تكوين
من الطبيعي والمعقول أن يكون يوم ميلاد النبي (ص) مناسبة طيبة ومثيرة لمشاعر الكتاب و خيال الشعراء ممن أحبوا هذا النبي ووقعوا في غرام شخصه و سيرته و جميل أخلاقه.
ووفقا لما أورده الدكتور عباس الجراري في كتابه (الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه)،فإن أول ما ظهر من شعر المديح النبوي ما يقال بأن عبد المطلب أنشد في لحظة ولادة حفيده محمد:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض و ضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفـــي النور وسبل الرشاد نختــرق
و قد كان الجراري دقيقا حين استخدم صيغة التضعيف “يقال” ، لأن الصواب هو نسبة تلك الأبيات للعباس بن عبد المطلب عم النبي(ص).
وكما هو معروف، فمصر الفاطمية هي الأسبق إلى الاحتفال بالمولد النبوي الكريم، وغالبا ماكانت تشيع في هذا الاحتفال روح البهجة والأنس والإسراف.. وقد انتقل هذا التقليد من الدولة إلى الأفراد والعائلات ، فحرصت كثير من الأسر المصرية على إحياء ليلة المولد ، باستدعاء القارئين لتلاوة القرآن الكريم ومعهم المنشدين الذين يتميزون بالأداء الغنائي لما كتبه المحبون في وصف تلك الليلة وفي وصف الصفات الخِلقية والسجايا الخُلقية للمحتفى به نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد ذاع التأليف في هذا الضرب ذيوعا كبير، ولكن الذي تعشقته العامة واستقر في وجدانها وعقلها الجمعي، ودار على ألسنة المنشدين هو ما كتبه المناوي المصري والبرعي اليمني والبرزنجي العراقي .
ولأن الفنون أذواق،فقد عرف كل إقليم من أقاليم مصر، باختيار مولد خاص من هذه الثلاثة لا يتعداه، لأن الأبناء غالبا ما يعتادون ما تبناه الآباء والأجداد، فإذا اشتهر مولد المناوي مثلا في قرية، فإن اعتياد العامة عليه يجعله شيئا مقررا، يظل يتردد على الألسنة جيلا بعد جيل .
ويلاحظ في جميع ما كتب في هذا الصدد ، القدرة على التأثير والإمتاع ، حيث اقتران الحقيقة بالوهم وامتزاج المعقول باللامعقول ،و سيطرة الخيال و الروح الأدبية وربما بعض الأساطير، تصويرا لما امتلأت به ليلة الميلاد من عجائب شهدتها مكة، وعجبت لها آمنة، وتأثرت بها بعض الظواهر الكونية ،ودهش لها الناس في الشرق والغرب.
بدعة الفاطميين الحسنة: كيف ولماذا فكر المعز لدين الله بالاحتفال بالمولد النبوي؟
وفي تقديري الشخصي أن (مولد المناوي) بأسلوبه الرفيع والرائق هو الأجمل والأفضل من بين الثلاثة الذين كتب لهم ذيوع الصيت والانتشار..وهذا يتبدى من اللحظة الأولى لقراءته حيث يستهل الرجل كلامه بتلك الافتتاحية البسيطة والمؤثرة:
“الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة خير البرية ، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، قمر الهداية وكوكب العناية الربانية ، مصباح الرحمة المرسلة وشمس دين الإسلام ، من تولاه مولاه بالحفظ والحماية والرعاية السرمدية ، وأعلي مقامه فوق كل مقام ، وفضله علي الأنبياء والمرسلين ذوي المراتب العلية ، فكان للأولين مبدءا وللآخرين ختام ، وشرف أمته علي الأمم السابقة القبلية فنالت به درجة القرب والسعادة والاحترام ، وأنزل تشريفها في محكم الآيات القرآنية ، كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.. فما أعذب هذا الكلام .”
ثم ينتقل بنا المؤلف العاشق محلقا بخياله غير المحدود إلى ليلة الميلاد:
“ولما جاء شهر ربيع الأول الذي فتح الله فيه أبواب العطية ، وطلعت فيه شموس الإيمان وفتحت كنوز الإنعام، حضرت ليلة مولده المنيرة القمرية ، واشتد بآمنة الطلق بلا وجع ولا إسقام ، وكانت السيدة وحيدة في منزلها فدخلت عليها النسوة الحورية ، ومعهن آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران فبد أنها بالتحية والسلام ، وأقبلت حواء في جماعة وجاءت سارة الخليلية ، وهن يهنئنها بأحسن تهنئة لأجل اغتنام ، وفتحت أبواب السماء ونزلت الملائكة الروحانية ، وأقبل الأمين جبريل في كوكبة من الملائكة وبيده ثلاثة أعلام ، ودقت طبول الأفراح في السماوات والأرض وعبقت روائح الطيب بين العوالم الجبروتيه ، وتعطر الملأ الأعلى بعنبر لحظات أوقاته العظام”
ثم يضيف
وتلألأت الكائنات بطوالعه السعودية ، وافتخرت الخلائق بقدومه والعرب والأعجام ، ورأت أمه نورا خرج منه أضاء الأرجاء العلوية والسفلية ، وتدلت الكواكب من السماوات وأقبل إلي بيت آمنة الغمام ، ورأت من يقول لها ستضعين خير أهل الأرضيين والسماوات العلوية ، فإذا وضعتيه فسميه محمد ليحمد فى الدنيا ويوم الزحام ، ولم تزل السيدة تشاهد من غرائب معجزاته أمورا نورانية ، ومن عجيب آياته مالا تحيط به العقول والأفهام. ، وذلك في ليلة الاثنين من بعد العشاء إلي طلوع اللمعة الفجرية ، فأخذها المخاض ووضعته صلي الله عليه وسلم نورا يتلألأ كالبدر ليلة التمام ، ويجب علينا معشر الحاضرين والسامعين القيام عند ذكر مولده الشريف تعظيما لقدوم ذاته البهية ، فيا سعادة من وقف تعظيما له علي الأقدام”.
و في وصف لحظات ما بعد النزول ، يقول المناوي :
” ولما بدا من بطن أمه كالشمس البهية ، سقط علي يد أم عبد الرحمن ابن عوف أحد البررة الكرام ، فسجد لمولاه علي الأرض وأومأ بطرفه إلي السماء العلية ، وفي ذلك الرفع إشارة إلي علو قدره والمقام ، ثم عطس فقال الحمد لله بفصيح العربية ، فقالت له الملائكة يرحمك ربك يا خير الأنام ، ثم غشيته سحابة من النور فأخذته الملائكة فغيبته عن أمه ساعة زمنية ، وطافوا به جميع الكائنات فعرفه أهل السموات والأرضيين، وكل منهم فى محبته هام”.
وفي نهاية كل فقرة من فقرات مولده يختم المناوي بهذا الدعاء:
(اللهم عطر قبره بالتعظيم والتحية واغفر لنا ذنوبنا والآثام).
و يمكن للقاريء أن يكتشف ما في هذا الكلام العاطفي من تفاصيل خيالية لها جاذبيتها و تأثيرها في العوام و إن لم يكن لها وجود في الواقع ، وحسب ما ذكره الدكتور زكي مبارك في كتابه ( المدائح النبوية في الأدب العربي) فإن الصوفية هم المتصدرون لذلك الإنتاج الأدبي و الفني ، وهم الذين اتخذوا قصة مولده أحبولة يتصيدون بها أهواء الناس، و قد تمكنوا من جعل الاحتفال بالمولد و الاستماع إلى قصته و تفاصيله الدقيقة عنصرا أصيلا في صميم الحياة الدينية على أساس أن الخيال يزيد في أنس الناس بالدين.
و يرى مبارك أنه : “من التحامل أن ننكر قيمة هذه الموالد من الوجهة الأدبية ؛ فقد نقلت إلى الجماهير شيئًا من أخبار الغزوات، وحدثتهم عن أشياء كثيرة من شمائل الرسول، ثم صارت مع الزمن عنصرًا من الحياة الغنائية… والجمهور يتلقى ذلك بكثير من الارتياح”.
و إذا ما واصلنا التأمل في الصور الأدبية و الخيالات الوصفية في مولد آخر، وهو مولد البرزنجي الذي يقول فيه صاحبه عن لحظة الميلاد النبوي:
“وبرز صلى الله عليه وسلم واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء العلية، مومياً بذلك الرفع إلى سؤدده وعلاه ومشيراً إلى رفعة قدره على سائر البرية وأنه الحبيب الذي حسنت طباعه وسجاياه.. و دعت أمه عبد المطلب وهو يطوف بهاتيك البنية فأقبل مسرعاً ونظر إليه وبلغ من السرور مناه وأدخله الكعبة الغراء وقام يدعو بخلوص النية ويشكر الله تعالى على ما من به عليه وأعطاه .و ولد صلى الله عليه وسلم نظيفاً مختوناً مقطوع السر بيد القدرة الإلهية طيباً دهيناً مكحولة بكحل العناية عيناه.
وقيل ختنه جده عبد المطلب بعد سبع ليال سوية وأولم وأطعم وسماه محمداً وأكرم مثواه .
عطر اللهم قبره الكريم ، بعرف شذي من صلاة وتسليم اللهم صل وسلم وبارك عليه”.
وحول ماصادف الولادة من معجزات وخوارق يقول البرزنجي :
“وظهر عند ولادته صلى الله عليه وسلم خوارق وغرائب غيبية إرهاصاً لنبوته وإعلاماً بأنه مختار الله تعالى ومجتباه
فزيدت السماء حفظاً ورد عنها المردة وذوو النفوس الشيطانية ورجمت نجوم النيران كل رجيم في حال مرقاه
وتدلت إليه الأنجم الزهرية ، واستنارت بنورها وهاد الحرم ورباه ،وخرج معه صلى الله عليه وسلم نور أضاءت له قصور الشام القيصرية،فرآها من ببطاح مكة داره ومغناه”.
وبمرور الزمن وبتوالي التأليف والإبداع في هذا الموضوع وبتلك الطريقة التي يتجاور فيها الواقع بالخيال والموضوعي باللاموضوعي وما حدث بما لم يحدث. ارتأت وزارة الأوقاف في عهد الأستاذ محمد نجيب الغرابلي أن تدعو سنة 1934 إلى تأليف مولد عصري يُرضي حاجة الذهن المثقف، ويتحرى الأخبار الصادقة والموثقة عن حياة النبي، وقد أعدت لذلك جائزة أدبية ذات قيمة مالية كبيرة..
وقد اعترض على ذلك الدكتور طه حسين رافضًا حرمان الجماهير الشعبية من خيال لا يخالف الدين، ولا يفسد على الناس أمرًا من أمور الإيمان، و قد سجل اعتراضه هذا في مقال بجريدة الوادي أول أغسطس سنة 1934، جاء فيه :
” فأي بأس على المسلمين في أن نتحدث إليهم بأن أمم الطير والوحش كانت تختصم بعد مولد النبي لتتولى كفالته؟ وأي بأس على المسلمين في أن يسمعوا أن الجن والإنس والحيوان تباشرت بمولد النبي؟ وأن الشجر أورق لمولده؟ وأن الروض ازدهى لمقدمه! وأن السماء دنت من الأرض حين مس الأرض جسمه الكريم؟ لم تصح الأحاديث بشيء من هذا، ولكن الناس يحبون أن يسمعوا هذا، فأي بأس على المسلمين في أن يسمعوا أن نفرا من الملائكة أقبلوا إلى النبي وهو طفل يلعب، فأضجعوه، وشقوا عن قلبه وغسلوه حتى طهروه، ثم ردوه كما كان؟ إن من فاحش الخطأ أن يُضيق على الجماهير، حتى في القصص البريء، وأن من فساد الذوق ألا يُباح للجماعات إلا الحق الذي لا حظ للخيال فيه!…وإن من سوء العناية بالدين أن يكف الخيال عن تأييد الدين “.
والقارئ الجيد لمؤلفات الدكتور طه يلاحظ أن ماكتبه في الوادي يتوافق تماما مع الطريقة الجديدة والبديعة التي عرض فيها الرجل من قبل وبالتحديد في أواخر 1933لبعض الصور واللوحات المستوحاة من السيرة النبوية في مؤلفه المشهور (على هامش السيرة) بأجزائه الثلاثة ، والتي ابتدأ مقدمتها بتلك الكلمات: “هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين ، لأني لم أرد بها إلى العلم ،ولم أقصد بها إلى التاريخ ..وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتها مسرعا، ثم لم أر بنشرها بأسا.ولعلي رأيت في نشرها شيئا من الخير ، فهي ترد على الناس أطرافا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم ، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم “.
وهنا قد يكون مفيدا الرجوع إلى الجزء الأول من (على هامش السيرة) وما كتبه طه حسين بكلماته الحلوة المنغمة وبيانه الساحر عن المولد النبوي تحت عنوان (اليتيم) :
“هنالك دعت إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها، وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء، وعجبن فيها بكل شيء، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، ولم تكن آمنة أقلهن إنكارا وإكبارا وإعجابا، فقد كانت ترى وهي يقظة غير نائمة، أن نورا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينها، وكانت تنظر فترى قصور بصرى في أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى في أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن يُنكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نورا كله لا ظلمة فيه، وإنما هو مُشرق مضيء، أو هو الإشراق الخالص، وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض، وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو، حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وأن تقع عليها…وكذلك لم تدن السماء من الأرض كما دنت في هذه الليلة وكذلك لم ير الناس من الأعاجيب كما رأى هؤلاء النساء في هذه الليلة ، ولم تكن آمنة على هذا كله تجد ألما قليلا أو كثيرا،إنما كشف عنها كل حجاب ورفع عنها كل غشاء ، وخلي بينها وبين عالم من الجمال الذي يُرى والجمال الذي يُسمع ،لا عهد للناس بمثله .”.
ثم يفيض الدكتور بأسلوبه الفذ و إيقاعه الموسيقي في حديث الصحراء والأطياف وأصوات الملائكة وإيوان كسرى، ونار الفرس، وبحيرة ساوه ليؤكد أن للسماء لخبرا، وأن الأرض تستعد لاستقبال يوم مشهود.
وبين ما ارتأته وزارة الأوقاف وما ذهب إليه عميد الأدب العربي ، سيظل الإنسان المسلم في حاجة دائمة إلى تجاور وجهتي النظر وتكامل الرؤيتين ، فالناس دائما وأبدا في حاجة إلى الخبر الصادق الذي لا مراء فيه ، كما أنهم أيضا – وبالأخص العوام منهم- في حاجة إلى الخيال الفني وما ينعكس خلاله من الأشواق الروحية والانبهارات الدينية التي تجسد رد الفعل التخيلي للجماعة الشعبية لطبيعة نبوة محمد (ص) ,وأنه هو الرجل الذي تاقت إليه الإنسانية وانتظر الجميع مقدمه النبيل.
مراجع المقال:
– الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه
عباس الجراري
– مولد المناوي عبد الله بن محمد المناوي
– مولد البرزنجي جعفر البرزنجي
– المدائح النبوية في الأدب العربي زكي مبارك
– على هامش السيرة- جزء1 طه حسين