تكوين
لا يُمكننا إنكار دور “الكتاتيب” التاريخي في تحفيظ القرآن الكريم، وتجويده، وترتيله، وضبط مخارج الأطفال في نطق حروف العربية، وإسهامها في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية في بعض البلاد العربية التي تعرضت لمحاولات طمْس من المحتلّ مثلما محاولات الاحتلال الفرنسي في الجزائر، لكن يأتي السؤال المطروح اليوم في الحالة المصرية: هل “الكتاتيب” مؤسسات تعليمية وتربوية متكاملة؟ وهل هي قادرة على تقديم التعليم الحديث، وتعزيز الوعي، وترسيخ الانتماء للأوطان؟ هل يُمكن أن تكون قاطرة التجديد للفكر الديني؟
الكتاتيب صفحة من صفحات التعليم الديني المتغلغلة في التاريخ، فعرفت المعابد الفرعونية ما يُشبه “الكتاتيب”، فنشأتْ المدارس الدينية الملحقة بالمعابد لإعداد الكهنة، وعرف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أقيم فوْر الهجرة حلقات تُشبه الكتاتيب، فبدأ المسجد في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، دارا للعبادة، والقضاء، وطلب العلم، واستقبال وفود القبائل، وجمع الزكاة والصدقات، وإعلان النفير العام، إلا أنّ الأمر لم يدمْ طويلا، فالمسجدُ في تاريخ المسلمين مرّ بأطوار تاريخية، انتقلت معها تلك الوظائف تباعا خارج المسجد، فبعد رحيله، صلى الله عليه وسلم، شرَعَ خلفاؤه في إنشاء الدواوين مستفيدين من الخبرة الفارسية والرومية، فاستقلّ بيت المال بنفسه، وديوان الجند، ودار الحكم، ودار القضاء، وصولا لاستحداث مدارس مستقلة عن المساجد أوائل القرن الثالث الهجري..
وهذا ما لا يتقبله بعض المسلمين اليوم، فبدافع من الحنين إلى الماضي، والنظرة المثالية المتعالية عن السياقات الاجتماعية والتاريخية الدافعة للتغيير، وبتأثّرٍ بفكر “جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين” التي تنطلق من المسجد في معركتها نحو التمكين، جعلتْ الأدوار التاريخية للمسجد مسلّمات دينية ترقى لأن تكون الركن السادس في أركان الإسلام.
فيرى بعض المسلمين أنّ المدارس المستقلة عن المساجد انتقصتْ من دور المسجد التاريخي، وإنْ قبلتْ على مضض بفكرة تخلّى المسجد عن مهامه التاريخية في التعبئة العسكرية، والقضاء إلا أنها تتمسّك بدوره في التعليم، متجاهلة أن ثمّة فارق كبير بين الدور المنوط بالمسجد من تقديم تعاليم الإسلام عبْر الموعظة الحسنة، والدور المنوط بالمؤسسات التعليمية في العصر الرقمي من تعزيز التفكير الإبداعي والنقدي وتطوير المهارات الاجتماعية والثقافية والعلمية، وإذابة الفوارق الدينية بين المصريين بما يُعزّز ثقافة المواطنة..
بالعودة إلى تقرير نظارة المعارف المصرية الصادر سنة ١٩٠٣ الذي يشرح واقع الكتاتيب في القطر المصري خلال ربع قرن سنجده يستخدم لفظيّ “قبطية”، و”إسلامية” في إشارة إلى نوعين من الكتاتيب المصرية، فيُشير إلى أن مصر في سنة ١٨٩٧ بلغ عدد الكتاتيب بها (٩٤٠٤) منها (٨٨٩٧) إسلامية، و٥٠٧ قبطية، وأن عدد تلامذة الكتاتيب بلغ (١٧٧٣٢١)، منها ١٧٣٦٤٠ ذكرا، و٣٦٨١ أنثى.
ففي الكتاتيب القبطية الملحقة بالكنائس الكبيرة، وتجمعات الأقباط يتلقى الأطفال مبادئ القراءة والكتابة العربية، ثم يدرسون الإنجيل وبعض التعاليم الدينية المسيحية، وأحياناً مبادئ اللغة القبطية، كما كانت الكتاتيب القبطية تهتم بتلقين الأطفال مبادئ الحساب.. ولا تكاد تختلف هيئة التدريس في الكتاتيب القبطية عن الكتاتيب الإسلامية في العصور الوسطى من حيثُ بساطة المعلم، وضعف الإمكانيات، إذ يقوم على تعليم الأطفال مؤدّب يساعدُه عريف أو أكثر تبعاً لعدد الأطفال، وتفتح الكتاتيب أبوابها للأطفال بلا تمييز بين البنين والبنات، وقد انتشرت في الريف المصري، ولا سيما في الصعيد وفي القاهرة حيث تكثر أعداد الأقباط، وكان يُنفق على تلك الكتاتيب من الهبات الخيرية للمسيحيين، وكان مؤدبو الأطفال فيها يتعيّشون من الأجور القليلة، التي يحصلونها من تلاميذهم سواء كانت عينية أو نقدية، وبالتحوّل إلى المدارس كمؤسسات تعليمية، أخذت الكنائس والأديرة في بناء المدارس التي تفتح أبوابها لجميع المصريين بلا تمييز، وانتقل التعليم الديني في الكنيسة الأرثوذكسية إلى الكلية الإكليريكية منذ سنة ١٨٩٢م، التي عُهد إليها بتربية، وتدريب الكهنة، والقساوسة، فيلتحق للدراسة بها بعض الطلاب الأقباط الحاصلين على الثانوية العامة، أو الحاصلين على المؤهلات العليا.
وإذا انتقلنا إلى الكتاتيب الإسلامية فسنجدها في المساجد والزوايا وبيوت الشيوخ الذين يقومون بتحفيظ الأطفال القرآن الكريم، ومبادئ القراءة، والكتابة، وقد تنوّعت الكتاتيب بين كتاتيب يُنفق عليها من مال الأوقاف الخيرية، حيث يُوقف صاحب الوقف مقداراً من المال للإنفاق على الكتّاب، بدفْع مرتبات وكساوي المؤدبين/ الشيوخ، وبعض الهبات للأطفال، ومن أمثلة ذلك الكُتّاب الذي أنشأه حسن باشا عبدالرازق في قرية “أبو جرج” التابعة لمديرية المنيا، ليتعلمَ فيه أبناؤه، وأبناء القرية، ففيه حفِظ وزير الأوقاف وشيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبدالرازق في صغره القرآن الكريم، فالمسوّغ الأول لاستكمال الدراسة الدينية في الجامع الأزهر هو حفْظ القرآن الكريم، كما كان الكُتّاب هو الملاذ والنجاة لقلة ممن يتركون الفلاحة للذهاب إلى الكُتّاب، أملا من ذويهم أن “تكون البوصة في إيده رطل” على حدّ قولهم حينها..
وهناك نوع آخر من الكتاتيب لا يقوم على رعايته أحد الأثرياء، ولا يتوفر له وقف خيري، وقد مرّ بمرحلتين يحكى عنهما الشيخ عبد المتعال الصعيدي كشاهد على هذا العصر، بقوله: ” كانت الأميةُ ضاربةً أطنابها في القرية المصرية؛ لأنّ جميعَ أسرِها كانت من الطبقة الفقيرة أو المتوسطة مما لا يهتمون بالتعليم، وكان الذي يُعْني بالتعليم في ذلك الزمان إنّما هم الإقطاعيون، ومن إليهم ينتسبون ممن يطمعون في وظائف الدولة، ولم تكن قريتنا وما ماثلها من القري تطمع في شيء من الوظائف.. وكان بعض حفّاظ القرآن يفدُ على مثل قريتنا ممن يغلب الاشتغال بالزراعة على أهلها، ليُنشئ كُتّابا فيها، يعلِّم فيه القراءة والكتابة بطريقة أبعد ما تكون عن طرق التعليم، وأبعد ما تكون عن تربيةِ نشئ يفهم معني الحياة، وأبعد ما تكون عن تهذيب النفس بمكارم الأخلاق، فأجْرُ المعلم أو الفقيه كما كان يُسمي عن أهل القرى رغيف يأتي به التلميذ له من بيته عند رجوعه من الغداء، وهو مثل الرغيف الذي يعطونه لمن يدور بالسؤال على البيوت، ومعلم أو فقيه يكون هذا شأنه لا ينتظر من تعليمه أن يصل إلى أغراض التعليم الصحيح”.
ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد أنّ تعليم القراءة والكتابة للأطفال في الكتاتيب بشكل عام لم يكن مقصودا لذاته، بل كان يتخذ وسيلة فقط لكي يستطيعوا قراءة القرآن في المصحف وكتابته في اللوح دون أخطاء إملائية؛ فيحكي الشيخ عبد المتعال الصعيدي أنّ “الطالب في الكُتّاب يكتب القرآن الكريم في لوح من الخشب ربُعاً بعد ربع أولا من غير حفظ حتى ينتهوا منه، ثم يعودون إلى تكلفتهم بكتابته وحفظه ربعاً بعد ربع حتى ينتهوا من حفظه، ومثل هذا كان يستغرق من أكثرهم سنَّ الشباب، فلا ينتهون منه إلا وقد بلغوا العشرين من عمرهم أو جاوزها؛ لهذا لم تُنشئ هذه الكتاتيب رجلا يميز نظرُه إلى أكثر من حياة القرية، ويعلو نظره على ما فيها من خصومات، ولا يكون كلّ همّه الانغماس فيها”.
ثم كانت مرحلة جديدة من تاريخ الكتاتيب، ففي مقابل الدعوة التي تبنّتها الحركة الوطنية المصرية للنهوض بالتعليم العالي في مصر بإنشاء جامعة مصرية؛ دعا الإنجليز إلى إصلاح التعليم الأساسي بإصلاح الكتاتيب؛ لينشأ ما يُعرف بنظام الكتاتيب الحديثة، “يضاف فيه إلى تحفيظ القرآن وتجويده مواد أخري حديثة: من تعليم الخط وتجويده على قواعده الثلاث: النسخ والرقعة والثُّلث، وتعليم قواعد الإملاء، وتعليم قواعد الحساب على نظامه الحديث إلى الكسور العشرية، وتعليم المطالعة الحديثة في كتاب مثل كتاب الفوائد الفكرية لعبد الله فكري باشا.
فتسابقت المديريات في تنفيذ هذه الرغبة الإنجليزية، لأن الإنجليز كانوا أصحاب السلطة في مصر.. وصار مفتش نظارة المعارف العمومية، كما كانت تسمي في ذلك الوقت يتنقل في قراها للتفتيش على تنفيذ هذا النظام في كتاتيبها”.
وهنا بدأ ظهور الكتاتيب الجديدة التي كان يقصدها أبناء الطبقة الفقيرة، والمتوسطة، فعلى حد تعبير الصعيدي كانت “المدارس الحديثة -التي تُعْنَى بالعلوم الرياضية من ابتدائية وثانوية وعالية، كانت طبقتنا محرومة منها في ذلك الوقت؛ لأنها كانت مقصورة على أبناء الطبقة الإقطاعية ومن إليها ينتسبون”.
ويصف الصعيدي الانتقال من الكُتّاب القديم إلى الكتاب الجديد بأنّه “أشعرنا حقيقة أن حياتنا تغيّرت من حال قديم إلى حال جديد، وأننا تغيّرنا حقيقة من فوضى إلى نظام، فكان لهذا أثره في نفسي حيث نهضتُ على النظام والتجديد.
وكان القائمون على النظام الحديث للكتاتيب في مديريتنا يقومون بتعليم معلمي الكتاتيب أو المدارس الأولية للمواد الجديدة؛ ليقوموا بتعليمها في مدارسهم، فكان كلّ معلم يسافر كلّ يوم خميس إلي المنصورة مساء الخميس وصباح الجمعة، ثم يعود إلى قريته؛ ليقوم بتعليم هذه المواد في مدرسته من يوم السبت إلى يوم الخميس، وكانوا يمتحنونهم بعد انتهائهم من هذه المواد، ومن ينجح منهم يعطونه شهادة فقيه أو عريف، وقد انتهي معلمنا من ذلك، ونال شهادة فقيه، وكان متقدما على جميع إخوانه، حتى إنهم حوّلوا إليه بعض معلمي المدارس المجاورة لقريتنا؛ ليقوم بتعليم هذه المواد لهم”.
فبموجب قرار مجلس الوزراء سنة ١٨٦٩م خضعت جميع الكتاتيب لإشراف نظارة المعارف التي “جعلت الدراسة بالكتاتيب الحديثة على ثلاث فرق يُتمّها التلميذ عادة في ثلاث سنين، ويتفرغ بعد ذلك للاشتغال بالحرَف أو الصنائع أو غير ذلك، وفي سنة ١٩٠٢ سنّت طريقة يتعلم التلميذ بمقتضاها نصف النهار بالكُتّاب، ثمّ يتعلّم إحدى الصناعات في النصف الآخر منه.. ووجهت نظارة المعارف عنايتها إلى إصلاح الكتاتيب من خلال ربط الإعانة المقدمة للكتاتيب بالتفتيش عليها”.
إقرأ أيضا: لا نسخ في القرآن الكريم بنص القرآن نفسه
ورغم أن نظارة الأوقاف ساهمت في ترميم الكتاتيب على مدار عشرين عاما لمواجهة الأمية، ووفّرت نظارة المعارف مرتبات لكل فقيه وعريف ينجح في امتحان النظام الجديد، إلا أنّ نظارة المعارف انتهت إلى أن مباني الكتاتيب القديمة لا تصلح لقيام هذا النظام الحديث على الوجه الأكمل، وأنها “لاتزال غير صالحة للغرض المطلوب منها، وحالتها غير صحية، ولا يُمكن حلّ هذه المسألة حلا مُرضيا إلّا بإنشاء مبانٍ جديدة في مواضع مناسبة تكون موافقة لحاجات التعليم الحديثة وتوزيعها توزيعا جغرافيا منظما، فقامت بدعوة أهل القرى إلي التعاون في إنشاء مدارس أولية حديثة في أمكان صالحة لهذا النظام”.
فرغم أن نظام التعليم الحديث بدأ منذ عهد محمد على إلا أنّه ظلّ محصورا في أعداد قليلة اتخذها كوادر وظيفية تُلبي طموحاته في تأسيس دولة حديثة، حتى كان دستور ١٩٢٣ الذي ينصّ في المادة ١٩ على أن التعليم الأولي إلزامي للمصريين والمصريات؛ ليبدأ تدريجيا ظهور المدارس الأولية التي تفترق بمبانيها ونظمها الحديثة عن الكتاتيب ذات الصلة التاريخية بالمساجد والأسبلة القديمة، والتي تمّ الإبقاء عليها إلى يومنا لدورها في تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم الأطفال أساسيات القراءة والكتابة قبل الالتحاق بالمدارس.
والطبيعي ألا تُوجد علاقة تنافسية بين الكتاتيب والمدارس، فلا يصلح أن تقوم الكتاتيب بدور المدارس، ولا أن تقوم المدارس بدور الكتاتيب، فبتأثير التطور التاريخي الحتمي وبدافع التحديث تحوّلت مصر إلى المدرسة الحديثة، التي تتماهى مع تحوّلات الدولة الحديثة التي تنظر للمجال العام بوصفه فضاء مفتوح لأفراد المجتمع بلا تمايز ديني أو عرقي، فما دام المصريون ينتمون إلى أسر تختلف حظوظها من الغنى والفقر، وتتنوع في عقائدها وثقافتها كانت الحاجة إلى المدرسة الحديثة؛ لتجمعهم تحت سقف واحد دراسةُ علوم موحدة بلغة قومية موحدة، بما يُذيب الفوارق بين المصريين، ويُعزّز المواطنة، والمعاصرة، والتمدن بمعناهم الثقافي، والاجتماعي، والمهني، غير أنّ فكر جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين المتغلغل في ثقافتنا لا يتوقف عن المقارنة بين التعليم الديني في الكتاتيب والتعليم في المدارس، ويسعى دوما إلى إشعار المصريين بالاغتراب عن مؤسساتهم التعليمية، وصناعة أنماط موازية من التعليم الديني تمّ استغلالها على نحو ضار في مجتمعات مثل المجتمعات الباكستانية والأفغانية.
أخيرا الكتاتيب جزء أصيل في تراثنا التعليمي والديني، ولا تزال ذكراها حاضرة في ذاكرة الكثيرين، فالإبقاء عليها ضروري احتراما لعادات ومشاعر دينية متجذرة في وجدان المجتمع المصري، غير أنّه من الخطأ أن نقع في الفخّ الذي نصبته لنا جماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين، فندخل في مزايدات من شأنها أنْ تُحمّل الكتاتيب فوق ما تستطيع!! فالكتاتيب تقوم على مهارتي الحفظ والتلقين، حيث يحفظ الطلاب القرآن عن طريق تكرار الاستماع إلى المعلم، وتلقين المعلم طلابه بتردديهم خلفه، فمسار التعليم في الكتاتيب يختلف عن الفهم والتدبر الذي يحتاجه تعميق الإيمان، ويختلف عن النقاش والبحث والدرس النقدي لتراثنا كيف تشكّل وتنوع؟ ولماذا يتعرض للاجتزاء والاختزال والتنزيه في استدعاء المعاصرين إلى غير ذلك مما نحتاج إليه للحدّ من ظاهرتي التطرف والإلحاد، كذلك يختلف مسار الكتاتيب عن المسار المطلوب في المدراس كمؤسسات تعليمية وتربوية تقوم على استراتيجيات تعليم تعتمد على العصف الذهني الذي يُشجع التفكير الإبداعي، والتغذية الراجعة، والتصميم التعليمي المرن، والتعلم من خلال المشاريع، واستخدام التكنولوجيا في التّعليم، من الخطر خلط الأوراق وتجاهل أنّ كل ّ المشاكل الناجمة عن أسلوب، ومستوى معين من التفكير لا يُمكن أن تُحلّ ما دُمنا مُصرّين على اعتماد نفس الأسلوب في التفكير.