تكوين

يلاحظ الناظر في عقيدة الإعجاز القرآني تلوّن القول بالإعجاز حسب ذهنية العصر، فهو إعجاز بياني مرتبط بالاقتدار على استخدام اللغة والتفنن في أساليب التعبير عند القدماء، ولا شك في أنّ عناية القدماء بالبلاغة جعلتهم ميّالين إلى تداول فكرة الإعجاز البياني القرآني. أما في العصر الحديث، فإنّ مقالة الإعجاز البياني القرآني قد خفت بريقها لصالح مقالة الإعجاز العلمي وتفريعاته كالإعجاز النفسي والإعجاز العددي…[1]، وذلك أمر يرتبط بسيادة العلم في العصر الحديث. والحقّ أنّ مسألة الإعجاز القرآني على أيّ وجه قلّبتَها هي مقالة إشكاليّة، بل إنها – إذا أنعمنا فيها النظر-ملتبسة على رام تأسيسها على أسس عقلانية. وسنسعى في هذا المقال إلى شرح الإحراجات التي تثيرها عقيدة الإعجاز البياني القرآني.       

تستند مقالة الإعجاز البياني القرآني إلى جملة من الآيات الواردة في القرآن، الواصفة للخطاب القرآني، القائمة على تحدّي الكافّة أن يأتوا بمثله. وهذه الآيات هي:

-” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين” (البقرة2/23).

– أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”  (يونس10/38 ).

-“أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” (هود11/13 ).

-“قُلْ لئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالجنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيرا” (الإسراء17/88).

-“فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين” (الطور52/34).

ويبدو أنّ مقالة الإعجاز البياني القرآني قد ترسّخت حين أقبل المسلمون على القرآن يتدبّرون معانيه، وحين انخرطوا في الجدل مع أهل الديانات الأخرى، اليهود والنّصارى والبراهمة[2]. فلا شكّ عندنا في أنّ اعتراف القرآن بمعجزات الأنبياء عامّة، ومعجزات موسى وعيسى خاصة من جهة، وتأكيده على أن لا معجزة لمحمّد سوى هذا القرآن من جهة ثانية، قد ألجأ المسلمين إلى البحث عن وجوه الإعجاز في النص القرآنيّ.

ولئن تعدّدت وجوه الإعجاز القرآني عند أهل الملّة قديما، منها الإخبار بالغيب، ومنها أميّة النبيّ، ومنها قصّ قصص الماضين…فإنهم جميعا قد مالوا إلى جعل الإعجاز البياني أسّ الإعجاز ووجهه المفضّل عندهم[3]. وذهب أكثرهم إلى تبيّن دلائل الإعجاز في اللفظ والتركيب والصورة والمعنى، وتفوّق القرآن على شتّى ضروب الخطاب الأخرى من شعر ونثر وخطب وقصّ…، وعجز البشر عن مضاهاة القرآن إن ركبوا هذا المضمار. واقتصر أقلّهم على الإقرار بالإعجاز البيانيّ على معنى صرف الله البشرَ عن الإتيان بمثل القرآن، أي إنّ البشر لئن كانوا قادرين بالقوّة على قول مثل القرآن، فإنهم عاجزون بالفعل عن ذلك[4].

والحقّ أنّ الإعجاز البياني القرآني مقالة إشكاليّة من جهات كثيرة:

-أوّلها أنّها مقالة لا تخضع إلى التحقيق الموضوعيّ، لأنها مسألة إيمانيّة أساسا. فالقول بتفوّق القرآن على الشعر في نظمه، أو على خطباء العرب في حكمتهم، أو على قصص العرب عن الغابرين في حبكتها…هو قول يعود بالدرجة الأولى إلى إيمان القائل بألوهية القرآن لا إلى نظرة موضوعية تُقايس بين الخطابات، وتُفكّك أشكال انتظام العبارة وتوليد الصّورة وبناء المعنى وعقْد الحبكة في القرآن وفي غيره من الخطابات. دليلنا على ذلك مثلا أنّ المقارنات التي أجراها الباقلاني بين القرآن وبين شعر امرئ القيس والبحتري لا تقنع إلا المسلم المؤمن بإعجاز القرآن البياني لأنها مبنيّة على أحكام ذوقيّة ومنطلقات إيمانية في تفضيل القرآن على الشعر[5].

-ثانيها أنها مقالة-مدخل إلى ضرب الرقاب أو على الأقلّ إلى تعريض النفس لخطر الموت. وتفصيل ذلك أنّ من يقبل التحدّي القرآني في الإتيان بمثله لا يخرج عن أحَد أمريْن: إما أنه يشكّك في صدق نبوّة محمّد (يتحدّاه لأنه يستوي معه في بشريّة الخطاب) وإمّا أنه يدّعي النبوّة (يتحدّاه لأنه يستوي معه في ألوهية الخطاب)، وهو في الحاليْن مقتول جسديّا أو رمزيّا بتهميشه. جاء عن ابن الراوندي (تـ حوالي250هـ) قوله:” نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من “إنا أعطيناك الكوثر”[6]، وجاء عن محمد بن زكرياء الرازي (تـ311هـ) قوله: ” أنّكم تدّعون أنّ المعجزة قائمة موجودة وتقولون: “من أنكر ذلك فليأت بمثله”، فإن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألْف مثله من كلام البلغاء والفصحاء والشعراء وما هو أطلق منه ألفاظا، وأشدّ اختصارا في المعاني، وأبلغ أداء وعبارة وأشكل سجعا، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمِثل الذي تطالبونا به”[7]. ولعل هذا القول أبلغ دليل على أنّ مسألة تفاضل الكلام بعضه عن بعض تفاضلا بلاغيا إنما هي مسألة عقائدية-ذوقية. فالرازي قد دفعه إلحاده إلى تفضيل كلام البلغاء والفصحاء والشعراء على القرآن، دون أن يستخدم معايير موضوعية. وبما أنّ السلطة كانت تستمدّ مشروعيتها من الدّين، فإنّ منكري الإعجاز البياني القرآني قد تعرّضوا للتضييق والإعدام بتهمة الزندقة، أما أقاويلهم فقد همّشت أو حُرّفت. هكذا تُسيَّج مقالة الإعجاز البياني القرآني بسياج السّلطة وتسود بعصا السّلطان. وقد يكون القول بالصّرفة شكلا من أشكال حقن الدّماء في الإسلام في هذا الباب.

العدالة، والجهاد، والواجب: المفهوم القرآني للقتال

-ثالثها أنها مقالة يمكن إفراغها من كلّ معنى إذا نظرنا إلى النصوص نظرتنا إلى البشر. فما دامت المطابقة التامة بين بشر وآخر متعذّرة، فإن المطابقة بين نصّ وآخر متعذّرة كذلك. فمن المحال أن يشبه نصّ نصا آخر شبها تامّا وإلا أضحى نسخة منه. ومن ثمة، فإنّ المطالبة بالشّبيه وبالمثيل وبالنظير هي مطالبة بنسْخ النص الأصليّ وتكراره. إننا جميعا مصروفون عن الإتيان بمثل القرآن بمعنى عدم قدرتنا على الجمع بين إعادة كتابته (استنساخه) وادّعاء ملكيّته في آن.

– رابعها أنها مقالة تفترض أنّ القرآن بتمامه كلام الله لفظا ومعنى، وهو أمر يدفع إلى الحيْرة حين نقف على احتواء سور كثيرة لمقاطع تنقل كلام البشر من الماضين أو من المعاصرين للدعوة المحمّديّة. وهي مقاطع تنفتح في أغلبها بالإسناد: قال:…، قالوا:… وما شابهه. خُذْ مثلا ما يلي: “هم الّذين يَقُولونَ لا تُنْفِقُوا على مَنْ عِنْدَ رَسولِ الله حتّى يَنْفَضُّوا ولله خزائِنُ السّمَاواتِ والأَرْضِ ولكنّ المُنافقين لا يَفْقَهون. يقولون لئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ منها الأذَلَّ” (المنافقون63/8) فالقول المسطّر منسوب إلى غير الله في القرآن، وهو في أخبار السيرة من قول عبد الله بن أبيْ بن سلول[8]، فكيف يمكن عدّ كلامه معجزا؟ أم إنّ القول بالإعجاز متعلّق بالقرآن في كلّيته؟ ألا يمكن القول إنّ بعض المعتزلة -المعروفين بعقلانيّتهم- قد اختاروا القول بالصّرفة تجنّبا لمثل هذا الإشكال، فأغلقوا من ثمّة الخوض في حيثيّات الإعجاز البياني القرآني؟

– خامسها أنها مقالة تندرج ضمن سنّة يمكن أن نطلق عليها اسم “التحدّي الإبداعي في الثقافة الشفاهيّة”، وشرح ذلك أنّ تفحّص الشعر الجاهلي (والمخضرم)- وهو الأقرب إلى البيئة التي نزل فيها القرآن- يوقفنا على أن جميع الشعراء الجاهليين والمخضرمين قد ادّعوا إعجاز نصوصهم إعجازا بيانيا بمعنى عدم قدرة الآخرين على الإتيان بمثل قصائدهم أو أبياتهم أو كلماتهم. ومن الأمثلة على ذلك قول أوس بن حجر: (الطّويل)

وقد رام بحري بعد ذلك طـــــــــــــاميًا     من الشّعراء كلّ عود ومقحمِ

ففاؤوا ولو أسطو على أمّ بعضهم     أصاخ فلم ينصت ولم يتكلَّمِ[9]

وقول عنترة: (الكامل)

فلئنْ بقيتُ لأصنعنَّ عَجائبا     ولأُبْكِمنّ بلاغةَ الفصحاءِ[10]

وقول حسان بن ثابت:(الطّويل)

وقافيةٍ عَجَّتْ بليْلٍ رَزِيــــــــــــــــــــــــنَةٍ       تلقّيتُ مِنْ جوِّ السّماءِ نُزولَها

يراها الذي لا ينطقُ الشّعرَ عنده     ويعجزُ عن أمثالِها أن يَقُولها[11].

– سادسها أنها مقالة تقصر الإيمان بالإعجاز البياني على العرب، أو على الناطقين باللسان العربيّ، ذلك أنّ القول بالإعجاز، سواء كان مسألة اعتقادية ذوقيّة، أو ادّعى القائل به المعرفة بأوجه تفوّق الخطاب القرآني على سائر الخطابات الأخرى، إنما هو قول يستدعي المعرفة العميقة بأساليب العرب في خطابهم، والإحاطة الشاملة بتراث العرب الفنّي شعرا ونثرا، والقدرة الكافية على التمييز بين مجاز الكلام وحقيقته، وبين أوجه التشابيه والاستعارات ومحسّنات الكلام…وهذه أمور لا يقدر على الإلمام بها غير العربيّ أو غير المجيد للسان العربيّ. ومن ثمة يجوز التساؤل عن مدى فهم الصينيّ المسلم أو الأمريكي المسلم لمقالة الإعجاز البيانيّ. وهو أمر قد وعاه المسلمون العرب المقيمون في البلاد الأعجمية، ولنا في إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي دليل على ذلك[12]. إنّ القرآن بالتعريف رسالة للناس كافّة، العرب وغير العرب منهم، وإنّ القرآن بالفعل ما فتئ ينتشر في الأرض، خصوصا في عصرنا الحاضر بحكم سهولة الترويج والنشر، ولا ريب في أنّ تلك العالمية وهذا الانتشار يطرحان إحراجا حين يتعلق الأمر بمدى قدرة المؤمنين بالقرآن في أصقاع المعمورة على تلمّس أوجه الإعجاز البياني. ولا نظنّ أن ترجمات القرآن كفيلة بالإجابة عن هذا الإحراج.

 

المراجع:

[1]  – قارن مثلا بين مصنف الباقلاني: إعجاز القرآن، ومصنف طنطاوي جوهري: الجواهر في تفسير القرآن الكريم

[2]  – يقول البيروني متحدثا عن البراهمة: “ومنهم من يقول إنه (كتابهم المقدس) معجز لا يقدر أحد منهم أن ينظم مثله، والمحصّلون منهم يزعمون أنّ ذلك في مقدورهم لكنهم ممنوعون عنه احتراما له” البيروني ( أبو الريحان): تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، عالم الكتب، بيروت، ط2 ، 1983 ، ص89 . وهم في ذلك كالمسلمين تماما بين قائل بالإعجاز وقائل بالصرفة.

[3]– ذهب الرمّاني مثلا إلى أنّ “وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفّر الدّاعي وشدّة الحاجة، والتحدّي للكافّة، والصّرفة، والبلاغة، والأخبار الصّادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة”. ولكنّه لم يهتم في مصنّفه إلا بالبلاغة، راجع ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، حقّقها وعلّق عليها محمّد خلف الله ومحمّد زغلول سلام، دار المعارف، مصر، ط3 ، د.ت، ص ص 73-113. وأشار الخطابي صراحة إلى تفضيل الإعجاز البيانيّ على غيره من سائر أنواع الإعجاز، راجع ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، ص23-24 . أما الباقلاني فقد ذكر للإعجاز ثلاثة أوجه أولها الإخبار بالغيوب، وثانيها أميّة النّبيّ، وثالثها أنه بديع النّظم، عجيب التّأليف ، متناه في البلاغة(ص 33) وقد خصّ الوجه الأوّل والثّاني ببضع صفحات وأنفق كتابه في الوجه الثّالث، راجع الباقلاني: إعجاز القرآن، تحقيق أحمد صقر، دار المعارف، مصر، د.ت.

[4] – تنسب الصًّرفة عادة إلى إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي (تـــ221 هـــ)، وإلى المعتزلة عامة، ولعله من المفيد الإشارة إلى أن عددا من أهل السنة ومن أهل الشيعة قد قالوا بالصرفة.

[5] – الباقلاني: إعجاز القرآن، ص ص155-249

[6] – عبد الرحمان بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2 ، 1980 ص96 ، راجع كذلك رد ابن الراوندي لفكرة فصاحة القرآن، ص90 . وورد هذا القول كذلك ضمن كتاب الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد للخياط المعتزلي، تقديم وتحقيق وتعليق د.نيبرج، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة،1925 ، ص27 . وفيه كذلك أنّ ابن الراوندي قد “اجتمع هو وأبو علي الجبّائي يوما على جسر بغداد فقال له:”يا أبا علي، ألا تسمع شيئا من معارضتي القرآن ونقضي له”، ص37 . ولا نعلم هل أنّ معارضة القرآن ونقضه تعني عند ابن الراوندي محاكاة أسلوبه ونقض معانيه أم تعني محاكاة أسلوبه وتكرار معانيه في آن. وقد اشترط القدماء في النقيضة الشعرية والنثرية الجري على أسلوب النص المنقوض.

[7] – عبد الرحمان بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص177

[8] – انظر مثلا: الطبري: جامع البيان عن تفسير آي القرآن، ج28، ص127-128. وراجع المنصف الوهايبي: الله والمتكلمون معه في القرآن، دار آفاق، تونس، ط1 ، 2013

[9] – أوس بن حجر : الديوان، تحقيق وشرح محمّد يوسف نجم، الجامعة الأمريكية، بيروت، ط3 ، 1980، ص123

[10]– عنترة: الدّيوان، شرح الخطيب التبريزي، دار الكتاب العربيّ، بيروت، ط1 ، 1992 ، ص22

[11]– حسّان بن ثابت: الدّيوان، شرح البرقوقي، ص335

[12] – راجع أحمد بسام ساعي: المعجزة، إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الامريكية، ط1 ، 2012 ، وتقوم أطروحته على رفض فكرة الإعجاز في اللفظ وفي النظم وتتبنى فكرة جديدة قوامها أن القرآن استخدم اللغة استخداما جديدا غير مألوف.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete