تكوين 

 تقديم:

العنف ظاهرة مركبة ومعقدة تتداخل فيها مختلف الأبعاد: النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، وهو ظاهرة لصيقة بالإنسان، فأقدم النصوص بداءة بأساطير الخلق والملاحم التي خلفتها مختلف الحضارات القديمة دليل واضح على ذلك، فنجدها تعجُّ بالمظاهر المادية والجسدية والرمزية للعنف: حروب، قتل، تعذيب، اضطهاد… وقد رافق العنف بمظاهره المُتعددة مسيرة الإنسان، حتى أن الفترة المعاصرة أي منذ مطلع القرن العشرين تبدو الأكثر عنفا، إذ صار العنف السمة الأبرز لعالم اليوم، يقول أحد المفكرين: “لم يشهد التاريخ قرنًا أكثر دموية من القرن العشرين[1]، وأصبح العالم يتفنن في أشكال العنف، بل أصبحت هناك مؤسسات متخصصةٌ في تسويقه من طريق وسائل مُعلنة وغير مُعلنة، خصوصًا في ظل وسائط التواصل والتكنولوجيات الراهنة.

في ظل هذا العنف المُعمم/المُعولم، لا يُمكن لأي كان أن يقول إنه يعيشُ بمعزل عما يجري كونيًا، فالعولمة بتصوراتها ومشاهدها المُتلفزة، سواء بدت عولمة بربرية كما يقال أو وحشية أو قانون الأقوى أو توحيد العالم بصيغ متفاوتة، لا تُعفي أحدًا من هم التفكير بتداعياتها، ومن ثم فإن إشكالية العنف ينبغي أن تشغلنا جميعًا، فنحن معنيون بها مهما كان موقفنا منها، إلا أن الأشكال المتعددة للعنف تجعل مقاربته بصورة شاملة أو كلية شبه مُتعذرة، ومن ثم فلا مناص من “تجزئتها” أو تقسيمها إلى مشكلات ومناقشة أبعاد كل قسم وخصوصياته، دون إغفال التشابك الطبيعي لذلك الظهور مع باقي المظاهر، وهكذا يُمكن مناقشة العنف السياسي أو العنف الديني أو العنف الأسري، مع الوعي بالعلاقات التي يرتبط بها كل مجال مع المجالات الأخرى.

لعل كثيرًا من أشكال العنف المادي أو الجسدي قد حظيت بالاهتمام والدراسة من الباحثين والمفكرين، بخاصة العنف الأسري والسياسي والديني، في حين لا يزال العنف الرمزي في حاجة إلى مزيدٍ من الدراسات بالنظر إلى طبيعته الخاصة وانتشاره الكبير في الجسد الاجتماعي، لذلك سوف نحاول التوقف عند هذا الشكل بشيء من التفصيل، من طريق الحديث عن “ميكروفيزياء العنف الرمزي“، محاكاة لما قام به الفيلسوف الفرنسي ميشيال فوكو (1926-1984) حين تحدث عن “ميكروفيزياء السلطة في كتابه “إرادة المعرفة“، وتستند هذه المحاكاة أو الإسقاط إلى عبارة مهمة وردت في أحد أعمال عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1928-2002)، الذي يصفهُ الدارسون بصاحب “الثورة الرمزية” من طريق بلورته وتوظيفه الكبير لمفاهيم الرمز، السلطة الرمزية، الرأسمال الرمزي… وهو يُعد من أبرز المفكرين الذين تناولوا العنف الرمزي بالدراسة والتحليل خصوصًا في الحقل التربوي حين قال: “إن كل سلطة عنف رمزي…”[2].

أولًا: ميكروفيزياء السلطة:

وضع ميشال فوكو مصطلح “ميكروفيزياء السلطة” (La microphysique du pouvoir) لتقديم مفهوم جديد للسلطة مختلف عن المفهوم المتداول في الأدبيات السياسية، فبدل النظر إلى السلطة وكأنها توجد في الأعلى (الرئاسة، الحكومة، البرلمان…) يرى فوكو أن السلطة تأتي من أسفل وهي “ليست مؤسسة وليست بنية وليست قدرة معينة يتمتع بها البعض، إنها الاسم الذي يُطلَقُ على وضع استراتيجي معقد في مجتمع معين(…) إن السلطة ليست شيئا يكتسب، ينتزع أو يقسم، ولا شيئا يحتفظ به أو يفقد، السلطة تمارس انطلاقا من نقاط لا تحصى، وفي لعبة علاقات غير متكافئة ومتحركة[3]، السلطة بهذا المعنى تكون ممارسة منتشرة في المجتمع وبتجليات عديدة، وهي تُنتج ذاتها وتُعيد إنتاج ذاتها في كل مكان وزمان (نجدها في الأسرة، في المدرسة، السوق…) ولا وجود في نظر فوكو لـ “سلطة واحدة، وإنما هناك سلطات عديدة منتشرة على الجسد الاجتماعي، ومصحوبة بمقاومات في كل شكل من أشكال السلطة القائمة[4].

من طريق هذا التعريف نفهم جيدًا سبب ربط فوكو مفهوم السلطة بالميكروفيزياء، فخواص مثل: الانتشار، الحركةـ، التغير، التبادل، اللاتَعيُّن… التي رصدها فوكو للسلطة، تجعل دراستها شبيهة بدراسة عالم الجسيمات الدقيقة، التي تتسم هي الأخرى بمثل هذه الخصائص، فنقاط تواجد السلطة وانتشارها في الجسد الاجتماعي شبيهة بما يسمى في الميكروفيزياء بالسحابة الإلكترونية، وما يحدث فيها من حركة الإلكترونات وتغيير المسارات…

مادامت السلطة لدى فوكو بتلك الخصائص السابقة فهي تقترب من مفهوم الحرب في نظره، لذلك قَلَبَ مقولة: “إن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، لتصبح “السياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى“، ومادامت السلطة لا تختلف في العمق عن الحرب فلا تمايز بينهما في المفاهيم الواصفة: مناورات، تكتيكات، استراتيجيات… يقول فوكو: “السلطة هي الإستراتيجيات التي بواسطتها تَفْعَلُ موازين القوى فعلها، التي تتجسد خطتها العامة أو تبلورها المؤسس في أجهزة الدولة، وصياغة القوانين والهيمنات الاجتماعية[5]، بمعنى أن السلطة هي علاقات قوى هدفها الهيمنة، من طريق إستراتيجيات وتقنيات متعددة ومتغيرة باستمرار، تُوظف لأجل بلوغ هدفها مؤسسات الدولة وقوانينها وبرامجها ومقرراتها…

وعن دور السلطة ومهمتها يقول فوكو: “يجب التوقف عن الاستمرار في وصف مفاعيل السلطة بعبارات سلبية من مثل: أن السلطة “تستبعد” و”تقمع” و”تكبت” و”تراقب” و”تجرد” و”تقنع” و”تخفي”، في الواقع إن السلطة تنتجُ الواقع الحقيقي، إنها تُنتج مجالات من الموضوعات “الأشياء” ومن طقسيات الحقيقة، فالفرد والمعرفة التي يمكن أن نكونها عنه هما من فعل هذا الإنتاج[6]، ومن ثم نصل إلى مفهوم جديد للسلطة لدى فوكو وهو ما عَبر عنه بالسلطة الحيوية(Biopouvoir)، “أي السلطة التي تُدير حياة الناس، وتملك قوة الحياة والموت”[7]، وتظهر قوة السلطة وبُعدها الحيوي عبر عديدٍ من الأشكال المتعلقة أساسًا بالجسد (ترويض، فرض الانضباط، زيادة القدرات، مراقبة، معاقبة…) والجنس البشري (تكاثر، مواليد، رعاية صحية، إحصاء سكاني…).

ثانيًا: مفهوم العنف الرمزي:

يُمكن تعريف العنف بعامة بأنه: كل فعل أو قول، مباشر أو غير مباشر، مادي أو معنوي، ظاهر أو مستتر، بقصد إلحاق الأذى أو الضرر بالنفس أو بالآخرين أو بممتلكاتهم، وبعض أشكال العنف قد تكون رسالة للتعبير، وصيحة إنذار لتأكيد الذات والدفاع عن الحقوق، حينما يفقد الفرد الشعور بالأمان ويستشعر تدهور القيم (العدالة مثلا) لذلك على المجتمع أن يُحسن قراءتها والتعامل معها[8].

وكما سبقت الإشارة فإن للعنف مظاهر وأشكال لا سبيل لحصرها، ومع ذلك يُمكن التمييز بين العنف الآتي من الأعلى والعنف الآتي من الأسفل، فالنمط الأول يُوصف بالعنف “المشروع“، الذي تحتكره الدولة وتمارسه من طريق الأجهزة الأمنية الرسمية، وفقًا لمفهوم الدولة الحديثة، بوصفها تَتَحَدَّدُ باحتكار العنف المشروع كما وصفها ماكس فيبر (1864-1920)، مع أنه يجب التحفظ على مصطلح “المَشْروع”، لأنه قد يُستغل -وهو ما يحدث في كثير من البلدان- لتبرير ممارسات عنيفة غير مشروعة، أما النمط الآخر فهو عنف الأفراد ضد بعضهم أو عنف الجماهير ضد مُمثلي السلطة ومؤسساتها، ويوصف بغير المشروع، ومن ثم يقع ممارسهُ تحت طائلة العقاب القانوني، مع أن المشروعية أو عدمها لا تمتلك سندًا مُطلقًا، فهي دومًا في حاجة “إلى مشروعية” أو إلى تبرير يسندها.

أما العنف الرمزي فيُعَرَّفُ بأنه عنفٌ لطيفٌ هادئٌ غير مرئيٍّ لدى ضحاياهُ، ويمر عبر وسائل رمزية متعددة: اللغة أو الإشارات أو وسائل الإعلام … وهو عملية فرض لقيم معينة (أكل، لباس، تفكير، تسيير…) على أنها نموذجية أو طبيعية وهي ما يجب أن يكون بطريقة خفية تجعل ضحاياها ترغب فيها من طريق إخفاء علاقات القوة وإرادات الهيمنة القابعة خلفها، فـ “العنف الرمزي شكل من أشكال العنف يمارس على فاعل اجتماعي بتواطؤ منه”[9].

يُمكن التمثيل على هذا الشكل من العنف بأصحاب النفوذ بمختلف أنواعه، فهم يمارسون نفوذهم بصورة مقنعة من طريق فرض توجهاتهم وأهوائهم على الآخرين (المهيمن عليهم) بطريق يُوَلِّدُ لديهم شعورًا بالدونية أو النقص وافتقار القدرة على الإبداع بما يستلزم الاتباع، وقديمًا قال ابن خلدون: “المغلوب مُولَعٌ باتباع الغالب”، عبارة عميقة ومُركزة، فعلى الرغم من علاقة التبعية وما يترتب عليها من تأثيرات في الهُوية الفردية والجماعية، إلا أن المغلوب “مُوْلَعٌ” بها، وهذا ما يُفسر لنا خاصية الهدوء والسلاسة التي يحدثُ بها العنف الرمزي، فحين تركب مثلا سيارة شخص ثري قد يكون صديقًا أو قريبًا، ففي الغالب يكون اختيار الطريق ودرجة السرعة والموجة الإذاعية أو الأغاني من اختياره وفقًا لهواه، دون أن تشعر برغبة في الاعتراض أو إبداء الرأي حتى وإن لم تكن تلك الاختيارات موافقة لمزاجك، ففي اللحظة التي تُقرر فيها مُرافقة ذلك الشخص، تكون قد وافقت على الدخول -بوصفك مُهَيْمَن عليه- في علاقة سلطوية أو علاقة هيمنة بما يستتبعها من عنف رمزي، دون أن يظهر للعلن، وما قيل عن الثراء أو الرأسمال المادي يُقال عن الرأسمال الثقافي أو العلمي أو الديني، لذلك ختم بيار بورديو أحد كتبه بعبارة مُهمة حين قال: “إن كل رأسمال مهما كانت الصورة التي يتخذها، يُمارس عنفًا رمزيًّا بمجرد أن يُعترف به، أي أن يُتجاهل في حقيقته بوصفه رأسمال، ويفرض بوصفه سيادةً تستدعي الاعتراف[10].

والعنف الرمزي شكل من أشكال العنف المسكوت عنه بالنظر إلى طبيعته الهادئة التي تتجلى في قدرة الفرد/الجماعة المُهيمنة على حجب أي تعسفٍ أو ضررٍ ناتج عن ممارساتها الثقافية الرمزية، وإظهاره على أنه مشروع حتى تقبل به الجماعة/الفرد المُهَيْمَنْ عليها بكل أريحية، والأكثر من ذلك كونها قد تساعد على الترويج له وتثبيته أكثر، فيكون بذلك المُهَيْمَنْ عليه عنصرًا مساعدًا -دون أن يشعر- للمُهَيْمِنِ على مواصلة فعل الهَيمنة، وهنا تكمن خطورته وأثره.

ثالثًا: تجليات العنف الرمزي:

الهدف من استدعاء تحليلات فوكو بخصوص مفهوم السلطة، هو الإشارة إلى أنه مثلما تنتشر السلطة في الجسد الاجتماعي، ينتشر بالطريقة نفسها العنف الرمزي، فحيثما كانت هناك علاقة، فثمة سلطة، وحيثما كانت هنالك سلطة، فثمة عنف رمزي، كما سبقت الإشارة إلى عبارة بورديو، إن كل سلطة عنف رمزي، وبما أن “حقل السلطة يُمثل ذاك الحقل الذي يعلو كل الحقول ويسكنها أيضًا”[11]، سواء كان ذلك جليًّا أو مستترًا، فإننا نلاحظ آثارها في أبسط العلاقات، مثل العلاقات الأسرية (الهيمنة الذكورية، هيمنة الأكبر على الأصغر، هيمنة الثري على الفقير، هيمنة المتعلم على غير المتعلم…) أو نوعية الهدايا المُقدمة في المناسبات (مكانة الأسرة، طريقة التعامل معها، درجة الاحتفاء بها، كلها ترتبط بصورة ما بقيمة الهدية) أو نظام اللباس (تغير الموضات) والأكل أو العلاقات التجارية (بائع/زبون، خاصة في أثناء ندرة بعض المواد،  فيكتسب البائع سلطة رمزية تُمكنه من ممارسة العنف الرمزي على زبائنه) أو العلاقات في الزوايا والمؤسسات الدينية (الشيخ/المريد، الإمام/المأمومين…) إلى المجال السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك من المجالات، لدرجة أنه يُمكننا الحديث عن عنف رمزي ذَرِّي أو ذرات العنف الرمزي، بالنظر إلى انتشاره في مختلف المستويات والحقول الاجتماعية، ففي كل الحقول وفي كل العلاقات تشتغل آليات السلطة والهيمنة، ويشتغل معها بالضرورة العنف الرمزي بوصفه آليةً فعالةً وهادئةً لتحقيق الهدف النهائي وهو الهيمنة والحفاظ على المراكز، عن طريق “فرض النظام القائم على أنه نظام طبيعي”[12].

نظر فوكو إلى السلطة كونها الاستراتيجيات التي بواسطتها تفعل موازين القوى فعلها، وحدد مفهوم الاستراتيجية بثلاث معان: المعنى الأول، يخص الوسائل المستعملة لبلوغ غاية معينة، والمعنى الثاني، يتعلق بالطريقة التي يتصرف بها أحد أطراف العلاقة والتي يحاول من طريقها التأثير في الآخرين، والمعنى الثالث، هو الأساليب المستخدمة في مجابهة ما، لحرمان الخصم من وسائله القتالية وإرغامه على الاستسلام، والمقصود حينئذ هو الوسائل المُعَدَّةُ لإحراز النصر”[13]، هذا ما ينطبق على العنف الرمزي في مختلف المنظومات الرمزية (فن، لغة، دين، علم) فهو بدوره عبارة عن استراتيجية قائمة على فرض نماذج قيمية لفئة معينة على أنها تمثل قيم الجماعة كلها، وهذا في إمكان القول أو المشاركة في إنتاج القيم من الفئة المُهَيْمَنْ عليها، يشرح بورديو هذه العملية في الحقل الديني، خصوصًا وأن هذا الحقل تشتغل فيه الرمزيات بقوة (لباس، رتب دينية، مسؤوليات…) يقول: “تاريخ الأديان لا يمكن أن يُفصل عن تاريخ تكون ثُلَّةٌ من المنتجين المتخصصين في شئون الخطب والشعائر الدينية، وأعني تاريخ نمو تقسيم العمل الديني الذي يُكون بدوره بعدًا من أبعاد نمو العمل الاجتماعي، ومن ثم التقسيم الطبقي الذي يؤدي من بين ما يؤدي إليه إلى أن يسلب أولئك الذين ليسوا رجال دين، أدوات إنتاج الرمزي[14]، ولذلك هناك فئة منتجة للرموز وهي المُهَيْمِنَةُ، وفئة مُهَيْمَنٌ عليها تستهلك هذه الرموز وتعيش عليها، دون أي تساؤل بخصوص صحتها، بل بالعكس تزداد مكانة رجل الدين لدى الفئة المُهَيْمَنْ عليها إلى درجة “التقديس” في بعض الحالات، لنلاحظ مثلًا تَبَرُّكْ المُريدين بشيوخهم، في شكل تقبيل الأيادي والألبسة…

رابعًا: العنف الرمزي في الحقل التربوي:

يرى بورديو الثقافة رأسمال رمزي مثله مثل أي رأسمال آخر يحظى به الأقوياء في المجتمع، ويفرضونه عبر تاريخ طويل من العنف والاستبداد في البنى العقلية للفاعلين الاجتماعيين، بوصفه معرفةً إنسانية أو كونية يَستخدم فيها المثقفون براعتهم وإبداعهم للإسهام بفرض هذه الثقافة من موقع لا تظهر فيه مصلحتهم ودورهم في تعزيز وظيفتهم[15]، وهذا ما يتم بدرجة كبيرة عبر العملية التعليمية في مختلف مراحلها، وقد ناقش بورديو مفهوم العنف الرمزي وتجلياته بصورة كبيرة في الحقل التربوي، مُفترضًا أن هذا الحقل يُمثل أبرز مجال لتجليات هذا النمط من العنف، يقول في ذلك: “إن كل فعل بيداغوجي إنما هو موضوعيًّا عنف رمزي، بفرض أنه فُرِضَ بواسطة سلطة اعتباطية لاعتباط ثقافي (…) وفق نمط اعتباطي للفرض والتلقين[16]، ويضيف موضحًا أكثر: “الفعل البيداغوجي المدرسي يُعيد إنتاج الثقافة المُهيمنة فيسهم من ثمة في إعادة إنتاج بنية علاقات القوة في تشكيلة اجتماعية ينزع فيها نسق التعليم المُهيمن إلى أن يضمن لنفسه احتكار العنف الرمزي الشرعي[17].

يظهر الجانب الاعتباطي في الحقل التربوي من طريق كثير من الآليات (إعداد البرامج، معايير تقييم المكتسبات، معايير الترقية…)، ففي إعداد البرامج مثلًا تُفرضُ معارف معينة (نصوص، مُفكرين، نظريات، اتجاهات، أيديولوجيات…) وتُقدَّم بوصفها الطريقَ الأوحدَ أو الأفضلَ والأمثلَ، مع أن هذا الفرض في كثير من الحالات لا يجد المسوغات التي تجعله يمر من الممكن إلى الضروري، لأن البرامج المقررة في النهاية ليست أكثر من تكريس لتوجهات وقناعات واضعيها، وبالأحرى الجهة التي نصَّبت هؤلاء لوضعها، هكذا يُصبح الفعل البيداغوجي عملية إعادة إنتاج لقيم المُهيمنين بما يسمح لهم بالبقاء في مواقعهم.

وقد بَيَّنَ بورديو أن المدرسة والبرامج التربوية هي تأبيد للتفاوت الاجتماعي من طريق قمع قيم الطبقة الفقيرة، وتدعيم أيديولوجية الطبقة المسيطرة، وإعادة إنتاج للمجتمع وفقًا للقيم السائدة، ووفقًا للتوزيع السائد، بتوظيف عنف رمزي مستتر هادئ يَقبلهُ المُهَيْمَنْ عليهم، بدليل قبولهم بالبرامج التعليمية ودخولهم ضمن لعبة التنافس بحثًا عن التفوق وفقًا للمعايير التي يُحددها الطرف المُهيمن التي تخدم بالضرورة مصالحة دون أن تُبدي ذلك إلى العلن، وفي هذا السياق ينتقد بورديو كثيرًا المثقفين بوصفهم الأكثرَ تورطًا في إعادة الإنتاج هذه يقول: “إن المثقفين هم بلا شك من بين أسوء الناس تموقعًا فيما يتعلق بوعي العنف الرمزي (وبالضبط ذاك الذي يُمارسه النظام المدرسي) لأنهم تلقوه هم أنفسهم بشدة، أكثر من متوسط الناس ولأنهم يستمرون في الإسهام من أجل ممارسته”[18].

مثال ذلك تصريح أحد كبار المسئولين الجزائريين في ثمانينيات القرن الماضي ضمن إشادته ببرنامج دعم الفلاحة ومخططات ترقيتها في البلد، حين قال: “ابن الفلاح ينبغي أن يبقى فلاحًا“، فظاهر الخطاب يُبرز أولوية النهوض بالقطاع الفلاحي في الدولة، وبأن الدولة سوف تقدم كل التسهيلات والمساعدات للفلاحين حتى يواصلوا عملهم في أراضيهم، وباطنه الحفاظ على المواقع، فحين يبقى ابن الفلاح فلاحًا، فإن ذلك يعني أن ابن المسئول المرموق يصبح مسؤولًا مرموقًا، وهكذا تتم عملية إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي والحفاظ على المواقع.

ما قيل عن وضع البرامج التعليمية يُقال عن آليات الاصطفاء والنجاح والإقصاء التي تحدثُ عبر طقوس الاختبارات والمقابلات، بما تتضمنه من قواعد شكلية في الغالب (خاصة المقابلات الشفوية للتوظيف وللترقية)، تسمح بالرقي من مكانة إلى أخرى، وهو ما يتحدد به الموقع في سلم التراتبية الاجتماعية على أنه الأجدر والأكفأ، أو الفاشل المطرود من فضاءات النجاح والتدرج في المراتب العُليا، فالمؤسسة التربوية في نظر بورديوتُؤثث اشتغالها بهالة من القواعد المعقدة والتي تعمل عبر طقوس مأسستها لإنتاج التفاوت الاجتماعي وإعادة إنتاجه[19]، مع أن هذه القواعد والآليات ليست مقدسة، وليست ضرورية أو مُبررة بصورة مطلقة، حتى تُقدم على أنها تُمثل النموذج الضروري، فهي في العمق عنف رمزي يُخفي علاقات القوة وإرادات الهيمنة.

يمكننا الإشارة في السياق نفسه إلى النظرة التفاضلية للفروع المعرفية (خاصة في البلدان المُتخلفة) وهي نظرة يَنْتُجُ عنها عنف رمزي يُمارسه المشتغلون بالمعارف المنظور إليها على أنها “راقية” على المشتغلين بالمعارف المنظور إليها نظرة “دونية”، والهدف دومًا هو الحفاظ على المواقع والامتيازات. ويمكننا الاستمرار في رصد أشكال ومظاهر كثيرة للعنف الرمزي في المجال التربوي والعلمي، فهي كثيرة وتشمل مختلف المراحل التعليمية، كما يُمكن رصدها بيسر في مختلف الحقول الاجتماعية.

خاتمة:

مما سبق يُمكننا القول إن مفهوم العنف الرمزي محوريٌّ ومساعدٌ كثيرًا على تعميق البحث في خبايا موضوعات كثيرة: السلطة، الهوية، الطبقات الاجتماعية، الثقافة، النظام… ذلك أن للعنف الرمزي مظاهر كثيرة، يُمكن ملاحظتها من طريق الصراعات التي تحدث بين مختلف الحقول أو الصراعات داخل الحقل الواحد بين المنتسبين إليه: الصراع بين الصحفيين أو الفنانين أو الرياضيين أو السياسيين، أو رجال الأعمال… وهذا الصراع في عمقه هو تنافس على الرمزيات، لأن لكل حقل رأسماله الرمزي الذي يشمل القيم والمعارف والعلاقات والامتيازات، وكل طرف يسعى في امتلاك هذا الرأسمال والحديث باسمه وتوظيفه في مختلف العمليات: انتقاء، شرعنة، حرمان، طرد، وغير ذلك من العمليات الدقيقة التي تحدث داخل الحقول.

العنف الرمزي لا يقل خطورة عن العنف المادي، إن لم يكن أخطر منه، خصوصًا وأنه يشتغل بصورة هادئة ومقبولة -بوعي أو بغير وعي- من قبل الضحايا، ويعمل لإعادة إنتاج الوضع القائم وضمان استمرار المُهيمن فردًا كان أو طبقةً في موقعه، ولذلك يقفُ العنف الرمزي حائلًا أمام كل تغيير ممكن نحو الأفضل، فكل محاولة للتغيير يُنظر إليها على أنها خروج عن الطبيعي والشرعي والأحسن، فتُجنَّد القوى المهيمنة لردع هذه المحاولات، بإطلاق مفاهيم التخوين والتمرد والهرطقة والتكفير والتبديع والعمالة (طبعًا لكل مفهوم حقله أو مجاله التداولي) لوصف كلُّ من يحاول التغيير أو الخروج عن المعتاد.

 

الإحالات:

[1]  إيريك هوبزباوم: العولمة والديمقراطية والإرهاب، ت: أكرم حمدان ونزهت طيب، بيروت: الدار العربية للعلوم-مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2009، ص 15.

[2] بيار بورديو– جان كلود باسرون: إعادة الإنتاج، ت: ماهر تريمش، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2007، ص 102.

[3] ميشيل فوكو: إرادة المعرفة، ت: مطاع صفدي-جورج أبي صالح، بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1990، ص 102.

[4]  الزواوي بغورة: مدخل إلى فلسفة ميشيل فوكو، بيروت: دار الطليعة، ط1، 2013، ص 95.

[5]  ميشيل فوكو: إرادة المعرفة، مرجع سابق، ص 101.

[6] ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ت: على مقلد، مراجعة: مطاع الصفدي، بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1990، ص 204.

[7] الزواوي بغورة: مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2000، ص241.

[8]  جمال معتوق: مدخل إلى سوسيولوجيا العنف، الجزائر: منشورات بن مرابط، ط1، 2011، ص 21.

[9]  بيار بورديو-ج. د قاكونت: أسئلة علم الاجتماع، ت: عبد الجليل الكور، الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 1997، ص 125.

[10] بيار بورديو: الرمز والسلطة، ت: عبد السلام بن عبد العالي، الدار البيضاء: دار توبقال، ط2، 1990، ص78.

[11] بيار بورديو– جان كلود باسرون: إعادة الإنتاج، مرجع سابق، ص 40.

[12]  بيار بورديو: الرمز والسلطة، مرجع سابق، ص 59.

[13] الزواوي بغوره: مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، مرجع سابق، ص 234.

[14] بيار بورديو: الرمز والسلطة، مرجع سابق، ص 58.

[15] بيار بورديو: أسباب عملية، إعادة النظر بالفلسفة، ت: أنور مغيث، ليبيا: الدار الجماهيرية، ط1، 1425هجري، ص 7 مقدمة الناشر.

[16]  بيار بورديو– جان كلود باسرون: إعادة الإنتاج، مرجع سابق، ص ص 103-104.

[17]  المرجع نفسه، ص 105.

[18]  بيار بورديو: أسئلة علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 127.

[19]  بيار بورديو– جان كلود باسرون: إعادة الإنتاج، ص 71 مقدمة المترجم.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete