من الشخصانية إلى الغدية..بحثا عن الإنسان

تكوين

“إنه منعطف خصب في فكر فيلسوفنا،

 أسفر عن مذهب فلسفي جديد وطموح،

تتجذر أصوله في فلسفته الشخصانية الواقعية

التي حملت في رحمها بذرة فلسفة غدوية إنسانية شاملة”

فاطمة الجامعي الحبابي (من مقدمة كتاب: عالم الغد)

تقديم:

كتبت الكثير من الأعمال حول الإنسان، فقد اعتبر “ذلك المجهول” تارة، و”ذلك المعلوم” تارة أخرى، ويبدو أنه أصبح في زمننا “ذلك المفقود”، أو ذلك “التائه” و”المهدد”، فوضع الإنسان يزداد تعقيدا وتأزما ؛ صراعات، حروب، أوبئة، قلق، اكتئاب، تفاهة..الخ، كلها حالات مصاحبة لجل البشر في العالم، وتزداد حدتها وضغطها كل يوم، أما شعارات التسامح والتعايش والحوار والتفاهم، وحقوق الإنسان، فتبدو آيلة للزوال إذا استمر الوضع في السير نحو الهاوية، لا العلم ولا السياسة ولا التقنية في خدمة الإنسان في المطلق، بل هي في أحسن الأحوال تخدم “بعض” البشر، وهم قلة قليلة جدا إذا ما قورنوا بالبقية، وكما أنهم ليسوا بالضرورة سعداء بذلك، يقول محمد عزيز الحبابي واصفا هذه الحالة، وكأنه يعيش بيننا:” لا المتقدمون سعداء بطاقاتهم وثرواتهم، ولا البؤساء قانعون بأحوالهم، الجميع متذمر من عالم أنهكته أزمات متجددة وباءت فيه كل محاولات المصلحين بالفشل الذريع”[1].

إسهاما منه في مناقشة الأزمات التي يعانيها الإنسان المعاصر، فقد نظّر الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي لفلسفة أطلق عليها تسميات: الشخصانية الواقعية، الشخصانية الإسلامية، الغدية، وهي تعد من بين الإسهامات المتميزة بالعمق والدقة المفاهيمية والثراء الموضوعاتي في الفكر العربي المعاصر، ومع ذلك لم تلق الاهتمام المناسب لها من قبل النقاد العرب، وتلك حالة اعتدنا عليها، فنحن لا نقدر قيمة مفكرينا ومثقفينا، وفضيلة الاعتراف لا تزال غائبة عن تقاليدنا الثقافية، حتى أن أمثالنا الشعبية خلدت هذا النكران وعدم الاعتراف؛ “فمزمار الحي لا يطرب” و “لا كرامة لنبي في أهله”، أشير إلى هذا الوضع غير الصحي وأنا استحضر تعليقا للفيلسوف الفرنسي الكبير غاستون باشلار (18841962) على كتاب محمد عزيز الحبابي: “أحرية أم تحرر؟”(Liberté ou libération ?) حيث قال عنه: “إنه كتاب ممتع، فيه إيمان بالفلسفة، فنحن في حاجة إلى الكثير من أمثاله”[2]، من المؤكد أن باشلار الذي كان يعيش أعوامه الأخيرة عند صدور الكتاب(1956) لم يكن يجامل الحبابي، إنما عبر بتعليقه عن قيمة مضمون الكتاب من الناحية الفلسفية، وجدارة صاحبه بكثير من الاهتمام، سنحاول في هذه الورقة فتح نافذة على المدونة الثرية التي تركها الحبابي، للتعرف على بعض ملامحها مع التركيز على الجوانب التي تعنينا في اللحظة الراهنة وعلى رأسها مشكلة الإنسان.

أولا: السياق التاريخي  والفلسفي للشخصانية في الفكر الغربي:

اجتمعت معطيات وأحداث كثيرة وخطيرة في النصف الأول من القرن العشرين اضطرت بعض المفكرين والفلاسفة للبحث عن اتجاهات فكرية أخرى غير تلك الموجودة، طالما أنها لم تستطع حماية الإنسان وتحقيق السلم والسعادة التي وعدت بهما، فالحرب العالمية الأولى، الأزمة الاقتصادية عام 1929 وما ترتب عنها من فقر ومجاعة وظهور للحركات الفاشية والنازية المدمرة، الحرب العالمية الثانية والدمار الذي خلفته..الخ، كلها عوامل أسهمت في ظهور الاتجاه الفلسفي الشخصاني ممثلا بـــ: دو لاكروا (1900-1986)، وإيمانويل مونييه (1905-1950)، والذي تعود جذوره إلى أحد تلاميذ أوغست كونت(1798-1857) وهو تشارلز رونوفييه (18151903) صاحب الفضل في وضع هذا المفهوم.

إقرأ أيضاً: الإنسان والتناصات اللانهائية: الغذاء المُحرَّم

من الناحية الفكرية، حاولت الشخصانية أن تستفيد من الفلسفات البارزة في تلك الفترة، حيث اتكأت على البرغسونية وتقاطعت مع الوجودية والماركسية، إلا أنها سعت إلى تجاوز كل هذه الفلسفات؛ فهي تختلف مع البرغسونية في الاهتمام بالشخص بدل الذات أو الكائن ، كما تنفصل عن الماركسية لأن هذه الأخيرة تركز على المادة، دون اكتراث بالروح، وتهتم بالجماعة/الطبقة دون الالتفات لخصوصية الأشخاص، في حين تركز الشخصانية اهتمامها على الشخص معتبرة إياه فرادة لا تتكرر، وقيمة الشخص لا يحددها المجتمع ولكن الشخص يعرف قيمته عن طريق الآخرين.

من جهة أخرى فالشخصانية لا تتفق مع الوجودية من حيث الرؤية العبثية والدعوة للحرية المطلقة، واعتبار الآخر جحيما..الخ، ومن ثم تكون الشخصانية فلسفة إنسانية توفيقية؛ تجمع بين الاهتمام بالمادة والرح، بالفرد/الشخص والجماعة، تؤمن بالحرية لا كصفة أو جوهر، إنما كممارسة واقعية أي كسعي للتحرر، مثلما تؤمن بضرورة التواصل مع الآخر كشرط لتحقيق التشخصن  Personnalisation  وهو المعبر عن الوجود الحقيقي للشخص والذي يسمح له بتحقيق ممكناته في التاريخ، يقول إيمانويل مونييه: “..عكس الأطروحة السائدة، فإن الأصل ليس العزلة والذاتية والفرقة، إنما التواصل”[3]، وبالتالي فالآخر ضروري لتحقيق الشخص لذاته ومعرفته لحقيقته وحقيقة ما يحيط به.

من جهة أخرى، فإن الشخصانية كغيرها من الفلسفات المعاصرة، تقدم نفسها كمنهج أكثر من مذهب، لذلك فإن هناك شخصانيات عدة وليست شخصانية واحدة (الأمر شبيه بالوجودية)، يقول مونييه:” الشخصانية ليست نسقا، إنما هي فلسفة، وهي لا تبحث عن النسقية التي تقتضي انتظام المفاهيم والمنطقية والوحدة(..) بحثها المركزي هو الوجود الإنساني الحر المبدع”[4].

وعليه يمكن القول أن الشخصانية جاءت كأفق بديل لتجاوز أزمة القيم التي عاشها الفكر الغربي في النصف الأول من القرن العشرين، فكانت فلسفة للدفاع عن الشخص ضد الذات، ودعوة لإنقاذ الإنسان من الاغتراب في عالم الآلة، من الحرب، من الضياع، فهي دفاع عن القيم الإنسانية، وهي دعوة أيضا، للتحرر من كل القيود الداخلية والخارجية، مثلما هي دعوة للانفتاح، للتواصل، للتحرر، ودعوة لرفض التمذهب الضيق، وتمرد على الرأسمالية وكل الأنساق الشمولية.

كما حدث مع مختلف التيارات الفكرية الغربية، فقد تلقف بعض المفكرين العرب هذا الاتجاه الفكري-الشخصانية- وحاولوا نقلها للثقافة العربية، من منطلق أن مبررات قيامها في الفكر الغربي موجودة، وربما بدرجة أكبر في المجتمعات العربية، فليس الإنسان العربي بأقل معاناة أو ضياع من غيره، ولا الوضع العربي العام بأقل تأزما من أوضاع الآخرين، ولعل أبرز ممثلي هذا التيار في الفكر العربي هما؛ المفكر اللبناني رونيه حبشي(19142003) والمغربي محمد عزيز الحبابي(19221993).

ثانيا: محمد عزيز الحبابي: الشخصاني-الإنساني المتعدد:

مفكر مغربي، شاعر، قاص، فيلسوف، سيناريست، كتب باللغتين العربية والفرنسية، درس في المغرب في بداية حياته، أين عانى من اليتم والظلم الاستعماري حيث سجن وعذب، وهي تجارب حياتية مؤلمة كان لها أثر كبير على فلسفته فيما بعد، ومن خلالها “اكتشف نفسه كمشكلة فلسفية”[5] ، ثم انتقل إلى فرنسا، وتحديدا لجامعة السوربون العريقة وتحصل فيها على دكتوراه فلسفة عام 1954، عن أطروحة رئيسة عنوانها: “من الكائن إلى الشخص: محاولة في الشخصانية الواقعية”، وأطروحة تكميلية وسمها بـ: “أحرية أم تحرر؟”، وهو أول باحث مغاربي يتحصل على درجة دكتوراه فلسفة، عمل أستاذا للفلسفة بالرباط والجزائر، كما عمل عميدا للكلية بجامعة الرباط، وهو مؤسس اتحاد كتاب المغرب، والجمعية الفلسفية المغربية، عضو أكاديمية المغرب، وأكاديمية ما وراء البحار، عضو المجمع اللغوي والأكاديمية الدولية للفلسفة، ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، وأهم هذه الأعمال: أكسير الحياة، العض على الحديد، من الحريات إلى التحرر، أزمة القيم، ورقات عن فلسفات إسلامية، الشخصانية الإسلامية، من الكائن إلى الشخص، دفاتر غدوية…الخ.

وبالرغم من اقتران اسم الحبابي بمحاولته تأصيل الشخصانية وإثبات عدم تنافيها، بل، وتناغمها الكبير مع القرآن الكريم والسنة النبوية من خلال كتابه “الشخصانية الإسلامية”، الذي يقوم في مجمله على إيراد الفكرة أو المبدأ المتعلق بالشخصانية ثم إيراد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يمكن فهمها وتأويلها على أنها تتضمن ذلك المبدأ أو تدعو إليه، إلا أنه –الحبابي- وظف تسميات أخرى للدلالة على اتجاهه الفلسفي بالنظر لتطور فكره وتنوع اهتماماته، وكلها تصب في موضوع مركزي كبير هو مشكلة الإنسان، يقول أحد الباحثين أن: “الشخصانية الواقعية، والشخصانية الإسلامية، والشخصانية الإفريقية والغدية تنتظم كلها في إطار رؤية انطولوجية إنسانية أخلاقية جامعة تجعل من الإنسان المقولة العليا للفكر والعمل”[6].

ثالثا: الحبابي باحثا عن الإنسان:

قد يطرح القارئ سؤالا له قدر من الوجاهة؛ لماذا العودة إلى الشخصانية وإلى الحبابي الآن؟ بالطبع لن تكون الإجابة أن الغرض هو الإحياء أو التحيين، فذلك لا هو بالممكن ولا بالإجرائي، بالنظر لما عرفه العالم من تغير في مختلف المجالات، وبالتالي، فاحترام التاريخية، يقتضي النظر إلى خطاب القرن الماضي على أنه يخص بالدرجة الأولى قارئ القرن الماضي، مع أن ذلك لا ينفي إمكانية الاستفادة من بعض جزئياته في الراهن ولو على سبيل التفكير من خلالها أو الاتكاء عليها، فالتيارات الفكرية لا يجُبّ بعضها بعضا بصورة كليةـ، ومن ثم يكون الغرض من هذه العودة، هو تفكير ما تفرضه المعطيات التي يعيشها الإنسان عموما في الراهن، والإنسان من منطقتنا العربية الإسلامية على وجه الخصوص، وهي معطيات غير بعيدة –على الأقل في أثرها على الإنسان-عن المعطيات التي ظهرت فيها الشخصانية، ومن جهة أخرى، فإن الكثير من الأفكار التي طرحها الحبابي في مدونته تجعلنا نشعر وكأنه يتحدث عنا وعن راهننا، وبالتالي، فهي جديرة بالاستعادة والمناقشة، ونتيجة اتساع مدونة الحبابي وصعوبة الحديث عن كل مضامينها في مقالة قصيرة، فإننا سنركز على بعض الأفكار التي نراها قريبة مما نعيشه دون غيرها.

  • من الكائن إلى الشخص إلى الإنسان:

يميز الحبابي بين ثلاث مراتب؛ الكائن، الشخص، والإنسان أعلى هذه المراتب، وهو غاية نسعى لبلوغها وليس منطلقا نبدأ منه، المنطلق هو “الكائن البشري، وهو معطى خام، يظهر ويصير، كلما زاد اتجاهه نحو التشخصن، ونحو الاندماج في مجتمع من الأشخاص”[7]، والتشخصن هو العملية التي تسمح بتحقيق الممكنات في التاريخ، فـالشخص، هو كائن-في–الواقع، وهو قوة مبادرة واختيار: يلتزم، ويندمج، وينسجم، يشعر، فيقبل أو يرفض، تلك حالات وانفعالات وأفعال يعيشها “الشخص وهو يصنع ذاته انطلاقا من الكائن، إنه كائن-وهو-يتشخصن: فأنا لا أظهر، كواقع مادي إلا لأني كائن، بيد أن نزوعاتي، وأفكاري، وأهوائي، ومجموع سلوكي، يتعلق كله بواقع آخر يتجاوز عالم الماديات”[8]، إنه عالم الأشخاص، “ولأن الكائن-وهو-يتشخصن ليس منغلقا على طبيعته البيولوجية، وليس إرادة محضة، يبذل جهده ليكشف النافع والملائم والحسن ويسعى نحو الأحسن(أو ما يبدو كذلك)”[9]، وبالتالي فهو يسعى نحو الكمال، ونحو بلوغ مرتبة الإنسانية، والإنسان ليس “موناده” كما كان يقول الفيلسوف الألماني ليبنتز(16461716)، ولا فكرة مجردة كما ذهبت إليه الفلسفة المثالية، إنما هو كائن متجذر في أرض وتاريخ وفي واقع كثيف، ومحاط بظروف وأشخاص.

وعلى اعتبار أن المرتبة الأولى معطاة، والمرتبة الأخيرة غاية، فإن أهم مرتبة في هذا السلم هي مرتبة الشخص الذي يسعى عبر عملية التشخصن للرقي إلى مرتبة الإنسان من خلال تجاوز العوائق التي تعترضه في مساره، وهي عوائق داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، تتعلق بالشخص في حد ذاته وبالمحيط الذي يعيش فيه، هذا التجاوز هو ما ناقشه الحبابي ضمن مشكلة الحرية والتحرر.

  • من الحرية إلى التحرر:

مشكلة الحرية رافقت كل الفلسفات عبر العصور، واتخذت تجاهها مواقف كثيرة ومتعددة، وقد خصص لها الحبابي أحد أهم أعماله، محاولا إبراز موقفه منها، وهو موقف ينطلق من رفض التصور الماهوي المجرد للحرية، إذ “ليست الحرية صفة ولا حالة خاصة جامدة، بل إنها اكتساب تدريجي وفعالية مستمرة”[10]، كما انتقد الموقف البرغسوني من الحرية مبينا أن “هناك فرقا كبيرا بين الحرية المجردة العامة، لـ”لأنا العميق”(برغسون) وبين إمكانية القيام بأفعال في بيئة معينة، وفي سبيل بلوغ هدف محدد، فالكائن البشري لا يعيش في مدينة ربانية يقطنها الصوفيون والأبطال والقديسون..بل في مدينة يقطنها أشخاص عاديون”[11]، من خلال هذا النقد للتصورات السائدة، حاول الحبابي أن يختط لنفسه –كما فعل الشخصانيون- مسارا آخر لفهم مشكلة الحرية، عن طريق زحزحتها من مفهوم “الحرية” إلى عملية “التحرر”، ومبرر هذه الزحزحة أو التعديل في الإشكالية، هو كون الكائن البشري لا يكون كذلك إلا في التاريخ، في الواقع، ويكوّن من نفسه تاريخ تحرره، بمساهمته في التاريخ”[12]، وبقدر ما يستطيع الشخص التحرر من العوائق التي تعترض تشخصنه بقدر ما يستطيع  الإسهام والحضور في التاريخ، كما يربط الحبابي التحرر بوجود الآخرين منحازا إلى كارل ياسبيرز(18831969) في مقابل جان بول سارتر (19051980)، مع الحفاظ على الاستقلال الذاتي للشخص؛ فالإنسان في نظر الحبابي، يعيش مهددا بين خطرين: خطر التحول إلى إنسان-جمهرة (التحول إلى مجرد عضو في قطيع)، وخطر الانغماس في العزلة والانطوائية والانكفاء على الذات، لذلك، والشخصانية ترفض هذه العزلة، لأنها أقرب إلى التحجر أو التشيء منها إلى التحرر، مثلما ترفض الطاعة العمياء للأشخاص والأشياء، وترفض الاستبداد سواء كان سياسيا أو فكرويا (أيديولوجيا) أو دينيا، مثلما ترفض الوساطة بين الله والبشر، يشبه الحبابي العلاقات بين الأشخاص في العالم قائلا: “فمَثل العالم الإنساني كمثل كتاب عظيم، غير متناه، تتجاذب أوراقه وتتكامل، برغم اختلافها واستقلالها وترابطها في هذا الاستقلال”[13].

والتحرر فعالية في استمرار دائم، يعيشها كل فرد منا في كل لحظة وبطريقة خاصة به، في تفاعل وتضامن مع الآخرين، وبالرغم من أن الشخص حالة فريدة غير متكررة، و”لا وجود لنموذج إنساني أو لقالب يفرغ فيه جميع الأشخاص، ليكونوا على نمط واحد، إذ لكل شخص وجهته وتطلعاته”[14]، إلا أن “التفاعل ضروري بين الشخص والجماعة، دون أسبقية هذه على ذاك، أو العكس، إذ لا جماعة بدون أفراد واعين(أي أشخاص)، ولا فرد بدون جماعة تؤنسه، فالتواصل بين الفرد والآخرين داخل إطار جغرافي من الأبعاد العميقة للشخص، فالتعاطف والتواصل والمودة والحب فعاليات طبيعية، في كل فرد، تستلزم، مسبقا، وجود الآخرين، فهي تبادل بين طاقات وجدانية وليست أفعالا معزولة”[15]، وبالتالي، لكل شخص مساره في التحرر، وتحقيق إمكانياته، وصناعة تاريخه، للإسهام في تاريخ البشرية، ولكن ذلك يتم عبر العلاقة مع الآخرين، والتحرر ليس كلا قد تحقق، ولكنه مجموع مركب يعمل على التحقق تدريجيا وبصورة نسبية، تختلف من شخص لآخر.

  • من الحاضر إلى الغد: نحو فلسفة غدية:

يرى الحبابي أن التطور العلمي والتقني أوصل البشرية إلى وضع جد معقد، بفعل الأزمات المتلاحقة والتي تتوالد باستمرار وتلاحق الأفراد والدول دون أن يكون هناك حل لها في الأفق، وأصبحنا أمام ثلاث احتمالات[16]:

-إما إبادة البشرية.

-إما “صنع” الإنسان، بالجملة وعلى نسق واحد، عن طريق تصميمات بيولوجية وديمغرافية؛ مما يضع النوع البشري تحت الحجر ويمنع من شخصنته ذاته ومن أنسنة العالم.

-إما، أخيرا، خلق جو إنساني جديد، يتقلص فيه، باسترسال، عمق الهوة بين الشعوب المتقدمة، وبين الأفراد، داخل الأمة.

