تكوين

يندر أن تشهد ظاهرة فكرية ما شهدته ظاهرة الحوار بين الأديان من دوران على الألسن واحتفاء في المحافل وتأليف للكتب والمقالات. فمنذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1959-1965) في الستينيات من القرن العشرين وحتى تأسيس بيت العائلة الابراهيمية في الإمارات سنة 2023، لم تنقطع الزيارات واللقاءات بين ممثلين عن الفاتيكان وممثلين عن الإسلام، واهتمت منذ ذلك التاريخ الجامعات ومراكز الأبحاث وفرق العمل بالحوار الإسلامي المسيحي، وعقدت الندوات والمؤتمرات، وترجم الحوار إلى حركات تضامنية تعبر عن الرغبة في العيش المشترك مثل إقامة الصلوات الجماعية ومثل تجربة المشتركات المسيحية الصغيرة التي تعيش في بعض الدول الإسلامية وهي مشتركات تُلزم أعضاءها بمساعدة المسلمين والانخراط في ثقافاتهم والامتناع عن إظهار عوامل التفرقة (شرب الخمر، أكل لحم الخنزير) وتعدّ جماعة داراهشان في باكستان مثالا لتلك الجماعات.

ونحن نودّ -قبل أن ندلف إلى تحديد أهم القضايا التي يجب أخذها في الحسبان من أجل فهم بنّاء لظاهرة الحوار بين الأديان- أن نسوق ملاحظتين:

  • تتمثل الأولى في أنّ الحوار بين الأديان إنما هو في الحقيقة حوار بين النّخب المتديّنة، وليس حوارا بين الأديان. ويعني ذلك أوّلا أنّ المسألة لا تتعلق بالوقوف على ظاهر النصوص التأسيسية في كل دين ومقالتها في العلاقة بالآخر المختلف دينيا بقدر ما تتعلق بإنجاز تأويل جديد يقطع مع تأويلات القدامى ويرسي علاقة تسامح مع الآخر/ المختلف الدّيني. ويعني ذلك ثانيا أنّ قضايا الحوار الدّيني ظلت مقصورة على النّخب الدينيّة لصعوبة اطّلاع عامة المتديّنين على النصوص التأسيسية في الأديان الأخرى، ولصعوبة تَمكّن عامة المتدينين من اللغات الأجنبية عنهم لإجراء مثل هذا الحوار.

 

  • وتتمثل الثانية في أنّ الحوار بين الأديان من وجهة نظر النّخب المسلمة هو مقالة تدّعي الاتساع بينما هي قائمة في حقيقة أمرها على الضّيق. فالحوار عندهم يكاد ينحصر في الحوار بين الإسلام والمسيحية، بل يكاد ينحصر في الحوار بين الإسلام والمسيحية الكاثوليكية. ولئن كان الحوار بين الإسلام واليهودية عزيز المنال بسبب الالتباس بين اليهودية والصهيونية في أذهان كثيرة، فإنّ غياب الحوار بين الإسلام والأديان الأخرى أو ندرته إن شئنا الدقة، يعود في رأينا إلى تشبّث النخب المسلمة المشاركة في الحوار برؤية تقليدية تقتصر في فهمها للدين على الديانات التوحيدية.

 

أما أهم القضايا التي يمكن للملاحظ رصدها من خلال استقراء الكم الهائل من الكتب والمقالات المهتمة بالحوار بين الأديان، فيمكن إجمالها في ما يلي:

قضية التعريف:

يقف الناظر في المصنفات المخصّصة لدراسة الحوار بين الأديان على خلط كثير وتوسيع مقصود، من ذلك إقحام الجدل ضمن الحوار تحت مسمّى الحوار الخِلافي، أو إقحام نزعة توحيد الأديان في دين واحد تحت مسمّى الحوار الاتّحادي، ومن ذلك أيضا إقحام الحوار العقدي ضمن الحوار بين الأديان والمقصود منه المناظرات الدينية[1]. إنّ تعريف الحوار يرتبط أشدّ الارتباط بتحديد الغاية منه، وهي إحلال التفاهم بديلا عن الصراع بين الأديان. فقد جاء في الإعلان المؤسّس للحوار: “وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحض الجميع على نسيان الماضي والانصراف بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، وأن يصونوا معا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة جميع الناس”[2].

ومن ثمة فإنّ مفهوم الحوار يعني: “أن يتبادل المتحاورون من أهل الديانات الأفكار والحقائق والمعلومات والخبرات، التي تزيد من معرفة كل فريق بالآخر بطريقة موضوعية، تبين ما قد يكون بينهما من تلاق أو اختلاف، مع احتفاظ كل طرف بمعتقداته، في جوّ من الاحترام المتبادل، والمعاملة بالتي هي أحسن، بعيدا عن نوازع التشكيك ومقاصد التجريح، بل ما يرجى منه هو إشاعة المودّة، وروح المسالمة والتفاهم والوئام، والتعاون في ما يقع التوافق فيه من أعمال النفع العام للبشرية”[3].

لقد اخترنا هذا التعريف لأنه يوضح عددا من الالتباسات منها:

  1. أن العقيدة يمكن أن تكون موضوعا للحوار بمعنى التوضيح والعرض لا بمعنى التفضيل والطعن.
  2. أنّ الحوار بمعزل عن الدعوة وعن التبشير أي عن رغبة الهداية إلى الدّين الحقّ
  3. أنّ الحوار يميل إلى تعزيز نقاط التماثل، وترسيخ لغة التعاون، وإشاعة روح التسامح الديني
  4. أنّ الحوار محضنة لإطلاق مشاريع فكرية أو فعلية لتحسين أوضاع الحياة البشرية عامة

ولعل أهم ما يعاني منه الحوار بين الأديان هو ظاهرة الخلط بينه وبين الجدل الديني، أي بينه وبين نقيضه. ونعني بالجدل ظاهرة الطعن في معتقدات الآخرين وبيان تهافتها، والإشادة في الآن نفسه بمعتقدات الذات وبيان أصالتها[4]. ولقد كان هذا الجدل هو أساس العلاقة بين الأديان قبل أن يطرح المجمع الفاتيكاني الثاني فكرة الحوار بديلا للجدل. ومن الطريف أن نلاحظ أنّ ذلك الجدل المزدهر في الماضي لم يكن يهدف البتة إلى اجتذاب الآخرين، بقدر ما كانت غايته تمتين منزلة الدين في نفوس الأتباع.

قضية التأصيل:

كثيرا ما يلجأ رجال الدين إلى الدفاع عن شرعية الحوار بين الأديان بالاستناد إلى نصوص من كتبهم المقدسة أو من سِيَر أنبيائهم أو من محطّات من تاريخهم، مثال ذلك الاستناد إلى ما يقوله بطرس:” كونوا على استعداد دائم لتجيبوا كل من يسألكم حجة عن الرجاء الذي فيكم، ولكن بوداعة وباحترام، وليكن ضميركم صالحا” بطرس3 : 21: 15-16 ، أو الاستناد إلى ما يقوله القرآن: “وَلاَ تُجَادِلوا أهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالتِي هِيَ أحْسَنُ إلاَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولوا آمَنَّا بِالذِي أنْزِلَ إليْنَا وَأنْزِلَ إليْكُمْ وَإلاَهُنَا وَإلاَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” (العنكبوت 29/46)، أو الاستناد إلى صحيفة المدينة (يثرب)، أو إلى ما شهده العصر العباسي من حرية “أهل الذمة“…إنّ هذه اللمحات يمكن الاستئناس بها من أجل تقوية شرعية الحوار في نفوس المتردّدين من المؤمنين، لكنها لا تفي البتة بمهمّة تأصيل الحوار بين الأديان لسببيْن رئيسيّيْن في رأينا:

  1. أولهما أنها نصوص وسِيَر لا تنفي الجدل وإن لطّفت من أساليبه: “ولا تجادلوا…إلا بالتي هي أحسن”،
  2. ثانيهما أننا لا نعدم وجود نصوص دينية أخرى وسِيَر ومحطّات تاريخية في الإسلام وفي المسيحية ترشح بمعاني اضطهاد المخالفين في الديانة[5].

وما دامت القضية المطروحة دينية بامتياز، وما دام التأصيل الديني فيها قاصرا، فإننا نقترح أن يكون التأصيل مزدوجا: دينيا وعقلانيا، ونقترح كذلك أن ينظر إلى الحوار بوصفه من مكتسبات العقل الحديث دون إكسابه رداء تراثيا.

قضية الانتماء:

توقفنا متابعة حركة الحوار بين الأديان على ارتهانه لحركات مدّ وجزر تبعا للعلاقات بين الدول وسياساتها المتقلبة. ومثاله أنّ الحوار يسجل انكماشا في فترات الحروب، وانتعاشا في فترات السلم. وقد زادت ظاهرة الخلط بين المسيحية والغرب من جهة، وبين الإسلام والشرق الأوسط من جهة ثانية من حدّة حركة المدّ والجزر هذه. أما في ما يتعلّق بظاهرة الخلط بين المسيحية والغرب، فيكفي للبرهنة على عدم حجّية عملية الخلط هذه، أن نشير إلى أن الدول الغربية إنما هي دول علمانية في سياساتها. وبالتالي، فإنّ المسيحية لا تدخل في حساباتها السياسية ولا في حروبها. وأما في ما يتعلق بالخلط بين الإسلام والشرق الأوسط، فيكفي للبرهنة على عدم حجية هذا الأمر، أن نشير إلى أن المسيحية مكوّن أصيل من مكونات بلاد الشرق الأوسط، بل إنها قد نبتت في تربة شرقية. وقد قاد هذا الخلط، وذلك التأثر بحروب الدول الغربية على البلاد العربية إلى انسحاب كثيرين من مائدة الحوار، وإلى التشكيك في نوايا الكنيسة الكاثوليكية من الدعوة إليه[6]. يبدو لنا أنّ ارتهان الحوار بين الأديان إلى الأحداث السياسية يسيء إليه ويجعله مادة للتجاذبات والصراعات والحال أنه في أصل تعريفه ميدان للمصالحة والوئام. ومن أجل ذلك نعتقد أنه لا بدّ من الفصل التام بين الصراعات الدولية وبين الحوار بين الأديان من أجل إنجاحه. وهو أمر لا يتحقق في رأينا إلا بالربط بين الحوار بين الأديان وبين النزعة الإنسانية الملتزمة بإحلال السلم بين الشعوب[7]، وبالربط بين الانتماء الديني الضيق وبين الانتماء إلى الإنسانية جمعاء.   

قضية الدعوة والتبشير:

يكاد اللقاء بين المسيحية والإسلام يكون لقاء مستحيلا بسبب تشبث أتباع هذين الدينين بواجب نشر الدين: الدعوة إلى الإسلام من جهة، والتبشير بالمسيحية من جهة ثانية. ولقد وعى الطرفان الإسلامي والمسيحي بصعوبة الجمع بين الحوار من جهة، وبين الدعوة / التبشير من جهة ثانية فقدّما حججا لا تصمد أمام الفحص الدقيق، من ذلك حجة الفصل بين الحوار وبين الدعوة/ التبشير، وهو أمر لا يمكن تحقيقه لأنّ الدعوة/ التبشير تناقض مبدأ الاحترام المتبادل والتعاون المثمر الذي يقوم عليه الحوار. ومن ذلك أيضا الحجة القائمة على عدّ الدعوة/ التبشير أي تبليغ العقيدة علامة محبّة للآخر، وسعيا إلى الإجابة عن أسئلته عوضا عن اللامبالاة والحياد البارد. ولعله من نافل القول أن نذكّر أنّ الافراد في عالم اليوم لا يحتاجون إلى من يبلّغهم الدين بفضل انتشار وسائل الاتصال الحديثة وتطور الطباعة وتوفر شبكة الانترنت على ما لا يحصى ولا يعدّ من الوثائق الدينية سواء في لغاتها الأصلية أو في أي لغة يختارها الباحث عن أجوبة لأسئلته الدينية. ومن مفارقات الجمع بين الحوار الإسلامي- المسيحي من جهة، وبين ممارسات التبشير والدعوة أن كلا الطرفين يقر بتعدّد طرق الخلاص أو النجاة، بمعنى الإيمان بإمكانية فوز غير المسلم أو غير المسيحي بالجنة[8]. إن ما تقدّم يجعلنا ننتهي إلى القول إنّ تبليغ العقيدة ميراث ديني يعيق نجاح فرص الحوار بين الأديان، لا سيما أنّ اجتذاب الآخر إلى دين الذات لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال استراتيجية قائمة بالضرورة على مدح دين الذات والاستنقاص من بقية الأديان، وهو ما يتناقض مع مبدأ الاحترام المتبادل الذي يقوم عليه الحوار بين الأديان. فليست الدعوة/ التبشير بمعزل عن الحوار بل هي نقيض الحوار حتما وذلك لما يتضمنه فعل الدعوة/ التبشير في ذاته من تعال مردّه التسليم باستقامة الذات (المُبَشِّر) وزيغ الآخر (المبشَّر)، وما ينطوي عليه ذلك من اعتقاد بأفضلية الدين المبشَّر به، وهو ما ينبئ باستحالة تضايف فعليْ الحوار والتبشير/الدعوة إذ يلغي أحدهما الآخر ضرورة.

المراجع:

[1] -عبد الحليم آيت امجوض: حوار الأديان، دار ابن حزم-بيروت ودار الأمان-الرباط، ط1 ، 2012

[2]  – انظر ضمن وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني وثيقة:”علاقة الكنيسة بالدّيانات غير المسيحية ” (Nostra Aetate)

[3]– يوسف الحسن: الحوار الإسلامي المسيحي، الفرص والتحديات، أبوظبي1997 ، ص13

[4] – انظر عبد المجيد الشرفي: الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن 4هـ/10 م، وحراث بوعلاقي: الفكر الإسلامي في الرد على النصارى من بداية القرن 5 هـ/11م إلى نهاية القرن7هـ/13م .

[5] – اقتطفنا هذين النصين: “”فلا يذهبنّ بكم الظنّ أني أتيت لأنشر السلم على الأرض. لم آت أحمل السلم بل السيف حقا(متّى10: 34) ، و” قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله  ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون” (التوبة9/29)

[6]  – انظر مثلا محمد الطالبي: ليطمئن قلبي، سراس للنشر، تونس2007.

[7]  – على هذا النحو يمكن فهم قول هانز كونج: “لا سلم بين الشعوب بدون سلم بين الأديان”

[8]  – جاء ضمن الدستور العقائدي للكنيسة، الفقرة 16 ما يلي: “إن تدبير الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يؤمنون بالخالق، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرحمان الرحيم، الذي يدين الناس في اليوم الآخر” وجاء في القرآن: “إنّ الذين آمَنُوا والذين هادُوا والنّصارى والصابئين مَنْ آمن بالله واليومِ الآخر وعمل صالحا فلهُم أجرُهُمْ عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يَحْزَنون” (البقرة2/62)

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete