تكوين
لطالما استثار لغز الحياة مكامن القلق الرابض في ذات الانسان منذ بداءات تكوِّن وعيه ما هو ومن يكون، وما يستجرُّ هذا الوعي المشوب بالثغرات من تناقضاتٍ وتساؤلاتٍ ميتافيزيقية لم تجد لها جوابًا لدى كثيرين حتى اليوم.
قد يهمُّ بعضهم أن يبحث في السؤال الملائم: وُجد الانسان أم خُلق؟ الأكثر أهميةً أننا “هنا”، لكننا منقسمون بين من يحيا الحياة كما هي بطابعها العملاني المحض، دونما الركون إلى التعمّق البحثي في الـ “ما قبل” والـ “ما بعد”، وبين من يحيا الحياة بقلقٍ وجدانيٍّ يقذف به نحو البحث الفلسفي الذي تتزايد أسئلته المتراكمة يومًا بعد يوم في شكلٍ تصاعدي، لا يستطيع معه لا التراجع ولا التوقّف في منتصف الدرب المؤدّي إلى تناسلاتٍ غير متناهية مفتوحة على “مجهولٍ ما” أو “لا أدريةٍ ما” أو ربما على وثوقيةٍ متشبّثةٍ بالدين والإيمان في مستوييّ النظر والفعل.
“هل أثبت من الموت على الأرض؟ تأمَّل ما في هذه الحياة من خيرٍ وشرٍّ؛ تأمَّل في البرِّ وفي الإثم؛ هل من شيءٍ ثابتٍ ها هنا كالموت؟”1 هكذا عبَّر القديس أغوسطينوس عن ثبوت الموت الحتمي حكمًا، مهما بلغت المسافة الزمنية للعناق اللامتناهي بين الحياة والموت. كما قال عمر بن الخطّاب: “كلُّ عملٍ كرهت من أجله الموت فاتركه، ثمّ لا يضرُّك حتى متّ.”2 وقد وصف إيليا أبو ماضي الحياة بقصيدةٍ “أبياتها أعمارنا والموت فيها قافية.”3
ونسأل هنا خلف عنوان حتمية الموت، وفي انتظار أن “نفارق الحياة” وفق التعبير المألوف لدى الجميع: ألا يفارقنا نَفَسُ الحياة ونحن بَعْدُ على قيد الحياة؟!
نعم… “”تفارقنا الحياة” بالمعنيَين: النفسي والرُوحي في حالاتٍ كثيرة:
- عندما نبذلُ كلَّ قوانا لنخرج من صراع الخير والشر، نحو انتصارٍ للخير في ذواتنا، ويستمرُّ الشرُّ متربّصًا في نفوس من نتعايش معهم، وكأنهم ما يزالون مُكبَّلين داخل الكهف الأفلاطوني، فيما نحن “تحرَّرنا” وعدنا، تبعًا لما رسمه صاحب “الجمهورية“، لنهديهم إلى الحقيقة بتواضع العارف وفشلنا… هنا يفارقنا نَفَس الحياة كما أردناها أن تكون.
- عندما تُكبِّل من نحبُّ أغلالَ المرض، مع ما يستتبع ذلك من آلامٍ وإخفاقاتٍ في القدرة على التحمّل والاستمرار، فنجدنا أمام سرير القدر المحتوم، نختلق الابتسامات والكلمات للمواساة، ونحن ندرك في قرارة نفوسنا أننا نفقد شخصًا عزيزًا ببطءٍ ثقيلٍ، ولا نريد أن نستسلم على طريقة الرواقيين، ولا أن نكون انهزاميين وفق الرؤية التي رفضها نيتشه، لكننا في النهاية نستسلم… فيفارقنا نَفَس الحياة ونحن “أحياء”.
- عندما يكمن لنا الغدر حيث لا نتوقَّعه، فيترك بالغ الأثر في قلوبنا، على رغم تحصُّننا بحكمة المواجهة وبقوة الابتعاد… هنا نجدنا نفتقد كلَّ تعاليم سقراط عن الفضيلة كمعرفة، وحول الميل الفطري للإنسان إلى الخير، كما نجدنا بعيدين كليًا عن فضيلة التأمّل النظري الأرسطي التي تسمو بالإنسان إلى مرحلة العلم بالكليات… ونشعر تاليًا بنَفَس الحياة يُفارقنا بصمتٍ وأسى عميقين.
- عندما نشهد حروبًا دامية، تحرُّكها قرارات قيادية كبرى منعقدة على المصالح ومتنكّرة للإنسانية، فتكون نتيجتها مجازرَ وقتلًا وتشويهًا وتهجيرًا لأناسٍ في غالبيّتهم بُسطاء، لا يُدركون أنَّ “صدام الحضارات” لهنتنغتون يتحقّق للأسف في أرض الواقع، ولا أنّ دعوة توينبي إلى حلولٍ رُوحيةٍ مطعّمة بالانتصار على الذات ومعاملة الآخرين بمحبة، محض تمنِّياتٍ أوطوبية… أبرياء يُحتضرون ويواجهون المآسي، فيفارقنا نَفَس الحياة أمام عجزنا عن احتضان آلامهم.
- عندما تُنصَّب خيمة على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، تطالب داخلها أمَّهات ثكالى بعودة أبنائهنَّ المخفيين قسرًا في معتقلات الاستبداد والوحشية، وبمعرفة مصائرهم المجهولة، تتآكل المرارة ساعات وأيام وسنوات انتظاراتهن الطويلة، وقد فارق الأمل عيونهن وقلوبهن… منهنَّ من غادرن الحياة بحسرة، ومنهنَّ من يتمنَّين مغادرتها! الخيمة أُقفلت، والأمُّهات الباقيات أقفلن أبواب آمالهن، وغدون يتمنَّين ساعة الموت بعدما يئسن من ساعة اللقاء… أمام هكذا مأساة، يفارقنا نَفَس الحياة حيث اللاإنسانية غدت واقعًا، والمطالبة بالغيّاب باتت سجينة دائرة مغلقة لا مكان فيها للخلاص.
- عندما نجد في دارٍ للعجزة أناسًا متروكين، يهتمُّ بهم غرباء، وهم في حرقة رؤية أبنائهم: ينامون ويستيقظون على هذا الأمل. فهل تحوّلنا إلى “غريب كامو” غير الآبه للعلاقات والأحداث، حتى إذا ما وصلته برقية بوفاة والدته من دار المسنّين، فإنه يكتفي بالاستغراب ويقول: “ماتت أمي اليوم، وربما أمس، لست أدري. لقد تلقّيت من الملجأ الذي كانت تقيم فيه برقية هذا نصُّها ” أمُّكم توفِّيت. الدفن غدًا. خالص تعازينا”. لم أستطع أن أفهم من ذلك شيئًا…!”4
إقرأ أيضًا: محاولة تأمّل فلسفيّ في مفهوم الموت
ومع تلمُّسنا وقع الحياة الشديد القساوة كما في الحالات الآنفة الذكر، فإننا نتمنَّى أن نُبصر فيثاغوراس جديدًا مُتسلِّحًا بقوانينه الصارمة بغية تنوير الطلاب والمريدين في مدرسته نحو حياةٍ صالحة ترمي إلى تنقية الذات والجسد معًا، عبر التزهُّد واحترام النفس والفحص المستمر للضمير… وصولًا إلى نوعٍ من التكاملية في عيش الحياة (التي لا بُدَّ أن تمرَّ بتكراراتٍ تقمّصيةٍ عدّة وفق عقيدته). كما نتأمّل أن نترافق مع بارمنيدس آخر في قصيدةٍ ميتافيزيقةٍ أخرى، نعنونها أيضًا “في الطبيعة”، وبدعوةٍ من إلهة العدالة Diké ، نختار كما هو فعل مسار الحقيقة، ودرب اللوغوس المؤدِّي إلى الاستقامة الفكرية، بهدف النظر القويم في قضايا الإنسان والمجتمع. كذلك نتوسَّل أن نرى سقراطَ جديدًا يجوب شوارعنا العتيقة والحديثة، يتحدّث بلا كللٍ ولا خوف عن العدالة والأخلاق. وإذا ما خُّيِّر بين الهروب من ظلمة سجنه وبين قبول الموت فداءً للحقيقة، فإنه يختار الموت برُوحٍ ساميةٍ وبسلامٍ داخليٍّ فائق الندرة. ولا بُدَّ مع ذلك أن نستشعر حاجتنا إلى عالم مُثُلٍ أفلاطوني يُحرِّرنا من قيود الجهل المتراكم واللامبالاة المؤذية ويعدنا بمثاليةٍ تصاعديةٍ ترتقي بنا إلى الخير المطلق. كما نحتاج ذلك الـ أفلاطون الذي ترجم إحباطه السياسي المتتالي في حياته في ثورةٍ فلسفية في رائعِّتيه “الجمهورية” و “النواميس“. ونرانا نستنجد بـ “تأملاتٍ” تشبه ما كتبه ماركوس أوريليوس عن الحياة الخلوقة السويَّة التي تُفضي إلى السكينة والطمأنينة، وتركِّزُ في امتلاك فضائل الحكمة والاعتدال والعدالة والصلابة في المواقف. وبدلًا من الردح غير المجدي الذي يرنُّ في مسامعنا اليوم، نسترجع ما قاله ذاك الإمبراطور الروماني العاشق للرواقية: “الإنسان العادي متشدِّدٌ مع الآخرين، أما الإنسان الاستثنائي فمتشدِّدٌ مع ذاته.” وأين إنسان اليوم من هذه الاستثنائية؟!
إقرأ أيضًا: الوجودية: فلسفة تمرّد وحرية وتفكّر في القلق الوجودي!!
كذلك نستحضر الفارابي في “مدينته الفاضلة“، هو الذي رأى أنَّ الفضائل ترسم طريق السعادة، ومنها الفضائل الكائنة بالطبع، ومنها الكائنة بالإرادة، تلك الارادة التي يستخدمها الأفراد اليوم في وجهها العكسي، خلافًا لما يجب أن تكون عليه: فعل إراديٌّ كامل يُجسِّد السعادة الحقَّة. ونشتاق مع ذلك إلى شخصيّة المعرّي وقد كان شديد الحرص على بلوغ الكمال، مُتحلِّيًا بنَفْسٍ أبيّة تستنبط من الضعف قوةً، ومن التجارب الأليمة عظمةً في الفكر والفلسفة.
خاتمة
حكمًا نحن في حاجةٍ إلى رُوحٍ فلسفيةٍ تُنقذنا ممّا نحن فيه ومع ذلك، نعود إلى الواقع لنجد أنَّ الحياة تستمرُّ في مفارقتنا مع كلِّ وجعٍ لا يُسمع أنينه، ومع كلِّ افتقادٍ لا يُعبَّرُ عنه، ومع كلِّ ارتحال أحِبَّةٍ نحو اللامكان واللازمان… في انتظار أن نفارق نحن الحياة، فيأتي الموت لينتشلنا من انطفاء النَفَس الأخير على الأرض، إلى ارتشاف النَفَس الأول في عالمٍ آخر، رسمته ريشة فنَّان مبدع، أو خطَّته مُخيِّلة عالِمٍ فيلسوف، أو تربَّع على عرشه عقل إلهٍ أزليٍّ أبديٍّ!
المراجع
[1] القديس أغسطينوس، خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، نقلها إلى العربية الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، الطبعة الثالثة، بيروت، 1986، ص. 39.
[2] mawdou3.com حِكم وأقوال.
[3] المرجع نفسه.
[4] حمزة المجيدي، كيف نتعامل مع الموت؟… العبثية في روايات ألبير كامو، www.aljazeera.net