة وفلسفة الوجود بحكم اطلاعه على الكتب الأرسطية في المنطق وما بعد الطبيعة، غير أنه- وفق هؤلاء الباحثين- لم يكن مدركا للمظهر السياسي لتلك المجاوزة بسبب عدم اطلاعه على كتاب السياسة للمُعلم الأول. يرفض بنعبد العالي هذا التأويل الذي يجعلُ من الموقف الفارابي من الفلسفة السياسية اليونانية نتيجة صُدفةٍ نجمت عن جهْله بكتاب السياسات للمعلم الأوَّل. ويرى، خلافاً لذلك، أنَّ كثيراً من ملامح الفكر السياسي الأرسطي يمكن أن يستشفَّ من كتاب الأخلاق الذي كان الفارابي على دراية به. لذلك ينبغي أن نفطن إلى أنَّ استناد المعلم الثاني على المرجعية الأفلاطونية لم يَكُن نتيجة جهله بالفكر السياسي الأرسطي، بقدر ما كان اختياراً واعياً أقدم عليه في بناء صرح فلسفته السياسية. يشدد الفارابي، في الجمع بين رأي الحكيمين، على إمكانية الاتفاق بيْن أفلاطون وأرسطو في أمور كثيرة ليست تنحصر في المسائل النظرية والميتافيزيقية فقط، وإنما يمكن أن تشملُ، أيضاً، “كثيراً من المسائل الخُلقية والعملية”، وهو ما دفع بنعبد العالي إلى القول إنَّ “المعلم الثاني، وهو يأخذ من أرسطو منطقه ومن أفلاطون فلسفته المدنية، لم يكن يشعر بأنهُ ينهل من نبعين متمايزين، وأنه إزاء فلسفة موحدة”[39].
إقرأ المزيد: سؤال الأخلاق ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية: الجزء الأول
شكَّل هذا الجمعُ بين الحكيمين، إذن، خُطوة منهجية لابد منها لتحديد أفق فلسفي يمكن أنْ يتناول فيه الفارابي المسألة السياسية في الاجتماع الإسلامي، وليس الأفق ذاك غير ما سماه الفارابي العِلْم المدني. لذلك يلحُّ بنبعد العالي على المضمون السياسي لهذه الخُطوة المحورية في مسار فلسفة الفارابي السياسية[40]. غير أنَّ ذلك لا يأذنُ لنا باستنتاج أنَّ كلّ ما قام به الفارابي هو الاعتداد بمنظور هذا الفيلسوف أو ذاك في فهم واقع الدولة والسياسة في زمانه، رغم تمسُّكه بإعمال مفهوم المدينة وغيره من المفاهيم الفلسفية المتحدرة من الفلسفية اليونانية. فوَعْيُه الدقيق بفرادة شرطه السياسي والاجتماعي لا يأذن لنا بأن نرى في العِلم المدنيّ دراسةً لحالة سياسية خاصَّة تمثلها الدولة الإسلامية في ذلك الإبان. فخلافاً للدارسين الذين رأوا في هذا العلم علامةً على انسياق الفارابي وراء الفلسفة اليونانية التي يتغذى منها، وخلافاً للذين وجدوا في ذلك دليلاً فاقعاً على تفكيره الكونيّ الذي يتجاوز حدودَ المدينة بمعناها اليوناني، ارتأى بنعبد العالي إلى أنَّ الفيلسوفَ لم يكن يقصد بالعلم المدني دراسةً اجتماعية تختصُّ، حصراً، بدراسة الواقع الإسلامي، وإنما كانَ غرضُه فهمَ “الحياة الاجتماعية وما ينتج عنها أو يرافقها من مظاهر سياسية وثقافية”[41].
على هذا النحو من النظر، يكونُ بعبد العالي قد اختارَ قراءة تصوُّر الفارابي للمدن من منطلق المقارنة بينه وبين التصوُّر الأفلاطوني، الذي يسعى إلى فهم “الطبيعة العامة للدولة كنوعٍ أو نموذجٍ مُعيَّنٍ للحكم” بصرف النظر عن مدى تحقُّقها الواقعي. وقد كانَ “العلم المدني، إذن، فلسفةً سياسيةً“؛ فالفارابي، يقولُ بنعبد العالي،“لا يحصر نفسه سجين شكلٍ معيّن من أشكال الاجتماع الإنساني، ولا يتقيَّدُ بنوعِ التنظيم الذي عرَفه اليونان على العُموم، ولا ذاك الذي سنَّه أفلاطون الذي يذهب حتى إلى تحديد عدد سكان مدينته واتساع رقعتها“[42].
