“حين وصلتُ إلى سن الاختيار اخترت الانحياز للفقراء؛ لأنني منهم، وللأنبياء لأنهم كانوا فقراء منحازين للفقراء، ومن ينحاز للفقراء ينحاز بالضرورة للعدل ولا يتحقق العدل إلا بالحرية، والحرية بما تضمنه من الاختيار بين البدائل لا وجود لها في غياب العقل (التفكير الحر)”. بهذه الكلمات قدّم نصر نفسه قبل رحيله بفترة قصيرة.
الحفر في المشروع الفكري لنصر حامد أبو زيد هو إضاءة وتعميق لفهمنا لمشروع النهضة العربي بإنجازاته وانكساراته، فعلى نقيض الدراسات التقليدية التي تحرس التّراث مدّعية أننا أمام تراث واحدٍ بالألف واللام، ينظر مشروع النهضة العربية إلى التراث بوصفه تراثيات متنوعة متفاعلة، ومن بين تلك التراثيات العربية المتعددة، انحاز نصر إلى التراث العقلاني من المعتزلة وابن رشد إلى محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين وأمين الخولي.
ففي الوقت الذي يُسيطر على واقعنا الفكري قراءة مردّدة لما جاء في التراث بدافع من التقليد للقديم، قراءة زيّفت بالترديد المستمر حقيقة القراءة القائمة على الفكر، فـ”الفكر هو التجديد، فما ليس بجديد في مجال الفكر فهو ترديد وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا من الفكر في شيء”.([1]) فالقراءة التي تكتفي بالتبرير إنّما تنتمي إلى الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة.
في مقابل تلك القراءة صكّ نصر مصطلح “القراءة المثمرة الواعية” للتراث أو ما يُمكن أن نُطلق عليه قراءة حيّة لما تتسم به من حيوية، فالباحث معها في حركة ذهاب وإيّاب لا تهدأ بين الماضي التراثي والحاضر الحداثي، ليس لإعادة تأويل التراث فحسب بل لمعرفة الذات، والبحث في جذور الإخفاق الحضاري الذي نعيشه، واكتشاف أسباب فشل الحداثة العربية، وانحصارها في كونها قشرة بلا جوهر حقيقي يقوى على الصمود والنمو، تلك القراءة الواعية ضرورة معرفية للتغيير والتجديد والتطوير؛ لأنها سبيلنا إلى تحقيق عملية “التواصل الخلاق” بين الماضي بتراثه المعرفي والحاضر بمنهجيته الحداثية.
والمقصود بعملية “التواصل الخلاق” تقديم قراءة واعية للتراث تتجاوز ضيق أفق قراءة تيار الخطاب السلفي المعاصر الساعي إلى إعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وتثبيت المعنى الديني لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي؛ ليتلاءم مع المعنى الظاهري الأحادي الذي اختاره من التراث، كما أنها كسر لأسوار “التبعية” السياسية والفكرية التامة للغرب باسم “المعاصرة”، فالقراءة الواعية تختلف عن القراءة الرافضة للتراث الداعية للقطيعة المعرفية معه، وفي الوقت نفسه تختلف عن محاولات التلفيق الإصلاحي الذي يأخذ طرفا من التراث وطرفا من الحداثة دون تحليل تاريخي نقدي لكليهما، ساعيا بالتأويل العقلاني للنصوص الدينية والتراثية لفتح المعنى الديني؛ ليستوعبَ كثيرا من منجزات العصر في مختلف المجالات، وهو المنهج الذي سيطر بدرجات متفاوتة على المشروع الفكري النهضوي؛ فأفضى إلى تكريس ثنائية “الغرب” المادي العلمي المتقدم والمفلس روحيا، مقابل “الشرق” المتخلف ماديا وعلميا والغنى روحيا!
فالقراءة الواعية للتراث بآليات الدرس اللغوي الحديث تستهدف تحرير خطاب النهضة من تلفيقيّته التي انكشف واضحا أنّها لا تختلف عن الخطاب السلفي في عجزها عن التجديد، وإن كان ثمّة فارق بينها.. ففرق كبير بين خطاب منفتح نحو الآخر، ويقبل التعايش معه والإفادة من منجزاته، ويسعى لتغيير الوعي بالمنطق والبرهان والحجة وأساليب الإقناع المعرفي وبين خطاب منغلق يحصر الهوية في الماضى الذي يسعى لاستعادته بشتى الطرق والأساليب، ويسعى لتغيير الواقع بالقوة.
ويُمكننا أن نقول إن نصر اعتمد دوما في قراءة/ دراسة التّراث على منهج نقدي، منفتح على الفكر الإنساني في مجال العلوم الاجتماعية خاصة الألسنة والتأويلية والسميولوجيا، وأن هذا المنهج كان في صيرورة دائمة لا تعرف الثبات، على حد قوله: “أستطيع أن أقول إن النزعة النقدية في التعامل مع التراث، أي تراث وكل تراث خطاب والعكس صحيح كذلك – تمثل عصب المنهج الذي لا أستطيع الزعم بأنه اكتمل، لأنه كالهوية في حالة إنجاز لا يتوقف، حتى في حالة الوفاة يموت باحث ويتوقف خطاب، ويظل المنهج يواصل سيرورته متسربا في خطابات جديدة متجددا دائما، فلا شيء يفنى لأنه لا شيء يوجد من عدم”.
انشغل نصر بمهمتين:
الأولى: العمل على دعوة الشيخ أمين الخولي مؤسس مدرسة الأمناء إلى “قتل القديم بحثا”، تلك الدعوة التي لم تنجز بعد، و”ليس المقصود بالقديم، ما مرت عليه دهور، بل كل ما تم إنتاجه من فكر وما تمت صياغته من خطابات. تفكيك بنية الخطابات وتعريتها من أثواب القداسة التي ألبست لها بفعل ملابسات وعوامل غير معرفية”. فكثيرا ما كرّر نصر عند حديثه عن التجديد عبارة الشيخ “أوّل التجديد قتل القديم فهماً وبحثاً ودراسةً”([2]) فمنهج التجديد من منظور الشيخ لا يستقيم، ولا يصحّ إلا بعد فحص القديم فحصا نقديا من شأنه أن يكشف عن جذور هذه الأفكار، ويُفصح عن دلالتها في سياق تكوّنها التاريخي والاجتماعي، وبذلك يردها إلى أًصولها بوصفها فكرة، وليست عقيدة، ويُزيل عنها القدسية المضافة إليها، والتي تراكمت حولها من جراء الترديد والتكرار، ومن جراء تشويه الأفكار الأخرى التي تُخالفها وتدحضها. وفي عملية إزالة القداسة تلك نوع من التفكيك المعنوي الذي لا يغتال الأفكار، ولكنه يكتفي بردها إلى سياقها الذي يسمح للأفكار الجديدة بالقدرة على مناقشتها ومساجلتها على أرض الفكر وليس على أرض العقيدة. وإذا تصارعت الأفكار صراعاً صحياً فإنه لابد للجديد أن يُزحزح القديم ويُغيّره أو يتجاوزه، أمّا تجاور القديم – الذي أحاطته القداسة بالترديد والتكرار- إلى جانب الجديد – الذي لا يزعم لنفسه أية قداسة- فسيُفضي دائما إلى تمكين القديم من إزاحة الجديد، بل وقتله نهائيا، ناهيك باغتيال المفكر المُجدّد. ومما يسهل عملية قتل الجديد واغتيال المُجدّد أن أنصار التقليد ومحاكاة القديم ينقلون الصراع دائما من أرضه الحقيقية وميدانه الفعلي – أرض الفكر وميدان الصراع الفكري – إلى أرض العقيدة وميدان الدين.([3])
المهمة الثانية: “فتْح الباب للأسئلة التي تم كبْتها سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا. ومن ذلك على سبيل المثال: ما هي طبيعة الخطاب الإلهي، وعلاقته بالتاريخ، والثقافة، واللغة؟ وما هي علاقته بالنصوص أو الخطابات الإلهية السابقة كلها؟ الترتيب الحالي للقرآن – وهو غير ترتيب النزول – ثم على أي أساس: نصي؟ لغوي؟ ديني؟ اجتماعي سياسي؟ وما هي الدلالات الناجمة عن هذا الترتيب. هل الخطاب النبوي والخطاب الإلهي نصّان أم نص واحد؟ وما موقع “الأحاديث القدسية” من هذا النص الواحد أو النصين؟ إذا كانت قضية قراءة التراث في تجلياته وخطاباته العديدة: (الفقه وأصوله، علم الكلام أو أصول الدين، الفلسفة، التصوف على سبيل المثال وليس الحصر) لم تنجز بعد رغم كثرة الكتابات فيها، فإن أسئلة الخطاب الإلهي ما زالت مكبوتة، وقد آن أوان فتحها… فالتفكير بذاته ليس جريمة، ونشر الاجتهاد الذي هو ثمرة التفكير واجب يُمليه ضمير الباحث ومسؤوليته إزاء دينه ومجتمعه”.([4])
بدأت قراءات نصر بالتركيز على فعالية المؤوِّل في التراث الإسلامي، أو بعبارة أخرى ركّز على فعالية “الذات” القارئة، فانشغل بالمؤوِّل وعلاقته بالنص، وجدله معه دون أن يبالغ في دوره، فجاءت بَاكورة نتاج نصر العلمي دراستان حول قطبي الفكر والتأويل في التراث الإسلامي المعتزلة والمتصوفة، فتناولَ تأويل النص القرآني على أسس عقلية في رسالته لنيل درجة التخصّص (الماجستير) “الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة” معتمدا على تراث القاضي المعتزلي “عبدالجبار الأسد آبادي”، ونُشرت طبعتها الأولى سنة ١٩٨٢، ثم تناول تأويل النص القرآني على أسس ذوقية حدسية عند المتصوفة في رسالته العالمية (الدكتوراه) “فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي” ونُشرت طبعتها الأولى عن دار التنوير ١٩٨٣.
وأظنّ أنّ محرّك نصر لدراسة تأويلية المعتزلة والمتصوفة لم يكن محاولته إيجاد وحدة عضوية بين المتصوفة والمعتزلة، تلك المحاولة التي باءت بالفشل والعجز على حد تعبير الدكتور حسن حنفي.([5]) بل بدافع من حركة فكرية لا تهدأ، فاختياراته العلمية يُحرّكها سؤال المنهج، وهو سؤال متواصل دائم، وحين يتوقف السؤال، ويتصور الباحث أنه حقّق نضجه المنهجي، فإن الذي يكون متحققاً بالفعل هو “الجمود” المنهجي.
فمنهج نصر حركة دائبة بين قراءة مفاهيم الدراسات الحديثة من الهرمنيوطيقا والسيميولوجيا وتحليل السرد والأسلوبية والإفادة منها، وبين القراءة النقدية للإنجازات التراثية في مجال علوم اللغة والبلاغة والنقد بمعناه العام.. والناتج عن تلك القراءات في مجموعها ليس منهجا، بل سؤال دائم متواصل متى توقف ظنّا النضج، فقد تجمّد المنهج الذي هو في حقيقته ناتج حركة التفاعل العميقة جدا والخصبة بين سؤال الباحث وموضوع البحث. ([6])
انتهى نصر من الماجستير والدكتوراه دون معوقات، منحازا إلى المنهج العلمي النقدي متجاوزا الخطاب التقليدي الوعظي والإصلاحي، منتقدا في رسالته لنيل درجة “التخصص/الماجستير فكر المعتزلة ونهجهم في التأويل، فاختياره لعقلانية المعتزلة ميدانا لدراسته لا تعنى الاستسلام لخطابهم، فظلّ المنهج النقدي الأداة البحثية الملازمة له، فكشف نصر كيف أن المعتزلة اتخذت من آية (٧) في سورة آل عمران([7]) مدخلا لإرساء نهجهم في التأويل، فتلك الآية الكريمة التي تُقسّم آيات القرآن الكريم بين محكم ومتشابه، دون تحديد لأيّ منهما، أسند أمر تأويل المتشابه إلى الراسخين في العلم، حدث خلاف حول الآيات المحكمة والمتشابهة بين المعتزلة وخصومهم، وراح كلّ منهم يُعطى نفسه حقّ التأويل، ويعتبر نفسه المقصود بالراسخين في العلم الذين صحّ تأويلهم، “وانتهى القرآن بين المتنازعين إلى أن صار مجالا للجدل واللجاج والخصومة، حتى صدق على القرآن ما قاله في الإنجيل عالم اللاهوت التابع للكنيسة الحديثة بيتر فيرفيرنفلس: “كل امريء يطلب عقائده في هذا الكتاب، فلم تنجح المعتزلة دوما في رفع التناقض بين نصوص القرآن من جهة وبينها وبين أدلة العقل من جهة أخرى مستخدمة “المجاز” سلاحها في التأويل لرفع التناقض، وذلك لمحاولتهم –في أغلب الاحيان – ليّ عنق النص القرآني وإخراجه عن سياقه وذلك ليتحول إلي دلالة نظرية”.([8])
وعندما انتقل نصر في رسالة الدكتوراه إلى اكتشاف منطقة جديدة من مناطق الفكر الديني استكمالا لدراسة العلاقة بين الفكر الإنساني/المؤول والنّص الديني، واستكشاف طبيعة العلاقة ومناقشة المعضلات التي يثيرها الخطاب الصوفي لابن عربي، قدّم دراسة نقدية كانت على وعي بالأبعاد السياقية والاجتماعية المنتجة لخطاب ابن عربي “فجهود بن عربي في تأويل القرآن لم تكن جهوداً معزولة عن منظومة مشكلات الواقع التي تظن أن الصوفي لا ينشغل بها، وقد كانت محاولة لتجاوز تناقضات الواقع الأندلسي أولاً والإسلامي ثانياً، وكانت فلسفته بكلّ جوانبها –خاصة جانبها التأويلي – محاولة لإزالة كل هذه التناقضات وحلّ كل هذه الصرعات علي مستوي الفكر والعقيدة. وانتهي ابن عربي إلي عقيدة للحب الشاملة والدين العلمي المفتوح والرحمة الإلهية الشاملة، التي فُتح بها الوجود وإليها يؤول. ومع ذلك كلّه فقد ظلت حلول ابن عربي حلولا فكرية أخذت طابع الحلم الكبير، الحلم الذي تفيق منه على مفاجأة قبح العالم وشراسة الصراع الذي يخوضه البشر علي جميع المستويات. لقد أراد ابن عربي أن يقود العالم ويهديه ويرشده. ولكنه أدار ظهره له وبني لنفسه عالما منسجما متناغماً يحكمه الإنسان الكامل – ظِلّ الله وصورته –بكل قوانين العدل والرحمة والحب، أو لتقل يحكمه ابن عربي نفسه – خاتم الولاية المحمدية الخاصة- انتظاراً لخلاص العالم بنزول خاتم الولاية العامة، عيسى عليه السلام، المهدي المنتظر الذي يُعيد للعالم توازنه وللأمور نصابها”.([9])
يُتبع
المراجع:
([1]) د/ نصر حامد أبو زيد (٢٠١٠)، التجديد والتحريم والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى، ص٢٢،٢١.
([2]) الشيخ أمين الخولي، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى سبتمبر ١٩٦١، ص١٧.
([3]) يُنظر: الخطاب والتأويل، ص٢٠،١٩. مقال تجديد الخطاب الديني، جريدة الأهرام ٢٤ فبراير ٢٠٠٢م.
([4]) د/نصر حامد أبو زيد (٢٠٠٠)، حياتي، أبواب، القاهرة، ٢٣٤.
([5]) ينظر: د/حسن حنفي (١٩٩٨)، حوار الأجيال، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى ، ص ٥١١.
([6]) ينظر: د/نصر حامد أبو زيد (١٩٩٥)، النص السلطة الحقيقة الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ط. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى، ص١٢،١١.
([7]) “هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ”.
([8]) د/نصر حامد أبو زيد (٢٠٠٠)، حياتي، أبواب، القاهرة، ٢٣٣.