لتحقيق الاختيار الثالث، وفي إطار ما سماه بـ”الغدية”، وقصد بها الفلسفة التي يمكنها أن تهيئنا لعالم الغد، يعلن الحبابي موقفه بكل وضوح؛ “أنسنة العالم أو الطوفان”[17]، موضحا أن الليبيرالية كما الاشتراكية كما مختلف المذاهب والإيديولوجيات قد عجزت عن حماية الإنسان من الإنسان، وأصبح الخطر يتهدد الجميع، بفعل غياب القيم وتضخم الأنانية وإرادة الهيمنة بكل الوسائل لدى الأفراد والدول…الخ، فإما أنسنة العالم لإنقاذه وإما الدمار العالمي، ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو: كيف السبيل لأنسنة العالم؟

يقترح الحبابي عدة جسور لأنسنة العالم، بداية، يؤكد أن الأنسنة لا تتحقق بالأدعية والآمال، بل بالاقتناع فكريا ورحيا حتى يصبح مسارها قابلا للتطبيق، ثم توفر إرادة سياسية لذلك وهي مشروطة بوجود مسؤولين على قدر كبير من العلم والدراية في كل الدول، حتى يُشرع في أنسنة المجتمعات من خلال إعادة الاعتبار لقيم التعاون، والتعاطف والشعور بمسؤولية الجميع عن بؤس وشقاء الناس، وتحقيق العدل في توزيع الغذاء والطاقة ومختلف متطلبات الحد الأدنى للحياة لكل فرد، وتجاوز الصراعات المذهبية والطائفية والعنصرية، وبدلا من مقولة: “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” التي نعيشها، للأسف الشديد، “على الجميع، مهما اختلفت الديانات والفكرولوجيات والأجناس والألوان والألسنة والثقافات، أن يعمل على أن يكون الإنسان أخا للإنسان”[18]، وعالم الغد سيتحقق بتعاون الجميع، أو لا يتحقق إطلاقا[19].

كما أنه من الضروري إعادة الاعتبار للإيمان كأحد مقومات النهضة الكفيلة بتصحيح الأوضاع وإعادة إنسانية الإنسان، فالتقنيات والتقدم والحضارة في حاجة إلى تهوية نظيفة واطمئنان أخلاقي ونفسي كي تبقى في مسار تصاعدي نحو التشخصن السوي الذي يوصل للإنسانية، وهو ما يوفره الإيمان، وكل نكران للأبعاد العمقية (عالم الوجدان/الروحيات/المعنويات) هو تكسير لوحدة الشخص، وإفراغ له من كل ما ينقله من الكائن الخام إلى كائن بشري يتشخصن ويتأنسن طول الحياة[20].

خاتمة:

بعد هذه الوقفة مع بعض الأفكار التي نظّر لها الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، ضمن اتجاهه الفلسفي الذي بدأ بالشخصانية الواقعية وتطور نحو الفلسفة الغدية، محاولا من خلالها تشخيص مكامن الأزمة التي يعانيها الإنسان، والتي قد تعصف بالبشرية أجمع إذا استمرت منابعها في تزويدها بالطاقة التدميرية –مثلما نعيشه في راهننا- ثم البحث عن السبل الكفيلة بتجاوز هذه الأزمة أو التخفيف من حدتها على الأقل، سعيا لاسترجاع إنسانية الإنسان المفقودة، بفعل الصراع والتنافس والهيمنة، والتمييز بين إنسان وإنسان آخر، ويشعر المرء تجاه هذه الأفكار أنها نعنيه مباشرة، فالوضع الذي نعيشه خاصة على المستوى العربي الإسلامي، وضع بائس وتعيس وخطير، وضع يزداد فيه تهديد الإنسان كل يوم بفعل الصراعات والحروب الداخلية، والتدخل المباشر للأطراف الخارجية في تغذية الخلافات وتفتيت المجتمعات العربية الإسلامية.

تقتضي الأنسنة في نظر الحبابي التشخصن أي الانتقال من الكائن إلى الشخص، وهذا بدوره مرهون بالتحرر، وفي ظل المعطيات التي يعيشها الإنسان العربي المسلم، يبدو التحرر عملية عسيرة جدا لاسيما من بعض العوائق الخارجية؛ فكيف يكمن الحديث عن التحرر لإنسان يعاني الجوع والفقر والأمية والاستبداد بشتى أنواعه؟ التحرر ليس قرارا يتخذه الفرد فجأة فيتحقق، إنه عملية تتطلب توفر الوعي والإمكانيات التي تسمح بالشروع في الإنجاز.

التشخصن ينطلق من رفض الطاعة العمياء للأشخاص والأشياء، غير أن واقعنا يكشف أن فئات كثيرة من المجتمع غير مستعدة لهذا التحدي الأساس، هناك تراكمات تاريخية وفكرية وسياسية تجعل هذه الفئات تستمر في تقديم الولاء والطاعة لأشخاص وجهات معينة عابرة للأوطان، غير معترفة بالحدود، دون التساؤل عن مشروعية هذه الطاعة أو الغرض منها، وما الكثير من الصراعات الداخلية في الأوطان العربية الإسلامية إلا انعكاس مباشر لهذا الطاعة العمياء.

تحدث الحبابي عن الفلسفة الغدية التي ترمي إلى تصحيح الوضع الحالي وأنسنة العالم لإنقاذه، غير أن حديثه ومقترحاته –وإن كانت تبدو مهمة جدا-تبقى مجرد صيحات في الفراغ، ونوعا من اليوتوبيا بعيدة المنال في ظل تعجرف القوى المادية الغربية المهيمنة على العالم، والتي لا تقبل إشراك الآخرين في تسيير هذا العالم ورسم وجهته المستقبلية حفاظا على امتيازاتها المادية والسلطوية، ونحن نلاحظ كيف تعمل هذه القوى، بفضل أذرعها الإعلامية النافذة، على قمع وتهميش وإسكات كل من يقترب من فضح آلياتها، ونقد ممارساتها من المفكرين الغربيين، فما بالك بغيرهم، لذلك، ومع أن الحبابي يؤكد على ضرورة التمييز بين الغرب الاستعماري والغرب الإنساني، والعمل على محاربة الأول بالثاني، إلا أن تغول الأول، يعقد من هذه المهمة كثيرا، حتى أنها تبدو مستحيلة في ظل الأوضاع الراهنة، لذلك فالإنسان يبقى ذلك المفقود والأنسنة تبقى حلما مؤجلا إلى حين.

 

المراجع:

 محمد عزيز الحبابي: دفاتر غدوية: الدفتر الأول أزمة القيم، القاهرة: دار المعارف، ط1، 1991، ص 21.[1]

 محمد عزيز الحبابي: من الحريات إلى التحرر، القاهرة: دار المعارف، د ط، ص 05. [2]

[3] Emmanuel Mounier : Le Personnalisme, Paris, Ed : Que sais-je ?, P 31.

[4] Ibid: P : 04.

 ابراهيم مجيديله: محمد عزيز الحبابي مسار حياة وفكر، موقع مركز روافد، ص 08.[5]

 المرجع نفسه، ص10.[6]

 محمد عزيز الحبابي: من الكائن إلى الشخص، الجزء الأول، القاهرة: دار المعارف، ط2، 1968، ص 11.[7]

[8] محمد عزيز الحبابي: الشخصانية الإسلامية، القاهرة: دار المعارف، ط2، 1983، ص ص 25-26.

 المصدر نفسه، ص 26.[9]

[10] محمد عزيز الحبابي: من الحريات إلى التحرر، ص61.

[11] المصدر نفسه، ص91.

[12] نفسه، ص11.

[13] الحبابي: الشخصانية الإسلامية، ص 12.

الحبابي: من الحريات إلى التحرر، ص 11.[14]

 المصدر نفسه، ص48.[15]

[16] نفسه، ص 221.

 محمد عزيز الحبابي: دفاتر غدوية، ص 39.[17]

[18] نفسه، ص 87.

 محمد عزيز الحبابي: عالم الغد: العالم الثالث يتهم، مدخل إلى الغدية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1،1991، ص 22.[19]

[20] الحبابي: دفاتر غدوية، ص 50.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete