الملخّص
قامت أطروحات النسوية العربية الكلاسيكية على نقد ثقافوي لوضع المرأة العربيّة والمسلمة تعود منطلقاته إلى المواضعات التأسيسيّة للفكر النسوي الغربي. وقد أسهمت بذلك في الترويج لنموذج نسوي كوني منشود والتنصيص على منظومة حقوقيّة تماهي بين كلّ نساء العالم وتغفل عن اختلاف السياقات التاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة. وتبعا لذلك كان هذا الخطاب عرضة لتهمة التغريب والتآمر على الهويّة والعمالة الفكرية، خاصّة أمام تواتر أحداث تاريخيّة غيّرت مجرى العلاقات الجيوسياسيّة بين العالم الإسلامي والغربي وأعادت إلى الأذهان الميراث الكولونيالي الدموي على غرار أحداث سبتمبر 2001 وما تلاها من خطابات الكراهيّة المتبادلة والإسلاموفوبيا. وفي هذا الإطار برزت أدبيّات نقديّة للرؤى النسويّة التي ترفع شعار المقاومة لهيمنة البنى البطريكية في المجتمعات الإسلاميّة دون أن تدري وقوعها تحت سلطة المتخيّل الجندريّ الاستشراقيّ.
وتُعدّ ليلى أبو لغد إحدى أهمّ الناقدات للخطابات النسويّة ذات النزعة الكونيّة إذ سخرت بحوثها الأنتروبولوجيّة وتفكيرها النقدي لفضح تلك المفارقات التي تحكم مواقف الغرب من الإسلام والمرأة المسلمة، وقد لخّصت ذلك في عنوان كتابها: “هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ وكان هذا السؤال بمثابة الخيط الناظم لخطابها النقدي الذي انبنى على توريط كلّ الأطراف الفكريّة (النسويون/ات، المحافظون، الغرب وهي الأمريكيّة من أصول عربيّة) في الزيغ بأهداف حركة النهوض بالنساء المسلمات والمساهمة في تثبيت علاقات المركز بالهامش تحت تأثير العولمة.
ويدعونا تجرّؤ هذا الخطاب على نقد أنظمة إنتاج النماذج الموجودة والمنشودة إلى النظر في مدى قدرته على تجاوز النقد إلى بناء خطاب نسوي محلي، إضافة إلى تدبّر أثر تحرير الخطاب من اسر المركزية الذكوريّة والمركزيّة الأنثويّة على وضع النسوية في العالم العربي والإسلامي.
المقدمة
يعود بنا الجدل الفكري بين الشرق والغرب حول حقوق المرأة في الإسلام ووضع المرأة المسلمة في المجتمعات العربيّة إلى القرن 19 من خلال تلك الكتابات التي أطلق عليها محمد الحداد اسم “المساءلات” وهي إحدى أدبيّات الاستعمار الغربي التي استفزّت ثلّة من المصلحين العرب رغم اختلاف تصوّراتهم للمرأة المسلمة وتفاوت درجة محافظتهم ونذكر منهم المؤرّخ التونسي ابن أبي الضياف الذي كتب رسالة سنة 1856 يردّ فيها على أسئلة القنصل الفرنسي ليون روش، وقاسم أمين بمصر من خلال كتابه “المصريون دفاعا عن الإسلام والمسلمين” 1894 الذي تضمّن ردودا باللغة الفرنسية على تحميل الدوق داركور مسؤولية انحطاط الشرق للشريعة الإسلاميّة ومن بين تلك الردود بيّن صاحب “تحرير المرأة” إنصاف الإسلام للمرأة بل نافح عن الحجاب واعتبره دليل كمال المرأة، مع العلم أنه لم يثبت على رأيه في كتابيه اللاحقين: “تحرير المرأة” و”المرأة الجديدة” ولم يبد الحماس نفسه في الرد على اللورد كرومر الذي هاجم الإسلام في كتابه “مصر الحديثة”1908.
وقبل نهاية القرن الفارط سخّرت فاطمة المرنيسي قلمها لفضح الأوهام التي اختلقها الغرب وروّجها في خطاباته الفنّيّة والسياسيّة بهدف تشويه الحضارة العربيّة، ومن أهمّ تجلّياتها صورة الحريم التي ينكر “جيرانُ الشمال” علاقتها بحضارتهم ولا يعترفون بأنّ استيهاماتهم حولها اقتضت الارتحال إلى الشرق. وقد بيّنت المرنيسي في كتابها هل أنتم محصنون ضد الحريم؟” أنّ هذا التصوّر مردود عليه تاريخيّا: “ليس العرب آباء الحريم”[1] علاوة على أنّه يشفّ” عن هوس خفيّ بالبعد الشبقي تذكيه ثقافة تحريم التعدّد، وهو الهوس الذي ألهب النزعة الاستعماريّة حسب رأي الكاتبة، ويتّفق ذلك مع التحليل السيكولوجي لبنية الفعل الاستعماري اللاواعية إذ تقوم على إشباع هوامات جنسية أو رغبات فحوليّة تتماهى فيه نساء الشرق مع الأرض المنتهكة فتغتصب الأرض وتستباح أموال أصحابها ودماؤهم كما تغتصب النساء وتستباح الأعراض ومنه الوطء والإخضاع والانتهاك والانتصاب والاقتحام. وليست هذه التمثلات الجنسيّة حكرا على رجال الحرب بل ونسائها أيضا فسياسات الحروب والاستعمار ذكوريّة لا تتأثّر بجنس فاعليها (كوندوليزا رايس تاتشر هيلاري كلينتون..)
ورغم افتضاح زيف سرديّات الاستعمار الغربي وسقوط قناع حرب القيم فقد ظلّ ادّعاء تحرير المرأة المسلمة أحد محاور المعرفة القمعيّة حتّى الألفيّة الثالثة، واستمرّ لعب المهيمن دور المنقذ فقد صرّح جورج بوش في خطابه عقب إنزال القوات الأمريكية في أفغانستان: “باتت نساء أفغانستان اليوم حرائر!” وأدّى اعتماد المستعمر سياسة استلاب الهويّة إلى فتح المجال أمام الحركات الأصوليّة فرفعت شعار مقاومة الاستعمار وإنقاذ الإسلام وحفظ الرمزيّة الهوويّة والثقافية التي كان البرقع والحجاب من علاماتها الأساسيّة. ونتيجة لذلك استمرّ المستعمر الغربي في استغلال واقع التعصّب مستندا إلى رواية الإنقاذ ومستعينا بأساطير الاستشراق الجندريّ لتبرير ايديولوجيته الامبريالية. غير أنّ اتساع نطاق الخطاب التضليلي المشتمل على تبرير بنيات القوة والتراتبيات التي خلّفتها مناويل الهيمنة كان حافزا قويّا لنشأة النقد ما بعد الكولونيالي مع تفكيكية غياتري سبيفاك 1990وقبلها نقد الاستشراق لدى أدوار سعيد 1978 وتهدف هذه النظرية إلى تفكيك الآليّات الاستعماريّة وفضح تلك القصص الكبرى التي نسجتها المركزيّة الأوروبيّة فالأمريكيّة في نطاق تعزيز نظام العولمة وتأييد مساراته وتثبيت ثنائيّة المركز/ الأطراف التي صنّفت وفقها شعوب العالم. وضمن هذه الإبستيمية المعرفية نشأ المنظور النسوي بعد الكولونيالي مستهدفا نقض المركزيّات التي تلغي الاختلاف الثقافي والطابع التعدّدي للهويّات ومنها مركزيّة النسويّة البيضاء التي همّشت محاور العرق والطبقة والسنّ والثقافة من تصوّراتها ووضعت حدودا بين نسويّة الشمال ونسويّة الشرق والجنوب ورفعت شعار الحرّيّة والمساواة الذي كان شعار المستعمر الكلاسيكيّ نفسه وهو يتغنى بتفوّقه ومشروعيّة العمليّة الاستعمارية التي أقدم عليها.
وفي هذا السياق الفكري انبرت ليلى أبو لغد ـ من مواليد 1952 ـ أستاذة الأنتروبولوجيا بجامعة كولومبيا في تسليط الضوء على خطر السقوط في فخّ الأطروحات الاستشراقيّة الاستعماريّة وتَمثّل حالة “الهوس بمحنة المرأة المسلمة” واستبطان الرغبة الجامحة في نزع الحجاب عنها والاقتناع بصدق ادّعاءات المستعمر التي لخّصتها سبيفاك في عبارة ساخرة “هاهم الرجال البيض ينقذون النساء السمر من الرجال السمر”. وقد سعت بولغد إلى تأكيد أهمّيّةَ خصوصيّةِ تجارب المسلمات خاصّة في مصر وفلسطين التي لا تستجيب لتصنيف الرؤية الكولونيالية وتقييمها لها. وقد حملها ذلك على نقد نظريّتي النسويّة والعلمانيّة لتقاطعهما مع النزعة الاستعماريّة في النظر إلى مجتمعات الجنوب عموما على أنّها آخر يناقض الذاتيّة المتفوّقة.
ما الذي يدفع ليلى أبو لغد الأكاديميّة الأمريكيّة إلى فضح الخطابات السياسيّة الغربيّة عامّة والأمريكيّة خاصّة وزيف شعاراتها الحقوقيّة؟ هل هو الأثر العميق الذي خلّفته السياسة الاستعماريّة لأمريكا وحلفائها في سجلّها الشخصي ّ وطريقة إدراكها للعالم باعتبار انتمائها الثقافي المهجّن بين عربي وأمريكي أم هي الرغبة في الانعتاق من مركزيّة المعرفة النسويّة الكلاسيكيّة الغربيّة خاصة الليبراليّة البيضاء بفضح تماهيها مع الرهانات السياسيّة وعلاقات الهيمنة التي تحكم العالم أم هو امتداد لنظرية العلاقة بين الخطاب والسلطة والمعرفة التي وضعها ميشال فوكو بالانخراط في فعل المقاومة لهيمنة الغرب هيمنة عسكريّة وسياسيّة وثقافيّة؟ ثمّ هل كان توظيفها للمقاربة الأنتروبولوجية توظيفا علميّا مستقلّا عن تمثّلاتها للمستعمِر والمستعمَر أم كان موجّها بخلفيّتها الفكريّة مابعد الكولونياليّة؟
نقد بو لغد السياسات الاستعماريّة
لا ريب أنّ الوضع التقابلي الذي وسم محدّدات هويّة الكاتبة (فلسطينية/ أمريكيّة) (الإسلام / اليهوديّة) ومعايشة تجربتي الاحتلال الصهيوني لفلسطين والأمريكي لأفغانستان واجتياحه العراق من جهة والهجوم المنسوب لتنظيم القاعدة ضدّ أمريكا 11 أيلول 2001 وما ترتّب عنه من تفاقم ظاهرة الإسلاموفوبيا من جهة أخرى كانت عوامل مساعدة على اتّخاذ أبو لغد منظورا ما بعد كولونيالي يمكّنها من فضح شعبويّة الخطاب الاستعماري وتفكيك الإيديولوجيا الاستعماريّة ومحدّدات الهيمنة وطرائقها والردّ على الموقف العنصريّ من المجتمعات المسلمة المتّهمة بأنّها متوحشة وهمجيّة. وقد ساعدتها عمليّة المقارنة بين أقوال المستعمر وأفعاله على تشكيل مرجع مرآوي يمكّن من إدراكٍ أدقّ لحال النساء المسلمات على اختلاف واقعهنّ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومعرفةٍ أعمق بمختلف العوامل المحدّدة لمواقعهنّ الاجتماعيّة وعلاقاتهنّ بالآخر. وقد شكّل اختصاصها في مجال الانتروبولوجيا رافدا هاما لأفقها الفكري المؤمن بالاختلاف الثقافي والرافض للتمثلات التي تنمط الهويّات لا سيّما الهويّات الاستعماريّة. وفي هذا السياق يتنزّل كتابها “هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ” إذ عرضت فيه الذرائع التي قامت عليها رواية إنقاذ المرأة المسلمة بدءا من اعتبار الحجاب قيدا وعلامة استعباد وانحطاط، وقد بيّنت ما تقوم عليه هذه الدعوى من مغالطات منها مغالطة التركيب أي أنّ ما قد يصحّ مع فئة لا يصحّ مع الكلّ بالضرورة فبعض الأفغانيّات يعتبرن الحجاب وسيلة تحرّر والتنقل بلا حرج.. ويتكثّف توظيف تلك الصورة عبر الإعلام الغربي الذي تولّى عمليّة التشهير بالمجتمعات الإسلاميّة على غرار نقله لصورة المرأة الأفغانية المحجبة والمحجوبة عن الحياة العامة والمتشوقة إلى الحرّيّة وهي مثال جيّد يختزل بعبارة روبرت يونغ كلّ الأساطير البيضاء عن المرأة المسلمة فكأنها أيقونة ثقافية متعالية عن التاريخ ومتغيراته وفي منأى عن إكراهات الحرب سواء زمن التدخل الأجنبي أو الحروب الأهلية وهيمنة الأنظمة الأصوليّة. لقد لعبت البروباغندا الغربيّة دورا خطيرا في صناعة الرأي العالمي المؤيّد لمنطق الهيمنة ولذلك كانت ومازالت سلاحا ناجعا للحفاظ على المركزيّة وتأكيد تفوّق الغرب بما فيه تفوّق نموذج المرأة الغربيّة البيضاء. وقد اكتفت بولغد في الرد على ذلك باستمرار مظاهر الحيف المسلط على المرأة تحت نِير الاستعمار من جهة وبالتنبيه إلى ازدواجية الموقف الإعلامي تجاه صورة المرأة من جهة أخرى فمقابل تلك الدعاية المبنية على قمع أجساد النساء وامتلاكها في بلدان الشرق يتجلّى فعل استغلال الجسد الأنثوي واستهلاكه عبر الصورة الإعلاميّة الغربيّة.
وبالإضافة إلى قضيّة الحجاب تعرّج الكاتبة على مسائل الختان والدين والشرف التي شكّلت لدى المستعمر مرتكزات صورة الشرق البطريكي المغرق في التخلف فبناء عليها تقمص المستعمر دورا إنسانيّا بزعمه تحرير المرأة والحال أنه سحب مقاليد السلطة من أصحابها محافظا على البنية التراتبيّة داخل المجتمع.
نقد النسوية العربية والغربية :
سعت أبو لغد في دراسة أتنوغرافيّة بعنوان “كتابة عوالم النساء: قصص بدويّة”[2] إلى سماع أصوات المنسيّات والمهمّشات المصريات من خارج المدينة ونقل تجاربهنّ لإبراز خطأ التصوّرات المغرقة في التنميط والتعميم والمستكينة للقوالب الجاهزة التي صنعها الاستشراق. وفي هذا الإطار انتقدت الكاتبة خطاب فئة من النسويّات المسلمات إذ يقوم على ضرب من الترميق بين حقوق الإنسان وحقوق المرأة المسلمة ممّا يحصر القضايا المطروحة في مسائل ثقافيّة دينيّة مثل الحجاب وعلاقات القرابة التي تكون فيها النساء موضوع تبادل واستهلاك والحال أنّ معاينة الواقع الاجتماعي للنساء المسلمات يفضح تلك التعميمات المخلّة والضاربة عرض الحائط بالنسبية الثقافية. ومن تبعات هذا التعميم سقوط هذا الخطاب في التنميط إذ لا فرق في أدوات دراسته لقضايا نساء أفغانستان والعراق مثلا ولا اختلاف فيما يُتوصّل إليه من استنتاجات. وتؤكّد الكاتبة من خلال معاينة واقع النساء في قبائل أولاد علي بمصر على أن أشكال المقاومة للظلم والتمييز تكون وليدة السياق الاجتماعي وهي أنجع وأسلم مما تأتي به الحركات النسويّة وفي كتابها “هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ” تتّهم الكاتبة الحركات النسويّة إجمالا بالتورّط في دعم العمليّات العسكريّة والتقاطع مع السياسات المعتمدة ما بعد الاستعمار دون تحديد درجة وعيها بذلك” رأيتُ توظيف الحركات النسوية واستخدام القلق «المُعلن» بشأن النّساء المسلمات في تبرير تصعيد التدخّلات العسكرية الأمريكية والأوروبية في منطقتنا، أوَّلا في أفغانستان ثمَّ في العراق”. وكان ذلك من دوافع انكبابها على دراسة ثغرات ذاك الخطاب النسوي المكرّس لمبدأ الاستثنائيّة الاستشراقيّة ونقصد به تلك الرؤية الاختزاليّة التي تُخضع دراسة وضع المرأة المسلمة لتحليل معياري يرتكز على نقد الثقافة الإسلاميّة والهابيتوس الاجتماعي المرسّخ للبنية الأبويّة وذلك باعتبارهما منطقا ثقافيّا استثنائيّا متعاليا عن التغيير ومسؤولا وحيدا عن الصورة النمطية الفردانية. وهو ما يجعل هذه الرؤية تغضّ النظر عن الأسباب المادية لظواهر اجتماعيّة تتّصل بالأنماط السلوكيّة أو العلاقات الاجتماعيّة مثل الاضطراب السياسي والفقر وعدم المساواة في الأجور أو جندرة الأدوار والأعمال أو الاختصاصات العلميّة.
وفي هذا الإطار تبيّن أبو لغد أنّ تركيز كل من الخطاب النسوي السائد والكولونيالي على الحجاب باعتباره ذا رمزيّة دينية تكرّس الهيمنة الذكوريّة وإحدى علامات دونيّة وضع المسلمات، مردود عليه أنتروبولوجيا بانتشار الحجاب في جلّ بلاد الشرق الآسيوي. فهو مشترك ثقافي بين الهندوسيات والمسلمات الأفغانيات مثلا. علاوة على أنّ معاينة الواقع تكشف نسبة الطبيبات المحجبات مما يؤكد أن البرقع/ الحجاب/.. لم يعد عائقا عن أن تكون المسلمة فاعلة في مجتمعها، وأنّه على حدّ عبارتها علامة حرمة في مجتمعات ما تزال تولي اهتماما للحياة الأسريّة. ولذلك فإنّ الرؤية النسويّة التي تدّعي الكونيّة تحتاج إلى تغيير استراتيجيّتها في التعامل مع القضايا المطروحة بتفادي التحليل الثقافوي المتعالي عن التاريخ والعمل على خطاب نسوي محلي تبنيه تجارب النساء ذات السياقات المتعدّدة.
لم تكن غاية أبو لغد معاداة الفكر النسوي العربي والإسلامي بل نقد تبعيته للسلطة الفكرية الغربية ووقوعه فريسة التضليل والإيهام الذي يحكم الخطاب الاستشراقي وغفلته عن أمرين: أوّلهما أثر أنظمة القمع والديناميكيّات السياسيّة بشكل عام على وضع النساء المسلمات فقد دفعهنّ إلى وضع خطط للتعايش والتكيّف مع الهيمنة الذكوريّة وثانيهما علاقة تلك الرؤى المناهضة للنموذج الإسلامي بسياسات التضييق على الهجرة، فالدعوة إلى التخلي عن الحجاب مثلا تتنزل في صميم إشكاليّة اندماج المجاهرين والتهديد الطائفي إذ أنّ وجود المحجبات بالمهجر يظلّ علامة على أنّهنّ وافدات وأنّهنّ رمز لكيان دخيل على النسيج الاجتماعي.
هكذا أفضى نقد الكاتبةِ الرؤيةَ النسوية المتبنّيّة لمنظومة حقوق الإنسان عامة والنساء خاصّة إلى موقف دفاعي عن الإسلام ضدّ تهم الظلم والتمييز نلمسه بوضوح في تصريحاتها ونذكر منها: “استغلال نماذج من الفتيات القاصرات من اليمن وأفغانستان المتعرضات للاستغلال والعنف مثل نجود علي وملالا يوسف لإدانة الإسلام المقصّر في حقّ المسلمات.”[3]وقد يدرج البعض هذا الموقف في إطار رؤية نسويّة إسلاميّة لكنّنا نعدّه أحد أبعاد رؤية نسويّة عبر وطنيّة Transnational Feminism تقرّ بنسبيّة المواقف من اللامساواة وتعسف الرؤى الجازمة بعموميّة الشعور المسلمات بالقهر أو رغبتهنّ في الثورة على أحكامه مثلما هو حال كلّ الشعوب المقهورة فعوض تبرير أوضاعها ثقافويا الأولى النظر في تبعات النظام النيوليبرالي وسياسات الرأسماليّة عليها أو أشكال الكولونياليّة الجديدة: “لماذا يعتقد أن معرفة ثقافة المنطقة وخصوصا المعتقدات الدينيّة السائدة فيها وأساليب معاملة النساء أهمّ من الكشف عن تاريخ تطوّر الأنظمة القمعيّة في المنطقة ودور الولايات المتحدة في ذلك”[4]
حدود القراءة النقدية لروايات الاستشراق الجندري الاستعماريّة
لا شكّ في أهمّيّة هذا الخطاب النقدي المسلّط على الاستشراق الجندري وتوظيفاته ويعود ذلك إلى عمق قراءته لواقع انعدام العدالة الجندرية تحت سماء العولمة ودقّة تناوله للعقبات التي تحول دون تحققها. لكن إلى أيّ حدّ تمكنت بولغد من تجنّب إعادة إنتاج التصورات الماهويّة المثبتة للاختلاف الثقافي
- من الناحية المنهجية: رغم أهمّيّة المقاربة الأنتروبولوجية التي أحكمت أبو لغد توظيفها للكشف عن التمويه الذي مارسه المستعمر الأمريكي في خطاباته السياسية زمن التدخل في أفغانستان وهو يتقمّص دور الإنقاذ، فإنّها لم تسلم في انتقالها من الملاحظة إلى الاستنتاج من سلطة المقصد النقدي الذي دفعها إلى التأويل الثقافي فتقول مثلا “أضحيت أفكّر” وتختار حججا تخدم موقفها ومنها ما دافعت به عن الحجاب إذ “هو وسيلة تحرّر حسب المسشرقة الأمريكية Hanna Papanek “. وفتح المدى التأويلي يمنح الإيديولوجيّ فرصة تشكيل القراءة وتوجيهها ويسحب صفة الموضوعيّة التي يقتضيها النقد العلميّ.
- من ناحية الانسجام الفكري في طرحها: تنبري بولغد في دفاع محموم عن وظيفة الحجاب الاجتماعيّة فهو لحماية مرتدياته أثناء حضورهنّ بالفضاء العام ولكنّها تذكر أيضا أن البرقع “يخص النساء المحترمات بنات العائلات الكبرى اللواتي لا يضطررن إلى التجارة في الشوارع من أجل كسب لقمة العيش”، وبالنظر إلى كلا الفكرتين يبدو الحجاب وقد أزيلت عنه رمزيّته الدينيّة ضرورة داخل البيوت وخارجها ولا تستثنى منه سوى الكادحات من الطبقة الفقيرة أي أنّه علامة تمييز اجتماعي يجعل من المرأة الميسورة الحال في المثال الأفغاني هي الممثّلة للهويّة الأفغانيّة بينما تهمّش تاجرات الشوارع. ويطالعنا أيضا موقف بولغد من التحجب القسري الذي اعتبرته فعلا سياسيا وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن موقف الكاتبة من ذلك أي من علاقات الهيمنة والتمييز الممأسس وعن وجاهة النضال النسوي حينذاك من أجل الحرية والمساواة
- من ناحية وجاهة الحجج: تردّ بولغد على الخطابات الاستعماريّة التي تتّهم المجتمعات المسلمة باضطهاد نسائها بأنّ التراتبية وسوء معاملة النساء هو نسق اجتماعي عالميّ، ولكنّ هذه الحجة الارتداديّة تحمل إقرارا بواقع التمييز الجندري وتسكت عن تصوّر البدائل. بل نرى في احتجاجها بأن مهاجمة الحجاب صارت فعلا اعتباطيا، بعد أن انتهى إلى لباس تقليدي، موقفا يحمل بعض التضليل من زاويتين الأولى: أن الحجاب في افغانستان لم يكن ضمن قوانين اللباس في الستينات من القرن الفارط فكيف صار زيّا تقليديّا والثانية أنه صار إلزاميّا مع حركة طالبان سواء في فترة حكمهم الأولى أو في الفترة الأخيرة أي منذ 2021؟ وإذا كان التعلّل بأنّه يندرج ضمن حرّيّة الاختيار التي قد تحتجّ بها بعض المحجّبات ألا يكنّ “واقعات فيما يسمى “العبودية الإراديّة ” وأنّهنّ قد دخلنّ دونيتهنّ وحسب” على حد تعبير عبد المجيد الشرفي[5] ثمّ إذا صار ارتداء الحجاب علامة حرّيّة فلم يغيب حق حرّيّة اللباس مع غير المحجبة وهي المتعرّضة إلى الوصم والمطاردة والعنف؟
وإجمالا الواضح في خطاب بولغد هو هذا الطابع السجالي الذي يجعله خطابا إشكاليّا وإذا كانت رواية الإنقاذ الكولونيالية قائمة على استراتيجية الرنجة الحمراء red Herring التي تسعى إلى تشتيت انتباهنا عن القضيّة الأساسيّة فإنّ حجج باحثتنا على قدر أهميتها وعمقها تبدو محكومة إلى حدّ ما بمغالطة الدافع أو الفرضيّات التي توجّه نقدها للخطاب الكولونيالي ممّا يجعلها حججا انتقائيّة يحتكم جمعها إلى خيط الفرضيّة الرقيق دون مبالاة بما تحدثه من ثغرات داخل بنية الخطاب.
خاتمة
تحيلنا دراسات ليلى أبو لغد النقدية إلى تبيّن ملامح الكولونياليّة الجديدة Neocolonialism التي لم تعد بحاجة إلى الاستعمار العسكري لفرض السيطرة بل يكفي التحكم في المصير الاقتصادي والثقافي والسياسي، وفرض المجازات الواصمة للشرق لتستمرّ المركزيّة الغربيّة الاستحواذ المطلق على سلطة الخطاب.. ولا يخفى عنا اندراج هذا التصوّر ضمن دراسات التابع Subaltern Studies التي نشأت في الثمانينات مع سبيفاك فالتابع هو ذاك الذي لا نسمع صوته عند الحديث عن نفسه بل ينوبه صوت نخبوي سلطوي وهو ذاك الذي يشعر بالعجز عن أن يكون فاعلا لأنّ القوّة والقدرة لذاك الصوت وحده.
وبالنظر إلى ذلك فإنّ حاجة المجتمعات التابعة إلى مثل هذه القراءات النقدية أكيدة إذ أنّها تتجاوز نقد الكولونيالية في معناها المادي التاريخي إلى التنبيه لخطورة ترسّبات الكولونيالية وتغلغلها في جلّ الحقول إلى حدّ احتلال الداخل. علاوة على أنّها تمهّد الطريق للدراسات الديكولونيالية بفضحها الوصم الذي لحق المحلّي ثقافيّا وإبداعيّا وتحريرها الوعي من حالة التبعيّة والعجز حتّى يتمكّن من طرح سؤال «كيف نستعيد إنسانيّتنا بعد أن تمّ السطو عليها أو إقصاؤها أو إدماجها، من طرف الغرب الاستعماري؟»[6] على حدّ عبارة أمّ الزين بن شيخة. غير أنّ هذه القراءات وجب أن تحذر الانزلاقات الممكنة لسياسات الهويّة واحتمالات الوقوع في خطاب المظلوميّة التي قد تصير عُدّة أساسيّة للخطابات الأصوليّة العدميّة المحرّضة على كراهيّة الغرب والداعية إلى معارك هوويّة قاتلة والمرسّخة لبنى الهيمنة البطريكية. ويمكن القول إنّ الحلول الفعلي في أفق ما بعد كولونيالي يفترض تحقيق محللة المعولم وعولمة المحلي Glolocalisation فيكون للمحلّي مكانة داخل الكوني ويصير الكوني أفقا تلتقي فيه هويّات ثقافيّة مختلفة تتعايش وتتفاعل من موقع الند للند على حد عبارة فتحي المسكيني.
المراجع:
[1] ـ فاطمة المرنيسي: هل أنتم محصنون ضد النساء؟ ت. نهلة بيضون، المغرب، المركز الثقافي العربي، 2004، ص 97
[2] ـ ليلى أبو لغد، أولاد علي، مشاعر محجبة: دراسة حول الدور الحيوي للشعر وتحليل دور المرأة في مجتمع أولاد علي في مصر. ترجمة أحمد جرادات. القاهرة – دار المرأة العربية، 1995
[3] ـ من مقال بعنوان “رأي الاحجاب من أسباب الحروب فلماذا نراه بعدها؟
[4] ـ ليلى بولغد: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ، ت: محمد الرحموني، القاهرة، صفحة سبعة للنشر والتوزيع، 2022 ص 190
[5] ـ عبد المجيد الشرفي: البداهات الزائفة، تونس دار محمد علي للنشر، 2022، ص97
[6] ـ أم الزين بن شيخة: هل يمكن الخروج من الغرب؟.. نحو جماليات ديكولونيالية 30/8/2023
https://www.omandaily.om/عمان-الثقافي/na/هل-يمكن-الخروج-من-الغرب نحو-جماليات-ديكولونيالية