يمكن أن نفهم، على ضوء هذه الملاحظة، السبب الذي دفع الفارابي إلى اعتبار الآراء مُحدِداً رئيساً لطبيعة المدن، عندما أتى على تصنيفها وفق اختلاف آراء أهلها. بيد أنَّ التمسُّك بمعيار الآراء لا ينبغي أن يَهْوِيَ بنا في المُطابقة بين تصنيف أفلاطون للمدن، غير المكتملة منها على وجه التحديد، وتصنيف أبي نصر لمدنه الجاهلة. بل ويذهب بعبد العالي إلى حدّ إظهار الاختلاف القائم بيْن الفيلسوفيْن في عَرْضِهما للمُدن الجاهلة، رافضاً بذلكَ ما أقْدَم عليه بعض الباحثين، مثل روزنتال، من مطابقةٍ بيْن مقاربتيْهما لهذا الموضوع. يقول بعبد العالي، بعد أن فرغ من المقارنة بين مُدن الفارابي ومدن أفلاطون؛
“وبالرغم من كلّ ذلك فإننا لا نلفي عند المعلميْن وحدةً في المفاهيم. وقد تعذَّر علينا أن نجدَ مقابلات أفلاطونية لمدينتي الخسة والضرورة. ورغم أنَّنا حاولنا أن نوحّد بيْن مدينة الكرامة والحكم التيموقراطي، وبين المدينة الجماعية والحكم الديمقراطي، إلاَّ أننا وجدْنا اختلافات أساسية لا في طريقة عرضها فحسب بل في تحديداتها ومضامينها. فلم نجد عند الفيلسوف المُسلم إلاَّ تحديداً وصفياً لتلك المدن بينما ألفينا أنَّ المعلّم اليوناني يعرضها حسب تكونها الفعلي كما عاشه هو وكما عرفته دولة المدينة. وقد صعب علينا في الأخير أن نجد ارتباطاً بين حرية الكلام وظهور السفسطة وتوقع الاستبداد عند الفيلسوف المسلم. كل هذا عائدٌ، في رأينا، إلى أنه إن كان الفارابي يرمي إلى إعادة توحيد السلطة وضم الشتات لإصلاح الخلافة، فإن الفيلسوف اليوناني كان يهدف من حديثه عن المدن غير الكاملة إلى انتقاد الأوضاع والكشف عن أغاليط السفسطائيين للوقوف ضد الاستبداد وبناء مجتمع جديد ومدينة فاضلة”[43].
واضحٌ أنَّ ما حالَ دون استنساخ الفارابي لمُدن أفلاطون هو الواقع التاريخي نفسه؛ فالتجربة التاريخية التي أفرزتْ مُدن أفلاطون ليست هي عينُها تلكَ التي حكمت تفكيرَ المُعلّم الثاني. إنَّ هذا الحسّ التاريخي الذي يُقارب به بعبد العالي فلسفة الفارابي هو ما يُفسِّر سعْيَه إلى البحث عن مفعولِ هذا الشرط التاريخي في توجيه فهم الفيلسوف المسلم لمفاهيم أفلاطون. وهذا أمرٌ يتَّضح أكثرَ عند تطرقه لمراتب المدينة الفاضلة ومكوِّناتها الطبقية. ينتبهُ بنعبد العالي إلى الاختلاف الجوهري القائم بين تصوُّر الفارابي وأفلاطون للخاصة؛ ففيما أعلى هذا الأخير من شأن الحرّاس (الجند)، بسبب الدور الذي اضطلعوا به في الحياة السياسية داخل الدولة المدينة، اعتبر الفارابي أنَّ القوَّة العسكرية هي سببُ الخراب[44] الذي ألمَّ بالدولة الإسلامية. يُمكن أن نستنتج من هذه الملاحظة أنَّ أبا نصرٍ لم يُسقط مفهوم الخاصَّة على المجتمع الذي يعيش فيه، طالما أنَّ وعيه بخصوصية شرطه التاريخي كان كافيا لاتخاذ المسافة اللازمة من نسق أفلاطون ومفاهيمه السياسية التي يعسر تنزيلها على المجتمع العربي الإسلامي في ذلك الإبَّان.
بيْد أنَّ تميز موقف الفارابي واهتجاسه بشرطه التاريخي لم يكن كافياً لكي يتجنب، كلياً، دوائر النسق الأفلاطوني في صياغة فهم معقول للسياسة ومفاهيمها الكبرى. وهنا يكمُن مشكل الفارابي تحديداً؛ فبمقدار ما كانَ على بيِّنةٍ من أمر فرادة شرطه التاريخي، فإنه كان مقتنعاً، أيضاً، بأهمية المرجعية الفلسفية اليونانية التي عبَّرت عن قمَّة المعرفة الإنسانية واكتمالها. ممَّا يعني أنه نظر إليها كسقف معرفي لا مجال للتفكير في تجاوزه مطلقاً[45]. نجدُ معالمَ هذا الوعي واضحةً في تصور الفارابي لمفهوم العدل. لاحظ الباحثون كيف ألقت فكرة المساواة الإسلامية، التي يعجّ بها الوعظ الإسلامي، بظلالها على تصوُّر الفارابي لهذا المفهوم، غير أنّ ذلكَ لم يحمله على صياغته على نحوٍ ينأى به عن منظور الفيلسوف اليوناني[46].
هكذا سعى بنعبد العالي، من خلال المقارنات التي عقدها بين الفارابي وأفلاطون، إلى إبراز الاختلافات والتباينات الوجودة بينهما رغم كل ما يمكن أن نرصده من تشابه بين نسقيهما الفكريين، دون الذُهول عن كيفية توظيفِ الفارابي لمفاهيم أفلاطون، ولا عن الشروط الحاكمة لتأويله لها. وقد تبدى واضحاً أن منهجيته في تعقب أفكار الفارابي ظلت تعنى برصد القطائع الفاصلة بين الفيلسوفين، التي لم تكُن مجرَّد فواصل واختلافات تميّز هذا الفيلسوف عن ذاك، بقدر ما كانت علامةً على فجوات معرفية واجتماعية وتاريخية غير قابلة للجسر، تجعل فلسفة الفارابي محاولة لفهم شرطها السياسي والاجتماعي قبل أن تكون مجرد إعادة صياغة لمفاهيم أفلاطون أو غيره من الفلاسفة الأُوَّل.
-4-
يتحدَّثُ بنعبد العالي عن إشكاليةٍ محورية هيْمنَت على متن الفارابي كما على مختلف مدارات الفلسفة السياسية في الإسلام؛ التقريبُ بين الزمَنية القدسية والزمنية الدنيوية. ذلك أنَّ “إيجادَ صلةٍ بيْن الدين والدنيا، هو (…) الإشكالية الأساسية التي تدور حولها الفلسفة ‘السياسية’ عند الفارابي”[47]. يجُوز أنْ نرى في هذا القول تسليماً من لدُن صاحبه بمحورية المُواءمة بيْن الدينيّ والسياسي في الفلسفة السياسية في الإسلام، بما يعنيهِ ذلكَ من إقرارٍ بأنَّ طبيعة الحُكم السياسي، ذي الأصول الدينية (الثيوقراطي)[48]، هي التي جرّت قسراً هذه الفلسفة إلى تغليبِ كفَّة الزمنية القدسية على حساب الزمنية الدنيوية. يقولُ بنعبد العالي؛ “فليست مدينة معاصر الحلاَّج خارجةً عن ‘مدينة الدُنيا’، إلاَّ أنها لا تتحقَّقُ في نظر صاحبها إلاَّ إذا صارت مدينةً لله وتحقيقاً لملكوته. فليست أمور الدين منفصلةً عن شؤون الدنيا، ولقد سبق أنْ رأينا أنَّ السعادة، وهي غايةُ المدينة الفاضلة، لم تكن في نظر المعلم الثاني زهداً في الحياة ولا هروباً من المدينة. إلاَّ أننا قُلنا أنَّ تلكَ السعادةَ لا يُمكن أنْ تتحقَّق إلاَّ إذا صارت المدينةُ جزءاً من مدينة الله“[49].
نستشف من هذا القوْل أنَّ بنعبد العالي يُشاطر بعض الباحثين تسليمهم باقتران السياسيّ بالدينيّ في الفكر السياسي الإسلامي القديم. بل ويُمكن أن نزعمَ، كذلك، أنَّ إعمالَه مفهومَ “مدينة الله” ينمُّ عن مطابقة (إن لم نقل عن إسقاطٍ) بين نموذج الحكم في أوروبا العصور الوسطى والتجربة السياسية الإسلامية في دولة الخلافة. مثَّلت هذه الأخيرة نموذجاً معياراً استوى على مقتضاهُ نسقُ الفكر السياسي الإسلامي، لأنه ظلَّ يمثّل أساس المشروعية السياسية التي اتكأت، في مُعظمها، على مشروعية دينية وفق هذا الضرب من القراءة[50]. بصرف النظر عن مدى معقولية إسقاط نموذج “الدولة الدينية” على “دولة الخلافة” كما نظَّر الفقهاء لمفهومها[51]، فإنَّ ما يرمي إليه بنعبد العالي هو إثبات أنّ ما عرفه الجو الفكري الذي عاش فيه الفارابي من انحباسٍ إنما كانَ مردُّه إلى هذه الصلة التي أُقيمت بين الدين والسياسة، والفلسفة والملَّة. أي أننا أمام تماهٍ بيْن المدينة البشرية ومدينة الله لم يكن ليسمح بظهور حرية الفكر التي تعتبر جوهر الممارسة الفلسفية كما هو بيّن من تحليل التجربة اليونانية في هذا الباب. نقرأ لبعبد العالي قوله في هذا المعرض؛ “إنَّ ذلكَ الاختناق الفكري الذي كان يعاني منه عصر الفارابي هو الذي كانَ وراء ‘الجمع’، لا جمع الحقيقة وراء ما أجمع عليه الكثير فحسب، بل جمع المِلّة إلى الفلسفة، والدين إلى السياسة. فإذا لم تكن المدينة البشرية لتنفصل عن مدينة الله في رأي الفيلسوف المسلم، فذلك راجعٌ بالأساس إلى أنَّ الأولى لم تكن تسمح في عصره بحرية الفكر، الشرط الضروري لوجودِ تفكيرٍ فلسفي حقّ، وقيام فكر سياسي صحيح“[52]. لا تعني هذه المُلاحظة الفارابي وحدَه، لأنها تعرِّي عن جوٍ فكريٍ امتنع فيه فصلُ الدنيا وسياستها عن الدين، وظلَّ تصور الفعل السياسي خاضعا للمفهوم الديني عن العالم والإنسان والفعل.
وفي مثل هذا الجوّ الفكري المحتبس يتعذّر الحديثُ عن نقاشٍ عموميٍ من شأنه أن يقود إلى الوعي بالطابع الدنيوي للسياسة. هذا ما نتعلَّمه من التجربة اليونانية؛ حيث كانَ النقاش العموميُّ المدخلَ الرئيس للوعي بخصوصية دنيا البشر ومدى انفصالها عن نظام الكوسموس، “فهذا الجدال العمومي، الذي رأينا أنّ المعلم الثاني يُغفله عند تحديد المدينة الجماعية، هو الذي كانَ وراء الفصْل الإغريقي بين البوليس والكوسموس، وهو الذي يسمحُ بظهور مفهومِ المُواطن، وفتْح المجال بالتالي لظهور تفكير سياسي وفلسفة مدنية“[53]. يشيرُ بنعبد العالي، بموقفه هذا، إلى الشرط السياسي لنشأة الفلسفة في اليونان، مُتمثلاً في الديمقراطية من حيث هي نقاشٌ عموميٌّ يتحقَّق داخلَ فضاءِ الانكشاف والحوار والجدال. يسيرُ تحليل بنعبد العالي في اتجاه استنتاج أنَّ افتقار التجربة السياسية في الإسلام إلى مثل هذا الشرط السياسي يبقى السبب الرئيس في الانتقائية التي حَكمت تعامل الفلاسفة المسلمين مع النصوص الفلسفية السياسية الكبرى؛ وخاصةً منها محاورة الجمهورية. لقد تحوَّل هذا الأخير، في منظور الفارابي، إلى مجموعة من الآراء، فكان من الطبيعي ألا يقع نظره على النفَس النقدي الذي تنضح به تلك المحاورة، وظلّ “حبيس الروح التعليمية للمعلم الأول“. وهذا هو جوهر الفرق بين تصور الفارابي وأفلاطون للفلسفة؛ “فالفارابي عندما يتحدَّثُ عن الفلسفة يُشعرنا بأنه يتحدثُ عن شيءٍ جاهز، على عكْس الفيلسوف اليوناني الذي يُشير في غير ما محاورة إلى أنّ التفلسف عمليةٌ شاقة وأنه يقتضي مجهودا متواصلاً”[54]. هكذا يترجمُ تصوُّر الفارابي للفلسفةِ الانغلاق الفكري والثقافي الذي يغيب عنه النقاش والجدال، وتهيمنُ عليه ثقافة التعليم والتلقين؛ إننا أمام أهمّ تجليات ما وصفه بنعبد العالي بـ العقل المحاصر في المجتمع الإسلامي، والذي يمكن أن نفسر على ضوئه سبب ذهول الفيلسوف المسلم عن الحسّ النقدي لفلسفة أفلاطون في السياسة، ولهثه وراء طيف مدينة فاضلة تنسيه واقعه وتمثل له موئلاً مأمولاً يهاجر إليه. فتحتَ وطأة هذا الحصار الفكري، كانَ من الطبيعي أن يضيق الأفق أمام الفارابي الذي وجد نفسه أمام إمبراطورية أخذ الهرم يدبُّ في أوصالها، وما وجد في غير الفلسفة منقذا لها.
هذه هي الصورة التي رسمها بنعبد العالي عن الفارابي وفلسته السياسية. يحقّ لبعض قرائه الاعتراضُ على هذا الجانب من تلك الصورة أو ذاك؛ على إعلائه من أهمية الهاجس السياسيّ في فلسفة الفارابي، وما استتبعه ذلك من ذهولٍ عن جوانب مُهمَّة في فكره، كالجانب الأخلاقي، والميتافيزيقي، والجمالي كذلك. كما يحقُّ للقارئ ألاَّ يرى فيه تلكَ الصورة إلاَّ صدىً لمقاربة الجابري المسكونة بالهاجس السياسي وبالمضمون الإيديولوجي للفلسفة الإسلامية. بل ويمكن له حتى أن يلومَ بنعبد العالي على المقارنة التي عقدها في نهاية كتابه بين الفارابي وابن سينا لإثبات هيمنة إشكالية العلاقة بين العقل والدين على الفلسفة السياسية الإسلامية، كما على بحثه عن مفعول الفارابي في مسارات الفكر السياسي الإسلامي اللاحق عليه، وما أفرزهُ ذلكَ من أحكام تعميمية يمكن للمتخصصين في الفلسفة الإسلامية مناقشتها من هذه الزاوية النقدية أو تلك[55]..الخ. بيد أنَّ هذه الاعتراضات لم تكن غائبةً عن ذهن بنعبد العالي، وهو الذي ما انفك يراجع النتائج التي يفرزها تحليلُه في كل مرحلة من مراحل كتابه؛ إذ يبدو أن همه الرئيس لم يكن محصورا في رسم صورة متناغمة عن فلسفة الفارابي السياسية في سياق التاريخ العام للفلسفة اليونانية والإسلامية، وإنما كان هاجسه منهجياً ذا صلة بمسألة الرؤية والمنظور الذي يصدر عنه. حيث هدف إلى إعمال المنظور الانفصالي لتاريخ الفلسفة في حقل دراسة التراث الفلسفي الإسلامي، وهذا ما جعل من عمله ذاك يتخذ صورة رسم للحدود بين المرجعيات الفلسفية التي انتهل منها الفارابي معالم فلسفته في السياسية، وربطا لأفكاره بأسباب نزولها التاريخية والسياسية والاجتماعية، بحثا عن أفقٍ تأويلي يمكن أن نفهم في إطاره فرادة فلسفة الفارابي وخصوصيتها.
-5-
نرجع الآن إلى الإشكالية التي انطلقنا منها في بداية هذه الورقة؛ هل يعني الاشتغال في مجال التراث والفلسفة الإسلامية، بالضرورة، ممارسة تأريخ اتصالي للأفكار؟ وإذا كانت الازدواجية قدراً لا مَهرب منه، فكيف يمكن الاشتغال على التراث والفلسفة الإسلامية من دون الوقوع في شَرَكِ النزعة الاتصالية؛ أي من دون الاكتفاء بـ “سرد الحكايات”و”استعراض الآراء” و”إحصاء الفِرق”؟ وهل يكفي الهروب من هذا المجال صوب عوالم الفلسفة الغربية لتشييد موقف فلسفي قادر على بلورة فهم معقول للراهن وأسئلته؟ وأي معنى يبقى للتفكير الفلسفي في السياق العربي المعاصر إن هو تخلى عن الانهمام بالتراث الذي لا يزال يجثم بطيفه على وعينا ويحدد كثيرا من الأسئلة المقلقة لكينونتنا؟
لا حاجةَ بنا إلى التشديد على أنّ قراءة بنعبد العالي لفلسفة الفارابي لم تكُن مجرَّد تأريخ يكتفي بسرد حكايات عن الفلسفة الإسلامية وتطوُّرها؛ وقد حاولنا أن نسوق من كتابه عن الفارابي من الشواهد ما يمكن حسبانه دليلاً على سعيه إلى البحث عن التباينات والاختلافات الفاصلة بينه وبين المرجعيات الفلسفية الأخرى التي جرتْ عادةُ الباحثين في فلسفة على اعتبارها أصولاً لفلسفة الفارابي. كما رأينا كيفَ تمكَّن بنعبد العالي من وضع اليد على كثير من مظاهر جدَّة تلكَ فلسفة عندما قرأها على ضوء شرطها التاريخي. وهذه كلُّها مُؤشراتٌ قد تأذنُ للقارئ باستنتاج أنَّ الرجل كان مسكونا بهاجس تنكب الرؤية الاتصالية لتاريخ الأفكار حتى قبل “هجرته” إلى عالَم الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصر، وقبل أنْ يَصير الانفصالُ عُنوانا كبيراً لاختياره الفلسفي. متى فهمنا التأريخ الانفصالي بهذا المعنى، أي باعتباره فهما يصدر عن وعيٍ قلق بالمفارقات والتناقضات التي تسكن تاريخ الأفكار وتطورها، أمكننا الحكم على كتاب الفلسفة السياسية عند الفارابي بأنه كان في جملة التمارين الأولى التي خبر فيها بنعبد العالي فكر الانفصال، وأنَّ الحديث عن منعطف في مسار الرجل إنما يقتصر على انتقاله من ميدان فكري إلى آخر، وليس بتغيُّر جذري على مستوى الرؤية النقدية التي ظلَّ يصدر عنها طيلة مساره الفكري. علاوة على ذلك، تفيدنا تجربة بنعبد العالي في التأريخ للفلسفة الإسلامية في تبيُّن أهمية قراءة “التراث الفلسفي الإسلامي” برمته على نحو انفصالي؛ حيث تمكننا هذه القراءةُ من الوقوف على مظاهر فرادته وجدته بدلا من اللهث وراء منطق جامع يلوي عنق النصوص ويجبرها على قول الشيء نفسه؛ كما من الوقوف على حدوده التي تتجذّر في تاريخيته بحسبانها شرطا قبليا لفهمه وتأويله، بما يتيحه ذلك من إضفاء النسبية عليه والانسلال من قبضة أوهامه. يمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام فنقرّ بأنَّ الموقف من النص الفلسفي التراثي يصدر عن رؤية ضمنية إلى علاقتنا بزمنيتنا وتاريخيتنا التي غالبا ما تقسطها القراءات الاتصالية من حساباتها؛ إذ يثوي خلفَ الازدواجية موقفان متباينان من الهُوية والزمن المنتظم لمفهومها؛ زمانُ الاتصال وزمان الانفصال. يقول بنعبد العالي في هذا المعرض؛ “فلكي نثبت أنّ حاضرنا يستند إلى ضرورات قارة وركائز عميقة –يقول بنعبد العالي-نلجأ إلى التراث تزكية لهذا الوهم بالخلود، وإثبات الـ (نحن) وحفظه وصيانته. وهنا لا مجال للتعدد والكثرة، أو الانفصال والقطيعة. فلا يكون الحديث عن التراث إلا بصيغة المفرد، بل بصيغة التعريف؛ فكل الاختلافات تمحي، وكلُّ الانفصالات والقطيعات تذوب، وكلّ التحولات تنصهر لتفسح المجال لكيان موحد، وتتيح الفرصة لظهور هوية خالدة على مسرح التاريخ”. “أمَّا إذا ربطنا طرح قضية التراث بفلسفة مغايرة عن الهوية، حيث لا يعود السلب والنفس مجرد لحظة في بناء الهوية، وحيث يقحم الآخر ‘داخل’ الذات ويصبح قائماً فيها، ويغدو هو البون الذي يفصلها عن ذاتها، ولا يعود مجرد ‘ذات’ تقابل الذات وتتعارض معها من ‘خارج’، فحينئذٍ سيبرز التراث في غناه وكثرته وتعدده، ولا يعود اللجوء غليه تزكية للوهم بالخلود، وإنما إصغاء لأصواته المتعددة وتملكا لفراغاته وحفريات لصمته”[56]
متى نظرنا إلى الازدواجية من هذا المنظور المنهجي الصرف، أدركنا أنَّها ليست دائماً عائقاً بالنسبة إلى الباحثين في الفلسفة في العالم العربي؛ ولا يُمكن التعامل معها باعتبارها عائقاً معرفياً يفرض علينا، قسراً، الهجرة من ميدان الفلسفة الإسلامية والتراث صوب ميدان الفلسفة الغربية، أو الهروب من هذا إلى ذاك. وتبقى كتابات بنعبد العالي دليلاً على إمكانية الإفادة من مكتسبات الفكر المعاصر في استشكال سؤال التراث وقضاياه الفلسفية الكبرى. لذلك بوسعنا الإقرارُ بأنَّ الازدواجية “شرطٌ وجوديٌ” للفكر الفلسفي عندنا، وحسنا فعل بنعبد العالي عندما وصفها بأنها “قدرٌ”؛ فمهما يكن من شأن التشويش الذي مارسته على وعينا الفلسفي، فإنها استطاعت أن تنبهنا إلى ضرورة الخروج من شرنقة الهوية الميتافيزيقية وجَرِّنا إلى مَجالاتِ الفكر المعاصر الذي ينضح بالاختلاف والتعدُّد، وإذا كانت مجاوز الميتافيزيقا تقتضي الإنصات لها ومُحاورة نصوصها التأسيسية، فإنَّ مُحاورة التراث تبقى، بشكل من الأشكال، خطوة ضرورية في سبيل تفكيك تصورنا الميتافيزيقي للزمان والهوية، وهي محاورة لا تستقيم على مقتضى الرؤية المنهجية الاتصالية التي هي جزء من زمنية التراث نفسها، بقدر ما تستدعي إعمال منظور منهجي أثبت قدرته على خلخلة زمنية الهوية الاتصالية وشقّ دروب أمام اكتشاف الذات في مرآة زمنية انفصالية تعيد ترتيب علاقتنا بهويتنا كما بالآخر على مقتضى التعدد والاختلاف. إنَّ الازدواجية، إذن، عنوان كبير لوضعنا الفلسفي، ويبدو أن محاولات التنكر لها لم تُفد كثيراً في مجاوزتها بقدر ما أثبت ضرورة الوعي بسطوتها على كل تفكير فلسفي مشروع عندنا.
المصادر والمراجع:
[1] – انظر مقاله قدر الازدواجية على الموقع الالكتروني التالي؛ عبد السلام بنعبد العالي – قدر الإزدواجية | الأنطولوجيا (alantologia.com)
[2] – عبد السلام بنعبد العالي، هايدغر ضد هيجل (التراث والاختلاف)، بيروت؛ دار التنوير، 2006، ص. 11.
[3] – عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، الدار البيضاء؛ دار توبقال، 2008، ص. 10.
[4] – عبد السلام بنعبد العالي، الفلسفة أداةً للحوار، الدار البيضاء؛ دار توبقال، 2011، ص. 13.
[5] – المصدر نفسه، ص. 13-14.
[6] – يقول عبد الله العروي؛ “لا يستطيع أحد أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية، موضوعية، إذا ما هو بقي، أعني الدارس، في مستوى ذلك التراث. لابد له، قبل كل شيء، أن يعي ضرورة القطيعة وأن يقدم عليها. كم من باحث يتكلم عليها كموضوع، وهو نفسه غير قادر على تحقيقها.” عبد الله العروي، مفهوم العقل، مقالة في المفارقات، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1997، ص. 11.
[7] – عبد السلام بعبد العالي، ضد الراهن، الدار البيضاء؛ دار توبقال، 2005، ص. 5
[8] – انظر في هذا السياق كتابه؛ أسس الفكر الفلسفي المعاصر.
[9] – بنعبد العالي، هايدغر ضد هيغل، ص. 15.
[10] – الصفحة نفسها.
[11] – يقول بنعبد العالي؛ “فالميتافيزيقا لا تعني اليوم جهة من جهات الفكر، وفرعا من فروع الدراسات كما يقول هايدغر، وإنما هي حاضرة في الأدب بل وفي اللغة”، عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والميتافيزيقا؛ دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو، الدار البيضاء؛ دار توبقال، 2009، ص.9.
[12] – بنعبد العالي، هايدغر ضد هيغل، ص. 16.
[13] – عبد الإله بلقزيز، نقد التراث، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2015، ص. 41.
[14] – محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة، 1993، ص. 16.
[15] – المرجع نفسه، ص. 16.
[16] – محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة السادسة، 1999، ص. 193.
[17] – بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، بيروت؛ دار الطليعة، الطبعة الرابعة،1997، ص.6.
[18] – علي أومليل، في التراث والتجاوز، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، 1990، ص. 21.
[19] – M, Arkoun, Pour une critique de la raison islamique, Paris, Maisonneuve, 1984, p. 49.
[20] – المصدر نفسه، ص. 9.
[21] – المصدر نفسه، ص. 9-10.
[22] – عبد الله العروي، مفهوم الدولة، ص. 112.
[23] – ذكره؛ بعيبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 11.
[24] – طيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دمشق، دار دمشق، 1971، ص. 283.
[25] – بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 13.
[26] – M, Mehdi, la fondation de la philosophie politique en Islam, Paris, Flammarion, 2000, p. 17.
[27] – الفارابي، كتاب السياسة المدنية (الملقب بمبادئ الموجودات)، تحقيق فوزي متري نجار، بيروت؛ دار المشرق، 1994، ص. 32.
[28] – محسن مهدي، تقديم كتاب الملة للفارابي، ص. 13 (ذكره؛ بعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 17)
[29] – المصدر نفسه، ص. 18.
[30] – المصدر نفسه، ص. 20.
[31] – الفارابي، فصول منتزعة، ص. 35.
[32] – المصدر نفسه، ص. 71.
[33] – الفارابي، كتاب الملة (ونصوص أخرى)، تحقيق محسن مهدي، بيروت؛ دار المشرق، الطبعة الثالثة، 2001، ص. 76.
[34] – بعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 25.
[35] – الجابري، نحن والتراث، ص. 40.
[36] – المصدر نفسه، ص. 29.
[37] – المصدر نفسه، ص. 51.
[38] – المصدر نفسه، ص. 52.
[39] – المصدر نفسه، ص. 56.
[40] – “الجمع إذن ضرورة سياسية، مادامت الفلسفة هي التي ستكون أساس الحكم الصالح، وما دام الحكم الصالح لا يكون كذلك إلاَّ إذا قام على آراء صائبة، أو على الأصح، على آراء يمكن أن ينتفيَ معها كل خلاف في الرأي، مادام المقصود بالدرجة الأولى هو فعل الإجماع ذاته، وإبعاد الجدل والاختلاف، ذلك السم الذي يفرق الأمة منذ بداية نشأتها، والذي يفرق الآن قوى المجتمع بمختلف مشاربها” (المصدر نفسه، ص. 94)
[41] – المصدر نفسه، ص. 60.
[42] – المصدر نفسه، ص. 61.
[43] – المصدر نفسه، ص. 73.
[44] – المصدر نفسه، ص. 77.
[45] – يقول الفارابي؛ “فكان [العلم النظري] في الكلدانيين، وهم من أهل العراق، ثم صار إلى مصر، ثم انتقل إلى اليونان” كما يشدد أن هذا العلم لم يصل إلى العرب إلا بعد “أن انتقل إلى السريانيين”، ذكره؛ المصدر نفسه، ص. 96.
[46] – المصدر نفسه، ص. 73.
[47] – المصدر نفسه، ص. 140.
[48] – Makram Abbés, Islam et politique à l’âge classique, Paris, PUF, 2009, p. 47.
[49] – بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 132.
[50] – Bertrand Badie, Les deux Etats, Pouvoir et société en occident et en terre d’Islam, Paris, Seuil, 1997, p.42.
[51] – الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت؛ دار الكتب العلمية، [د، ت]، ص. 19.
[52] – بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 135-136.
[53] – المصدر نفسه، ص. 136.
[54] – بنعبد العالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص. 88.
[55] – المصدر نفسه، ص. 145.
[56] – بنعبد العالي، ثقافة السمع وثقافة العين، ص.12.