تكوين
لم تكن الاشتراكية خارج اهتمامات التنويريين اللبنانيين، فقد عدَّها شبلي الشميّل 1850-1917 من حتميّات التطور الإنساني، ورأى أديب إسحق 1856-1885 أنه من حقوق الإنسان الطبيعية النظر في النظام والأحكام التي هي من وضع الإنسان، وأن الثورة هي التي تساعد في ارتقاء الأشياء والحياة إلى ما ينبغي أن تكون، وتكلم أمين الريحاني 1876-1940 عن الإصلاح من طريق الثورة السياسية، أما ميخائيل نعيمة 1889-1989 فقد كتب بعد الحرب العالمية الأولى: “المحرومون قد أخذوا يطالبون بحقوقهم بلسان البروليتاريا… فكري وعقلي يدفعانني بالتدريج إلى “اليسارية المتطرفة”، وذهب فرح أنطون 1874-1922 في تأييده للاشتراكية إلى حد القول بمبدأ “القيمة الزائدة” الماركسي، وتوزيع المال على قدر الأعمال.
الحزب الشيوعي اللبناني
انتظام هذه الأفكار في أحزاب سياسية شعبية لم يكن ممكنًا أيام العثمانيين لأن هؤلاء كانوا طوال فترة حكمهم يقمعون بقسوة كل محاولة لإيقاظ وعي الشعب ومقاومة الاستبداد، غير أن انهيار الدولة العثمانية ما لبث أن فتح أمام المثقفين العرب سُبل الاطلاع الواسع على الحركات الاشتراكية ومبادئها. في هذه الفترة بالذات عرف لبنان الأفكار الشيوعية وانتظامها في حزب سياسي هو أقدم الأحزاب السياسية في لبنان على الإطلاق.
كان أول مجال لظهور الأفكار الجديدة جريدة “الصحافي التائه” التي أنشأها إسكندر الرياشي في زحلة عام 1922. فقد كوَّنت بأفكارها الاشتراكية ثورة فكرية أخذت طريقها إلى قلوب وعقول المثقفين ذوي النزعة الإنسانية قبل أن تظهر في بيئة عُمالية لا تزال مُتخلفة في لُحمتها الطبقية ووعيها الثور، وكان لهذه الجريدة الفضل في إنشاء نقابات للعمال ينتظمون في صفوفها والتشديد على الوشائج التي تربط بين الكادحين.
كذلك طرحت “الصحافي التائه” مطالب عمالية متطورة، منها (تحديد ساعات العمل الأسبوعية والحصة في الإنتاج والتقاعد والضمان) كما عملت لتأسيس حزب عمالي عام 1923 باسم “نقابة عما لـ زحلة”، وعمل يوسف إبراهيم يزبك الكاتب البارز في “الصحافي التائه” مع جوزف برغر، اليهودي الموفد من الحزب الشيوعي في فلسطين، وفؤاد الشمالي-لبناني انضم إلى الحزب الشيوعي المصري وحاول تأسيس حزب اشتراكي في الإسكندرية- لتأسيس حزب شيوعي في لبنان باسم “حزب الشعب اللبناني” وكان ذلك عام 1924، وتألفت أول لجنة مركزية للحزب من فؤاد الشمالي ويوسف ابراهيم يزبك وأرتين مادويان وهيكازون بوياجيان وألياهو تيبر.
أقامت هذه اللجنة علاقة دائمة وعضوية مع الأممية الثالثة، وفي هذه الفترة بالذات بدأت العقيدة تتركّز في أسس فلسفية، فتُرجم “البيان الشيوعي” لـ ماركس وعدد من مؤلفات ستالين وصدرت مجلة “الطليعة” التي دأبت على نشر الفكر الشيوعي، كما أصدر الشيوعيون عام1937 جريدة “صوت الشعب” التي عبَّرت عن مواقفهم من القضايا السياسية والوطنية والقومية، ثم أنشأوا فيما بعد مجلة “الطريق” وجريدتي “الأخبار” و “النداء” وعقدوا عديدًا من المؤتمرات الحزبية وأصدروا عديدًا من التقارير السياسية.
ملاحظات على هامش تاريخ نشوء الحركة الشيوعية في لبنان
- إذا كان من الصحيح أن “الأحزاب الشيوعية أتت إلى الوطن العربي من الخارج تاريخيًا وجغرافيًا “كما يقول إلياس مرقص في “تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية” إلا أن النزعة الاشتراكية في لبنان سبقت الحركة الشيوعية المُنظمة، فطالما داعب مُخيَّلة التنويريين اللبنانيين الذين أرهصوا بالاشتراكية حلم الإصلاح والعدالة والمساواة.
- لعب الشيوعيون اليهود في فلسطين دورًا بارزًا ومميزًا في تأسيس الحزب الشيوعي في لبنان، لكن الخلفية الصهيونية لهؤلاء لم تلبث أن تكشَّفت بوقوفهم ضد الحركات الوطنية والقومية، فتعرضوا للطرد والنفي وعاد أكثرهم إلى إسرائيل، ومن هؤلاء جوزف برغر وآلياهو تيبر وأبو زيام الذي كان يُهيمن على الحركات الشيوعية العربية، وكان يحتقر العرب ويدعو إلى إبعادهم عن أي مركز قيادي، كما يقول الكاتب الشيوعي المصري رفعت السعيد في “الحركة الاشتراكية في مصر”.
- تراوحت الأيديولوجيا الشيوعية اللبنانية بين توجُّه اشتراكي جذري مع الشيوعيين الأوائل، وتوجّه إصلاحي ديمقراطي أخرج الاشتراكية من برنامجه عام 1943 وآخر مُتطرف في جذريته “النضال حتى أعلى درجاته ضد كل القوى البورجوازية والإصلاحية” عام 1951 وصولًا إلى إعادة نظر جذرية في الأيديولوجيات والمنظورات الشيوعية السائدة في نهاية القرن الماضي، هذه التحوُّلات كانت في أكثرها استجابة لتوجهات أجنبية مثل الشيوعيون اليهود في فلسطين والحزب الشيوعي الفرنسي والستالينية ومُمثلها في العالم العربي خالد بكداش.
- ظل الفكر الشيوعي اللبناني في الغالب شروحًا على هامش الأفكار الشيوعية الكلاسيكية، طغت عليها رؤية دوغمائية جعلت من بعض مقولات الماركسية ومن منظور ستاليني محض، أقانيم ثابتة ومقدسة وغير قابلة للمساءلة.
- راهن الشيوعيون دائمًا على قيادتهم للطبقة العاملة بوصفها القوة الأساسية للتقدُّم والتغيير في مجتمع لبناني لا يزالُ يفتقد هذه الطبقة خارج هيمنة التركيب الطائفي للمجتمع اللبناني، وطالما أقر الحزب في وثائقه بالتباعد بين منظوراته التاريخية وبين الرؤية البروليتارية الاشتراكية واعترف بتنازلات “ذات طابع مبدئي” في هذا السياق.
أساس هذه الرؤى الدوغمائية ومناطها مبدأ تقديم الذات على الموضوع أو العالم المادي على الوعي، استنادًا إلى مقولة ماركس في “البيان الشيوعي” التي جعلت الاقتصاد “العامل الحاسم في نهاية المطاف”، تبعًا لذلك “الطبقة العاملة هي التي تخلق الشروط اللازمة لحل القضية القومية… ونضوج الرأسمالية هو الشرط الضروري للتكامل القومي” في رأي “يساري لبناني” والنضال في سبيل الوحدة القومية لا يتم إلا “بقيادة الطبقة العاملة” في رأي كريم مروة، و”تطور الاقتصاد في المجتمع هو الذي يُعيِّن شكل الحكم” في رأي نسيب نمر.
ينسحب هذا الموقف الأيديولوجي في الفكر الشيوعي على الدين، فالفلسفة المادية التاريخية في رأي جورج حنا تضع العلاقات الانتاجية في الصف الأول و” العلاقات الفكرية والروحية في الصف الثاني، لأن هذه مسببة عن تلك وتابعة لها”.
لكن ليس من الصحيح أن الماركسية ركَّزت كل شيء في الاقتصاد، كما تصوَّر الشيوعيون اللبنانيون فـ “ماركس نفسه لم يكن اقتصاديًا خالصًا بالمعنى البسيط الذي يُحاضر به الأكاديميون، وكان يبحث في التطور الاجتماعي في شموله” وفق الماركسي المَجري جورج لوكاتش، وكما يقول إنجلز “إن الظاهرة التاريخية التي تولدها أسباب هي في آخر المطاف أسباب اقتصادية، تصبح عاملًا فاعلًا وتؤثر حتى في الأسباب التي ولدتها”.
يخرج عن هذه التصورات الدوغمائية الشيوعية فرج الله الحلو الذي مَثَّل بأفكاره الوطنية والقومية وجهًا مختلفًا فقد أراد “تطبيق أحوال البلاد على النظرية” وليس العكس، ورأى في جميع المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية “فروعًا أو أجزاءً لقضيتنا الوطنية الكبرى” ورأى أن “كل حزب إصلاحي لا يكون إصلاحيًا إذا لم يكن وطنيًا قبل كل شيء” داعيًا إلى اتحاد وطني فوق كل الطبقات، من هذا المنظور نظر الحلو إلى قضية فلسطين بوصفها قضيةً قوميةً فـ “الفلاح العربي والبدوي العربي والإقطاعي العربي حين يكافحون الصهيونية هم أقرب إلى الاشتراكية، من أي صهيوني ولو انتسب إلى أكبر الأحزاب الاشتراكية في أوروبا”.
انطلاقاً من هذه الرؤية الوطنية رفض الحلو قرار تقسيم فلسطين عام 1947 على الضد من الشيوعية الدولية، لكنه أُجبر على الاعتذار والتراجع، وأُرسل إلى حتفه في دمشق حيث قضى تحت التعذيب عام 1959.
وكان لسقوط الاتحاد السوفياتي في العقد الأخير من القرن العشرين تردُّدات زلزالية طالت الشيوعيين اللبنانيين وكانت الأعنف والأكثر دويًّا، فقد صحا هؤلاء على التداعي الدراماتيكي لمقولاتهم التاريخية، فراحوا بين متبرئ من ماضيه، وبين معتذر عن مسئوليته فيما آلت إليه الأيديولوجيا، متنصلًا من جانب منها أو منها كلهاـ ففي الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحزب الشيوعي 1999 قال جورج حاوي في خطاب ألقاه في هذه المناسبة:” أي اشتراكية نريد؟ لقد تملَّصنا وتنصَّلنا وحلفنا بالطلاق ثلاث مرات مع التجربة” وقال فاروق دحروج الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني: “إذا كنَّا نُصر على انتمائنا للاشتراكية، فإننا نؤكد في المقابل أن هذه الاشتراكية ستكون اشتراكية مختلفة عن كل ما سبقها، ولا بد من أن تُنتجَ وطنياً”، أما كريم مروة فكتب في “الطريق” عام ألفين: “اشتراكيا كنت وسأبقى، إلا أنني لم أعد أنتمي إلى تلك التجربة، ولا إلى النموذجين السابقين رغم أنني كنت جزءًا منهما… وأعلن تمايزي عن أي دعوة لإعادة إنتاجهما، فهما بالنسبة لي قد صارا من الماضي”.
ما لم يدر في ذهن مروة وغيره من الذين صدموا بالمصير الخائب للأيديولوجية الشيوعية هو أن اغتصاب التاريخ وقسره باسم المبادئ والعقائد والأيديولوجيا طالما كانت حصيلته الإمعان في الغربة والفراق بين الواقع والمُرتجى بين الأهداف والنتائج، وما اتجاه الفكر الشيوعي اللبناني في غير حقبة من تاريخنا المعاصر نحو آفاق مسدودة إلا نتيجة لتصوره التاريخ على هوى مُسلَّماته ويقينياته الأيديولوجية، فإذا هو يصحو على خيباته، فالشيوعية لم تكن ما يُنبئ به تطور المجتمع اللبناني على ما تراءى للشيوعيين، ولا استراتيجياتهم كانت كفيلة بإنجاز تحوله نحو الاشتراكية.
ولعل العبرة في ذلك كله هي الخروج من القواقع الأيديولوجية التي ترسم خطًّا ثابتًا للتاريخ وحتمياته، وتنسى أن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ في ظل شروط اقتصادية واجتماعية وإنسانية، وهذا ما أراده ماركس تحديدًا.
إقرأ أيضاً: ما وراء الأصول: الجزء الأول…التأسيس والتطور