نحو نظرية جديدة للحدود فى الفقه الإسلامى (1-3)

تكوين

توقفنا عبر عدة مقالات سابقة، وقفات طويلة متفحصة لفقه الحدود الإسلامية، بطريقة جزئية، تفكيكية، تحليلة؛ مستهدفة أعادة الصياغة، والنظم، والتركيب؛ للوصول لرؤية  كلية، تتمثل فى البحث عن نظرية[1] جديدة متكاملة للحدود فى الفقه الإسلامى، تتوافق مع المقاصد الشرعية، وتعيد الاعتبار العملى للفقه الإسلامى، ولا تخالف النص الكلى، أو تجافى الواقع المتغير.

أهمية نظرية الفقه الاسلامي

أهمية النظرية وهل الفقه الإسلامى مؤهل لها؟

نظرية تحقق السلم والأمن المجتمعى، بالتوافق، والتناغم، بين الدين والدنيا، والحياة والآخرة، والشريعة والقانون، فهل الفقه الإسلامى مؤهل لذلك؟

الحق إن الفقه الإسلامى[2]، والعقل الفقهى بطبيعته، وأصل تكوينه؛ جزئى، تفصيلى، مغرق فى التفاصيل، ودراسة المسألة، وله أدوات فى ذلك تجعله دقيق، محيط بها من جميع جوانبها، وشتى أحوالها، مدقق محقق، ومن ثم يعطى نتائج مبهرة، لكنها جزئية غير كلية، ومن ثم فهو ابعد ما يكون عن النظرية[3]، لذلك نحتاج فى تنزيلها على الواقع للفتوى باعتبارها جسرًا بين الجزئى وأدواته، والكلى ومعطياته.

وعليه فقد قالوا أن من أفتى الناس بمجرد النقول من الكتب-المسائل الجزئية- فقد ضل وأضل، ومن كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه[4]، فكل مكونات الفقه عبارة عن مسائل، وكل مسألة منفصلة فى الدراسة، والحكم، عما قبلها، أو بعدها.

ولله در ابن القيم فى ذلك حيث قال[5]: وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف شيء فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين” وقال أيضًا:

“وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان”.

لأجل ذلك كله فالفقه غير قادر على إنتاج نظريات جامعة مانعة، جامعة لأبواب ومسائل كثيرة، مانعة من دخول غيرها فيها، فتجده الفقه مثلًا، يدرس أنواع كثيرة من العقود، ومسائل واحتمالات متعددة تحت كل عقد من هذه العقود، لكنه لم ينتج نظرية موحدة للعقود، كما هو الحال فى العقلية القانونية الحديثة.

فحينما يحكم على العقد بالفساد لكونه يخالف نظرية العقود، فلا محل لاعتباره، أوالدخول فى التفاصيل.

من أين تبدأ نظريات الفقه الإسلامي

فالنظرية تبدأ من الكلى من الرؤية الكبيرة العامة الواسعة، فهى المعيار، والحكم القطعى، هى جواز المرور من عدمه لدولة الشيئ محل الحكم، فالنظرية دولة ذات حدود وخصائص تناسب المجتمعات الحديثة بتعقيداتها، والفقه مسائل متفرقة يناسب المجتمعات البدائية البسيطة فى روابطها وحاجاتها.

النظرية عقل أوسع وأشمل تراعى المصالح العامة والمحددات الكبري، والفقه عقل متخصص جزئى ينظر للمصلحة محل دراسة المسألة، أو المتنازع فيها.

ومن هنا فدراسة الحدود دراسة فقهية، لن تقديم سوى، حل مرحلى، جزئى، آنى، متكرر غير نهائى، أما الحل الكلى، الدائم، فهو عمل النظرية، التى لا يناسبها الفقه، ولا العقل الفقهى التجزيئ، إنما يناسبها فى حقل الدرسات الشرعية، والعلوم الإنسانية، والاجتماعية، علم أصول الفقفه[6]، والعقل الأصولى-نسبة لأصول الفقه- والدراسات القانونية، والعقل القانونى، والعلوم الاجتماعية.

سر تنحى أبواب من الفقه واقعيًا.

ولعل هذا هو سر تنحى الفقه، وتخلفه عن الواقع؛ فموضوعه خاصة فى مسائل المعاملات، وفى القلب منها مسائل الحدود، واقع غير ذلك الواقع، وزمن غير ذاك الزمن[7].

لقد اجتهد الفقهاء السابقون؛ لأزمنتهم، وعصورهم، أروع اجتهاد-فى المجمل- وأنبله، وأرفعه، وأشرفه، فلم يقعدوا عن طلب العلم، ولا معرفة الحق، ولم يقصروا فى طرق دروب فهم النص، والتعامل معه، وفقًا لواقعهم.

فقهاء صدقوا أمتهم؛ فوضعوا لها قوانين يتحاكمون إليها، فى مجالات المعاملات،

يوم أن كانت الدنيا، إما بلا قوانين، ولا تعرفها، وإما بقوانين غير منضبة بضوابط،

اللهم إلا رغبات حكامهم، وما تهوى الأنفس.

الفرق بين المتقدمين والمتأخرين.

لقد ترك الأقدمون ثروة علمية تفصيلة كبرى، بينما قعد المتأخرون عن القيام بواجبهم حق القيام، فحفظوا-فى الأغلب الأعم-مسائلها جامدة، وتركوها دون تنمية، فتآكلت بمرور الزمن، وقلت قيمتها، وخافوا، وجبنبوا عن الإستثمار، والبناء، فى وقت كانت أمتهم أحوج ما تكون لهم، ولولا نفر قليل منهم، مثل السنهورى باشا، الذى جسد روح الفقه الإسلامى، ومسائله فى قانون مدنى حديث؛ لأصبحت تلك الثروة فى متاحف التاريخ.

نحتاج لسنهورى جديد.

ولمثل السنهورى، وتمثلاته الفقهية فى القانون المدنى الحديث، صنوانه، نحتاج فى فقه الحدود ومسائله، فى عصر الدولة المدنية الحديثة، ومهامها، وخصائصها، التى لم يكن يعرفها عصر مسائل الحدود، وفقهها، ودولتها.

نحتاج لعقلية تفهم الماضى ومسائله، ثم تنفصل عن المسائل للمناهج، فتصوغ بلا خوف، ولا وجل؛ صياغة، كلية، مقاصدية، جديدة، تستند للنص الذى جاء لصالح الإنسان فى أى زمان، وكل مكان.

من أسس الفقه الإسلامي؟

فالشريعة[8]: مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَمَّ دلالةٍ وأصدقَهَا.

فإن كانت هذه هى الشريعة فنحن نحتاج إذن لنظرية جديدة فى الحدود، نظرية تنسجم بها مصر المدنية، مع مصر الدينية، فلا تعوق إحداهما الأخرى فى طريق النهوض.

مصر المدنية والدينية والحاجة للنظرية.

نظرية تكون قادرة على حل المشكلات الدينية الحديثة، التى تقف حجرعثرة فى

سبيل نهوض مصر؛ بل فى سبيل نهوض العالم الإسلامى كله.

فلا بقاء لنا جميعًا حكامًا، ومحكومين، بقاء،ً حقيقًا، منتجًا، مؤثرًا، على هذه الأرض، إلا بالتجديد، والإصلاح، وإلا إذا علم الجامدون منا، أن المنادين بالتجديد؛ مخلصون للدين مثلهم، ولا يريدون، إلا النهوض به بين الأمم.

وسبيل الوصول لهذه النظرية يلزمه جهود تتعدى طاقة الفرد، فى هذا الزمان، لكن هذه محاولة، مجرد محاولة، وإشارة مجرد إشارة وتنبيه للباحثين والعلماء والفقهاء أفرادًا ومؤسسات لضرورة العمل والاتجاه نحو نظرية جديدة للحدود فى الفقه الإسلامى.

أنواع النظريات الفقهية

وهذه محاولة لوضع أطر، أوتجميع متفرق، ربما يساعد ولو بقدر فى سبيل تحقيق طمأنية النفس، أوالوصول للغرض، من خلال سرد محاولات الباحثين، والمجتهدين، الذين سلكوا سبيل النظرية، قاصدين ذلك، أو غير قاصدين، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

  1. نظرية عصر الشبهة

وأول نظرية كلية لمسألة الحدود واجهت العقل الفقهى والتشريعى[9] فى العصر الحديث، كانت حينما قرر المشرع المصرى، وضع تشريعات، وقوانين حديثة، فى قوالب وصياغة واضحة؛ تساير العصر، وتمكن المتقاضين من معرفة ما لهم، وما عليهم.

