نحو نظرية جديدة للحدود فى الفقه الإسلامي: الجزء الثاني

تكوين

بدأنا خلال مقال سابق حديثنا رحلتنا نحو نظرية جديدة للحدود فى الفقه الإسلامى، بدأنا بمقدمة عن أهمية النظرية، وهل الفقه الإسلامى مؤهل لها؟ ثم بدأنا عرضًا لما نراه يمكن أن يعبر عن تلك النظرية فتحدثنا عن نظرية: عصر الشبهة، ثم نظرية: الحدود سياسة الشرعية. ثم نظرية: العقوبات الحدية واجبة على التخيير لا التعيين.

فتاوي الشيخ عبد المتعال الصعيدي

والأخيرة اجتهاد للشيخ عبد المتعال الصعيدي حيث اعتبر الشيخ أن الأمر الوارد فى حد السرقة، فى قوله تعالى (فاقطعوا) والأمر الوارد فى حد الزنا، فى قوله تعالى:(فاجلدوا) يمكن جعل كل منهما للإباحة، لا للوجوب، تماماً مثل، الأمر، بالأكل، والشرب، فى قوله تعالي:(وكلوا واشربو)، ولم يقل أحد، أن الأمر، بالأكل، والشرب هنا، يفيد الوجوب[1].

فإن كان الأمر فى تلك الحدود، مثل الأمر، فى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا) هنا لا يكون، قطع يد السارق، حدًا مفروضًا لا يجوز العدول عنه فى جميع حالات السرقة، بل يكون القطع فى السرقة، أقصى عقوبة فيها، يجوز العدول عنه إلى عقوبة أخرى رادعة، ويكون شأنه فى ذلك، شأن كل المباحات، التى تخضع لتصرفات ولى الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان، ومكان، ومثل ذلك، الأمر فى حد الزنا، سواء أكان رجمًا، أم جلدًا، مع مراعاة، أن الرجم، لا يقول به فقهاء الخوارج؛ لعدم النص عليه فى القرآن الكريم[2].

عاصفة الردود على الشيخ الصعيدى

ما أن نشر الشيخ هذا المقال حتى انهالت عليه مجموعة من الردود، ومن المهم علميًا بيان هذه الإعتراضات، التى أوردها المعترضون على الشيخ، وبيان رده عليها لتمام الفائدة.

كان أشهر هذه الردود، وأولها، رد الشيخ محمد الخضر حسين(شيخ الأزهر من عام 1952م وحتى عام 1954م)، ثم رد الشيخ محمد إسماعيل عبد النبي[3]، وأبو إسحاق إبراهيم إطفيش(واعظ بشبين الكوم)[4]، ثم رد رمضان السيد الجداوى(مدرس بمعهد الزقازيق)[5]، ثم تعليق جريدة السياسة الأسبوعية[6]، ثم تعقيب الشيخ عبد المتعال الصعيدى.

رد الشيخ محمد الخضر حسين

جاء ردالشيخ “محمد الخضر حسين” تحت عنوان” تحريف آيات الحدود عن مواضعها”[7]وبدأه بالغمز في الشيخ الصعيدى بأنه لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ولا يملك صفات المجتهدين وبعدها قال: لكننا سنقصر البحث على ذلك الرأى حتى يتبين للقارئ أنه هذا رأى لم يصدر عن اجتهاد ولا تثبت فى فهم كلام الشارع الحكيم.

وأضاف الشيخ الخضر أن من نظر فى آيات حد السرقة، وحد الزنا، مجردًا من كل هوى، لا يفهم منها سوى أن من يرتكب السرقة عقوبته قطع اليد، ومن يرتكب فاحشة الزنا عقوبته الجلد، وأن الأمر فى قوله (فاقطعوا) وقوله)فاجلدوا) للوجوب القاطع، وذلك لأن الأمر فى كل من الآيتين جاء بعد وصف-سواء السارق، أو الزانى مثلًا- مؤذن بأنه سبب ذلك الحكم.

وأضاف ثم إن اتصال آية السرقة بقوله تعالى: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ. صريح فى الدلالة على أن الأمر بالقطع للوجوب؛ لأنه وقع فى الآية موقع المنبه على من تحقق فيه وصف السرقة جزاءً أى على قدر جنايته، وفى وصفه الحد بإنه نكالا من الله إيذان بأن من وقف فى سبيل إنفاذه فقد حارب الله، ومن رأى أن غيره من العقوبات أحفظ للمصلحة فقد زعم أن علمه فوق علم الله.

وكذلك اتصال آية حد الزنا بقوله: ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله، وكذلك قوله: وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. كل ذلك يجعل الأمر بلا شك يفيد الوجوب.

وأنه لو صح أن يكون هناك عقوبات أخرى يمكن للحاكم التخيير من بينها لذكرت ولدل عليها دليل كما فى قوله تعالى (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقوله (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

مما يدلل على أن الحدود هى من قبيل الواجب المعين..أيضًا السنة القولية والعملية، فالقولية مثل قوله صلى الله عليه وسلم” لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده” وقوله” وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”، وأما العملية فإن النبي لم يعاقب من ثبتت عليهم مثل هذه الجرائم بغير هذه العقوبات.

إن كاتب المقال-يقصد الشيخ الصعيدى- هجم على تلك الآيات بمعول من التأويل الذى تنكره اللغة والسنة وحكمة التشريع، ولو جرى الناس على مثله فى تفسير الكتاب المجيد لكفوا خصوم الإسلام جانبًا من العمل على هدم أركانه وطمس معالمه.

إقرأ أيضاً: نحو نظرية جديدة للحدود فى الفقه الإسلامى (1-3)

ولم تخرج بقية الردود عما قاله الشيخ الخضر سوي ببعض الملاحظات القليلة مثلما قال الشيخ محمد إسماعيل عبد النبي: إن الأمر فى حقيقته يفيد الوجوب ولا ينصرف إلى غيره عملا بقرينة صارفة له عن الوجوب إلى غيره، وإن وجوب هذه العقوبات عليها إجماع الصحابة، ولو أنه كانت عقوبات غيرها لقبل النبي شفاعة أسامة بن زيد فى عدم قطع يد المرأة المخزومية التى سرقت، أما فقه الخوارج وخلافهم فى حد الرجم فلا يعول عليه.

كذلك كرر الشيخ أبو إسحاق إبراهيم إطفيش ما قيل ولم يزد سوى قوله: لو كان الأمر يفيد الإباحة لقلنا إن النهى مثله يفيد التنزيه ويترتب على ذلك كله أن العبد يكون مخير بين اتباعه العبادات، وتركها، ومخير بين ترك الكبائر، وارتكابها، فنعود بالشريعة كلها إلى إباحية صرفة.

ردود الشيخ عبد المتعال الصعيدى على شيخ الأزهر

عقب الشيخ عبد المتعال الصعيدى على المقالات الأربع بقوله[8]:

أولها: أن الامر فى آيتى السرقة والزنا قد علق على مشتق وهو (السارق والسارقة والزانية والزانى) وتعليق الحكم على شخص موصوف بوصف يؤذن بأن المقضى للحكم هو ذلك الوصف الذى بذلك الشخص فهذا معناه أن الأمر للوجوب.

والرد: لا شك أن هذا لا يصح  يكون دليلًا على أن الأمر فى ذلك يفيد الوجوب، فهو لا يفيد سوى، أن علة القطع، والجلد، هو السرقة، والزنا، ولا يفيد وجوب القطع القطع والجلد، وقد علق الأمر بمشتق فى قوله(وإذا حللتم فاصطادوا) وهو فى ذلك للإباحة لا الوجوب.

ثانيها: ان اتصال آية السرقة بقوله تعالى تعالى: جزاء بما كسبا نكالا من الله) صريح فى أن الأمر للوجوب فقد جعل العقوبة جزاء لاكتسابه واقترافه هذه الجناية وصرح بذلك فدل على أن الامر للوجوب، وفى وصف الحد بأنه نكال من الله إيذان بأن من وقف فى سبيل إنفاذ الحد فقد حارب الله تعالى.

الرد: حينما ننظر إلى فعل الأمر-فاقتلوهم- فى قوله تعالى ( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191(سورة البقرة) نجده للإباحة لا للوجوب، مع أنه عقب بعده بقوله، كذلك جزاء الكافرين، مما يدل على أن جعل الأمر للوجوب لأنه عقب أو علق بعده على كونه جزاءً غير صحيح.

إقرأ أيضاً: لا رجم فى الإسلام

أما قوله تعالى(نكالا) فلايفيد الوجوب أيضًا؛ لأن النكال معناه العقوبة، ولا شك أن مجرد إباحة هذه العقوبة الشديدة فيه نكال عظيم لكل سارق، لأنه معرض بذلك لقطع يده، فالنكال يرجع فى الحقيقة لشدة العقوبة، لا إلى وجوبها، أو إباحتها، ولا شك أن القتل أشد جرمًا من السرقة ومع هذا لم يوجب الله القصاص فيه على التعيين بل أجاز فيه العفو وقبول الدية، فلا شئ فى أن يكون القطع فى هذا مثله.

ثالثها: أن اتصال آية الزنا بقوله تعالى(وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) يدل على أن الأمر للوجوب.

الرد: هذا الدليل شأنه فى ذلك الدليل السابق، والجواب عنهما واحد، على أن قوله تعالى:(وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) معناه ولا تتركوهما بدون عقاب جلدًا كان أو غيره، وقوله تعالى(إن كنتم تؤمنون) يرجع إلى قوله( ولا تأخذكم بهما رأفة) ومن ثم لا يفيد شيئًا فى وجوب جلدهما، على أن هذا القيد قد ذكر فى أمر الإباحة أيضًا، وهو قوله تعالى:(فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤْمِنِينَ (الأنعام – 118) لأن الإيمان كما يقتضى فعل ما أوجبه الله تعالى، يقتضى فعل ما أباحه بعدم الامتناع عنه، كذلك قوله تعالى(وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) لايفيد الوجوب لأنه لا يقصد منه سوى إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع، وذلك الإعلان مستحب لا واجب.

ومع ذلك نذكر طائفة من الآيات القرآنية التى ورد فيها الأمر للندب، أو

الإباحة، وقد أقترنت بمثل هذه القيود الشديدة.

مثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[ سورة البقرة: 254] قيل الأمر هنا فى قوله: أنفِقُوا. للزكاة الواجبة، وقيل أراد به صدقة التطوع.

كذلك قوله تعالى: – يقول: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ.[سورة البقرة:35] حيث ذهب الجمهور إلى ان النهى هنا للتنزيه لا للتحريم، فالجنة ليست دار تكليف، وحتى لا يكون آدم عاصيًا هو نبى معصوم.

وقوله:﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾[سورة الأحزاب: 37]فالأمر فى قوله أمسك للندب، أو للإباحة، ومع ذلك قال بعده (واتق الله).

ومثل ذلك فى السنة من قوله صلى الله عليه وسلم مما رواه أحمد من حديث بريدة الأسلمى:”الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منَا، قالها ثلاثا” ومنه قوله فى البخارى”لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ومع ذلك فالوتر سنة، وليس بواجب، وكذلك أن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه.

رابعها: أنه لو كانت الحدود من المباحات وليست من الواجب المعين الذى لا يقوم غيره مقامه لما افردها القرآن بالذكر لأن طريقته المعروفة فى التخيير أن يذكر الأنواع المخير بينها كقوله تعالى فى كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ(89) سورة المائدة.

الرد: وهذا الوجه غير صحيح أيضًا لأن الله تعالى قد ذكر فى آيات أخرى بعض الواجبات المخيرة، ولم يستوف كل أفرادها، كما فى قوله تعالى:﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾[سورة محمد: 4]) والمعروف أن التخيير فى الأسرى فقهيًا بين أربعة: القتل، أو الإسترقاق، أو الإطلاق بفداء، أو بدون فداء(المن)، ومع ذلك فالأية لم تذكر سوى خيارين فقط بينما ثبت بالسنة باقى الأربعة.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)[ سورة التوبة: 29]

فالمراد حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، والآية لم تذكر الإسلام؛ بل ذكرت الجزية فقط، فالواجب هنا ليس معين فى شيئ واحد بل مخير بين أمرين الإسلام أو الجزية، ومع ذلك لم يذكر فدل على أنه ليست بشرط ذكر الخيارات فى الواجبات المخيرة.

كذلك قوله تعالى: )وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (191(سورة البقرة. فذكر فاقتلوهم، وفى الحقيقة ممكن أن يأسروهم، فجاء بخيار واحد مع وجود غيره فلا يشترط إذن ذكر كل الواجبات المخير بينها فى سياق واحد.

خامسها: قولهم أن الأصل فى صيغة الأمر أن تكون للوجوب، ولا تنصرف عنه إلى غيره إلا بقرائن، ولا قرائن هنا تدل على ذلك بل القرائن الموجودة تؤدى للقول بالوجوب قطعًا.

الرد: أما القرائن الموجودة، فقد سبق الحديث عنها وبينا قيمة تلك القرائن،  ومن ثم نقصر حديثنا هنا على قولهم أن الأصل فى الأمر أنه للوجوب، وهذا قول باطل لوجهين: أولهما، أنه كما قيل: إن الأصل فى صيغة الأمر أن كون للوجوب. قيل: إن الأصل فيها أن تكون للندب. وقيل: مشترك بينهما. وقيل: إنها حقيقة فى الإباحة. وقيل: إنها مشترك بين الثلاث. وقيل

إن أمر الله للوجوب، وأمر الرسول للندب.

فُعلم من هذا كله أن إفادة الأمر للوجوب ليس قولًا واحدًا، وليس رأى قطعى؛ بل مختلف فيه من الأصل، والذى يعول عليه فى ذلك، هو القرائن، وقد عرفت أنه لا قرائن هنا تعين كون الأمر للوجوب.

ثانيها: أن الأمر الوارد فى الحدود هو أمر بعد حظر، فالأصل حظر القطع، وحرمة الجسد، فجاء الأمر خارج عن هذا الحظر، ولاشك أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة لا الوجوب، لهذا قال ابن حزم فى المحلى إذا لم يثبت الحد لم يحل أن يُقام بشبهة، لقوله صلى الله عليه وسلم:”إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام”.

إقرأ أيضاً: نحو كلمة سواء للحدود فى الفقه الإسلامى

سادسها: قولهم أن حمل الأمر فى هذه الآيات على الإباحة تنكره اللغة وحكمة التشريع؛ لأن هذه الحدود شرعت للزجر، والردع، ولا زجر، ولا ردع، فى القول بالإباحة فقط، لإنها حدود اختيارية يمكن العدول عنها.

الرد: وهذا الوجه باطل أيضًا؛ لأن الأمر فى اللغة  جاء للإباحة، فلا شيئ من جهة اللغة، يمنع من حمل الأمر على الإباحة.

أما أنه أمر تمنعه حكمة التشريع؛ لأن الحدود شرعت للزجر…الخ   فهو قول مردود أيضًا؛ لأن حكمة التشريع باقية مع القول بأن هذه الحدود اختيارية، لأننا لم نرد ترك السارق بدون عقاب، إنما أردنا أن يعاقب بما يليق بحالة، لأن الجريمة الواحدة لها حالات كثيرة تختلف فيها شدة وضعفا، فلا يصح أن تفرض لها عقوبة واحدة فى جميع حالاتها، فيقيد القاضى بها، ولا يكون لاجتهاده مجال فى تقدير حالات الجريمة، وتقدير ما لا يليق بها من العقوبة، ولهذا نرى فى التشريع الحديث حدًا أعلى وحدًا أدنى فى العقوبات، فيكون للجريمة الواحدة عقوبات كثيرة يجتهد القاضى فى تقديرها، ويراعى حال كل شخص فيها، وهذا أضمن لتحقيق العدالة فى جميع الأشخاص، وأبعد عن التضييق على القاضى فى أحكامه، ولا شك أن هذا هو المناسب لحكمة التشريع.

وقد أدى هذا التضييق فى الحدود على القاضى إلى ندب ما يسمونه تلقينا يسقط الحد فقد روى عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول أسرقت قل لا، وسمى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما، وروى البيهقي عن أبى الدرداء أنه أتى بجارية سرقت فقال أسرقت قولى لا، فقالت لا فخلى سبيلها، وروى عبد الرازق عن عمر أنه أتى برجل سرق فسأله أسرقت قل لا، فقال لا فتركه.

ولا شك أن هذا التلقين إبطالا لتلك الحدود جملة، وليس هناك من سبب يدعو إليه إلا فرض هذه الحدود على اليقين فى جميع الحالات التى شرعت فيها، ولو كان هناك عقوبات أخرى معها فى هذه الحالات لعدل القاضى عنها إليها، ولم يلجأ إلى التلقين الذى يضيعها، ويترك المجرم بدون عقوبة، لأن الحالات التى يشرع فيها الحد إما أن يعاقب به فيها، وإما لا يعاقب أصلا، فيضطر القاضى إلى إبطال الحد بهذه الحلية.

وقد فطن ابن حزم لهذا، فأنكر على الأئمة الأربعة درء الحدود بالشبهات، وقال إنه يؤدى إلى إبطال الحدود جملة، فقال إنما هو حق لله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت لم يحل أن يقام بشبهة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام” وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة لقوله تعاله:”تلك حدود الله فلا تعتدوها”.

سابعها: قولهم أنه لو كان الأمر فى ذلك للإباحة لزم من ذلك إباحة كل من الزنا والسرقة.

الرد: هذا كلام مبنى على الغفلة فالشيخ الصعيدى لا يقول باسقاط العقاب عن الزانى، والسارق حتى يلزمه ذلك، وإنما يري تنويع العقاب علي هذه الجرائم، وليس تركها بدون عقاب بحيث يكون  الحد أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه فى بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة، فلا توجد حالة بدون عقوبة حتى يلزم فيها الإباحة، على أن كثيرًا من الذنوب ليس فيها عقاب دنيوى كالكذب وغيره من الذنوب والمعاصى، ولا يلزم من عدم العقاب عليها فى الدنيا القول بإباحتها.

ثامنها: قولهم أنه لو كان الأمر فى هذه الحدود للإباحة لما بقي فى كتاب الله صيغة أمر تقتضى الوجوب، فيكون الأمر فى قوله تعالى:”وأقيموا الصلاة” للإباحة أيضا وهكذا، فمن شاء صلى، ومن شاء ترك الصلاة، ومن شاء صام، ومن شاء لم يصم، وهكذا تنقلب الأحكام كلها إرشادية كلها لا فرض فيها ولا واجب، ولا يخفى أنه ليس فى هذا الوجه شيئ من العلم، وإنما هو كلام يُقال جزافًا بدون تعقل، فإهماله بدون رد خير من الاشتغال بالرد عليه.

تاسعها: قولهم أن السنة القولية، والعملية تدل على أن الأمر فى هذه الآيات للواجب المعين، فالنبى لم يعاقب من ثبت فى حقهم اقتراف مثل هذه الحدودود بغير هذه العقوبات الواردة فى الآية، وسنرجئ الرد على هذا إلى الكلام عن الحدود فى السنة النبوية لنرى بوضوح أن النبي كما عاقب بهذه العقوبات عاقب بغيرها أيضا وذلك كالآتى.

الحدود فى السنة النبوية

ظهر من خلال عرضنا للحدود فى آيات القرآن أن الأمر فيها ظاهر فى كونه لا يفيد سوى الإباحة، لكن ربما يكون فى السنة ما يصرف الأمر عن الإباحة للوجوب، وقد أحتج من أعترض على إفادة الأمر للإباحة فى القرآن، بأن السنة القولية، والعملية، تدل بمنتهى الوضوح على أن الأمر فى الآيات هو للوجوب المعين؛ لذا علينا سرد ما ورد فى السنة النبوية القولية، والعملية، بشأن الحدود، والتوقف أمامها، بالبحث، والنظر؛ لنوضح أمرين:

أولهما: أنه لم يرد فى السنة ما يرجح أو يعين احتمال الوجوب على احتمال الإباحة.

وثانيها: أنه ورد فى السنة ما يفيد أن هناك عقوبات أخرى شرعت فى هذه الحدود،  ومن  ثم لا تكون العقوبات الواردة فى آيات الرآن بشأن الحدود متعينة فيها، وإنما يكون الأمر بها للتخيير بينها وبين العقوبات الاخرى.

وهنا سيكون الكلام من خلال محورين: المحور الأول، الأحاديث الواردة فى حد السرقة، المحور الثانى، الأحاديث الواردة فى حد الزنا، وذلك كالآتى:

المحور الأول: الأحاديث الواردة فى حد السرقة.          

سبق الحديث عن ذلك بالتفصيل فى المقالة الثالثة

حينما ننظر فى قول الله تعالى” السارق” سنجد أن لفظ السارق والسرقة ظاهر فى إفادته للعموم ، دون قيد بنصاب للسرقة، أو حرز، أو غيره، ومن ثم فكل من ثبت، وتحقق فيه صفة السارق، أو السارقة، وجب عليه الحد والقطع بغض النظر عن قيمة الشيئ المسروق، أو مكانه, وإلى هذا ذهب طائفة من العلماء، وحجتهم فى هذا على ما ذكره ابن جرير الطبري فى تفسيره من أن الأخبار الواردة فيما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يرو عنه أحد أنه أتى بسارق درهم فخلى سبيله، وإنما روى عنه أنه قطع فى مجن قيمته ثلاثة دراهم، ولو أنه أتى بسارق سرق ما قيمته دانق لكان من الممكن ان يقطعه أيضًا.

وقال النيسابورى أيضًا: أحتج القائلون بالعموم بأن اختلاف المجتهدين فى قدر النصاب يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن.

وهذه الشهادة تكفى فى الدلالة على قيمة الاخبار الواردة فى السنة، فلا نكون فى حاجة إلى التوفيق بينها وبين ما ذهبنا إليه من أنه لم يرد فى السنة ما يرجح أو يعين احتمال الوجوب على احتمال الإباحة، ومع ذلك فلا مانع من الوقف أمامها وتقييمها من جهتنا؛ لنثبت ما ذهبنا إليه، من القول بأنه ليس فى السنة ما يرجح القول بأن الحدود واجبة على التعيين، بل السنة تثبت أن الحدود مخير فيها بين عقوبات متعددة، وذلك كالآتى:

أولًا: الأحاديث الواردة فى إشتراط النصاب

الحديث الأول حديث عائشة رضى اله عنها قالت:”تقطع اليد فى ربع دينار فصاعدا” وهو حديث مضطرب فقد روى مرة مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم ومرة موقفً عليها، وأعل من لم يأخذ به رواته، كما أنه ليس صريحًا فى تحديد القيمية فغاية ما يفيدهأن السيدة عائشة تروى ما عرفته وما وصلها أن الرسول قطع فى ربع دينار فصاعدا وليس فيه تصريح بأن النبي عرض عليه من سرق أقل من ربع دينار فلم يقطعه فهى تقرر واقع هذا إن ثبت، حتى من أخذ به فى تحديد النصاب أخذ بمفهومه الذى فهم منه وليس بالتصريح والأخذ بالمفهوم مختلف فيه بين من يعتبره ويعمل به ومن لا يعتبره ولا يأخذ به.

الحديث الثانى حديث ابن عباس”قطع رسول الله ر جلًا فى مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم” ومع أن الصحاوى لم يقبل حديث عائشة السابق كونه مضطرب إلا أنه قبل هذا الحديث مع فيه من اضطراب لا يقل بحال عن سابقه!

وروى فى ذلك أيضًا حديث ابن عمر أن رسول الله قطع فى مجن قيمته ثلاثة دراهم”، وهو معارض لغيره من أحاديث الباب، وقال ابن دقيق العيد الإستدال بقوله قطع فى مجن على اعتبار النصاب استدال ضعيف، لأنه حكاية فعل، ولا يلزم من القول بالقطع فى هذا عدم القطع فيما دونه.

وورد فى ذلك أيضًا حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده” وهو موافق لظاهر الآية فى العموم، وبه أستدل من لم يعتبر القول بالنصاب فى السرقة، ومن ثم فيقطع فى القليل، والكثير، على السواء، فى حين تأوله جمهور الفقهاء الذين يشترطون النصاب للقطع، منها ما ذكره الخطابي، ومن سبقه؛ بأن المراد به تحقير شأن السارق، وخسارة ما ربحه من السرقة، وهو أنه إذا تعاطى هذه الأشياء الصغيرة، وداوم عليها صارت السرقة له سجيه؛ فقادته هذه الأشياء لسرقة ما فيه القطع فيقطع، ولا يخفى ما فى هذا الـتأويل من تكلف جعل أهل الظاهر والخوارج وطائفة من الفقهاء لا يشترطون فى المسروق كونه بلغ النصاب.

شاهد أيضاً: هل إنكار السنة النبوية فكرة حديثة؟

واستدل من اشترط فى القطع بلوغ النصاب بحديث عائشة رضى الله عنها “كانت اليد تقطع على عهد رسول الله فى الشيئ التافه، وكانت تقطع فى ثمن المجن وقد سبق الكلام عن مثل هذه الأحاديث وبناء عليه اختلفت كلمة من اشترط النصاب في ما هيته اختلافاً كبيرا بلغ تسعة عشر قولًا، فقيل يقطع فيما قيمته درهم وقيل درهمين وقيل ما زاد عن الدرهمين وقيل ثلاثة، وقيل ربع دينار، وقيل خمسة دراهم، وقيل عشرة وهكذا أقوال كثيرة بلغت تسعة عشر قولا كما سبق أن ذكرنا.

ولا شك أن كثرة هذه الأقوال وابتنائها على أحاديث مضطربه يعطيها نفس الصفة فيجعلها أقوال مضطربة، مما يرجح الأخذ بظاهر الآية وعمومها وعدم التعويل عى هذه الأحاديث والأية قد سبق الكلام عليها وأنها لا تفيد الوجوب على التعيين، وعلى فرض عدم اضطراب هذه الأحاديث وصحة ثبوتها فإنها لا تعارض ما ذهب إليه الشيخ عبد المتعال الصعيدى لأنها لا تفيد سوى وقوع القطع وليس وجوبه.

التخيير في حدود السنة

مما سبق يتضح لنا أن السنة لم ترجح القول بالوجوب على القول بالإباحة بل الأحاديث والمرويات تدل على ما ذهبنا إليه من إثبات التخيير بين عقوبات متعددة وليست عقوبة واحدة ويكفينا هنا للدلاة على هذا  ما ورد فى حدى السرقة والزنا، أما السرقة فقد سبق عرض هذه الأحاديث، والآثار، التى تفيد رد المسروق، والتغريم بدل القطع، والدليل على جواز الحبس عقوبة مشروعة فى حد السرقة[9]، لكن لا بأس ببيان التخيير فى حد الزنا وذلك كالآتى.

المحور الثانى : التخيير فى حد الزنا

يمكن إثبات التخيير فى حد الزنا بناء على عدة وجوه[10]، الوجه الأول قوله تعالى فى سورة النساء, ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾[ النساء: 15] وقوله: ﴿ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾[ سورة النساء: 16] فلآية الأولى تفيد، أن الزانيات كن يحبسن فى البيوت حتى يجعل الله لهن سبيلًا، أما الرجال فكانوا يؤذون بالضرب، أو بالكلام.

وهنا أمر لابد من النظر فيه بعد هذا كله وهو “أو” فى قوله تعالى”أو يجعل الله” فهل هى عاطفة أم ناصبة؟ فإن كانت ناصبة فهى بمعنى إلى مثل قول الشاعر “لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى” أى إلى أن ادرك المنى، وهذا يكون معنى الآية فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوافهن الموت إلى أن يجعل الله لهن سبيلا بعقاب آخر فلا تمسكوهن بعده، وعلى هذا يبطل عقاب الحبس والأذى بعد نزول عقاب الجلد فى سورة النور لقوله صلى الله عليه وسلم”هو: قوله صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم”.

أما إن كانت عاطفة فتكون لأحد الشيئين، وعلى هذا يكون معنى الآية، فأمسكوهن فى البيوت على حصول أحد الأمرين الموت أو الجلد، وبالتالى يكون حد الزنا بعد نزول آية النور على التخيير بين الحبس إلى الموت، أو جلدهن مائة جلدة، وكذلك الرجال يؤذون بالقول، أو يضربون، أو يجلدون كما تجلد النساء.

فإن قيل أنه على هذا لا تكون آية النور ناسخة لآية النساء قلنا لا شيئ فى أن تكون غير ناسخة لها.

اما الوجهة الثانية  التى تدل على التخيير فى حد الزنا فهى آية الحرابة وهى قول الله تعالى(إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوْ يُصَلَّبُوٓاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)سورة المائدة آية33. فأو تفيد التخيير على رأى بعض السلف، ومن ثم فهناك أكثر من عقوبة للمحاربين، وقد يكون من ضمن جرائهم إرتكاب الزنا، والقذف، وغيره فهنا تخييير واضح رغم وجود جرائم كثيرة قد يكون من بينها جريمة الزنا.

عقوبة القتل فى الزنا

نصت بعض الأحاديث على عقوبة القتل فى الزنا، ومن ثم يكون لهذا الحد عقوبات أخرى، ويكون التخيير واضح، بين عدة عقوبات، وليست عقوبة واحدة، وَأَشْهَرُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ لَقِيتُ خَالِي وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَقَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنِ اضْرِبْ عُنُقَهُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَفِي سَنَدِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أن رسول الله بعث أباه إلى رجل أعرس بامرأة أبيهن فضرب عنقه، وخمس ماله. قال يحي بن معين:هذا صحيح وَمَنْ رَوَاهُ فَأَوْقَفَهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

وَقَدْ ذكر ابن حزم فى المحلى ان الناس اختلفوا فى الزنا بالمحارم فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ أَوْ حَرِيمَتَهُ أَوْ زَنَى بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَهُوَ كُلُّهُ زِنًى، وَالزَّوَاجُ كُلُّهُ زَوَاجٌ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى كَامِلًا، وَلَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ فِي الْعَقْدِ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ – صَاحِبِي أَبِي حَنِيفَةَ –

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، وَابْنَتَهُ، وَأُخْتَه، وَجَدَّتَهُ، وَعَمَّتَهُ، وَخَالَتَهُ، وَبِنْتَ أَخِيهِ، وَبِنْتَ أُخْتِهِ – عَالِمًا بِقَرَابَتِهِنَّ مِنْهُ، عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِ، وَوَطِئَهُنَّ كُلَّهُنَّ: فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ، وَالْمَهْرُ وَاجِبٌ لَهُنَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا التَّعْزِيرُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَقَطْ – وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَا: فَإِنْ وَطِئَهُنَّ بِغَيْرِ عَقْدِ نِكَاحٍ فَهُوَ زِنًى، عَلَيْهِ مَا عَلَى الزَّانِي مِنْ الْحَدِّ.

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو الشَّعْثَاءِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، كُلُّ مَنْ وَطِئَ حَرِيمَتَهُ عَالِمًا بِالتَّحَرُّمِ عَالِمًا بِقَرَابَتِهَا مِنْهُ، فَسَوَاءٌ وَطِئَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا بُدَّ – مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.

ثم قال –أى ابن حزم- وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيمَا وَرَدَتْ بِهِ، فَنَقُولُ: إنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ – بِعَقْدٍ أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ أَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا – فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا بُدَّ – مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ – وَيُخَمَّسُ مَالُهُ.

وَأَمَّا مَنْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ امْرَأَةِ أَبِيهِ مِنْ سَائِرِ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ.. فَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ: هُوَ زَانٍ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ فَقَطْ، وَإِنْ أَحْصَنَ عَلَيْهِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ كَسَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِأَنَّهُ زَنَى، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وقد ذهب الجمهور بأن من حكم عليه بالقتل فى تلك الأخبار كان مستحلًا لذلك عالمًا بتحريمه ولهذا امر رسول الله بأخذ ماله وقسمته.

ورد ابن حزم عليهم بإنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِمَّنْ زَادَهَا كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُجَرَّدٌ، وَعَلَى مَنْ رَوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَقَالَ الرَّاوِي: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – إلَى رَجُلٍ ارْتَدَّ فَاسْتَحَلَّ امْرَأَةَ أَبِيهِ، فَقَتَلْنَاهُ عَلَى الرِّدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الرَّاوِي، فَهُوَ كَذِبٌ مُجَرَّدٌ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ ظَنُّ مَا لَيْسَ فِيهِ.

فَصَحَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَةَ أَبِيهِ بِعَقْدٍ سِمَاهُ نِكَاحًا – أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَمَا جَاءَتْ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ – فَقَتْلُهُ وَاجِبٌ وَلَا بُدَّ، وَتَخْمِيسُ مَالِهِ فَرْضٌ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ – إنْ كَانَ لَمْ يَرْتَدَّ – أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، إنْ كَانَ ارْتَدَّ.

ولاشك أن ابن حزم يجرى فى هذا على مذهبه فى الوقوف عند ظاهر الحديث وإنكار القياس، وأقرب المذاهب فى ذلك مذهب أحمد بن حنبل

لأنه الموافق لتلك الأخبار.

ومن ذلك-أى من العقوبة فى حد الزنا والخروج بها عن الجلد والرجم- ما روى عن أنس ن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه، فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر” رواه مسلم.

ولا شك أيضًا فى أن القتل بالرجم أشد من القتل بضرب العنق بالسيف، وأن الزنا بالمحارم أشد من الزنا بالأجنبيات لما فيه من تخطى الحرمتين، فإذا جاز القتل بالسيف فى الزنا بالمحارم، فليجز فى الزنا الأجنبيات من باب أولى، وإذا جاز الرجم فى الزنا بالأجنبيات فليجز فى الزنا بالمحارم بهذا القياس أيضًا.

وبهذا يثبت التخيير فى الزنا، بين القتل بالرجم، والقتل بالسيف، وأن الأمر بواحد من ذلك بخصوصه للإباحة لعدم وجوبه على التعيين.

القول بجواز الفداء فى الزنا

ويؤيده ما روى عن أبي هريرة، وزيد بن خالد رضي الله عنهما أنهما قالا: أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال رسول الله ﷺ: قل ، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنا بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني: أن ما على ابني مائة جلدة، وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ، قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله ﷺ فرجمت..

فهؤلاء الذين ظنوا أن على ابنه رجم ظنوا أيضًا أن الرجم حق لزوج التى زنى بها، وأنه يصح له أن يعفو عنه على مال يأخذه، فأعطاه أبو الزانى ما اعطى فحكم رسول الله بأن على ابنه الجلد وبرد المال المعطى، ورد المال فى هذا يحتمل أن يكون؛ لأنه وقع بدلًا عن الرجم فلما ظهر أنه لا رجم عليه رد المال له، ويحتمل أن يكون لأن الزنا حده لا يقبل الفداء، وهذا هو ما جرى عليه الفقهاء وشراح الحديث.

لكن الإحتمال الأول أقرب من هذا الإحتمال الذى جروا عليه، لأن الذين افتوه بالرجم ظنوا أن الرجم يقبل الفداء، فلو كان هذا الظن باطلًا لبين النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم أخطأوا فى هذا أيضًا؛ لأن هذا هو الذى يقطع هذا الإحتمال، وإذا كان النبي لم يصرح بهذا مع وجود مقتضيه، فإن ذلك الإحتمال يكون أظهر من غيره، ولا يكون هناك مانع من العمل به.

ومازال للحديث بقية فليتبع.

المصادر والمراجع:

[1] –“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 7.

[2] –“فى الحدود الإسلامية” ص7.

[3] -“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 15: 17.

[4]-“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص18 : 19.

[5]-“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 20 : 21.

[6]-“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص22: 23.

[7]-“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 8: 14.

[8]-“فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 26 : 60.

[9]– انظر:”فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 61: 74.

[10]-انظر:”فى الحدود الإسلامية”  للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص87 : 94.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete