تكوين
(3) الكتابة الإبداعية سبيل لتحقيق النهضة عبر صيغتي “الحداثة” والتحديث”
تمثل الكتابات الأدبية التي قدمها أحمد ضيف (1880-1945) لونا من ألوان التجريب الإبداعي في إطار مشروع النهضة الثقافية عنده؛ إذ اتخذ منها وسيلة ناجعة لتجلية رؤيته لعديد من جوانب تحقيق تلك النهضة التي ترتكز على مقومي “التحديث” و”الحداثة“. وثمة علامة بالغة الأهمية من حيث دلالتها على منحى “التجديد” الذي ينطوي عليه إسهام أحمد ضيف في هذا المجال؛ فقد غلب على ضيف في كتاباته النقدية التعويلُ الدائم على العناية بقضايا “النثر” و”النثر الفني” وتقديمها على ما يتعلق بالشعر؛ وذلك لأنه كان يؤكد أن إمكانات التجديد في النثر العربي الوسيط كانت متاحة بقدر كبير من “الحرية” مقارنةً بمحدودية مثليتها في الشعر العربي الوسيط. وذلك ما يتيح لقارئ خطابات ضيف المختلفة أن يستنبط أن هذا الموقف كان ينعكس، بدرجات مختلفة، على مجمل مواقف ضيف الإبداعية والنقدية أيضا؛ فعلى العكس من أغلبية معاصري ضيف من النقاد عُرف عن كثير منهم أنهم كانوا شعراء أو مارسوا الإبداع الشعري، وليست أسماء من قبيل طه حسين وعباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وإبراهيم عبد القادر المازني وغيرهم إلا شواهد دالة في هذا الإطار، على حين أن أحمد ضيف لم يُعرف عنه أنه كان شاعرا أو أنه حاول ممارسة الإبداع الشعري أو أن له إسهامات شعرية ما، بل كانت إسهاماته في كتابة الأنواع الأدبية النثرية الحديثة مجالا من مجالات نشاطه الإبداعي بما يوحي لقارئه بأنه كان يعوِّل عليها – بصورة أو بأخرى – في تحقيق مشروعه النهضوي في مجال الثقافة.
ولعل مثل هذا التعويل يمكن أن يساعد قارئ تلك الكتابات على تفسير ما يلاحظه من كون “تيمة” العلاقة بأوروبا بما تتضمنه من محاور متنوعة تيمةً محورية ومتكررة في هذه الأعمال بدءا من قصته الطويلة “قبل التعارف وبعده” المنشورة بمجلة “السفور” (1919و1920) حيث تدور حول علاقة تعارف “عابرة” بين “فؤاد” الشاب المصري الذي وُلد ابنًا لعرِّيف كتّاب في درب الجماميز بالقاهرة، وتلقى التعليم “التقليدي” الذي أهلَّه ليصير موظفا بمحافظة القاهرة، كما أصبح واحدا من حاشية أحد الأغنياء مما أتاح له مصاحبتَه في رحلته الشتوية إلى فرنسا؛ فالتقى “فؤاد” في مدينة “نيس” بفتاة فرنسية وسيدة فرنسية أيضا.
وإذا كان أحمد ضيف الكاتب قد جعل من هذين اللقاءين وسيلة لإنشاء إمكان علاقة ما بينه وبينهما فإنه قد راوح بين تقنيتين جماليتين تسهمان في أداء وظيفة واحدة، وهما: تقنية الراوي الضمني الذي يصف مواقف اللقاء وأزمنته التي يتم التعارف بينهم، والحوار الذي يجري بين “فؤاد” وهاتين الفرنسيتين؛ إذ تلتقى التقنيتان معًا في التعبير “المباشر” دائما عن رؤية ما لعديد من جوانب العلاقة بين “الشرق” و”الغرب” منعكسةً في موضوعة “الزواج” الذي كان “فؤاد” يفكر في الشروع فيه مع تلك الفتاة، ومن ثمة تثار أسئلةٌ في ذهنه حول هذا الزواج لاسيما أنه يبدو مُحبًّا للمال مما جعله يحدِّث القارئ بأنه لا يعيشُ في أوهام ولا يحبُّ الخداعَ كما أنه كان يصفُ نفسَه بالقول:(الفضيلةُ عندي هي كسبُ المال والتمتُّع به من أي طريقٍ كان ما دام هذا لا يجرُّ على الإنسان عارًا ظاهرًا)(1). وقد جاء هذا في صيغة المنولوج الداخلي الذي جعل “فؤاد” يهمس لنفسه (أتمتعُ بجمال هذه الفتاة وآخذها زوجةً لي. وهذا لا يمنعني من أن أتبعَ ما هو في نفسي)(2).
وبذلك يظنُّ أنه قد حقق نوعًا من المواءمة بين قِيَمه الشخصية من ناحية والنفع الخاص الذي يرتجي نيلَه، بذلك الزواج، من ناحية أخرى. ويبدو أن هذا الحل الذي تجلِّيه قصة “قبل التعارف وبعده” كان مُوجِّهًا لضيف كي ينسج في مسرحيته القصيرة “شاب مفتون” (1936) على وترٍ آخر من أوتار تأثيرات العلاقة بالغرب، وهو وترُ “الفتنة” التي تنشبُ في نفوس بعض الشبان المصريين الذين يتعلمون في أوربا فتشدُّهم المدنيةُ الغربية، وينجرفون في مسار عاطفة الحب فيتعلقون بفتاة أوربية وينسون كلَّ شيء ما عداه ويزدرون وطنَهم ويجحدون حقَّه عليهم، كما يتخلون عن بعض التقاليد الاجتماعية المستقرة في مجتمعهم. وقد بنى أحمد ضيف هذه المسرحية القصيرة على تصوير أزمة شخصية الدكتور “محمود”، وهو طبيب مصري شاب تعلم بفرنسا وارتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة فرنسية هي “مدلين”، ولم يستطع “محمود” أن يجدَ متنفسَه في بيئته المصرية فيقرر العودةَ إلى فرنسا ليسعد بالعيش فيها وبالحياة مع محبوبته، وإذا كان أبوه “شهاوي بك” وأمه يناشدانه دائما الإقلاعَ عن مطمحه ذاك والزواج “بسعاد” ابنة خالته وفاء لتقاليد اجتماعية، فلعل من اللافت للانتباه – في هذا الإطار- أن ثمة شخصيتين أوربيتين هما اللتان تكشفان لمحمود عن إيجابيات بيئته المصرية؛ وهما: زوجة صديقه “جمالي بك” الأوربية التي لم يحدد لها المؤلف اسمًا، واكتفي بوصفها بأنها “زوجة أوربية” لتصير، عند المتلقين، “تمثيلا” لصوت نسائي أوربي في عمومه، كما تصير أيضًا مجرد صوت ناطق بأفكار مضادة لما يريده “محمود”؛ فهي التي تتبنى وجهة نظر مضادة تؤكد أن مصر رغم ما فيها من سلبيات كالخمول والكسل (بلدٌ جميلٌ له تاريخٌ مجيدٌ وجوٌّ بديعٌ وعيشٌ رغد. ألا ترى يا محمود جمالَ هذا المزيج من مدَنية الشرق القديمة وحضارة العصور الحديثة)(3). وحين يجيبها محمود واصفا رؤيتها لمصر بانها رؤية “السائحين الأجانب” الذين يرون (جمالَ مصر في تلك الأكوام والمنازل العالية والأقذار المتراكمة والأشكال المختلفة)(4). تقارعه الحجةَ بحجّة مضادة ومباشرة: (هذا ليس خطأَ بلادكم وإنما هي أخطاؤكم أنتم أيها المتعلمون وخطأُ حكوماتكم)(5).
وبذلك تضعه بوصفه، بمعنى ما، تمثيلا دالا لفئة من فئات المثقفين المصريين – سواء في ثلاثينيات القرن العشرين أم في غيرها من حقب التاريخ المصري الحديث والمعاصر- ممن يكتفون برصد سلبيات الحياة المجتمع المصري دون أن يدركوا مسئوليتهم المباشرة عنها – أمام مسئوليته الوطنية أو القومية مما يؤكد لقارئ هذه المسرحية القصيرة أن كاتبها أحمد ضيف معنيٌّ، بدرجة جلية، بتوجيه نقد صريح ومباشر إلى رؤية تلك الفئة. ولعل هذه الرؤية الإيجابية لمصر لدى تلك السيدة الأوربية كانت تجد المساندة، من وجهة أخرى، من رؤية “مدلين” حبيبة “محمود” لمصر إذ لا ترى فيها إلا بيئة ذات طبيعة جميلة بما فيها من (مياه النيل الجارية العذبة “… وما فيها من (أشجار النخيل الباسقة، ذات القوام المعتدل، وهي باسطة فروعَها إلى السماء كأنما تطلبُ شيئًا من الله)(6). وإذا كانت هذه المسرحية القصيرة قد أبرزت قبول الدكتور “محمود” في نهايتها البقاء في مصر تقديرًا لمشاعر أبويه ورغبةً في الالتزام بالواجب الأخلاقي الذي تحتمه التقاليد الاجتماعية من الزواج بابنة خالته ..فلا ريب أن هذا المنحى الذي يجعل من الشخصيات المسرحية الممثلة لأوروبا في المسرحية أصواتًا كاشفة عن الجوانب الإيجابية في الواقع المصري، ولاسيما ما يتعلق بوضعية الطبيعة، فلا ريبَ أن هذا المنحى يعد واحدا من تجليات الرؤية الرومانسية الأوربية الشائعة لمصر؛ مما يشير، بصورة أو بأخرى، إلى قوة الأثر الأوربي الفكري المباشر في موقف ضيف الذي تجلِّيه تلك المسرحية.
ولعل تيمة العلاقة بأوروبا بوجوهها المتعددة كانت المرتكز الأساسي الذي نهضت على جلائه وتمثيله روايةُ أحمد ضيف القصيرة “أنا الغريق”(1939)، وهي رواية تعرض تجربة شاب مصري عاش في فرنسا قبل نشوب الحرب العالمية الأولى التي اضطرته ظروفُ اشتدادها إلى العودة إلى وطنه مصر، وخلال رحلة العودة تلك تعرض ذلك الشاب لحادثة غرق السفينة التي كان يستقلها، ولكنها نجا منها. وقد أشارت بعض الوثائق التاريخية إلى أن أحمد ضيف نفسه قد تعرض لما يشبه هذا الموقف خلال عودته من بعثته للحصول على درجة الدكتوراه(7). وقد أتاح الإطار الزمني الذي تعالجه هذه الرواية لذلك الشاب المصري، الذي جعله ضيف أيضا الراوي الأساسيٍ للوقائع، أن يصور ما طرأ على قطاعات عديدة من المجتمع الفرنسي من تغيرات ناتجة عن حالة الحرب تلك. ولقد نبعت مسألة الموقف من الغرب والمقارنة بين الشرق والغرب من هذه النقطة؛ إذ جعل الكاتب من لقاء بين ذلك الراوي والشخصية الرئيسية ومصري مثقف مهاجر، غادر وطنه قبل خمسة وعشرين عاما منتقلا بين عدة دول أوربية إلى أن استقر في فرنسا، وسيلةً لتدور حوارات متعددة بينهما تتناول حب الوطن والمقارنة بين سلوك المصريين وسلوك الأوربيين؛ لتتكشف عبر تلك الاختلافات بينهما رؤى كلٍّ من هاتين الشخصيتين؛ وقد كان “المهاجر المصري” يردُّ (تخلف مصر إلى مجموعة من الأسباب السلوكية والأخلاقية كاعتماد المصريين على غيرهم، ومبالغتهم في احترام الدخيل عليه، وانعدام الثقة في مواهبهم، ثم يجعل من بروز “الفردية” العامل الأكبر وراء ذلك التخلف)(8). ورغم الخلاف بين هاتين الشخصيتين في عديد من عناصر رؤيتهما للقضاء على ذلك التخلف (فإن الراوي كان يشارك ذلك المهاجر رؤيتَه عن شيوع الفردية وغياب الجماعية عن سلوك المصريين، ولهذا أتاح له الراوي فرصة الإفاضة، “…”، ليقوم بعرض عدد من السلبيات التي تمخضت عن طغيان الفردية على جموع الشعب)(9). وقد أفضى هذا إلى بروز نمط من النقد الذاتي الكاشف عن اعتراف المهاجر المصري بمسئولية المجموع عن العيوب الاجتماعية السائدة (10)، وذلك ما يدلل للقارئ على سعي أحمد ضيف إلى تفعيل التمثيل السردي في تجلية المهمة الاجتماعية للرواية بوصفها وسيلة جمالية لمساءلة الذات القومية لاسيما حين تعيش التمثيلات السردية لتلك الذات مواقف مقارنة أو موازنة مع تمثيلات سردية لثقافة أخرى.
ولعل عناية أحمد ضيف بقضية المقارنة بين الشرق والغرب في إطار العالم المتخيل الذي شكله خطابه السردي في رواية “أنا الغريق” قد أدى به إلى ابتكار شخصية سيدة روسية من النبلاء تجبرها أحداثُ الثورة الروسية في عام 1917 على الهرب إلى باريس، فتعمل خادمة في فندق بها. وحين تلتقي بالراوي يدور الجانب الأكبر من حوارهما حول الثورة الروسية وتأثيرها على المجتمع الروسي مما يقود إلى الحديث عن الاشتراكية)(11). ومن ثمة تعرض هذه الشخصية الروسية في حوارها ذاك المسالك السلبية التي مارسها أصحاب الثورة لتحقيق الإصلاح والعدالة من منظورهم هم، على حين كان الراوي يتبنى منظورا مخالفا لمنظورها ذاك؛ إذ علق على حديثها ذاك:(إنهم يريدون النصَفة بين الناس، أو كما يقولون كلٌّ على قدر حاجته)(12).
ولعل تأمل تجليات التيمة المحورية في كتابات أحمد ضيف الأدبية يؤكد لقارئه أن مسعاه في اتخاذ هذا اللون من الإبداع وسيلة لتجلية بعض معالم الطريق إلى تحقيق النهضة كان أمرا مقررا في مشروعه الإبداعي يماثل وضعيتَه في مشروعه لدراسة الأدب ونقده؛ وذلك ما يدلل على أن أحمد ضيف كان يراهن على أن مشروعه في دراسة الأدب وإبداعه سبيل من أنجع السبل الثقافية لتجلية أبعاد النهضة المنشودة؛ وذلك عبر تفعيل مكونات ذلك السبيل وعناصره المختلفة في أداء أدوارها المنوطة بها في خطاب ضيف النقدي والإبداعي بوصفهما معا تجليين لخطابه الثقافي الذي اتخذ منه وسيلة لإبراز دور الأدب بإبداعه ونقده في تحقيق النهضة المنشودة.
الهوامش
(1) أحمد ضيف: قبل التعارف وبعده، السفور، عدد 5 فبراير 1920، ص 6.
(2)أحمد ضيف: قبل التعارف وبعده، السفور، عدد 5 فبراير 1920، ص 6.
(3) أحمد ضيف: شاب مفتون، مجلة الهلال، عدد إبريل 1936، ص 713.
(4) شاب مفتون، ص 713.
(5) شاب مفتون، ص 713.
(6) شاب مفتون، ص 714.
(7)انظر: عبد الفتاح بدير: الأمير أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرية، ص 203.
(8) أحمد ضيف: أنا الغريق، تحرير وتقديم ودراسة سامي سليمان أحمد، المجلس الأعلى للثقافة، 2008، ص 83.
(9) أنا الغريق، ص – ص 84-85.
(10) انظر: أنا الغريق، ص – ص 72-73.
(11) أنا الغريق، ص 73.
(12) أنا الغريق، ص 73.