وكما حاول السنهورى باشا أن يجعل القانون المدني كله خاليا عن شائبة الانسلاخ عن الشريعة،رغم صياغته العصرية، حاول الآباء الواضعين للقانون الجنائي المصري قبله فعل نفس الشيئ؛ حينما واجهوا مسألة الحدود، وكيف يصدر قانونًا للعقوبات خاليًا من تلك العقوبات الشرعية.

وكانت مناقشات وحورات حامية انتهت بعد النظر للواقع إلى أننا-لجنة واضعى القانون-[10]“نتمثل إلى الشريعة حينما نسكت عن قضية الحدود من غير إنكار لها، بل نقر أن الله سبحانه وتعالى جعل حدود بإزاء تلك الجرائم الحدية كالسرقة والزنا والقتل ونحوها، إلا أن هذه الجرائم تندرج تحت قاعدة عامة شرعية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) [رواه الترمذي]، ويؤخذ منه القاعدة المشهورة (ادرءوا الحدود بالشبهات) وأن عصرنا الذي نعيش فيه مع اتساعه وتغير ذمم الناس، وفقد شروط الشهادة الواردة في كتب الفقهاء جعله عصر شبهة، مما يناسبه السكوت عن الحدود في القوانين، وهذا يماثل ما فعله عمر بن الخطاب عندما أوقف الحدود في عام الرمادة، ولم يكن ذلك إنكارا له لأحقية الحد، ولا تعطيلا للشريعة، وإنما كان إشارة لتطبيق الشريعة بشروطها، ومن شروط الشريعة أن تتوافر حالة معينة إذا ما فقدت لا يطبع الحد، وهذا من عين الشريعة وليس من غيرها”.

إقرأ أيضاً: المأزق الأصولي

كانت هناك تجارب أخرى خارج مصر تتمثل في ذكر تلك الحدود في القوانين مع إيقافها بما أسموه للظرف الدولي، وهو معنى قريب من وصف العصر بالشبهة، لكن وصف العصر بالشبهة في رأيي[11] أدق. وفي تجربة أخرى ذكرت الحدود في القوانين وأوقفها القضاة.

نقد النظرية.

وهذه النظرية تقترب مما سبق عرضه تحت عنوان الاستحالة الفقهية للتطبيق[12]، فهى لم تمس العقوبات الحدية، ولم تقل فيها جديد، لقد اشتغلت على قوانين الاثبات والإجراءات الجنائية، وعملت على إيقاف العقوبة، لاستحالة الوثوق فى الناحية الاجرائية، وتحقق الاثبات الخالى من الشبهة، وفسرت الشك لصالح المتهم، إداركًا للواقع الذى يجعل تطبيق تلك العقوبات فيه مجاذفة تذهب بمقاصد تلك الحدود وتهدرها، وربما تسيئ للدين ذاته عند تطبيقها.

لكنه يظل اجتهاداً لم يمس جوهر تلك العقوبات، ولم يقدم محاججات بشأنها، لم يقدم حلًا بقدر ما قدم تبريرًا، يكمن ورائه رؤية لمشكلة ما يراد الهرب منها، لا المواجهة، فهو إدنة للزمان وأهله، لا حديثًا عن الموضوع، وهو ما اعتبرته تجارب أخرى ضعفًا فى الإرادة، ومأزق معرفى فى مواجهة صحيح النص، وصريحه، يمكن تجاوزه، فذكرت الحدود في قوانينها ونفذتها تنفيذيًا اكتنف على مشكلات[13]واضحة أساءت لصورة الإسلام ذاته، وأرهقت البلاد والعباد[14].

2 -نظرية الحدود سياسة الشرعية.

أدرك المجتمع الفقهى ذلك فلم تزل عقول الفقهاء تدرس الأمر حتى جاءت النظرية التى تقضى بأن تلك العقوبات كانت من باب السياسة الشرعية، ومن ثم فهى تخضع للرأى، والمصلحة، فى إعمالها، وتركها، دون أثم، أو حرج.

نقد النظرية.

راعى هذا الرأى النصوص والتطبيقات فلم يهملها، ولكنه تأولها؛ ليجد فسحة فى تطبيق يناسب تغير الأزمنة، خاصة أنه هذا الرأى لم يناول الحدود على إطلاقها، بل تناول بعض منها، وقد اشتهر هذا القول عن حد الرجم كما سبق بيانه[15]، وكونه على هذه الصفة لا يجعلة نظرية بالمعنى الدقيق بقدر ما يجعله مجرد رأى، فالنظرية تشمل جميع أفراد الشيئ المراد، فإن كان الأمر كذلك، فهل يُخفى هذا الرأى حرجًا ما، عقبة ما، فى سبيل تطبيق هذه الحدود، فراح يخفف من هذا الحرج، ويزيل هذه العقبة، من داخل بيت الشريعة وفقهها؟ ربما.

3-نظرية العقوبات الحدية واجبة على التخيير لا التعيين.

هذا ما صرح به الشيخ”عبد المتعال الصعيدى”[16] حينما قرأ مقال بعنوان “التشريع المصرى وصلته بالفقه الإسلامى” يرد فيه -صاحب المقال- على قول من يرى، أن هناك ما يمنع من الأخذ بالتشريع الإسلامى، خاصة فى مسألة الحدود المفروضة فى القرآن، كقطع يد السارق، والرجم فى الزنا، فإنها حدود همجية.

رد صاحب المقال على هذه المقولة المنكرة، ردًا اعتبره الشيخ عبد المتعال، دفاع بديع حقًا عن الحدود الإسلامية، ثم عقب-معترفًا بوجود مشكلة-بقوله[17]: ولكن يبقى هنا فى تلك الحدود هذا الأمر الذى سنثيره فيها ليبحث فى هدوء، وسكون، فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى، من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد.

منطلقات النظرية الجديدة.

اطلق الشيخ اجتهادًا جديدًا، انطلق فيه من ضرورة الأخذ بالتشريع الإسلامى، دون أن يبطل نصاً، أو يلغي حداً، واثقًا من مرونة التشريع الإسلامى، وصلاحيته للتطبيق، رغم اختلاف المكان، والزمان.

عاد الشيخ للأصل للنصوص، لقوله تعالى: :” وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” وقوله تعالى:” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ”.

وبدأ قراءتها، بعيدًا عن أى تأثيرات، أو آراء مسبقة، قرأها كأنه لم يرى لها أى تفسير قيل فيها من قبل،  ولا أى فقه، أوقيد وضع عليها، فالنص بكر غض طرى، نزل من السماء، وهو يقرأه، فجاءت قرأته مخالفة لجميع المذاهب الفقهية، باجتهاد جديد لم يرى فيه سوى النص فقال عنه[18]: سيكون هذاالاجتهاد بإعادة النظر فى النصوص التى وردت فى تلك الحدود

لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة[19].

محددات النظرية.

وأضاف، فهل لنا أن نجتهد فى الأمر الوارد فى حد السرقة، فى قوله تعالى (فاقطعوا) والأمر الوارد فى حد الزنا، فى قوله تعالى:(فاجلدوا) فنجعل كل منهما للإباحة، لا للوجوب، تماماً مثل، الأمر، بالأكل، والشرب، فى قوله تعالي:(وكلوا واشربو)، ولم يقل أحد، أن الأمر، بالأكل، والشرب هنا، يفيد الوجوب[20].

فإن كان الأمر فى تلك الحدود، مثل الأمر، فى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا) هنا لا يكون، قطع يد السارق، حدًا مفروضًا لا يجوز العدول عنه فى جميع حالات السرقة، بل يكون القطع فى السرقة، أقصى عقوبة فيها، يجوز العدول عنه إلى عقوبة أخرى رادعة، ويكون شأنه فى ذلك، شأن كل المباحات، التى تخضع لتصرفات ولى الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان، ومكان، ومثل ذلك، الأمر فى حد الزنا، سواء أكان رجمًا، أم جلدًا، مع مراعاة، أن الرجم، لا يقول به فقهاء الخوارج؛ لعدم النص عليه فى القرآن الكريم[21].

اختبار النظرية

ثم بدأ الشيخ يطبق اجتهاده فى الحدود كلها بالتفصيل، عبر عدة محاور تكلم فيها عن “التخيير فى حد السرقة”[22] فجعل التخيير فيه بين جواز الحكم برد المسروق، أوقيمته، دون القطع، وجواز الحكم بقتل السارق للمصلحة، وجواز الضرب فقط، وجواز الحبس والاكتفاء به.

ثم”حد الزنا”[23] وناقش حد الرجم فقال إن الأخذ فيه برأى الخوارج أحوط فليس فى الإسلام رجم. ثم جعل التخيير في حد الزنا، بين الجلد والإمساك فى البيوت حتى الموت، أو الحبس، أو القتل متى استدعى الأمر، أو مجرد دفع فدية.

ثم “حد القذف والتخيير فيه”[24]وجعل التخيير فيه بين، سقوط الحد بالتوبة، أو الحبس، أو جواز العفو سواء من قبل المقذوف(ما يشبه التنازل الآن من قبل صاحب الحق) أومن قبل الحاكم.

ثم “حد الخمر والتخيير فيه”[25] وجعل التخيير بين، الجلد، والعفو، والحبس، والقتل.

ثم وضع الشيخ خاتمة نهائية[26]، بين فيها أن التخيير فى الحدود لا يراد منه التقرب إلى أعداء الدين، وأنصار القوانين الوضعية، وإنما هو السير وراء مذهبه فى الإصلاح، وقد ترك المسلمون العمل بالحدود من عهد السلطان محمد الفاتح(855: 886 هجرية) الذى أبطل العقوبات البدنية-أى أخذ السن بالسن والعين بالعين- وجعل بدل ذلك غرامات مالية بكيفية واضحة،  ثم رسخ ذلك الأمر السلطان سليمان القانونى(926 : 974 هجرية)من خلال قانونه المشهور بإرشاد علماء عصره، ساعده فيه المفتى أبو السعود صاحب التفسير المشهور.

“العصر الذهبي” للأمة: صناعة التاريخ المقدس أو عسكرة الإسلام

ظل هذا القانون طول تاريخ الدولة العثمانية، وهى الدولة التى كان يتبعها جماهير المسلمين، وعلمائهم، فى آسيا، وافريقيا، وأوربا، وكان المسلمون يخطبون لها على منابرها،  ويطلبون لسلاطينها النصر على أعدائها، ويدعون لهم بحفظ ملكهم وسلطانهم، كل ذلك قبل ظهور أنصار القوانين الوضعية، وقبل ميلاد الشيخ!.

وبذلك يكون الشيخ، أول من وضع نظرية حقيقة، متكاملة، ومتماسكة، من حيث الطرح، وإعمال النصوص، تستحق النظر، والاعتبار، فماذا فعل الأزهر تجاه هذا الاجتهاد، ومع واحد من أهم علمائه؟!

رد شيوخ الأزهر على نظرية عبد المتعال الصعيدى

رد فعل الأزهر وشيوخه.

أثار هذا الرأى موجة غضب عارمة داخل الأزهر، فشكل لجنة لمحاكمة الشيخ، واستدعاه للمثول أمامها.

قَبِلَ الشيخ الصعيدى المثول أمام اللجنة، وعدها فرصة للنقاش العلمى الجاد، فإما أن يقنعوه بخطئه فيعتذر، وإما أن يقنعهم، أو يعذروه،لكن الشيخ “محمود شلتوت”عرض عليه-من باب المشورة المخلصة والنصح له- التراجع عن أفكاره، وأعلمه أن محضر المحاكمة تضمن توصية باستتابته كما يستتاب المرتد[27].

استجاب الشيخ الصعيدى لمشورة الشيخ شلتوت، وأعلن تراجعه، لكن اللجنة حكمت بطرده من كلية اللغة العربية، وكان ذلك فى عهد تولى الشيخ محمد مصطفى المراغى لمشيخة الأزهر[28].

والشيخ المراغى، واحد من تلاميذ إمام التجديد، الشيخ محمد عبده، الذى اختلف هوالآخر مع مجلس إدارة الأزهر[29]، وأطلق عليه بعض الأزاهرة الشيخ الهجاص المهياص(بمعنى أن كلامه فارغ لا قيمة له) وأُلف فيه ذمًا وقدحًا، وشتما، واتهامًا، كتبًا مثل “كشف الأستار فى ترجمة الشيخ الفشارلـعبد الرحمن الهندى وصدر عام 1904م”، وكتاب “بلايا بوزا” للشيخ الصوفى محمد الجنبيهى المتوفى عام 1346هجرية، وغيرها.

تأثر الشيخ الصعيدى بما حدث له، وتأثرت أوضاع أسرته المادية، فتدخل البعض لعودته، فعاد للتدريس بأحد المعاهد الأزهرية.

لكن الشيخ عبد المتعال الصعيدى لم ينس مقولته ولا مقالته التى نشرها فى جريدة السياسة الأسبوعية، فشرع فى تعميقها، وتأكيدها، فألف كتابه الجامع لفكرته “الحدود فى الإسلام”، الكتاب صيغ على لسان اثنين من تلامذة بطريقة حوارية، لكنه-الكتاب- رغم ذلك لم ير النور حتى الآن، فهو عبارة عن مخطوط مودع بمكتبة مشيخة الأزهر الشريف، محاط بأحراز وأدابير تجعل الوصول إليه أمر صعب.

تضمن الكتاب، بجانب مقالة الشيخ التى نشرها فى جريدة السياسة الأسبوعية، خمس مقالات أخرى، نشرت فى ذات الجريدة، محملة بالردود عليه، ثم بدأ يعقب عليها، فلم يترك نقطة أثارها منتقدوه فى المقالات الخمس، إلا ورد عليها، تحت مبحثين، الأول، جاء بعنوان”الحدود فى القرآن الكريم” والثانى بعنوان” الحدود فى السنة النبوية” ثم بدأ تطبيق اجتهاده فى الحدود بالتفصيل عبر عدة محاور سبق بيانها.

ومن المهم بيان هذه الإعتراضات التى أوردها المعترضون على الشيخ وبيان رده عليها لتمام الفائدة.    فليتبع.

 

المصادر والمراجع

[1] -النظرية هى : فرض علمى يربط عدة قوانين بعضها ببعض، ويردها إلى مبدأ واحد، يمكن أن تسنبط منه حتما أحكام وقوعد. انظر: المعجم الفلسفى. إبراهيم مدكور، وزملائه، ص202، ط:  الهيئة العامة لشئون لمطابع الأميرية، بالقاهرة.  

أو هى: بناء فكرى مرتب ترتيبًا منهجيًا، مبنى على مجموعة من الحقائق العلمية السابقة، لتفسير العلاقات القائمة بين تلك الحقائق وتعميمها على أفراد الموضوع الذى يعالج بالدراسة. انظر: انظر: نظرية السياق دراسة أصولية. نجم الدين قادر كريم الزنكى، ص72 ، ط: دار الكتب العلمية بيروت.

[2] – فالفقه هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية. الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ، (ص: 23)ط: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1425هـ – 2004م.

[3] -والحق أن تراثنا القديم كله حتى اللغة لم تكن تعرف كلمة (النظرية) بوصفها مصدر صناعى، وإن كانت وردت كصفة وهى بذلك تختلف تمامًا لفظة النظرية الحديثة التى تر د مصدرًا صناعيًا لا صفة. انظر: نظرية السياق دراسة أصولية. نجم الدين قادر كريم الزنكى، ص69 : 71 ط: دار الكتب العلمية بيروت.

[4] -جاء عن سعيد بن عبد العزيز: «لا تأخذوا العلم عن صحفي ولا القرآن من ‌مصحفي». الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 31).

[5] -انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين. أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ)، قدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، شارك في التخريج: أبو عمر أحمد عبد الله أحمد، ج1 ص52، ط: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1423 هـ.

[6] -إذ يعرف أصول الفقه بإنه: دلائل الفقه الإجمالية. الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ، (ص: 23)ط: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1425هـ – 2004م.

[7]يقول الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أستاذ الفقه وأصوله، معلقًا على هذا النص:  إن كثيرًا من الموضوعات الفقهية ذات العلاقة بالمعاملات، وعيوب النكاح، وقضايا القصاص والجراح بنى الفقهاء المتقدمون الأحكام فيها حسب التصورات، والخبرات، والمستوى العلمي الذي بلغته عصورهم، ومجتمعاتهم، ليس من المناسب اليوم، بل ومن غير المعقول أن تكرر تلك الأحكام، وتردد تلك المسائل دون وعي وإدراك لتغير العرف فيها، أو ما استحدث من تقدم علمي في معالجتها، مثلًا: كان الفقهاء يعدون بعض الأمراض موجبًا لفسخ النكاح لأنها كانت مما يستعصي علاجه مثل الرتق، والفتق، والبخر، منها الخاص بالرجال، ومنها الخاص بالنساء، ومنها المشترك بينهم، أصبح معظمها في الوقت الحاضر -بحمد اللَّه- سهل العلاج، سريع البرء، وما سطره الفقهاء، وما قدموه من تصورات فيه دلالة على وعيهم التام بأحوال مجتمعاتهم، فجاءت الأحكام منسجمة متوافقة مع بيئاتهم التي عاشوها، واللوم كله يقع على الذين يفرضون الماضي على الحاضر دون وعي بالاختلاف والتباين بين العصرين، فيجترون ويكررون ما في كتب التراث الفقهي، لا يعيشون عصرهم، ولا يدرون ما يحدث فيه من تطورات اجتماعية، وعلمية وإيثارًا للطريق السهل، وتفاديًا لعناء البحث ومتاعبه.

الأمانة العلمية تقتضي بذل أقصى الجهد للتوصل إلى الحقائق العلمية، والمتغيرات الاجتماعية في كافة مراحل البحث بتصور واع، وإدراك لحقائق الأمور،

 وتفتح كامل دون تفريط حتى تكون صادقة، متطورة، متجددة تصدر الأحكام والدراسات عن تصورات ومفاهيم مشتركة بين الباحث والقارئ، فيشعر أنه طرف فيها، وجزء منها، تتحدث عن واقع يعيشه. “منهج البحث في الفقه الإسلامي” (99 – 100).ط:دار ابن حزم، الطبعة الأولى عام 1996م.

[8] “إعلام الموقعين عن رب العالمين”(4/ 337)ط: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1423ه.ـ

[9] -ليس المقصود بالأولية هنا الأولية الزمنية، إنما الأولية من حيث بساطة الطرح وتدرجه للوصول لما هو أكثر تعقيدًا وأبعد دلالة.

[10] -انظر:”التجربة المصرية” لفضيلة الشيخ أ.د. على جمعةمفتى الديار المصرية الأسبق، ص 41: 42، ط:نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع

[11] -الكلام هنا لفضيلة الشيخ أ.د. على جمعةمفتى الديار المصرية الأسبق.

[12] -القول بالإستحالة الفقهية قول معتبر لكثير من العلماء المعاصرين، وانظر على سبيل المثال محمد مصطفى شلبى، وعلال الفاسى وآخرين.

[13] -“التجربة المصرية” ص42.

[14] -ولعل نموذج داعش فى تطبيق تلك الحدود فى الأراضى التى سيطر عليها وما أظهره من نطاعة وبشاعة مست صورة الإسلام ذاته فى نظر من لا يعرفه خير دليل على وجود مشكلة حقيقية فى التصور الصحيح لهذه الحدود.

[15]– وقد اشتهر هذا الرأى عن الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ القرضاوى وآخرين.

[16] – أحد شيوخ الأزهر الكبار، عمل مدرسًا بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، وعضو مجمع اللغة العربية.

[17]–“فى الحدود الإسلامية” للشيخ عبد المتعال الصعيدى، ص 6.

[18] “فى الحدود الإسلامية” ص 6

[19] -ربما يقصد الشيخ بهذه الظروف الطارئة، أى ظروف وضع قانون العقوبات حيث وضع عام 1936، وكان مقاله، فى مطلع عام 1937م، وتحديدًا يوم العشرين من شهر فبراير نشرت جريدة السياسة الأسبوعية المصرية مقالًا بعنوان”التشريع المصرى وصلته بالفقه الإسلامى” للشيخ عبد المتعال الصعيدى أثار جدلًا واسعًا، وأحدث حراكًا غير مسبوق بين أروقة الأزهر وشيوخه. 

[20]“فى الحدود الإسلامية”  ص 7.

[21]“فى الحدود الإسلامية” ص7.

[22]“فى الحدود الإسلامية” ص61 : 74 .

[23]“فى الحدود الإسلامية” ص 75 :94.

[24]“فى الحدود الإسلامية” ص 95 : 104.

[25]“فى الحدود الإسلامية” ص 105 : 114.

[26]-“فى الحدود الإسلامية” ص 114 : 115.

[27] -“دولة الإمام” لرباب كمال ص 86، ط:دار ابن رشد لسنة 2016م.

[28] -تولى مشيخة الأزهر مرتين من عام 1928م: 1929م، ثم استقال وعاد مرة أخرى من عام 1935م وحتى عام 1945م.

[29] -انظر نص حوار الشيخ محمد عبده، مع الشيخ البحرواى،”الأعمال الكامله للشيخ محمد عبده ص 194 ج3 ط:دار الشروق.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete