نحو تفكيك نزعة الهيمنة في العلاقة بين الشرق والغرب: نظرة محمد أركون النقدية

تكوين

تعدّدت المقاربات المتعلّقة بالعلاقة التي تربط بين الشرق والغرب لدى مجموعة من المفكرين النهضويين والمعاصرين. نلحظ أن المسألة طُرحت بقوة من وجهات مختلفة، وهي لا تزال تشهد محطّاتٍ متنوعة، بخاصة في منطقة واقعها مشتعلٌ يشوبه التوتر المستمرّ، نظير منطقة الشرق الأوسط.

يهمّنا في هذه المقالة أن نبرز رؤية محمد أركون المتعلّقة بالعلاقة التي تربط بين ضفتي المتوسط، هو الذي يحمل هوية جزائرية، قدِم إلى باريس، حيث تابع تكوينه الأكاديمي، ومن ثم درّس وحاضر وكتب باللغة الفرنسية، فاختبر بعمق معنى توتر العلاقة بين البلد الأصل وبلد الإقامة. لحظ من قرب كيف يتمّ التعاطي مع المغاربة في أوروبا، من جهة، وكيف ينظر المغاربة إلى الأوروبيين، من جهة أخرى.

عمل في أكثر من محاولة على كسر نمطية التعاطي بين الجانبين: درس، فكّك، انتقد، بيّن الشوائب لدى الطرفين، من وجهة موضوعية، لكنه، لم يسلَم في النهاية من سوء الفهم، ومن التُّهم التي ألقيت عليه، من الطرفين في الوقت نفسه. إن السقف الإيديولوجي الضيّق الذي يتمّ من خلاله تحجيم الفكر، وتصنيف صاحبه، يضغط بقوة على موقف عدد من الدارسين. لذا، اخترتُ أن أتوقّف هنا، عند الجهد الذي بذله محمد أركون في مقاربة المسألة، وعند كيفية فهمه طبيعة العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب، أو بين ما كان يفضّل أن يسمّيه بـ”ضفّتي المتوسّط”، ظنّاً منه أنه يقرّب المسافة بين المتباعدين، فيجعل الحيّز المائي يجمع في حوضه مختلف التقلّبات والأمواج التي يمكن أن تضرب شواطئه. إنه بذلك، قد حاول أن يقلّص حجم التباعد، بخاصة في عصر العولمة، حيث أصبح أي حادث يقع هنا أو هناك، حدثاً كونياً، يؤثّر بشكل أو بآخر في من هم أبعد منه.

هل الغرب والشرق على طرفي نقيض؟ هل من دور يمكن أن يلعبه كل طرف من أجل الاعتراف بالاختلاف والعمل على التعاطي معه بموضوعية وانفتاح؟ هل ما نشره محمد أركون حول هذا الصراع المتأرجح بين الاحتدام والتوتر يمكن أن يكون مقنعاً، ويشكّل بالتالي أفقاً مضيئاً في الوسط الضبابي الذي تمرّ فيه المنطقة؟

 ثنائية الشرق / الغرب في فكر محمد أركون

لم يبحث محمد أركون في العلاقة الكامنة بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام وأوروبا في كتاب واحد وحسب، إنما نجده يقارب هذه المسألة في أكثر من مؤلّف، وفي عدّة دراسات وحوارات قدّمها خلال تنقلاته بين الصروح العلمية والأكاديمية المتنوّعة. يكاد لا يخلو مؤلَّف له لا يتحدّث فيه عن الإسلام والغرب، أو عن كيفية مقاربة المستشرقين للتراث الإسلامي، أو عن الإسلام والعلمنة، كلّها موضوعات شكّلت محوراً رئيساً اشتغل عليه محمد أركون خلال نصف قرن تقريباً.[1] لا بدّ هنا من لفت الانتباه الى أن نشأته في الجزائر، ومن ثم انتقاله الى فرنسا لمتابعة تحصيله الأكاديمي، ومن ثم تولّيه مسؤولية رئاسة قسم الدراسات الإسلامية في جامعة السوربون، وعيشه في باريس، وتنقّله الدائم بين عواصم غربية عديدة للمحاضرة في جامعاتها، كل ذلك جعل من ثنائية علاقة الشرق/ والغرب، الإسلام/ وأوروبا، الإسلام/ والحداثة، موضوعاً حاضراً ينهمّ بمقاربته وفق نظرة نقدية تفكيكية.

أشير في هذا السياق إلى عمل موسوعي مهمّ يدرس تاريخ حضور الإسلام في فرنسا، من وجهات مختلفة، وعلى أكثر من صعيد، كان قد أشرف عليه أركون، كما قام بتقديمه جاك لوغوف، وهو صادر عن دار ألبان ميشال سنة 2006 تحت عنوان: “تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا، منذ القرون الوسطى حتى يومنا هذا”.[2] أشرت إلى هذا المرجع بالذات من أجل لفت انتباه القارئ إلى أن المقاربة العلمية والموضوعية لجدلية العلاقة بين الشرق والغرب تتطلّب تضافر جهود أكثر من باحث في أكثر من اختصاص، وهو ما كان يشدّد عليه أركون من خلال كلامه على ضرورة اعتماد المنهجية التعددية multidisciplinarité في درس أي ظاهرة أو حدث يعني الإنسان والمجتمع.

بعيداً عن التوتر الميداني، وخارج إطار الصراع الإيديولوجي، أو ما يسمّيه محمد أركون بـ”الأدلجة المهووسة”، نجده يقارب العلاقة بين الإسلام من جهة وأوروبا والغرب من جهة أخرى في حوار مطوّل أجراه تلبيةً لرغبة فريتز بولكستاين زعيم الحزب الليبرالي الهولندي، ووزير سابق للتجارة الخارجية، ومن ثم وزيرٍ للدفاع، حين كان أركون يلبّي دعوة جامعة أمستردام للتدريس فيها لمدة عامين، بين (1991 و1993).

إن اعتماد الحوار بين مختلفَين مبادرة قيّمة، بخاصة إن كان الحوار مبنيّاً على أسس البحث والتنقيب، والابتعاد قدر المستطاع عن الأحكام المسبقة، والمواقف المؤدلجة. قصد أركون أن يردّ على الأسئلة في كتاب، لعلّه في ذلك يشرح في أسلوب أكثر قرباً من القرّاء، ما في ذهنه من تصورات حول الصراع الدائر بين الشرق والغرب.

لا يخفي أركون تقديره وتعجّبه من كيفية تلّقي أفكاره في هولندا بالمقارنة مع فرنسا، إن على صعيد دعم توجّهه الفكري، كما على صعيد الترحيب العفوي الطيّب. أشار في المقدّمة إلى أنه “ترحيبٌ أقلّ عبوساً وعنجهية من ذلك الذي يبديه الفرنسيون تجاه كلّ ما يخصّ الإسلام والمسلمين والعرب”.[3]

الحوار عبارة عن مجموعة مؤلّفة من أربعين سؤالاً معدٍّ من قِبل بولكستاين، وهي تحيط بمجمل الموضوعات الساخنة التي كانت مطروحة في بداية التسعينيات من القرن الماضي، نجدها لا تزال حاضرة بقوة على الساحة الحالية. يمكننا من خلال قراءة الأسئلة المتتالية، والتي تنساب من دون ترتيب وفق موضوعات محدّدة، أن نضعها تحت خمسة عناوين:

  1. التعريف بالإسلام
  2.  الإسلام /وأوروبا
  3.  الإسلام /والعلمنة
  4.  الإصلاح والتغيير والتحديث
  5. حقوق الله /حقوق الإنسان

 

تجدر الإشارة في هذا السياق الى أن هذه العناوين لم تُعالَج كلّها وفق ترتيبٍ متسلسل، إنما جاء بعضها متداخلاً مع بعض وفق مقتضيات مجرى الحوار، حاولتُ تبويبها لتسهيل عملية إبراز ما يتضمّنه الكتاب بخصوص العلاقة الجدلية بين الشرق والغرب.

اخترت أن أتوقف عند الكتاب الذي نشر فيه محمد أركون الحوار وهو “الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة”، لسببين:

الأول: لأن الكتاب لم يأخذ حقّه في الدرس والنقاش.

الثاني: لأن الحوار بين رجل السياسة ورجل الفكر أمر غير رائج كفاية في بلادنا، وهو يجبر المفكر الغارق في أبحاثه وإشكالياته أن يذهب في اتجاه الواقع الاجتماعي والسياسي حاملاً معه لغة أقل تجريداً مما نجده في باقي كتبه، كما يجبر السياسي أن يغوص في عالم التجريد والبحث المعمّق.

في تقديم الرؤية النقدية

يمكن أن نشير هنا إلى ما لفت انتباهنا بخصوص مقدّمة الطبعة العربية التي وضعها أركون. إنها تتضمّن عنوانَين: “الحدث الإسلامي ومجتمعات أم الكتاب/الكتاب”، و”رهانات المعنى وإرادات الهيمنة”. طرح تحت العنوان الأول بعض المفاهيم النقدية التي شكّلت محور مشروعه “نقد العقل الإسلامي”، كما ركّز البحث على بعض الخطوات المنهجية التي تقتضي التمييز بين الظاهرة الإسلامية، أو الحدث الإسلامي من جهة، وبين الظاهرة القرآنية، أو الحدث القرآني، من جهة أخرى. أما العنوان الثاني فهو يشكّل مدخلاً يمهّد للقارئ العربي مواكبة تفاصيل الحوار، بخاصة في ما يتعلّق بالعلاقة بين أوروبا والإسلام.

تجدر الإشارة هنا، الى أن هاشم صالح قد أتبعَ ترجمة الحوار بين أركون وبولكستاين بحوار آخر أجراه معه لكي يبسّط ويشرح أبرز ما ورد في الحوار الأول. هذا ما يدلّ على أن تفكير أركون يذهب في اتجاه المتلقّي العربي أيضاً، ولا يكتفي بالقارئ الغربي. نجد أنه قد اهتمّ بكيفية تمهيد الطريق من أجل المزيد من التواصل الصحيح الذي لا يشُوبه سوء الفهم، علماً منه بكثرة الأحكام المسبقة، والتعرّض القاسي لصاحب الفكرة، من دون التمعّن في مضمونها. لكن، للأسف، كل هذه التدابير لم تحُل دون الوقوع في متاهات التلقّي المبتور والمنقوص، مما جعله يتحدّث عن “التواصل المستحيل”، إن شرقاً أو غرباً. بتعبير آخر لم يتلقَّ القارئ العربي ما قدّمه أركون انطلاقاً من رؤتته النقدية للعقل الإسلامي، فتمَّ اتّهامه بالكفر والزندقة. كذلك من الناحية الأوروبية، لم يتمّ تقبّل ما قدّمه على صعيد نقد عقل الحداثة، أو نقد العقل الغربي، فاتُّهم بالأسلمة وبالدفاع عن التراث والترويج له، بخاصة بعد أن قام بمراجعة نقدية لكتاب سلمان رشدي.[4]

حاول أركون في كتابه “الإسلام، أوروبا، الغرب”، أن يبتعد قدر المستطاع عن المقاربة الإيديولوجية لجدلية العلاقة بين الشرق والغرب بعامة، وبين الإسلام وأوروبا بخاصة، والتي تعرّضت برأيه لـ”أدلجة مهووسة”، لكي يقوم بمراجعتها في ضوء مناهج العلوم الاجتماعية وإمكانياتها المعرفية. كذلك نجده يُعلن في مقدّمة الطبعة العربية العربية عن هدفه الكامن في أن يحلّ “الصورة التاريخية (أو الواقعية) محل الصورة الإيديولوجية”، وذلك عن طريق إعادة التفكير الجدّي في “المضامين التاريخية الموضوعية، وبالثقل الجغرافي-السياسي، وبالمُثل العليا أو القيم المعيارية الناموسية، وبآفاق الرجاء والأمل المتضمّنة كلها في هذا العنوان الثلاثي الأبعاد: الإسلام، أوروبا، الغرب؟”.[5] كما أشار إلى أن الصورة التي كوّنها كل طرف عن الآخر “غير صحيحة على الإطلاق”. ثم نلحظ أنه أعرب عن رغبته المزمنة “في لعب دور الوسيط الفكري بين كلتا الجهتين” لكي يبدّد سوء الفهم المتراكم عبر التاريخ.[6]

إذا عدنا الى مقدّمة الطبعة العربية (41 صفحة)، ومقدّمة الطبعة الفرنسية (10 صفحات)، يمكن أن نلحظ مدى حرص أركون، برأينا، على تحضير القارئ العربي، لتلقّي طروحاته ومقارباته النقدية. قد يكون ذلك نتيجة رغبة منه في تفادي الوقوع في سوء الفهم، وإطلاق الأحكام المسبقة، وتبادل التّهم. كما قد يكون لديه تصوّر بأن القارئ العربي غير مطّلع كفاية على مجمل المصطلحات التي تولّدت من جرّاء تطوّر مناهج علوم الإنسان والمجتمع، فنجده يفصّل القول بغية المزيد من الإيضاح. من يدقّق في المقدّمتين، يمكنه أن يستخلص أبرز النقاط التي دار حولها الحوار، كما يمكنه أن يتبيّن بعض ما استشفّه أركون في خطاب محاوره من أحكامٍ مسبقة تتعلّق بالإسلام والجاليات الإسلامية في أوروبا، حاول أن يتصدّى لها بنَفَس علمي بعيدٍ عن التعصّب والانفعال السلبي.

من هنا، اردتُ أن أتوقف في هذه المقالة عند ثلاث نقاط: الأولى تبحث في العنوان الرئيس الخاص بالطبعة العربية، كما في العنوان الفرعي، والثانية تُبرز المسار الذي اعتمده أركون في إجاباته، والمنهج الذي اتبعه في عرض أبحاثه، لكي أصل في النقطة الثالثة الى التوقّف عند هدف أركون من الحوار، والغايات التي أراد الوصول إليها من خلال نشر هذا الكتاب. وجدتُ النصين المكثفين اللذين قدّم فيهما الطبعتين العربية والفرنسية مادة يمكن التوقّف عندها، كون أركون قد اشتغل المقدّمتين بدقّة، فضمّنهما أبرز ما تطرّق إليه الحوار، بالإضافة إلى تعليقاته التي تُدخل القارئ العربي في أجواء ما يحدث في أوروبا على صعيد العلاقة مع الإسلام، بعامة، ومع الجاليات الإسلامية المتواجدة هناك، بخاصة. إن تعاظم المتخيّل الذي تمّ الاشتغال عليه بين الطرفين، يتطلّب بالتأكيد، أكثر من حوار، وكتاب. لكن، أردت هنا تسليط الضور على رؤية أركون النقدية في مقاربة جدلية العلاقة بين الشرق والغرب، من أجل عادة التفكير فيها اليوم.

1- في العنوان

ذكر أركون أن كتابه قد نُشر للمرة الأولى في هولندا باللغة الهولندية تحت عنوان فرضه الناشر:”الإسلام والديمقراطية”، كون المجتمعات الأوروبية منهمّة بدمج الجاليات الإسلامية في بلادها، من دون أن يؤثر ذلك على أسس المكتسبات التاريخية والقانونية والثقافية لدولة القانون والمجتمع المدني في أوروبا. هناك من جهة، المجتمعات الأوروبية التي تسعى إلى جعل أبناء الجاليات الإسلامية يستوعبون قيم العلمنة والحداثة والديمقراطية لكي يتخلّوا عما يناقضها في موروثهم الثقافي. وهناك، في الجهة المقابلة، مجابهة حامية بين الإسلام والديمقراطية أفرزت أدبيات تبجيلية وشعبوية، بعيدة عن الروح العلمية الموزونة، كانت قد ترسّخت في المتخيّل السياسي-الديني لدى الجمهور العريض. نستنتج مع المؤلف أن هناك نظرة عدائية متبادلة من قبل الطرفين.

تجدر الإشارة هنا الى أن خيار أركون لهذا العنوان:”الإسلام، أوروبا، الغرب”، جاء لكي يلفت انتباه الجمهور العام، أي من أجل جذب القارئ، لكنه يصرّ على تبيان ميله نحو عنوان آخر بإمكانه أن يحيط بمجمل الموضوعات التي تناولها الكتاب، ألا وهو: “الدين والسياسة والمجتمع طبقاً للمثال الإسلامي”. فالعنوان الثاني يصيب بشكل دقيق الحقول الثلاثة التي اشتغل عليها أركون في مشروعه الفكري: نقد العقل الإسلامي. يمكن أن نستنتج إذاً من خلال العنوان الثاني، أن مضمون الإجابات التي سيفصّلها أركون في الكتاب سوف تتمحور بشكلٍ رئيس حول نظرته النقدية للدين والسياسة والمجتمع، بتعبير آخر، إنه سيقوم بتفكيك العقل الإسلامي عبر تجليّاته داخل المجتمع، من دون أن يوفّر بالطبع التطرّق الى العقل الغربي من زاوية نقدية أيضاً.

يشير أركون في سياق مقدمة الطبعة العربية الى العنوان الفرعي للكتاب: “رهانات المعنى وإرادات الهيمنة”، موضحاً أهمية إعادة النظر في “رهانات المعنى المرتبطة بإرادات الهيمنة للقارة الأوروبية أولاً، ثم لهذه القارة ذاتها بصفتها متضامنة مع ما تُفضّل أن تدعوه بالغرب ثانياً. وهي تدعوه كذلك من أجل تهميش العالم المتوسطي ونبذه أو عزله عن الغرب. إن أوروبا، إذ تفعل ذلك، تقوّي أو تدعم تلك القطيعة القديمة الحاصلة بين كلتا ضفّتي البحر الأبيض المتوسط: أقصد بين الضفة الجنوبية-الشرقية/ والضفة الشمالية-الغربية. وهكذا يصبح العالم العربي والإسلامي شرقاً، في حين أن الشرق الحقيقي يبتدئ فيما بعد أفغنستان، أي الهند والصين…(فالعالم العربي-الإسلامي غرب بالمعنى الجغرافي والحضاري وليس شرقاً كما نتوهّم…)”.[7]

كذلك، في ما يتعلّق بالعنوان الفرعي، لحظ أركون أن العلاقة الجدلية بين “المعنى والقوة”، كان جورج بالانديه، عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي، قد سبق أن درسها وفصّلها في كتاب يحمل الاسم نفسه.  كما رأى أن هناك تزامناً، في مختلف أنواع المجتمعات، بين رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، معتبراً أن هذه الظاهرة هي أنتروبولوجية، إذ إنها تعني كل اجتماعٍ بشريٍ من دون استثناء. أشير أيضاً إلى أن “كل الفاعلين الاجتماعيين، سواء أكانوا على المستوى الفردي أم الجماعي، يخضعون لآثار المعنى بل وينتجونها بدورهم عن طريق المزاودة المحاكاتية على المعنى الأصلي والأولي للنص الأعظم: أي المعنى المنزّه والمتعالي والمقدّس الذي لا يُمسّ والمؤسِّس لكل ما تلاه حتى أبد الآبدين”.[8]  يقصد بالمزاودة المحاكاتة تلك النزعة التي تدفع بالمؤمن في اتجاه، ليس فقط محاكاة النص الأصلي، بل ليزاود عليه، وذلك كما تفعل، على سبيل المثال، الحركات السلفية المتطرّفة. لقد عمد مناضلو هذه الحركات إلى فرض إرادة القوة باسم الدين رافعين راياته في كل مناسبة. من هنا أصبح الغرب ينظر إلى الإسلام باعتباره “قطباً جغرافياً-سياسياً” يشكّل خطراً عليه، ويهدّده بشكل مباشر. وتأتي وسائل الإعلام لكي تستغلّ الوضع وتزيده تشنّجاً عبر تشويه الإسلام وتظهير صورته “كفزّاعة مرعبة بعد سقوط الشيوعية”. نلحظ أن هذا المثل الذي ذكره أركون يوضح كيفية استخدام المعنى، أي الدين المنزّه عن أغراض الدنيا، في سبيل التوصّل إلى فرض القوة على الساحة، الأمر الذي يبيّن التداخل الكامن بين “رهان المعنى وإرادة الهيمنة”.

إقرآ أيضاً: محمد أركون: مشروع القطيعة التاريخية

كذلك على الصعيد الغربي، هناك تداخل واضح بالنسبة الى أركون بين “رهانات المعنى وإرادات الهيمنة” منذ زمن العصور الوسطى حتى اليوم. يتمّ التظاهر بأن الهمّ السلطوي ليس موجوداً وهو بالتالي لا يكمن وراء أي تحرّك توسّعي، أو استعماري، أو انقلابي. ما هو معلن يتمّ حصره بداية بنشر المعنى الصحيح، أي بالتبشير بالدين القويم، والقضاء على الكفار. لكن تحت هذا الشعار، إن غرباً، أو شرقاً، كانت تكمن “بشكل واعٍ أو لا واعٍ إرادة الهيمنة والتوسّع والسيطرة. وفي العصور الحديثة حلّت التغطية الإيديولوجية محل التغطية اللاهوتية فيما يخصّ الجهة الإسلامية وذلك لأن اللاهوت لا يزال قادراً على تجييش الجماهير في هذه الجهة حتى الآن”.[9]

الفتنة الكبرى في أوروبا، بعد نمو الشيوعية وانتشارها في الجهة الشرقية، لم تعد برأي أركون فتنة لاهوتية بل أصبحت إيديولوجية، الأمر الذي دفع أوروبا الغربية نحو مزيد من الالتصاق بأميركا وبالحلف الأطلسي. لذا، “فقد انتقلت القوة التجييشية أو التحريكية للجماهير من أيدي الدين الى أيدي الايديولوجيا العلمانية. (…) لا تزال الأمور مستمرّة على النحو ذاته منذ العصور الوسطى وحتى اليوم على الرغم من انتقال البشرية الأوروبية من المرحلة اللاهوتية-السياسية الى المرحلة العلمانية-السياسية”.[10]

تابع أركون في عمله رصد انتشار إرادة الهيمنة في الغرب من خلال الرهان على المعنى، لافتاً الانتباه إلى آخر توسّع للغرب، عندما تمّ تشكيل مجموعة الدول السبع الكبار التي تتحكّم باقتصاد العالم وبمصيره. كما لحظ أنه جرى توسيع الغرب توسيعاً إيديولوجياً عندما ضُمّ اليابان الذي يقع جغرافياً في أقصى الشرق، إلى الغرب. فاليابان أصبح غرباً من النواحي السياسية والحضارية والاقتصادية. لذا، على مستوى التشكيلة القيادية للعالم، أُعطيت الأولوية المطلقة “لاستراتجيات الهيمنة والقوة، وذلك على حساب المعنى ورهاناته. بل ولم يعودوا يعبأون بتغليف ذلك أو تمويهه أو حتى وضع القناع عليه. فاستراتيجية القوة والجبروت بلغت حدّ السيطرة على الكوكب الأرضي بأسره، وأصبحت تسفر عن وجهها بدون أية تغطية أو مساحيق إيديولوجية”.[11]

يتبيّن لنا في هذه الأسطر، توخّي أركون النهج المتوازن في التعاطي مع هذا التوتر القائم بين الشرق والغرب. من هنا يمكننا أن نتوقّف، في خطوة ثانية، عند أبرز ما يميّز المنهج الذي اعتمده في الإجابة على الأسئلة التي طُرحت عليه، وفي نقده لآلية اشتغال العقل الإسلامي كما العقل الغربي.

  2- في المنهج

نلحظ بداية أن أركون كان يحرص دائماً على تحديد المنهج الذي من خلاله سيقارب أي إشكالية يودّ التطرّق إليها، وهو هنا سيحدّد تباعاً كيفية مقاربته لموضوع الكتاب، أي: الإسلام، أوروبا، الغرب. نجده قد سعى إلى التوازن، والموضوعية، إذ إنه لم يكتفِ بالتوجّه النقدي نحو التراث العربي الإسلامي، إنما تخطّاه لكي يدرس العقل الغربي، عقل الحداثة وما نتج عنه. كما أنه لم يحدّ بحثه في العلاقة الكامنة بين السياسة والدين والمجتمع في الجهة الشرقية من المتوسّط، وإنما قام بالخطوة عينها للاطلاع على حقيقة ما يجري في الجهة الغربية. من هنا، سنجده يعمل وفق منهج نقدي مقارن يعمل باتزان، في نقد كلا الطرفين، ليعرّي المستور في الخطاب كما في السلوك.

أشار أركون في مقدّمة الطبعة العربية الى أن التنافس بين أوروبا والإسلام على حوض البحر الأبيض المتوسط كان قديم العهد، لذا أعلن عن رغبته في إعادة فتح المناقشة التي سبق أن أثارها المؤرّخ البلجيكي هنري بيرين في كتابه “محمد وشارلمان” عام 1937. إنه قد أفصح عن رغبته في إغناء المناقشة عن طريق طرح تساؤلاتٍ جديدة ليس فقط على مسار التاريخ الثقافي للضفّتين، وإنما على “المكانة المعرفية والوظائف النفسية-الاجتماعية-السياسية للظاهرة الدينية”.[12] لذا كان يشدّد على أنه سيبتعد عمداً عن مختلف “الأحكام المسبقة والأجوبة الجاهزة” التي غالباً ما يُطلقها الأوروبيون على الجاليات الإسلامية، والتي لا تفيد الا في شحن النفوس لدى كل من الطرفين المتقابلين.

يقول بخصوص الطريقة التي سيعالج بها الموضوع ما يأتي: “لن أتبع طريق المحاباة أو دغدغة العواطف فإني أخشى أن يجد القارئ العربي-الاسلامي صعوبة في فهم مقصدي العميق وتفكيري. فالواقع إني أغلّب في جميع كتاباتي حق المعرفة والتحليل النقدي لرهانات المعنى على كل عصبية قومية أو دينية. كما وأغلّبها على تلك العصبية العتيقة المشهورة تحت اسم “الجهاد”. ونحن نعلم كم يحتلّ هذا الشعار من أهمية اليوم في ساحة الإسلام المعاصر الذي يعتبر نفسه وكأنه قد غُلب على أمره، واعتُدي عليه، وشوّه من قبل القوى الباغية في الغرب (الطاغوت، الشيطان الأكبر…)”.[13]

يلفت انتباه القارئ كلامٌ أورده أركون حول الغرب، بعد أن قام بتفنيد سياسات الهيمنة التي مارسها هذا الغرب من خلال الرهان على المعنى، والتي كنا قد أشرنا إليها في النقطة السابقة، حيث توقّفنا عند تفسير العنوان الفرعي للكتاب: “رهانات المعنى وإرادات الهيمنة”. نلحظ، إذا، أنه يصف كلامه عاى الغرب بأنه عنيف وقد يكون فيه شيء من التحيّز.  لكنه سرعان ما يستدرك الأمر فيضيف: “أجد نفسي مضطراً لتعديل الصورة قليلا وإلا فُهم كلامي على أساس أنه يصبّ في طاحونة الأصوليين!”. نجده يؤكّد بقوة على أنه لا يُنكر حضارة الغرب وما أنجزه من تقدّم ورُقيّ، مضيفاً: “لستُ من المهووسين بتسويد صورة الغرب بمناسبة وبدون مناسبة. ولكني لا أستطيع أن أنكر أن ثمار هذه الحضارة ليست متقاسَمة بالتساوي بين الجميع! وكما أني أرفض الخطاب الاختزالي والعدائي لوسائل الإعلام الغربية ضدّ الإسلام والمسلمين، فإني أرفض أيضاً خطابات الأصوليين الإسلاميين عن الغرب وحضارته. فهذه الحضارة ليست سوداء الى الدرجة التي يصوّرونها، بل إن فيها جوانب إيجابية كثيرة وتمثّل بشكلٍ ما خلاصة الحضارات البشرية التي تعاقبت على وجه الأرض حتى الآن”.[14]

لا ننسى أن أركون كان قد درس في فرنسا، واستفاد إلى حد كبير من أساتذته، كما من المفكرين الغربيين الذين نهل من معارفهم ومناهجهم الكثير، كما وظّف ما توصلوا إليه على صعيد المراجعة النقدية للفكر الديني في أوروبا. وهو لا يُنكر ذلك طبعاً، بل يسلّط الضوء عليه من باب الوفاء، كما من باب الموضوعية، ومقاربة الأمور بصدق. لذا فهو يكرّر بأن الانتقادات التي يوجّهها إن غرباً أو شرقاً لا تهدف الى الانتصار لجهة على أخرى، إنما يحاول أن يضبط خطواته باتزان، ويوجّه نقده على نحو عادل. يقول: “فإن انتقاداتي للغرب وحضارته تظل جريئة ولا تضحّي أبداً بالإنجازات. يُضاف إلى ذلك أن نقدي للعقل الإسلامي يبرهن بكل وضوح على أن موقفي متوازن ويحاول أن يكون عادلاً.(…). فأنا أتحدّث من ذلك الموقع الذي تجري فيه تلك المواجهة التاريخية والفلسفية ما بين رهانات المعنى/وإرادات الهيمنة. وكلّما طغت إرادات الهيمنة على رهانات المعنى وحاولَت أن تصادرها (وما أكثر ما تحاول) أشرتُ الى ذلك وأدنته”.[15]

يرى أركون أن الأسئلة التي طرحها عليه بولكستاين تتميّز بأمرين:

– إنها صادرة عن رجل دولة يتّمتع بثقافة عالية وخبرة علمية معروفة.

– إنها تعكس الأحكام المسبقة والتأويلات التي تشير إلى عدم اطّلاع الرأي العام الأوروبي على موضوع الإسلام والهجرة.

من هنا كان على أركون أن يبحث في كيفية معالجة سوء الفهم هذا، وإظهار الحقائق كما هي. لذا نجده يغتنم فرصة الحوار المتوفّرة لديه متّبعاً الخطوات الأربع الآتية:

– تحديد مناهج الدرس عن طريق بلورة الإشكاليات التاريخية والاجتماعية والأنتروبولوجية الخاصة بالموضوع.

– استغلال الفرصة لكي ينزع الغطاء اللاهوتي الكثيف عن المواقع الإيديولوجية الشائعة التي يعتنقها المسلمون المعاصرون، ولكي يكشف عن تاريخية هذه المواقع.

– إحلال الرؤية الديناميكية محل الرؤية الساكنة أو الثبوتية التي تميّز بها المستشرقون، وفرضوها على الجمهور الأوروبي، بخاصة وأن هؤلاء كانوا قد شكّلوا مرجعية تتمّ استشارتها بخصوص الإسلام.

نحن نعلم كم أن أركون تناول منهجية المستشرقين بالنقد، منذ أن طرح مشروعه في بداية ثمانينيات القرن الماضي تحت عنوان “الإسلاميات التطبيقية” كبديل عن “الإسلاميات الكلاسيكية”،[16] التي يقصد بها المنهج الاستشراقي.

– الحرص على تجنّب المواقف الهجومية أو الدفاعية، كما المواقف التبجيلية أو التبريرية.[17]

بعد أن عرضنا لأبرز الخطوات المنهجية التي سيّرت إجابات أركون على أسئلة مُحاورِه، يمكننا أن نتلمّس بعض الغايات التي تبدّت لنا، من خلال نشر هذا الحوار ضمن كتاب.

3- في الغايات

إن الفجوة الواسعة التي ما زالت تفصل بين ضفتي المتوسط كانت من أبرز ما حفّز أركون على مقاربة موضوع الكتاب. إنه يعرف تماماً أن “العقليات متباعدة الى أقصى حد، والعنف الإيديولوجي يُلهب النفوس ضدّ بعضها بعضاً، والمخاوف الحقيقية أو الوهمية لا تزال رازحة، والجهل المتبادل لا يزال قوياً”. من هنا نجده بعيداً عن الأحلام المنشودة، يصوّر الواقع بموضوعية لكي يرسم مسار تعاطيه مع الأمور. لذا فهو لم يدعُ أبداً الى توحيد الفضاء المتوسطي، لأنه يعلم مدى الشرخ الفاصل بين الضفتين، بخاصة وأن أوروبا الغربية منهمّة بدمج أوروبا الشرقية وإدخالها في عالمها وإعادتها الى جذورها الطبيعية، بعد أن سقطت الشيوعية وزالت الموانع التي حالت دون ذلك. فسيرُ الأمور في الواقع يشير إلى مزيد من الإهمال الأوروبي لجنوب-شرق المتوسط، أي لدولٍ إسلامية في معظمها. فالاستمرار في تهميش تاريخ الإمبراطورية العثمانية، ورميه في دائرة الأقسام الاستشراقية المهملة، جعل من أركون يضع هدفاً واضحاً لعمله الفكري يكمن في إعادة النظر في جذور العلاقة بين أوروبا والإسلام من وجهة نقدية.

رأى أن أوروبا بإمكانها ” أن تساعد الدول العربية والإسلامية على الاندماج في مناخ المعنى والقيم التي أدّت الى انبثاق الهوية الفكرية الأوروبية (منذ عصر النهضة مروراً بعصر التنوير وحتى اليوم). فبما أن أوروبا سبقت عالم الإسلام إلى دخول الحداثة واكتساب الحريات الديمقراطية فإنها تستطيع أن تمدّ يد المعونة لأبناء الضفة الأخرى من الفضاء المتوسطي لكي يدخلوا هم أيضاً في عالم الحداثة والحريات والقيم الديمقراطية”.[18]

نجده يطرح سلسلة من الأسئلة يمكن أن نستدلّ منها على هدفه، إذ هي ترسم مخططاً واضح المعالم لأي حوار يقيمه مع أي جهة غربية، يقول: “كيف يمكننا أن نقلب السلب الى إيجاب، والخصام الى وئام، والحرب الى تعاون وسلام بين الإسلام، وأوروبا، والغرب؟ كيف يمكن أن نتوصّل الى علاقات جديدة بين هذه الأقطاب الثلاثة، أو هذه المناطق الجغرافية-الاستراتيجية الثلاث؟ كيف يمكن أن نتوصّل الى علاقة بنّاءة لا مدمّرة، علاقاتٍ واحدة بالمستقبل وقادرة على تحرير الوضع البشري أينما كان، في هذه الجهة أو تلك؟”.[19]

واضح هنا هذا الإصرار العميق على تجاوز التقاتل والتنابذ والتباعد من أجل إرساء المزيد من التضامن ومدّ الجسور، وتمتين “التفاعل المخصّب” الذي من شأنه أن يسكّن الغضب، ويخفّف البغض، ويحجّم التطرّف. في ذهن أركون مشروع إخماد نار الأحكام المسبقة، والحدّ من انتشار شظايا القصف الإيدويلوجي المتبادل بين الطرفين. في قلبه رغبة جامحة في تخطّي الكراهية والسعي إلى احترام حقوق الإنسان، بعامة، وحقّه في الاختلاف، بخاصة. لم يوفّر فرصة من أجل توجيه النداء تلو النداء لعلّ الأمور تسير نحو “التوحيد الثقافي والعقلي للفضاء المتوسطي”[20]، بخاصة بعد تزايد موجات الهجرة نحو القارة الأوروبية.

قبل أن أوجز أبرز الأهداف التي اشتغل عليها محمد أركون من خلال نشر حواره مع بولكستاين، زعيم حزب أوروبي، في كتابه “الإسلام، أوروبا، الغرب”، أودّ أن أختار سؤالاً من بين الأسئلة الأربعين التي طرحها عليه محاوره، لكي ألفت انتباه القارئ الى كيفية تلقّي الأوروبيين للإسلام، الأمر الذي جعل أركون يعمل على تصحيح الصورة، وتقريب وجهات النظر، إن في هذا الكتاب أو في غيره. يقول بولكستاين في السؤال الثاني ما يأتي:

“نحن نعلم أن الاستعمار الأوروبي ينتمي الى فترة حديثة العهد. فقد انحلّت الامبراطورية العثمانية عام 1918، وحصل استعمار الشرق الأوسط بعد ذلك التاريخ. صحيح أن المواجهة بين أوروبا والعالم العربي قديمة، ولكنها كانت لصالح العالم الإسلامي لمدّة ألف سنة تقريباً. فالمعركة حول فيينا لم تنتهِ إلا عام 1683! ينبغي ألا ننسى ذلك. هذا يعني أنها اختتمت مرحلة ألف سنة كان فيها العالم الإسلامي أقوى من العالم الأوروبي. صحيح أن العالم العربي قد انسحب من إسبانيا في نهاية المطاف، ولكنه هيمن عليها مدّة خمسة قرون. يُضاف الى ذلك أن ابن رشد مات عام 1198، وأن ابن خلدون كتب مقدمته عام 1377. ثم لم يحصل أي حدث فكري مهمّ في العالم الإسلامي بعدهما. من تابع خطتهما؟ لا أحد. وبالتالي فإن جمود العالم الإسلامي (عربياً كان أم تركياً أم إيرانياً) سابق على الاستعمار الأوروبي بكثير. والاستعمار ليس هو سبب هذا الجمود إن لم نقل “الانحطاط”. هذا يعني أن هناك سبباً آخر، سبباً داخلياً على العالم الإسلامي، وهو الذي ولّد هذا الجمود المشار إليه. ما رأيك بهذا الرأي؟ وهل أُجانب الصواب إذ أقوله؟…”.[21]

توقّف أركون في ردّه عند فعل “هيمن” باعتباره المغذّي الأول للمماحكات الجدالية وسوء التفاهمات بين الإسلام والغرب، ملفتاً الاهتمام الى ضرورة تتبّع حركة الهيمنة وتنقّلها بين ضفة وأخرى. كما أنه توقّف عند ممارسة الغرب لفعل الهيمنة على دائرة نفوذه الجيوسياسية في منطقة الدول العربية، لكنه في الوقت عينه لم يهمل البحث في الأسباب الداخلية التي أدّت الى تراجع الإسلام. كذلك نجده يجزم بأنه “لا يمكن أن نفهم سبب ظهور الأنظمة القمعية والديكتاتورية وهيمنتها في البلدان العربية وكذلك ظهور الحركات المضادة لها والمدعوة بالراديكالية “الاسلامية” أو الأصولية أو التزمّت “الاسلامي”، إلا إذا موضعناها داخل الإطار العام لهذا العنف المفصلي الذي يمارسه الغرب وإسرائيل. فهما مسؤولان بالدرجة الأولى عن رزوح مثل هذا الوضع”.[22]

لذا وانطلاقاً مما تقدّم يمكن أن نختصر الأهداف التي سعى إليها أركون من خلال كتابه “الإسلام، أوروبا، الغرب”، بخاصة، ومن خلال مشروعه الفكري النقدي، بعامة، في النقاط الآتية:

– تنبيه القارئ الغربي الى أن أوروبا لا تعتبر الإسلام كغيرية شرعية، أو كطرف آخر جدير بالحوار. إنه موضوع الكلام وليس ذاتاً متكلمة.

– الإشارة الى أنه في أوروبا يتمّ تضخيم الإسلام الى حدّ الرعب باعتباره “وحشاً إيديولوجياً”.

– العمل على تقديم تصوّرٍ متبادلٍ مطابقٍ لمعطيات التارخ السياسي والثقافي لضفتي المتوسط.

– السعي إلى بلورة أنتروبولوجيا واسعة بإمكانها أن تستوعب وتتجاوز في آن الأنظمة اللاهوتية للأديان الثلاثة المتنافسة على الوحي، وهي في نظر أركون، أنظمة قائمة على الاستبعاد المتبادل.

–  إعادة استذكار الموقف الإنسي الذي عرفه الفكر العربي الإسلامي خلال القرن الرابع الهجري، كما الموقف الإنسي الذي عرفه عصر النهضة في أوروبا.

– إعادة فتح الكلام على الأنسنة تهدف أيضاً الى تأسيس خطاب إنسي جديد يشمل كل شعوب البحر الأبيض المتوسط.

– السعي إلى تشبيك الجهود المبذولة من قِبل المثقفين من الجهتين من أجل الخروج من حالة التهميش والإستبعاد وإطلاق الأحكام المسبقة ورمي الآخر المختلف في دائرة الإلغاء.

– التحليل التاريخي والأنتروبولوجي والجيو-سياسي والفلسفي لمجمل “إرادات الهيمنة” التي تحرّك كل سلطة مركزية تعتمد على قاعدة مؤلّفة من مختلف القوى الاجتماعية والاقتصادية.

– دراسة “رهانات المعنى” الكامنة داخل كل مشروع يعمل على الهيمنة والاستغلال (الخطابات التي تبرّر الحرب العادلة مثلاً).

– دحض الأدبيات السياسوية المتسرّعة في الغرب التي تتناول الإسلام بخفة، معتبرة إياه السبب الأولي والنهائي لكل مظاهر العنف والتعصّب والانحراف الايديولوجي.

– لفت نظر الأوروبيين الى خلفية البؤس المادي والاجتماعي الذي يقف وراء العامل الديني فيؤدّي الى الاستخدام المتطرّف للإسلام.

– لفت انتباه الجامعات الأوروبية الى ضرورة عدم التمييز في العلم، والانكباب عل دراسة الثقافة العربية والدين الإسلامي بنفس الجدّية والاحتراف اللذين اتُّبعا في دراسة الحضارات الأخرى (كاليونانية والرومانية مثلا)، كما في دراسة اللاهوت المسيحي أيضاً.

– محاولة كسر الحواجز الايديولوجية واللاهوتية والجيو-سياسية التي طبعت المثقفين والباحثين في كلتي الجهتين، فأثرت بذلك على ممارساتهم العلمية وتركيباتهم الذهنية.

– توجيه النداء الى المشتغلين في إطار الحقل الأكاديمي من أجل السعي الى التوحيد الثقافي والعقلي للفضاء المتوسطي، بخاصة بعد تزايد الهجرات العربية والإسلامية الى أوروبا.

– تصحيح الصورة التي كوّنها الأوروبيون عن أركون بعد أن قام بنقد العقل الغربي، عقل الأنوار، مما تسبّب في النظر إليه باعتباره مسلماً تقليدياً، سجيناً لعقائده الغريبة. إنه “الأجنبي المزعج” الذي يصعب تقبّله كونه يستعصي على كل تحديث أو حداثة، إذ كيف له أن يتجرّأ فيدرس العقل الغربي ومن ثم ينتقده؟ كان عليه، بنظرهم، أن يلتزم حدوده من دون أن يتدخّل في ما لا يعنيه، أي في نقد عقل الحداثة وما بعد الحداثة.

نرى أن هذا الهدف الأخير قد لعب دور المحرّك في صياغة الكتاب الذي بين أيدينا. تلمّسنا في أكثر من موضع حسرة أركون على عدم تقبّله كما يجب في الأوساط الأكاديمية الأوروبية. لكن، جاءت الفرصة من هولندا، من أحد زعمائها، لكي يُفصح عن مكنوناته، ويُظهّر للعلن حقيقة الهمّ العلمي والمعرفي الذي يحمله في داخله. يقول مختصراً الأحكام المسبقة التي أُطلقت بحقّه ما يأتي: “لا يمكن لشخص مصبوغٍ بصبغة الإسلام أن يتوصّل الى درجة الصرامة العلمية والموضوعية الفكرية والتحرّر من العقائد الدوغمائية الموروثة بحسب زعمهم. وحده المفكر الأوروبي استطاع أن يتوصّل الى ذلك تنظيراً وتطبيقاً”. ويتابع معلّقاً: “هذا ما أستخلصه بشكل ضمني أو صريح من خلال مناقشاتي العديدة مع الجمهور الأوروبي والأميركي. ويعلم الله أني أخوض صراعات لا تُحصى على جبهة الجامعات الأوروبية، وكذلك على جبهة المُلتقَيات والندوات في برلين أو بروكسل أو أكسفورد أو السوربون أو أمستردام أو برنتسون أو هارفرد…الخ، وكل ذلك من أجل شرح حقائق الإسلام بشكل تاريخي وموضوعي دقيق. ولكن العملية صعبة جداً. هذا أقل ما يُقال”.[23]

في الختام،

واضحٌ مما تقدّم كم أن الأهداف التي كان أركون يرغب في الوصول اليها كبيرة وعديدة. إنه كباحث لم يترك مجالاً لليأس كي يكبّله، ولا للأحكام المسبقة كي تحطّ من عزيمته. حبّه للإسلام جعله يعمل على تظهير صورته الحقيقية في الغرب، ورفْعِ الإجحاف بحقه، وحثّ الباحثين الغربيين على التعاطي معه باحترافٍ وموضوعية علمية وتاريخية. وهو في الوقت عينه يعرف جيداً قيمة المناهج التي استفاد منها خلال دراسته في الغرب الأوروبي، بعد أن اختبر جدواها، فلم يشأ أن يُحرم التراث العربي الإسلامي منها، لذا عمل جاهداً على تأسيس قراءة نقدية حديثة لهذا التراث. كما أنه يثمّن التجربة التي عاشتها المجتمعات الأوروبية في نضالها من أجل تحقيق العلمنة، وبناء الدولة، وحماية حقوق الإنسان.

خلاصة القول، إن من يقرأ “الإسلام، أوروبا، الغرب”، يمكنه أن يتكشّف له المشروع الأركوني على نحوٍ مبسّط الى حدّ ما، بالقياس الى كتبه الأخرى، وذلك بسبب ما تقتضيه شروط الحوار، من شرحٍ، وإيضاحٍ، وتكرار. في الكتاب همّان: الأول تفسير الإسلام على حقيقته للغرب، والثاني نقد المسارَين الأوروبي والاسلامي انطلاقاً من رهانات كل طرف على امتلاك المعنى، واللجوء الى الهيمنة من أجل فرض هذا المعنى.

هل ما ورد في سياق هذا الكتاب من تحليل ومراجعة نقدية بإمكانه أن يُسهم فعلاً في فهم حقيقة ما جرى من أحداث منذ تاريخ 11 سبتمبر 2001 أَهدرت الدماء وقَطعت الرقاب؟ هل يمكن للقارئ العربي أن يؤوّل ما جرى في ضوء المقاربة الأركونية المتضمّنة في “الإسلام، أوروبا، الغرب” وفي باقي مؤلفاته؟ وبالتالي، هل إن تجدّد الصراع الإيديولوجي، وازدياد الشرخ والتقاتل، قَدَرٌ محتومٌ على هذه الناحية من العالم، أم مأزقٌ فكري سياسي جغرافي يمكن تداركه والعمل على الخروج منه باحترافٍ ومسؤولية؟

 

قائمة المصادر والمراجع:

[1] – أنظر على سبيل المثال لا الحصر:

– محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الاسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، ط1، 1986

– محمد أركون، العلمنة والدين، الاسلام المسيحية الغرب، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1990

– محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الاسلام اليوم؟، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1998

– محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن الى بغداد، ما وراء الخير والشر، ترجمة عقيل الشيخ حسن، بيروت، دار الساقي، ط1، 2008

– محمد أركون، الهوامل والشوامل، حول الإسلام المعاصر، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2010

– محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 2011

– محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام، ترجمة هاشم صالح، بيروت، المركز الثقافي العربي ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، ط1، 2013

[2] -Histoire de l’islam et des musulmans en France du Moyen Âge à nos jours, Paris, Albin Michel, 2006.

[3] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1995، ص 51.

[4] – لمزيد من التفصيل أنظر: كيف ندرس الاسلام اليوم؟ التواصل المستحيل، في كتاب: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س. ص 17

[5] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 5

[6] – محمد أركون، م.س. ص 5

[7] – محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب م.س. ص 6

[8] – محمد أركون، م.س. ص 30

[9] – محمد أركون، م.س. ص 30

[10] – محمد أركون، م.س. ص 32

[11] – محمد أركون، م.س. ص 33

[12] – محمد أركون، م.س. ص 7

[13] – محمد أركون، م.س. ص 8

[14] – محمد أركون، م.س. ص 33-34

[15] – محمد أركون، م.ن. ص 34

[16] – لمزيد من التفصيل أنظر الفصل الأول من كتاب: محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الاسلامي، م.س. ص 51- ص 63

[17] – لمزيد من التفصيل حول الخطوات المنهجية راجع: محمد أركون، الاسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 43- 44

[18] – محمد أركون، م.س. ص 35

[19] – محمد أركون، م.س. ص 30

[20] – محمد أركون، م.س. ص 51

[21] – محمد أركون، م.س. ص 57

[22] – محمد أركون، م.س. ص 60

[23] – محمد أركون، م.س. ص45

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete