هشام جعيط والمستشرقون.. في ميزان نقد المنهج والتأسيس لرد الاعتبار

 تكوين

يُعد المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيّط[1] (1935–2021) أحد أبرز أعلام الفكر العربي المعاصر، تميَّز بعمق رؤيته واستقلاليته الفكرية، وبقدرته الفذَّة على مساءلة التاريخ والتراث من موقع نقدي صارم، دون أن يقع في شرك التغريب أو التقليد. أسهمت أعماله العلمية في إحداث نقلة نوعية في البحث التاريخي والفكري العربي، فقد انطلقت رؤاه من وعي حاد بقضايا العصر، ومن سعي جاد في فهم جذور الأزمة الحضارية التي تعانيها المجتمعات العربية الإسلامية[2].

تميّز جعيّط في دراساته بتحليل نقدي عميق للشخصية العربية والإسلامية، متتبعًا مراحل تطورها وتحولاتها الكبرى، ورافضًا الأطروحات الاستشراقية التي اختزلت هذه الشخصية في قوالب جامدة. وقد سعى في تفكيك تلك السرديات الغربية من الداخل، معتمدًا أدواتها المنهجية دون الخضوع لمنظورها الأيديولوجي. في كتابه الشخصية العربية[3][4] والمصير العربي، قدّم جعيّط قراءة نقدية للواقع العربي، عبّر فيها عن قلق معرفي تجاه المصير العربي، مستعرضًا مآزق التحديث والنهضة في ظل ثنائية الخصوصي والعالمي.

ولم يكن جعيّط في موقفه النقدي منبهرًا بالنموذج الغربي، بل ميّز بدقة بين أوروبا الغربية ذات التاريخ الاستعماري القريب من العالم الإسلامي، وألمانيا الجرمانية البعيدة نسبيًا. كما قدّم تشريحًا فكريًا لعلاقة الغرب المسيحي بالإسلام، وبيَّن أبعاد الاستعلاء الأوروبي والمركزية الغربية، خاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حين تصاعد الاهتمام الاستشراقي بالإمبراطورية العثمانية والعالم الإسلامي.

في كتابه التفكير في التاريخ والتفكير في الدين، واصل جعيّط حفرياته الفكرية، محللاً أسباب الانحطاط وتراجع العقل العربي، ومعللًا انسداد الأفق الحضاري بمركّبات الاضطهاد التاريخي والنفسي. وبهذا أسّس مشروعًا فكريًا يُعيد إلى الثقافة العربية عمقها وفاعليتها التاريخية، ويضعها في قلب الفكر الإنساني العالمي، بعيدًا عن التبعية، ومنفتحًا على الحداثة النقدية.[5][6]

كلمات مفتاحية: هشام جعيط – الشخصية العربية -الاسلامية – المنهجية النقدية -سرديات الغربية- المصير العربي- الاستشراق

 

أولًا، الاستشراق الألماني – نزعة علمية ومنهجية

قبل الخوض في العلاقة المركّبة بين الإنتاج الفكري والتاريخي للمفكر التونسي هشام جعيّط والخطاب الاستشراقي، من الضروري الوقوف عند مفهوم “الاستشراق” ذاته، وتتبع تطوره من تعريف أكاديمي تقليدي إلى مشروع معرفي وأيديولوجي، كما بيَّنه إدوارد سعيد في كتابه المرجعي الاستشراق (1978). فقد عرّفت المعاجم الكلاسيكية الاستشراق بأنه “علم دراسة ثقافات ولغات وتواريخ شعوب الشرق“، لا سيما الإسلامية منها. غير أن هذا التعريف يُغفل الأبعاد السياسية التي رافقت نشوء هذا الحقل، خاصة مع تصاعد المشروع الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر.

لقد أبرز سعيد أن الاستشراق لم يكن محض دراسة “موضوعية” للشرق، وإنما كان نظامًا للتمثيل، يُعيد تكوين صورة “الآخر” الشرقي بوصفه مختلفًا وغريبًا ومتخلّفًا، في مقابل “الذات” الغربية المتحضّرة. وهو تمثيل هيمن على المخيال الغربي، وأضفى طابعًا تبريريًا على الاستعمار، من طريق دعوى “تمدين الشعوب المتأخرة” و”نقل الحضارة”، فوظفت المعرفة لتكون أداة للهيمنة.

إقرأ أيضًا: ماهو الاستشراق؟

في هذا السياق يكتسب مشروع هشام جعيّط أهميته، إذ تميز بوعي نقدي عميق تجاه هذا التراث الاستشراقي، دون أن يسقط في فخ الرفض الأيديولوجي العاطفي أو الاستلاب المعرفي. لقد كان جعيّط واعيًا بقيمة المناهج الغربية –من تحليل تاريخي وسوسيولوجي وأنثروبولوجي- لكنه ظل يقظًا لمخاطر فرض النماذج الغربية على التجربة الإسلامية. سعى جعيّط في تفكيك البنية الداخلية للاستشراق، مميزًا بين استشراق “علمي” عقلاني نسبيًا، واستشراق “أيديولوجي” مكرّس للهيمنة، كما تجلى ذلك بوضوح في المقارنة بين المدرسة الألمانية والمدارس الفرنسية والبريطانية[7].

فقد رأى جعيّط أن الاستشراق الفرنسي امتداد مباشر للعقل الكولونيالي، متأثرًا بخلفيات لاهوتية وتمثيلية، ورأى في المدرسة الألمانية –كما تَمَثَّل في أعمال نولدكه وغولدتسيهر وشاخت– اتجاهاً أكثر نزوعًا نحو التحليل اللغوي والنصي، وبحثًا أكثر دقة في مصادر الإسلام الأولى، بخاصة القرآن والحديث. فقد تميز هؤلاء المستشرقين بدقة لُغوية ومنهجية، معتمدين على أدوات النقد النصي التاريخي، مع درجة من الحياد النسبي. ويُفسر جعيّط هذا الانضباط الألماني جزئيًا بضعف الحضور الاستعماري الألماني في البلاد الإسلامية، وبالعلاقة الإيجابية التي جمعت ألمانيا بالدولة العثمانية، كما في مشروع “سكة الحديد برلين-بغداد”، والتعاون العسكري والسياسي في الحرب العالمية الأولى.

غير أن جعيّط لا يُغفل جوانب القصور في الاستشراق الألماني، إذ ينتقد بحدّة إسقاطاته المنهجية، خاصة حين يُخضع القرآن والحديث لأدوات النقد الكتابي المسيحي، متجاهلاً السياق الفارق بين الديانتين. فخلافًا للأسفار المسيحية التي لم تُكتب إلا بعد عقود من رفع المسيح، وبقيت مُفككة ومتباينة حتى مجامع لاحقة، فإن القرآن كُتب وجُمع في حياة النبي ﷺ، ثم نُسخت مصاحف موحدة في عهد عثمان بن عفّان، أي بعد عشرين عامًا فقط من وفاته. أما الحديث فرغم تأخر تدوينه، إلا أنه انتقل عبر منظومة شفوية صارمة، ثم وُثّق ضمن منهج علمي دقيق، من طريق علمي الإسناد والجرح والتعديل، لذا فإن منهج “الشك الجذري” الذي طبّقه بعض المستشرقين على الحديث النبوي، يُعد إسقاطًا غير مشروع لتجربة لاهوتية أوروبية على بنية إسلامية مختلفة جذريًا.[8]

وعمّق جعيّط تحليله حين استدعى بعض أطروحات الفلاسفة الألمان، كمثل هيغل الذي رأى في الإسلام ثورة رُوحية في الشرق، ركّزت على التوحيد المطلق، لكنها لم تنتج نظامًا سياسيًا مستقرًا بسبب غياب مبدأ التوارث المنظم، خلافًا للنظام الملكي الأوروبي الذي رسّخ شرعيته عبر “الدم المقدس“. أما أوسفالد شبنغلر فقد رأى أن الإسلام ظاهرة مركزية في التاريخ العالمي، وأنقذ الثقافة العربية من الانحطاط، وأعاد تفعيلها، مُبرزًا دور الإسلام في تكوين هُوية حضارية كبرى امتدت جغرافيًا ورُوحيًا على أنقاض الشرق القديم.

لقد قدم هشام جعيّط مقاربة رصينة ترفض الاستسلام لسرديات المستشرقين، دون أن تهدم إنجازاتهم العلمية، بل تعامل مع نتاجهم من موقع الباحث القادر على الموازنة بين التمحيص المنهجي والانفتاح النقدي. لقد أعاد رسم العلاقة بين الذات العربية الإسلامية والغرب، لا على أساس الصدام، بل على أساس الحوار، بشرط الندية واحترام الخصوصيات الحضارية.[9]

 

 ثانيًا، الاستشراق الفرنسي والبريطاني – مشروع الهيمنة الرمزية

في المقابل نظر هشام جعيّط إلى الاستشراق الفرنسي والبريطاني، أو ما يُسمى أحيانًا بالاستشراق “اللاتيني”، كونه جزءًا من البنية المعرفية للمشروع الإمبريالي الأوروبي. فقد كان هذا التيار المتأثر بعمق باللاهوت المسيحي والنزعة الاستعمارية، يسعى ليس فقط في دراسة الإسلام، وإنما إلى إعادة إنتاج صور نمطية عن النبي محمد ﷺ والتجربة الإسلامية والمجتمعات العربية، بهدف الهيمنة الرمزية وإضفاء الشرعية على السيطرة السياسية.

تميّز هذا النمط من الاستشراق بتوجهه نحو تفريغ الإسلام من أبعاده الرُوحية والرسالية، وتحويله إلى ظاهرة اجتماعية أو سياسية بحتة. على سبيل المثال، حاول مونتغومري وات تفسير البعثة المحمدية في مكة على أنها انعكاس لصراع اقتصادي طبقي بين بني أمية وبني مخزوم، حيث كانت النخبة القريشية تقابلها طبقات مهمشة انضمت إلى دعوة النبي محمد ﷺ، متجاهلًا الأبعاد الإيمانية والتوحيدية التي كانت جوهر الدعوة. أما دافيد سامويل مارغليوث، فقد وصف النبي محمد ﷺ بأنه عبقري سياسي فحسب، دون الاعتراف بمكانته النبوية أو رسالته الرُوحية القائمة على فكرة التوحيد والرسالة العالمية التي حملها النبي، وهي رسالة ذات دلالات حضارية وإنسانية وسياسية وتنظيمية عميقة[10].

إقرأ أيضًا: الاستشراق والقرآن

ويصل هذا التشويه إلى ذروته في أطروحات إرنست رينان[11]، الذي عبّر صراحة عن مواقف عنصرية تجاه العرب، مُنكرًا قدرتهم على التفلسف، بل ومشككًا في قابليتهم لتطوير فكر عقلاني مستقل، في مقابل تمجيده للفكر الغربي “الآري”. وقد أسهمت هذه الرؤية في تعزيز ثنائية الغرب/الشرق، بوصفها ثنائية تفاضلية تبرّر الاستعمار وتُشرِّع دونية الآخر “الشرقي”، واختزاله إلى “الفحولة اللغوية”، مفترضًا أن السيطرة على العالم الإسلامي تتم من طريق المعرفة اللغوية. ومن هنا نجد أن أغلب المستشرقين خصوصًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، ركّزوا تركيزًا مفرطًا على المنهجية النصية-الفيلولوجية[12]، أي دراسة النصوص الإسلامية (كالقرآن والحديث) من زاوية لُغوية وتاريخية بحتة، مستندين إلى التحليل اللغوي وتأريخ المفردات وتتبع مصادر النصوص. ورغم ما أضافته هذه المنهجية من أدوات تحليل دقيقة، فإنها تكشف عن اختزال منهجي للعالم الإسلامي، يُسقط التجربة الإسلامية في حقلٍ لُغوي ضيق، متجاهلًا أبعادها الأخرى الفقهية والاجتماعية والتاريخية والحضارية.[13][14]

فاللغة العربية وإن كانت بالفعل عنصرًا محوريًا في تكوين الهُوية الإسلامية، ووسيلة للهيمنة الرمزية والسياسية في الحضارة الإسلامية، إلا أن الاقتصار على قراءتها بوصفها “وعاءً للنصوص” فقط، يُغفل الديناميكية التاريخية التي أنتجت علوم الفقه وأصول الدين والتصوف والفلسفة وعلم الاجتماع السياسي في المجال الإسلامي. بهذا فإن الرؤية الاستشراقية التي جعلت من الفيلولوجيا الأداة الوحيدة لفهم الإسلام هي رؤية قاصرة، لأنها تعزل النص عن وظيفته الحية داخل الثقافة والتاريخ والمجتمع.

من هنا ينتقد هشام جعيّط هذا القصور، مؤكدًا أن الإسلام لا يُفهم فقط من طريق تحليل اللغة والنص، وإنما بفهم السياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي كونت التجربة الإسلامية، في تفاعلها مع الزمان والمكان والإنسان. لقد رأى جعيّط في هذا النمط من الاستشراق تعبيرًا عن مشروع تمثيلي أيديولوجي، لا يهدف إلى المعرفة في ذاتها، بل إلى توجيه الوعي الغربي والعالمي نحو فهم مُفتعل ومشوّه للإسلام، يخدم الخطابات السياسية الغربية ويُرسّخ “التمركز الأوروبي” بوصفه مرجعية عُليا.

إن السؤال اليوم بشأن تجاوز الدراسات الاستشراقية والمستشرقين مسألة معقدة يصعب تحقيقها لاعتبارات عديدة، أهمها: أن حجم الإسقاطات والتعميم والتشكيك والسموم التي زرعها المستشرقون في التراث والتاريخ والدين الإسلامي قد عجز المسلمون في الرد عليها، نتيجة الهزائم الأيديولوجية والسياسية والصراعات والانقسامات الداخلية، إضافة إلى تأثير السياسات الاستعمارية في العالم الإسلامي، واستهداف الإسلام من طريق تشويه سيرة النبي ﷺ، والعودة إلى مصادر تاريخية قاصرة ومزيفة للطعن في الرسالة المحمدية[15].

وإن الإسلام كان له إسهامات حضارية وثقافية وإنسانية عميقة الجذور، مُتمثلة على الأقل في فكرة التعددية الدينية التي أظهرها الإسلام من طريق التسامح وميثاق المدينة، وتجربة الأندلس حين احتُضن اليهود والمسيحيين، وتأثير الفلسفة والعلوم على العالم المسيحي الأوروبي اللاتيني، والصراعات الدينية التي اختبرتها أوروبا في العصور الوسطى بين الكاثوليك والبروتستانت. فالفكرة من هذا السرد التاريخي تكمن في أن الإسلام في عصره الذهبي كان يُجيد احترام الآخر والتسامح معه وفق مبدأ التعارف والعالمية، على عكس التجربة المسيحية الأوروبية التي فُرض عليها التسامح فرضًا نتيجة الصراعات الداخلية وتأثر الغرب بالتجربة الإسلامية في الأندلس.

أما تجربة الغرب فلا تدل على التعددية والتسامح بقدر ما تُعزز ثقافة الاستعلاء والهيمنة وإلغاء الآخر، انطلاقًا من حملة نابليون على مصر (1798-1801). والمتأمل في كتابات رجال الدين المسيحيين في جميع مذاهبهم، الذين استطاعوا الحفاظ على تفوق ثقافتهم بالعمل المتواصل لتشويه صورة الإسلام ونبيه، يجد أنهم قد عملوا على ذلك طوال سبعة قرون من الهيمنة والاستحواذ، معتمدين سياسة الاستيراد الثقافي المُمنهج على حساب تاريخ ووجود حضارة وشعب، كما هو الحال مع الهنود الحُمْر سابقًا.

إن هذه الانتهاكات العدائية تحمل في طياتها نزاعًا أيديولوجيًا واقتصاديًا وسياسيًا تطور تطورًا ميكانيكيًا وإعلاميًا، إذ إن الغرب هو من يملك الصورة والإعلام والسينما، ويستطيع صناعة المفاهيم والعدو والنزاع الذي يريد، ولو جاء ذلك على حساب أمة وتاريخ وثقافة.

كما يوضح جعيط في كتابه “أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة“، فإن فكرة أن النبي محمد ﷺ لم يكن نبيًا حقيقيًا صادقًا قد تجذرت دون نقاش لدى مفكرين من القرون الوسطى مثل ريمون مارتن ريكولدو بنيني، مارك دي تولاد، روجيه باكون. هؤلاء رأوا أن رسالته ناسوتية أملتها مصالح دنيوية وشخصية، وكان القرآن في نظرهم مجموعةً من الخرافات المستعارة من التوراة فسحب، استعارةً مشوهةً…

ويُنهي جعيط بالحديث عن الرحالة الفرنسيين مثل فرانسوا رينيه فيكومت دي شاتوبريان الذي رسم صورة في منتهى العدائية للإسلام والشعوب الإسلامية، ورغم ذلك كان هو نفسه يسعى في الاستفادة من “رُوح” الإسلام في الشرق، متجاهلًا بذلك الثقافة الإسلامية الثرية والمعقدة.

ثالثًا، مشروع هشام جعيّط في تفكيك الاستشراق ونقد الذات

تتجلى أهمية فكر هشام جعيّط في تكامل نقده العميق للاستشراق من جهة، والنقد الداخلي للتراث الإسلامي والعقل العربي من جهة أخرى. فهو لم يقتصر على تفنيد سرديات المستشرقين، وإنما أعاد النظر في عديدٍ من المسلّمات التراثية، وقرأ السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي المبكر قراءة تاريخية عقلانية، تعتمد على الحفريات في البنية الذهنية والثقافية والسياسية لتلك المرحلة. لقد رفض جعيّط تمامًا الانحياز الأيديولوجي الذي يُهيمن على كثيرٍ من الردود العربية تجاه الاستشراق، كما رفض في المقابل النزعة التغريبية التي تتبنى السرديات الغربية دون تمحيص. وبدلًا من ذلك دعا إلى نموذج معرفي بديل، يستند إلى الاستفادة النقدية من أدوات الحداثة دون القطيعة مع الذات الحضارية الإسلامية.

في نقده للخطاب الاستشراقي سعى جعيّط إلى تصحيح العلاقة بين الغرب والإسلام، مفترضًا أن التصورات المشوَّهة التي أنتجها الاستشراق الأوروبي، خصوصًا في فرنسا، هي استمرار لما يُمكن تسميته بـ “الذاكرة الجريحة”، الممتدة من الحروب الصليبية إلى الاستعمار الحديث. ومن هنا دعا جعيّط إلى تجاوز منطق الصدام الحضاري، في سبيل بناء حوار عقلاني بين الثقافات، يقوم على الاعتراف المتبادل والتاريخ المشترك، لا على التنافر والاستعلاء.

واصل جعيّط في جميع كتاباته اللاحقة، وخاصة في أعماله التاريخية مثل التمصير والفتنة وتاريخ الغرب الإسلامي وسيرة النبي محمد، الاستفادة من أعمال عدد من المستشرقين الذين اعتمد عليهم في تحليلاته، مثل: هنري لامنس، ثيودور نوادكه، إغناتس غولتسيهر، ليون كايتاني، وليم منتغومري واط، باتريسيا كراون، مايكل كوك، جاكلين تشابي، يوليوس فلهاوسن، مايكل موروني، وجوزيف شاخت، وغيرهم من الأسماء المؤثرة.

يرى جعيّط أن العلاقة بين الإسلام وأوروبا لم تكن يومًا علاقة متوازنة أو قائمة على الاعتراف المتبادل، بل تكونت تاريخيًا في إطار من الصراع والحروب الصليبية والاستعمار، والرؤية الاستعلائية التي طغت على نظرة الغرب إلى الآخر الإسلامي. ويُشدد على أن الحداثة الغربية ليست نموذجًا كونيًا يُمكن تعميمه، بل هي ثمرة مسار تاريخي خاص بأوروبا، بدأ بحركات الإصلاح الديني مرورًا بعصر الأنوار وانتهاءً بالثورة الفرنسية، وهو ما يجعل استنساخها في مجتمعات أخرى أمرًا إشكاليًا من ناحية المرجعية والسياق.

فيما يتعلق بالمنهجية الغربية في تفكيك الإسلام، خصوصًا في الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي أو في صيغته المعاصرة التي تتخفى خلف لغة علمية محايدة، يرى جعيّط أن هذه المنهجية ما تزال أسيرة رؤية اختزالية تحاكم الإسلام ومجتمعاته وفق معايير خارجية، تنطلق من مركزية الحداثة الغربية. وتفترض هذه الرؤية أن الدين يجب أن يُفهم من منظور العلمنة، وترى التجربة الرُوحية الإسلامية ناتجًا عقلانيًا باردًا فحسب.

ويعتقد جعيّط أن مقاربة الغرب للإسلام في عديدٍ من نماذجها، لا ترتقي إلى قراءة إنسانية شاملة، بل تظل أقرب إلى تفكيك ميكانيكي للنصوص والظواهر، يفتقر إلى الفهم العميق لهُوية الإسلام الثقافية والرُوحية، ويُغفل البُعد الوجداني الإيماني الذي يكون جوهر التجربة الإسلامية. ويطالب بقراءة عقلانية للإسلام داخل الثقافة الإسلامية بدلاً من التقليد الغربي. كما يتجاوز جعيّط ذلك إلى تحليل الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي كونها غيابًا لمشروع حداثي أصيل ينبع من واقع المسلمين أنفسهم، وليس تقليدًا للغرب فحسب. هذا المشروع يجب أن يُراعي الخصوصية الثقافية العربية الإسلامية ويتفاعل معها وفقًا لتصور استراتيجي بديل قابل للتطبيق.

من طريق دراسة العلاقات بين الغرب والإسلام يُشير جعيّط إلى أن هذه العلاقة قامت على التنافس والتأثيرات المتبادلة، مشيرًا إلى تجربة الأندلس وتأثيرات الثقافة العربية والإسلامية على أوروبا في مجالات مثل الترجمة والعلوم والفلسفة.

أما فيما يتعلق بحروب الردة والفتوحات الكبرى، فقد نقد جعيّط التصورات السائدة التي تصوّرها بوصفها صراعًا دينيًا خالصًا، كما تراه الروايات الإسلامية الكلاسيكية أو كما يُصوُّرها بعض المستشرقين مثل ماسينيون وكايتاني، بل عدها امتدادًا لصراع سياسي واقتصادي بين السلطة المركزية الناشئة وقوى قبلية كانت مرتبطة بالنبي سياسيًا ودينيًا، لكنها انقطعت بعد وفاته. كما ينفي جعيّط أن تكون الفتوحات قد تمت بتخطيط مباشر من أبي بكر أو عمر بن الخطاب في البداءة، مُشيرًا إلى أن بعض القبائل من نَجْد وتميم كانت قد انطلقت بحافز الغنيمة والاستقلالية عن الدولة المركزية[16].

ويرى جعيّط أن الصراع مع البيزنطيين لم يكن رد فعل ديني فحسب، وإنما كان انغماسًا في منطق القوة الذي فرضته الفتوحات والتحولات الاقتصادية التي نتجت عن انفتاح شبه الجزيرة العربية على الشام والعراق، وفق منطق التوسع القبلي والاقتصادي الملبس باللبوس الديني، وليس مشروعًا رساليًا.

ينتقد جعيّط المستشرق ماسينيون لاستخدامه روايات الواقدي دون تمحيص نقدي، مفترضًا أن الواقدي كان متأخرًا نسبيًا وملئ بالأساطير والتضخيم، ويمثل الذاكرة الأموية والعباسية أكثر من التاريخ الفعلي. كما يرى أن كايتاني قد تبنى رؤية تشكيكية لتبرير شرعية الخلافة. ويشدد جعيّط على ضرورة إعادة فحص الروايات وتدقيقها وفق مناهج نقدية حديثة، وفصلها عن الأسطورة.

من جانب آخر يرفض جعيّط أطروحة باتريسيا كراون التي شككت في وجود دور تجاري فعّال لمكة قبل الإسلام، مفترضًا إياها إسقاطًا أيديولوجيًا واستعلائيًا، فقد حاولت الباحثة قلب السردية الإسلامية بالكامل دون أساس دليلي كافٍ. ويدافع جعيّط عن الروايات الإسلامية ويرفض رؤية الإسلام بوصفه حركة بدائية متمردة على النظام الحضاري الفارسي والبيزنطي، بل يشدد على أن الإسلام جاء برسالة عالمية وإنسانية ورُوحية عميقة لا يُمكن تفسيرها بالحاجات الاجتماعية وحدها.

وفي رده على المستشرق السويدي تور أندريه، المتخصص في تاريخ الأديان الذي كتب دراسة بعنوان “محمد: حياته ودينه“، والتي أبرز فيها أن محمدًا نشأ في بيئة مشبعة بالتقاليد اليهودية والمسيحية، يبين جعيّط أن مكة في زمن البعثة كانت بعيدة عن المراكز المسيحية الكبرى، ولا يوجد دليل أثري يثبت وجود طوائف مسيحية سريانية هناك. كما أن القرآن يُهاجم عقائد المسيحية مثل الثالوث وألوهية المسيح، وهو ما يتناقض مع فكرة تأثر النبي بالمسيحية. ويدحض جعيّط التفسير العنصري الذي يرى العرب أقل قدرة على استيعاب الدين العقلاني، مؤكدًا أن الإسلام جاء برسالة كونية ومتماسكة عقليًا وأخلاقيًا.[17]

في الختام، تميّز المفكر هشام جعيّط بقدرة فريدة على التوازن بين توظيف المنهجيات الغربية في نقد الروايات الإسلامية والحفاظ على مسافة نقدية من تحيزاتها وأساطيرها التمثيلية. لقد قدّم قراءة عقلانية ومنهجية للتاريخ الإسلامي، تؤكد البعد الكوني والإنساني للرسالة المحمدية، كونها ثورة رُوحية وأخلاقية تتجاوز حدود الفهم التاريخي المشوّه، أو القراءات الاختزالية ذات الطابع الأيديولوجي.

وفي موقفه من المشروع الإسلامي، شدد جعيّط على ضرورة مقاربته بوصفه مشروعًا إنسانيًا ورُوحيًا لا يُمكن تفسيره ضمن الأطر القومية أو الماركسية، كما حاول بعض المستشرقين والمفكرين العرب المتأثرين بهم. فالإسلام في نظره، ليس حركة اجتماعية أو تمرّدًا سياسيًا ضد حضارات سابقة فحسب، وإنما مشروعًا حضاريًا متكاملًا، يستند إلى منظومة قيمية شاملة تشمل العقيدة والأخلاق والرؤية الكونية.

لقد انتقد جعيّط بشدة التبعية المعرفية في العالم العربي، مُحذرًا من الاستخدام غير النقدي للمناهج الغربية دون تمحيص أو تفكيك لمفاهيمها المرجعية. ودعا إلى مراجعة التراث الإسلامي وتاريخ الفتنة بالعودة إلى النصوص المؤسسة، لا إلى تأويلات المستشرقين أو قراءاتهم المشحونة برهانات معرفية وأيديولوجية.

ومع ذلك فإن مواصلة هذا المشروع النقدي باتت اليوم أكثر صعوبة، في ظل هيمنة الرواية الغربية على الوعي العربي، باستخدام أدواتها الإعلامية والرقمية، ومن طريق ما يُعرف بـ “الاستشراق الناعم” الذي تُعاد إنتاجه عبر نخب فكرية عربية وإسلامية تتبنى النموذج الغربي وتُعيد تسويقه معرفيًا تحت غطاء علمي. وبهذا يتطلب تجاوز هذا الواقع تفكيكًا جذريًا لبنى الهيمنة المعرفية، واستعادة الاستقلالية الفكرية التي دعا إليها جعيّط، من طريق إنتاج معرفة نقدية متجذِّرة في النصوص، ومنفتحة على التعددية دون خضوع للاستلاب الثقافي.

 

المراجع:

[1] هشام جعيط، اروبا والاسلام: صدام الثقافة والحداثة، ط2(بيروت: دار الطليعة، 2001).

[2] جعيط، ص56

[3] هشام جعيط، الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الاسلام المبكر، ط5 (بيروت: دار الطليعة، 2005) ص21.

[4] جعيط، الفتنة، 209.

[5] هشام جعيط، اوروبا والاسلام: صدام الثقافة والحداثة، ط2، بيروت: دار الطليعة، 2001.

[6] Said, Edward. L’orientalisme, L’orient cree par l” occident. Paris: seuil,1980>

[7] Gaudefroy-demombynes, Maurice. Mohamet.paris: albin michel, 1969>

[8] Montegomry watt, William. Mohamet a la mecque. Paris: payot,1977>

[9] Lammens, henri. Le califat de yazid 1er. Beyrouth: imprimerie catholique,1921.

[10] هشام جعيط، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، بيروت: دار الطليعة، 2007.

[11] كاتب وفيلسوف ومؤرخ فرنسي، يعتبر من أبرز المستشرقين في القر التاسع عشر، تناول في اطروحته ابن رشد والرشدية بعض قضايا الاسلام في كثير من اعماله مثل محاضرته عن دين الاسلام والعلم، وفي مستقبل العلم.

[12] Theodore noldeke, Geschichte des koran Leipzig: Dieterich,1909.

[13] Matin Hinds, kufan political alignements and their background in the mid 70 century A.D, international journal of middle est studies, vol.2 (1971)- the Murder of the califat uthman, interbational of middle east studies, vol.3, no.4 (1972).

[14] Leon caetani, annali del islam, milan: ulrico hoepli, 1926 and Julius wellhaussen, die religios politischen oppositions parteien im alten islam, berlin: weidmann, 1901 and Meir Jacob kister, some notes on its relations with arabia, vol.15 no.2,1968.

[15] Mohamed sa vie et sa doctrine, tor andare, J gaudefroy demombynes trans, paris: Adrien Maisonneuve, 1945.tor andae, les origins de L’islam et du chretiennisme, paris: Adrien Maisonneuve,1955>

[16] Leon caetani, annali del ‘Islam. Meme reference, p.211, 1926.

[17] H M T. nagel, some considerations concerning the pre-Islamic and the Islamic foundations of the authority of the caliphate, in: G. social history of the orient Jesho, vol 7 (1965).

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete