تكوين
يعبر موضوع الهوية عن إشكالية غاية في الحساسية وبحاجة إلى مناقشة بصورة ملحة ومستعجلة، لما تتضمنه وتحيل إليه من الجوانب الرمزية للإنسان والتي يحاول الحفاظ عليها وصيانتها-إن لم نقل تقديسها- لأنها المعبرة عن وجوده وتميزه عن غيره، بالنظر أيضا للتمزق والتشرذم والصراعات التي تعيشها الكثير من بلداننا وما ترتب ويترتب عنها من نتائج وخيمة تصل لحد تقسيم هذه البلدان، وقد حدث ذلك فعلا في السوادان ويمكن أن يحدث في العراق وليبيا وسوريا واليمن، إذا ما استمرت الأوضاع بالشكل الحالي أو ازدادت سوء.
كيف تبنى الهوية؟
وعلى الرغم من الحضور المكثف لقضية الهوية في مختلف الخطابات الإعلامية والسياسية، وكثرة ما كتب ويكتب حولها، وما يعقد من ندوات مكرسة لبسط عناصرها وشرح العلاقات القائمة بينها وغيرها من الموضوعات، إلا أنها في الغالب الأعم لم تطرح بالطريقة المناسبة والفعالة، وإلا فكيف نفسر التخبط والجدل المستمر بين مختلف الأطراف حول جزئيات هذا الموضوع، مع أن كل طرف يدعى أن الموضوع بسيط وواضح ومتفق حوله على اعتبار أن العناصر المكونة للهوية لا تخرج عن اللغة والدين والعرق والتاريخ وإن اختلف المفكرون حول ترتيبها وأي العناصر يمثل الخيط الناظم للعناصر الأخرى؟
إذا حاولنا تتبع المسألة في الماضي القريب نلاحظ أن النخبة الحاكمة في بلدانا منذ استرجاع السيادة الوطنية أواسط القرن العشرين، لم تفتح نقاشا جادا وعميقا حول موضوع الهوية، بحيث تسهم فيه كل الأطياف العرقية والمذهبية والإيديولوجية، أي كل الفعاليات الوطنية؛ ففي الجزائر مثلا-وما حصل في الجزائر لا يختلف كثيرا عما حصل في البلدان العربية الأخرى- ومنذ استعادة الاستقلال، تم تأجيل الطرح الموضوعي لإشكالية الهوية بمبررات مختلفة-يبقى كونها مقنعة أو غير مقنعة أمرا نسبيا وجدليا- كتأسيس الدولة، بداية، ببناء مؤسساتها الرئيسة في فترة الستينات، أو التنمية –الزراعية والصناعية..- في السبعينات، ثم الرفاه الاجتماعي- وفقا لشعار من أجل حياة أفضل- في الثمانينات، ومعالجة الأزمة الأمنية في التسعينات، وأخيرا إصلاح ما أفسدته أعمال العنف أثناء فترة الأزمة السياسية-الأمنية، بمعنى أننا عدنا إلى نقطة البدء. موازاة مع فعل التأجيل هذا، لجأت النخب الحاكمة إلى تبني تصور للهوية على أنها إحلال-أو بالأحرى فرض- وحدة محل التشتت والفرقة، فجعلت من الهوية ملجأ آمنا وقبعة واقية من شر الغزو الأجنبي، والتمزق الداخلي، والعمالة للخارج، وما إلى ذلك من كل تلك الشعارات التي ظلت النخب الحاكمة ترفعها في وجه كل صوت يطالب بفتح النقاش حول هذا الموضوع أو غيره من الموضوعات الحساسة والحرجة، هذا التوجه سهل على هذه النخبة الحاكمة التعامل مع شتى أشكال المعارضة والاحتجاج، إذ يكفي وصفها بالخيانة أو العمالة والتآمر مع قوى أجنبية معادية للوطن ولرموزه وهويته، حتى تتم شرعنة محاكمتها وتشويه سمعتها اجتماعيا على الأقل. فالسلطة إذن، احتكرت الحديث عن الهوية-الملجأ، موظفة مختلف المؤسسات التابعة لها لتمرير هذا التصور وضخه عبر وسائل الإعلام للاستهلاك الجماهيري، حيث يتم الحديث عن الهوية كأنها منتوج معلب، جاهز، مكتمل بناؤه، معروفة عناصره بدقة، وتكون مهمة الأفراد –وليس المواطنين- هي استقبال هذا المنتوج وتمثله والدفاع عنه دون أدنى تساؤل نقدي حول ماهيته.
غير أن هذا التصور وإن كان فعالا – بالنسبة للنظام الحاكم طبعا- بعيد الاستقلال، فهو لم يعد كذلك الآن، بالنظر للتغيرات الحاصلة في البلدان العربية والإسلامية منذ ربع قرن تقريبا. فقد ظهر معطيين اجتماعيين قلصا من فعالية هذا التصور المغلق أو النهائي للهوية، وبالتالي من فرص مواصلة الاستثمار فيه من قبل الطبقة الحاكمة، وهما؛ أولا: تفاقم المشاكل الاجتماعية للفرد في كثير من الدول: البطالة، السكن، التعليم..الخ، وعجز الأنظمة عن إيجاد حلول فعالة لهذه المشاكل، ثانيا: تطور الوعي الفردي والجماعي مع ما تتيحه وسائل الاتصال والتواصل الحديثة من اطلاع على أوضاع المجتمعات الأخرى، هذين العاملين أديا إلى وضع السلطة بكل استراتيجياتها موضع اتهام ومحل فقدان الثقة بينها وبين الفاعلين الاجتماعيين، ومن ثم اتساع الهوة بين السلطة والأفراد وتقلص قوة تأثيرها عليهم، ترتب على ذلك انكسار أو انفجار الهوية-النموذج-المعلب الذي عاشت عليه هذه السلطة ردحا من الزمن.
فإذا كانت السلطة قدمت مقومات النموذج الهووي الذي فرضته على أنها مكتملة ومحل إجماع، فإنه بمرور الزمن وزيادة الوعي الشعبي، بدأت التشققات تظهر على مستوى هذا النموذج، وظهرت أسئلة جديدة حول عناصره “الواضحة والمتفق حولها”؛ أسئلة فتحت المجال لجدل كبير وصراعات حادة وصلت درجة العنف والعنف المضاد الذي عاشته وتعيشه الكثير من الدول العربية والذي خلف آلاف الضحايا، وهو ما يعني أن التصور الهووي المفروض من قبل السلطة يعني البعض فقط دون البعض الآخر-أقليات إثنية أو دينية..- الذي كان يشعر بالتهميش والإقصاء دون أن تسمح له الظروف للتعبير عن احتجاجه ورفضه للتصور المفروض عليه، والكثير من الأحداث التي تعيشها البلدان العربية وإن كان ظاهرها صراعات سياسية إلا أنها في العمق تعبر عن صراعات حول الهوية، وهذا يفيد أن المقومات الأساسية للهوية محل خلاف لا محل إجماع، وإن اتفق الجميع على وجود عنصر ما من حيث المبدأ فإن الاختلاف يكون لا محالة على مستوى الممارسة؛ الإسلام مثلا كأبرز عنصر مشكل للهوية وهو الدين الرسمي لجل الدول العربية، لكن، على مستوى الممارسة يبدو كرأسمال رمزي محل تنافس حاد لاحتكاره والحديث باسمه وبالتالي حرمان الآخر منه، كما يؤكده تبادل التهم بين الأطراف المتصارعة(السلطة تصف الإسلاميين بالمتطرفين والإرهابيين، وبعض الجماعات الإسلامية تصف ممثلي السلطة بالعلمانيين والطواغيت..).
نماذج الهوية
هكذا أصبحنا في حالة المنزلة بين نموذجين للهوية؛ النموذج الجاهز الذي تهالك ولم يعد صالحا للاستمرار، والنموذج البديل الذي لم يتشكل بعد أو على الأقل لم تتضح معالمه بعد، ومن الأسباب التي تعمل على تأخير هذا التصور الجديد للهوية والذي سندعوه بـالهوية-المشروع، التسييس الذي يطغى على كل خطاب عن الهوية، لذلك نعتقد أن أول خطوة في مسار الشروع في بناء تصور جديد للهوية هو زحزحة النقاش حول/في الهوية من الحقل السياسي إلى الحقل الثقافي والعلمي، وهذا ضمانا لعدم استغلال القضية لقضاء مآرب سياسية، فئوية، ظرفية، فآفة الكثير من قضايانا الثقافية أنها طرحت في الحقل السياسي ومن قبل رجال السياسة، ومن ثم حادت عن أهدافها ولم تأت أكلها. ثانيا: إن فتح النقاش الجاد الواعي حول إشكالية الهوية يتطلب التحول من التصور المكتمل الثابت لعناصر الهوية من لغة، دين، تاريخ، ثقافة..الخ، إلى التصور الديناميكي التاريخي النقدي لهذه العناصر، والنظر لهذه العناصر على أنها متفاعلة مع الفكر والمجتمع في التاريخ، وتخضع ممارستها للظروف والمعطيات المستجدة محليا ودوليا.
الهوية ليست انكماشا وانكفاء على الذات بل هي انفتاح وفهم وتواصل وفعالية مثلما يقول الفيلسوف التونسي فتحي التريكي:” إن الهوية دون انفتاح على المختلف أخلاقيا ومن غير فعل مشارك في سيرورة التاريخ وبلا نهضة للأفكار ولأنماط الحياة وللغيرية بصفة عامة تصبح مرضية، لأنها قد انكمشت على ذاتها ورفضت العالم وما يحيط بها”، ومن غير الممكن أن يحافظ الإنسان/المجتمع على بقائه كما يريد وهو منكفئ على ذاته معاد لغيره. الهوية مشروع يبنى في التاريخ، بمعنى أن الهوية أمامنا كمشروع ننجزه لا خلفنا كبناء جاهز، والطرح الفعال لإشكالية الهوية لا يكمن في الدفاع الحماسي على عنصر من العناصر ضد عنصر آخر، لأن هذا مسلك إقصائي يدعم العداء ويكرس الفرقة، ويؤخر الفعل والنهوض، فكونك عربي لا يعني أنك أحسن من غير العربي، كما أن كونك مسلم لا يعني أنك تمثل الإسلام الحقيقي، ولا يسمح لك بنفي إسلام الآخر المختلف في إسلامه عنك، كما أن طرح قضية الهوية من خلال السؤال: من نحن؟ غير مجد لأنه لا يقدم ولا يؤخر. بينما السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه والسير على هداه هو: أية مسؤولية تفرضها علينا هذه الانتماءات إلى دين ما أو لغة محددة أو تاريخ معين؟ ماذا قدمنا في سبيل إظهار هذه العناصر على أحسن وجه ممكن؟ ماذا عن حمايتها وترقيتها؟ كثيرا ما نسمع عبارات: “أنا عربي وافتخر” أو “أنا مسلم وافتخر” أو غيرها، هذه العبارات في عمقها انفعالية ولا تقول أي شيء، ما لم يدعمها الفعل، فهي بحاجة لما يؤكد مضمونها، والسؤال الذي يطرح على قائليها هو: ماذا يعني أن تكون عربيا أو مسلما في عالم اليوم؟ ماذا قدمت للعربية أو للإسلام؟ بم أسهمت حتى تبدو كعربي أو كمسلم جديرا بعيش اللحظة الراهنة كفاعل في التاريخ لا كمنفعل يصنع منه الآخر ما يشاء ؟ وإذا كان الفيلسوف الجزائري الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم لخص مفهوم الهوية أو الإنية كما يسميها بعبارة: “على الإنسان أن يكون ابن عصره محافظا على أديم مصره دون أن يصبح نسخة”، فالسؤال المرافق لهذه العبارة: هو كيف يمكن لنا أن نكون كذلك؟ كيف يمكن أن نكون مسلمين ومعاصرين، وكيف نحقق معادلة الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة؟ كثيرة هي الأسئلة التي يشكل الشروع في الإجابة عنها لبنة أولى في بناء الهوية-المشروع الذي يغتني باستمرار من خلال تجارب المنتمين إليه دون أن يكتمل.