نحن والغرب.. أي علاقة.. أي مواجهة ؟

 تكوين

العلاقة بالغرب والحداثة هي إحدى الإشكاليات الأيديولوجية المركزية الموروثة من القرن التاسع عشر التي انطوى عليها القرن العشرين، من دون أن تنتهي إلى تصور يضع حدًا للسجال المحموم بين المواقف المتعارضة في ساحة الفكر العربي الحديث، من التأييد إلى الرفض إلى التوفيق أو التلفيق.

الحداثة عند العرب

في هذا السياق بالذات زخرت الأعوام الأخيرة من القرن المنصرم بأبحاث ومؤلفات ما هي في الحقيقة إلا طرحًا مُتجددًا للموقف التاريخي المأزوم من الغرب والحداثة. وبمراجعة بعض هذه الأبحاث والمؤلفات تُطالعنا الحدة نفسها التي تميزت بها ردود الفعل المتوترة إزاء الحضارة الغربية منذ انفتاحنا الأول عليها. ففي “العلمانية والممانعة الإسلامية، محاورات في النهضة والحداثةلعلي العميم (دار الساقي )، رأى الكاتب أن “النزعة الحجاجية” تطغى على الفكر الإسلامي الحديث، وأن “الاتجاه السجالي” يطبع غالب نتاج كتابه، وما ذلك إلا لأن “الفكر الإسلامي الحديث في مضمونه الثقافي وتعبيره الأيديولوجي والحضاري، رد فعل مُعلن أو مُضمر على حضور الغرب في حياتنا المعاصرة “. فنهوض هذا الفكر لم يكن نتيجة معاناة وتململ داخلي، بل كان استلهامًا من معطى ثقافي خارجي، هو ثقافة الغرب وفكره.

ما أورده العميم في مقدمة حواراته مع أسماء بارزة في الفكر العربي المعاصر، يُحدد الأفق الذي دارت فيه هذه الحوارات، فالموقف من الغرب والحداثة هو الذي يحكم تطلعات المحاورين سلبًا أو إيجابًا، حتى ليبدو وكأن تحديات الحداثة أشبه بهاجس يُطارد الفكر العربي الحديث بقضايا العلمانية والدين والدولة وحقوق الانسان التي ما فتئت تُجرجر عثارها منذ بدء النهضة العربية إلى اليوم.

من بين المحاورين راشد الغنوشي الذي رأى أن ديمقراطية الغرب تلبست بالإلحاد والفضائح الأخلاقية وبالتسلط على الشعوب وبالاستغلال الاقتصادي. ورأى أن مشكلات الديمقراطية والعلمانية وحرية المرأة مستحدثة ولا مُبرر لها داخل الإسلام. ومن بين هؤلاء أبو بكر باقادر الذي رأى أن صدمة الغرب لم تكن بالأهمية التي يراها بعضهم وأن عوامل التجديد الفكري كامنة في الثقافة العربية الإسلامية ذاتها.

وسعى آخر، فهمي جدعان إلى “صيغة مُطورة للتجربة التاريخية الإسلامية تحرص على التعلق بمقاصد الشريعة المحكمة، وتجتهد في بناء مؤسسات عقلانية، وفقًا لجُملة القيم التي تستند إليها الحضارة الحديثة”.

وفي “الثقافة العربية في عصر العولمة” (دار الساقي ) رأى تُركي الحمد في حضارة الغرب المعاصر أرقى ما توصل إليه الانسان، سواء في الانجازات المادية البحتة أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية. ولكن هذه الحضارة مع ذلك قد أضاعت ذات الانسان، فقد رفعت من قيمة الفردية وأضاعت الفرد عن طريق مَكنَنَة كل شيء حتى تُحوَّل هو ذاته إلى آلة حضارة آلية. هذه الحضارة التي زعمت أنها تمثيل للعقلانية الكاملة سوف تستهلك ذاتها في دائرة الانتاج وإعادة الانتاج، والتِقْنية وإعادة التِقْنية دون معنىً يُحدد الغاية من كل ذلك، وما تيارات ما بعد الحداثة المعاصرة إلا نوعًا من الاحتجاج على هذا الغياب للمعنى في الحضارة الغربية.

التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر

أما “قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر” مركز دراسات الوحدة العربية، فقد قدم فيه مجموعة من الباحثين العرب صورة للموقف المتناقض والمأزوم من الغرب، إذ من بين هؤلاء من وقف موقفًا نقديًا من “التنوير” كلؤي صافي وجلال أمين. رأى الأول أن “العقل الوضعي المعاصر الذي يتخذه رواد العلمانية الغربية؛ قاعدة للانطلاق في عملية النهوض الحضاري، هو العقل الذي يعمل مِعْوَلَ التدمير في جسد الحضارة الغربية، ويُوَلِّد الفضائح والأزمات الاجتماعية التي تطالعنا كل يوم بوجهها الكريه، من ارتفاع مستمر في معدل الجريمة إلى انتشار المخدرات والانحلال الأخلاقي والجنسي إلى تزايد حوادث الانتحار الجماعي إلى تفكك الأسرة والشذوذ الجنسي”. وما أزمة العقلانية الحداثية الغربية هذه إلا نتيجة لتغييب المبادىء العلوية والقيمية، وهي سوف تظل تزداد اتساعًا وشدة ما دام بقي العقل الحداثي والعقلنة الحداثية خاويين من مثل هذه المبادىء القادرة على إضفاء المعنى وتحديد الغاية لإعادة دور الإنسان المتميز والممتاز في نظام الكون.

من هنا أن النهضة الحضارية للأمة العربية لا يُمكن أن تتم انطلاقًا من الحداثة الغربية، بل تتطلب “تطويرَ نموذجٍ حضاري بديل انطلاقًا من ذاتيتها التاريخية”.

ويبني جلال أمين اتهاماته للمنورين العرب وحركة التنوير العربية على افتراضات تعوزها الدقة تارة وتجافي الحقيقة تارة. فقد ذهب إلى أن “دعاة التنوير” العرب رفعوا قيم الحداثة الغربية: التسامح، حرية الاعتقاد، إعلاءً شأن العقل والعلم إلى مرتبة القداسة، بوصفها مُسلمات غير قابلة للشك، حتى إن التعصب والتشنج لدى بعض هؤلاء لا يقلان عن التعصب والتشنج عند المتطرفين الدينيين. وبناءً على ذلك استنتج أمين أن التنويريين العرب فتحوا الباب كي تدخل إلينا رياح التغريب حتى كادت تقتلع كل شيء دون أن ينظروا في مفاسد الحضارة الغربية وما جرّته من فظائع وجرائم وظلوا مخلصين لتيارات التنوير الغربية بوصفها “أبدية” ولم يفعلوا في النهاية سوى أن عادوا “الأصولية” التي “تُعادي المشروع الصهيوني وتقاوم التوسع الإسرائيلي”.

إقرأ أيضًا: مئة وعشرون عامًا على صدور كتابه قظة الأمة العربية نجيب العازوري داعية الوَحْدَةِ العربية وأول من نَبَّهَ إلى الخطر الصهيوني على الأمة العربية

على عكس جلال أمين رأى السيد ولد أباه أن الفكر العربي لم يكشف التنوير بوصفه تصورًا مختلفًا للتاريخ البشري قوامه العقلانية والتاريخانية والحرية والعلمانية إلا من طريق الغرب.

في حين رأى عمار بلحسن في الأصولية رفضًا للتاريخ ورؤيا حلمية جماعية للتموضع في عصر وعالم تجاوز التحديدات الدينية والأسطورية. فالأصولية تُلحق العالم بكون أخروي لا يخلق أي سبب من أسباب المناعة داخل الدنيا، ويتخذ في الوقت نفسه طابعَ محو التاريخ وتحدي العصر والحداثة، ما يقود في النهاية إلى التيوقراطية والاستبداد وتأخير تكوين الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني.

وقد يُفضي الموقف الأصولي إلى ازدواجية في الموقف من الغرب والحداثة، إذ يأتي الانفتاح على الغرب في هذه الحالة لا بوصفه حضارة متميزة وفضاءً ثقافيًا مختلفًا وإنما بوصف حداثته “بضاعتنا التي ردت إلينا” وفق تعبير راشد الغنوشي في “العلمانية والممانعة الإسلامية” أو كما تصور حسن صعب، بوصف مواطننا العربية هي “المواطن الأولى للحضارة الإنسانية والقواعد الأولى للإنسان المنطلق لارتياد المحيطات والقارات، حتى أن كل اكتشاف علمي جديد أو اختراع تكنولوجي جديد قد تكون له شجرة نسب تعود به إلى جذوره الأولى في مواطننا العربية”.

إقرأ أيضًا: نموذج الأصولية (الدينية): مقاربةٌ مفاهيميةٌ وبنائيةٌ ونقديةٌ

لكن ثمة رؤيا مختلفة للغرب، رؤية لا تعتمد منطق المدافعة والنكوص والنرجسية والالتفاف على الحقيقة، وتخرج من أسر الأدلجة القومية أو الدينية لتواجه الواقع لا بنفيه أو بالاحتماء بالوهم من تحدياته، بل بالاعتراف بثقله ووطأته وقراءته من دون تصورات مُسبقة. ولعل هذا ما انتهى إليه علي حرب في “حديث النهايات” فقد رأى أن التقدم الغربي أحدث أثرًا في فكرنا وحياتنا أدى إلى أن نتغير عما نحن عليه، فالأفكار والنظريات والمذاهب التي أنتجها الغرب قد تسللت إلى وعينا وعقولنا، والمصطلحات التي ابتكرها علماء الغرب وفلاسفته قد اخترقت لغاتنا وخطاباتنا كما هو شأن مقولات الديمقراطية والعقلانية والتقدم والحداثة والأنسنة والعلمنة وكما هو شأن مصطلحات الهُوية والتراث وحرية الفرد. هذه المقولات والمصطلحات هي ثمرة التنوير الغربي والانقلاب على الرؤية اللاهوتية للعالم والإنسان. وهي حقيقة لا يُمكن إنكارها ويجب الإفادة منها، إذ إن أنسنة العلاقات بين البشر في عصر العولمة والمعلومة مستحيلة بالنماذج والأنساق والتشريعات والتقاليد التي اشتغلت وسادت في العصر المملوكي والمجتمع الأبوي والفكر اللاهوتي الاصطفائي. فالأجدى بنا أن نتعلم من الغرب كيفية تعامله مع ذاته وطريقة تدبره لأزماته بإقامة علاقات نقدية مع الذات وإعادة النظر في الأنظمة المعرفية وفي المسلمات والبداهات.

والأجدى بنا أن نتخلى عن ممارسة الأستذة على الغرب فيما يتعلق بالشأن الرُوحاني والنزعة الإنسانية، فيما نحن ننسى أن إنسانيتنا تُولد الفقر والتفاوت والاستبداد بقدر ما تُولد النزاع والعنف والاختلاف الوحشي. فمعاناة المرأة عندنا فادحة وسيف التكفير يُهدد التفكير وعجزنا عن تلبية الحاجات الأساسية لشعوبنا فاضح و”صناعة الموت هي حرفتنا” على ما تشهد عليه حروبنا وغزواتنا وممارساتنا الإرهابية.

لقد خرجنا إذن من القرن العشرين وبداءة هذا القرن بكل هذه الحصيلة من التناقض والتوتر في علاقتنا رغم تقادم هذه الإشكالية في الفكر العربي الحديث. ولا يبدو تجاوزها ممكنا، إلا إذا عمدنا إلى مراجعة نقدية لكل ما تكون لدينا من أفكار وأوهام وأحكام خاطئة منذ صدمتنا حداثة الغرب مع مطلع القرن التاسع عشر. وأول هذه الافكار والأوهام، وهم تفوقنا الرُوحي على الغرب وانهياره الأخلاقي العميم رغم أن هذه المقولة جرى دحضها وبان زيفها وبطلانها في كتابات النهضويين العرب منذ القرن التاسع عشر، إلا أنها ظلت تتكرر في الفكر العربي حتى الآن ولو أن كُتَّابًا متنورين قد نبهوا على الدوام إلى ما حققه الغرب من انجازات على صعيد رفاه الانسان وحقوقه، إزاء تعاسة الإنسان العربي وشقائه وحرمانه الحقوق الأساسية للحياة.

وتأتي هذه الأوهام: وهم تقديس الغرب، لأفكار التنوير وانسياق المتنورين العرب وراءه في هذا التقديس. وهذا ما يدحضه العقل الحداثي الغربي الذي يُقدم النسبية على الإطلاق، والمراجعة النقدية المستمرة على الاستكانة إلى السائد والنهائي، وليس فكر ما بعد الحداثة إلا نتيجة هذا الموقف المعرفي، وهو ما يُسقطه فكر التنوير العربي كذلك، إذ إن أكثر المتنورين العرب إن لم نقل جميعهم قد دانوا مساوئ الحضارة الغربية، من الطهطاوي إلى الشدياق والمراش وعبده والأفغاني والكواكبي والريحاني ونعيمه، وكان نقدهم قاسيًا ولاذعًا. ولم يذهب أحد منهم على ما قال به جلال أمين، إلى التعامل مع القيم الغربية بوصفها “مطلقات أبدية“.

وثالث هذه الأوهام، رفض الحضارة الغربية ومدنية الغرب، باسم نموذج حضاري بديل لا يمكن تصوره في كل الأحوال إلا انطلاقا مما أرساه الغرب من قيم العقلانية والعلمانية والنسبية والتاريخانية وحرية الانسان وحقوقه.

إن الخطأ الكبير الذي لم يتنبه له الرافضون لحداثة الغرب، هو أن نقد الحداثة لا يُمكن أن يتم إلا بالانخراط في الحداثة وإنتاجها. فما دمنا على هامش حركة التاريخ وخارج الثورة العتيدة في القيم والأفكار والمفهومات والعلوم لن يكون أمامنا سوى تلقي نتائجها.

لا يُفيدنا في شيء الاعتصام بفردوس الماضي المفقود وقيمه التي لا تفتأ تتهاوى أمام تحديات الحاضر ومستجداته. من هنا يجب أن يُطرح الإشكال التاريخي بيننا وبين الغرب والحداثة، فهل سوف يحمل القرن الحالي نهاية لذلك الإشكال الذي شغل الفكر العربي طيلة قرنين كاملين أم أنه سوف يُؤجل لقرن آخر؟

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete