تكوين
– 1 –
انطلق المشروع التجديدي فى مصر من نقطة سياسية، هي ظهور الدولة الجديدة التي أنشأها محمد علي فى بداية القرن التاسع عشر، وتطورت بفعل الاحتكاك الثقافي مع الغرب إلى “دولة مدنية”، تقوم على فكرتي “القانون” و “المواطنة”. كان هذا التطور يمثل انقلابًا على النظام التراثي “الديني” السائد منذ قرون، وقد كشف عن هشاشته وقابليته للاختراق من نقطة ضعفه الأولى وهى شقه السياسي.
الحاجات التنظيمية للدولة فرضت أولويات التجديد، التي بدأت بتشكيل جيش نظامي من الجنود المصريين لمواجهة النفوذ العثماني ومطامع المماليك التقليدية فى السلطة. لاحقًا، وبوعي مقصود استهدفت الدولة نقل النموذج الغربي في التنظيم العسكري، والشكل الدستورى، والإدارة السياسية، وتطوير الزراعة، وآليات الرى، والتجارة، ونشر التعليم المدني والفنون والصحافة، وإنشاء الجامعة وتوسيع البحوث الدراسية، وفوق ذلك كله إنشاء نظام قانوني متطور حسب النموذج الفرنسي بإصدار مجموعات التشريع المدني والجنائي والتجاري والبحري، وتكوين نظام قضائي حديث. وتم تحقيق نقلة معمارية وديموغرافية واسعة. وفي غضون ذلك تبلورت الأرستقراطية المصرية كطبقة اجتماعية ذات توجه حداثي، و ظهرت بوادر مبكرة لنواة الطبقة الوسطى التي ستبلغ ذروتها بخصائص حداثية عند منتصف القرن العشرين.
إقرأ أيضًا: المشهد الثقافي المصري
بوجه عام، كانت الدولة هى المحرك الأول لعملية التحديث في مصر، وظلت تقوم بهذا الدور بعد ظهور “المحرك الثاني”، أعني تيار النخبة المثقفة، أو تيار “النهضة المصرية”، الذي تشكل كحركة فكرية واعية بذاتها، تحمل عبء التنظير والترويج للحداثة، وتدخل في معارك ثقافية مع رموز “النظام التراثي” الذي بدأ يستشعر الخطر ويبدى ردود فعل دفاعية
– 2 –
عند أوائل القرن العشرين، كانت ملامح التطور واضحة، وصار بالإمكان الحديث عن وجه حداثي مدني للمجتمع، مجاور للوجه التراثي التقليدي الذي تزحزح خطوتين إلى الوراء، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى حزمة واسعة من التراكمات الاقتصادية، والإدارية، والتعليمية، وإلى نتائجها “الثقافية” في الفكر والموسيقى والمسرح والسينما والعمارة، وعلى المستوى الاجتماعي المباشر، بما في ذلك المظهر الشخصي للأفراد، وطريقة ارتداء الملابس ، وأساليب الخطاب والتعامل اليومى. وفى وضعية المرأة التي خلعت حجاب الرأس وصارت تخرج إلى العمل وتخالط الرجال. وهي تحولات لافتة من جهة انتشارها على نطاق واسع بين جميع الطبقات، وبدون اللجوء من قبل الدولة إلى استخدام آليات ضغط إدارية أو قانونية حادة (مقارنة بالنموذج التركي الكمالي الذي اتخذ شكلاً صداميًا إلى حد ما). لقد أظهر المجتمع درجة من “السلاسة النسبية”، في هذه المرحلة وهو يستجيب للمثير الحداثي.
– 3 –
لكن المظهر الأهم للتحول الحداثي يظل متمثلاً في تبلور نموذج “الدولة المدنية”، بنظامها “القانوني” وتكوينها “الوطني”. ينطوى هذا التحول على قطيعة صريحة مع النظام التراثي من ناحيتين:
- تسكين فكرة “القانون”. أى التشريع “الوضعي” الذي يقبل التجدد وفقاً لتطور الواقع، مقابل سلطة “الفقه” التقليدي الثابت منذ عصر التدوين.
- تثبيت فكرة “المواطنة” . كأساس للحقوق والواجبات القانونية، مقابل الفكرة “الغائمة” للأممية الدينية كما يطرحها الفقه.
تقوم الدولة المدنية الحديثة على فكرتي القانون والمواطنة. القانون يعني علمانية التشريع، والمواطنة تعني علمانية الانتماء، الذي يعززه الإقرار بالتعددية والمساواة والحريات الفردية. ينفي الفقه وجود الآخر الديني أو يقلص من حقوقه، أما القانون فيقر بوجود الطرفين الديني وغير الديني وبحقوقهما المتساوية في إطار المواطنة، ويكفل حماية الفرد والأقلية من تغول الأغلبية .
يضفي القانون حمايته على خصائص الدولة المدنية بوصفه السلطة “الآمرة” الوحيدة داخل المجتمع. ومعنى ذلك أنه يحول هذه الخصائص إلى جزء من “النظام العام”، أي من منظومة القيم العليا “الأوْلى” بالحماية، حتى عند التعارض مع القيم العرفية ذات الأصل التراثي. وهذا من جوهر الدولة المدنية الحديثة (تاريخيًا، ولدت هذه الدولة من رحم الصدام مع النظام التراثي الديني بالذات. ولذلك فهي – بالدرجة الأولى – مقابل موضوعي نقيض للحكومة الدينية بما هى حكومة حصرية شمولية بالضرورة).
رسوخ القانون ضرورى لوجود “الدولة المدنية” لكنه لا يكفى لاكتمال “المجتمع المدني” حيث يلزم استيعاب قيم التعددية والحريات داخل الثقافة، أي تحولها إلى جزء من الوعى العام، وإلا سيبقى التوتر قائمًا بسبب التعارض بينها وبين القيم التراثية ذات المضمون الشمولي الحصري، التي ستطلب – بدورها – حماية القانون.
وهو ما يعني تزاحم لائحتين متناقضتين من القيم داخل دائرة “النظام العام” أو تزاحم “نظامين عامين” داخل دائرة القانون.
هذا التوتر القانوني، يمثل واحداً من مظاهر المأزق الراهن للدولة المدنية في مصر والمنطقة العربية، التي تعانى من تجاور الثقافتين التراثية والحداثية في بنيتها التشريعية. وهو يتفاقم في ظل تصاعد الضغوط الأصولية، التى صارت تسحب من رصيد الحداثة داخل الوعى العام، وأدت بالفعل إلى تراجع واضح في زخم الحالة المدنية، على مستوى المجتمع، وفى وعي الدولة بدورها التجديدي المعهود.
– 4 –
إلى أي مدى تتراجع هذه الحالة الآن قياسًا إلى لحظة المد الأعلى التي بلغتها عند منتصف القرن الماضى؟ هل يشير هذا التراجع إلى هزيمة العلمانية، ونكوص نهائي إلى النموذج التراثي كما يروج التيار الأصولي؟ أم يشير إلى مجرد انقطاع وقتي، أو تباطؤ نسبي في مسار التطور الضرورى كما يذهب التيار المدني؟ عندما بدأت الحالة المدنية تتشكل فى غضون القرن التاسع عشر، كانت الحداثة العلمانية التي ظهرت في الغرب، تتجاوز مجالها الجغرافي، وتطرح نفسها عبر العالم، كثقافة ذات طابع كوني وجاذبية طاغية.
وقبل منتصف القرن العشرين، كانت هذه الجاذبية قد وصلت إلى لحظة المد الأعلى، ونجحت فى اختراق جميع الأنساق الثقافية الكبرى بما في ذلك الأنساق الدينية المغلقة في الشرقين الأقصى والأوسط.
وفي هذه المرحلة ذاتها وصلت الحالة المدنية في مصر إلى أعلى معدلاتها على مستوى الدولة والمجتمع:
اكتمل الإطار الشكلي للدولة كملكية حديثة ذات دستور ليبرالي (1923)، و قانون جنائي ومدني (1937، 1948) على غرار التشريعات الفرنسية، واستقرت البنية التأسيسية مع إنشاء النظام القضائي في صيغته الحديثة، وتطور الجيش بملامحه المصرية الخالصة. عمليًا، كان استقرار الدولة يعنى تثبيت الفكرة العلمانية، و جرى الترويج لها على المستوى النظري عبر مفكرين “تنويريين” ينتمي بعضهم إلى الأزهر مثل علي عبد الرازق، الذي أصدر كتابه الجرئ “الإسلام وأصول الحكم” (1925) معلنًا أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، بل مجرد مسألة سياسية دنيوية، وتاريخيًا كانت “نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر فاسد”.
وفي هذا السياق كانت فكرة “الوطنية” المصرية، قد وصلت إلى ذروتها، وظهر شعار “الدين لله والوطن للجميع”، وانغمس الأقباط المسيحيون فى المشهد السياسي الثقافي كرافد طبيعي من روافد المجتمع. وفي التنظير للهوية الوطنية أمكن استدعاء العمق التاريخي لمصر الفرعونية، وانتماءاتها الثقافية المتوسطية من اليونانية القديمة إلى الأوروبية المعاصرة، مثلما شرح طه حسين في كتابه التأسيسي المهم “مستقبل الثقافة في مصر”.
– 5 –
مع بداية الخمسينيات والانتقال إلى الحقبة الناصرية، سيتحول الاتجاه السياسي والاجتماعي بشكل حاد، لكنه ظل يمضى على إيقاع “الحالة المدنية”: التوجه الشمولي الواضح لم يخفف من حمولة العلمانية، بل أسهم فى تثبيتها بصيغة مختلفة بفعل الحضور الطاغي للدولة، واستيعابه الإداري للطبقة الفقهية التراثية ممثلة في الأزهر. والتوجه القومي العربي لم يخفف من حمولة “الوطنية المصرية”. واجتماعيًا، أسهمت القرارات “الاشتراكية الزراعية”، والتطوير الصناعي “النسبي” فى توسيع قاعدة الطبقة الوسطى، التي حافظت على ملامح مدنية معتدلة، وتطلعت إلى الاندماج في الثقافة العالمية.
إقرأ أيضًا: العلم وأبعاده الحضارية والثقافية: دراسة في مفهوم العلم عند الفيزيائي المصري علي مصطفى مُشَرفة
عند انتهاء العهد الناصري، سيبدأ إيقاع الحالة المدنية في التباطؤ ثم التراجع تدريجيًا لصالح ثقافة التراث “السلفية”، فمنذ بداية السبعينيات من القرن الماضي ستتضافر حزمة من المتغيرات السياسية والاجتماعية على تعزيز التوجه الأصولى المتفاقم على مستوى المجتمع والدولة على السواء، وهي متغيرات محلية، وإقليمية، وعالمية.
– 6 –
الهدف هنا هو قراءة هذا التراجع لتقدير حجمه وفهم أسبابه. الفرضية الأساسية المطروحة للنقاش والتي تدافع عنها هذه المقالة هي: أن الحالة المدنية التي تشكلت في مصر والمنطقة على مدى القرنين الماضيين لم تكن ظاهرة سطحية مؤقتة كما يروج التيار الأصولي، بل تحولاً جوهريًا في بنية الثقافة. صحيح أنه لم يؤد إلى نفي كامل للمكون التراثي، لكنه استطاع أن يفرض نفسه كطرف مقابل له داخل هذه البنية. بإمكاننا الحديث عن نوع من الازدواجية الثقافية، وهي نتيجة مرحلية مفهومة “لجدل” التطور، بوصفه واحداً من قوانين الاجتماع الطبيعي.
التيار الشائع فى دراسات الاجتماع المعاصر، يقلل أصلاً من أهمية التحول الحداثي عمومًا، فهذا التحول لم ينتج في سياقاته المحلية أكثر من ثقافة نخبوية محدودة، لا تعكس التوجهات العامة للمجتمع، الذي ظل يحافظ على قاعدة تراثية خالصة. وفقًا لهذا التحليل، أبدى النظام التراثى فى مصر رد فعل قويًا على الحداثة من خلال إفرازه للحركة الأصولية، وظل يحافظ على مؤسساته التقليدية القائمة كالأزهر، وهو الآن يعيد تكريس نفسه كقوة سلفية واعية بذاتها، لقد بقى النظام التراثي حاضرًا كرافد أول لثقافة الجمهور، وحتى كخلفية مضمرة لثقافة النخبة المتعلمنة ذاتها.
يعبر هذا التيار عن التوجهات الراهنة للتفكير ما بعد الحداثي، المتأثر بفكرة تقلص جاذبية الحداثة، وتصاعد ظاهرة المد الأصولي عبر العالم:
في كتابه “نزع العلمانية عن العالم” (1999)، يناقش بيتر برجر ما يسميه بواقعة “التراجع العلماني” كظاهرة عالمية متكررة، ويشير بشكل خاص إلى تمثلاتها الإشكالية في السياق العربي الإسلامي. يذهب برجر إلى أن التصاعد الأصولي العالمي “يقدم أدلة على زيف فكرة الربط بين التحديث والعلمنة، أو هو يظهر على الأقل أن مكافحة العلمنة ظاهرة لا تقل أهمية عن العلمنة نفسها في عالمنا المعاصر.”.
يحسب برجر، لم تلعب الثقافة العلمانية دورًا واسعًا حول العالم، بوصفها ثقافة “أوربية محلية”، وأنها ظلت تمثل خارج نطاق الغرب الضيق، الاستثناء وليس القاعدة. ولذلك فهي ليست النموذج الحتمي الوحيد أو الضروري للتطور. ويؤكد برجر أن هذه الثقافة – باستثناء أوروبا – ظلت منحصرة في “شبكة فرعية دولية، مكونة من مجموعات تلقت تعليمًا غربيًا في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية”، وأن هذه الشبكة نفسها أعيد اختراقها من قبل التيارات الأصولية “فالصحوة الإسلامية مثلاً لم تكن محصورة فى الشرائح الاجتماعية “الأقل حداثة” أو”الأكثر تخلفًا”، كما يحب أن يعتقد المفكرون التقدميون، بل هي على العكس قوية للغاية في مدن تشهد قدرًا كبيرًا من التحديث. وفي عدد من البلدان نظر بشكل أوضح بين أفراد تلقوا تعليمًا غربي الأسلوب. في مصر وتركيا مثلاً يمكن أن تجد الحجاب في أسر علمانية، بالإضافة إلى مظاهر أخرى للحشمة الإسلامية”.
ينظر برجر إلى الأصولية الإسلامية بوصفها النموذج التراثي الأكثر تشددًا في رفض الحداثة. ومقارنة بينها وبين الأصولية الإنجيلية (البروتستانتية)، “تبدو الأخيرة حداثية بشكل إيجابي في معظم البلدان خاصة في أمريكا اللاتينية”. والسبب يرجع إلى طبيعة الإسلام كدين لا يتوافق مع الأفكار والمؤسسات الحداثية “مثل الديمقراطية، واقتصاد السوق، ودور المرأة في المجتمع، والحدود بين التسامح الديني والتسامح الأخلاقي”.
ومن الواضح أن برجر يفسر تراجع العلمانية (أو بالأحرى ضعف حضورها أصلاً في السياق الإسلامي) تفسيرًا دينيًا ثقافيًا “فالصحوة الإسلامية معروفة بتعقيداتها السياسية الواضحة والمباشرة، لكن من الخطأ اختزالها تفسيريًا كمجرد رد فعل لعوامل سياسية بحتة”.
لا أختلف مع برجر حول هذا التسبيب الأخير. فالأصولية الإسلامية، رغم أبعادها السياسية الراهنة، لا يمكن فهمها بمعزل عن مرجعيتها الموروثة من النصوص والفقه، فهى في الواقع إفراز ضروري لهذه المرجعية التاريخية ذات الطابع الحصري الجامد، (وينطبق ذلك أيضًا على جميع الأصوليات الدينية). لكنى اختلف مع مجمل الطرح الذي يقدمه حول علاقة الحداثة بالعلمنة، وبثقافة النخبة، خصوصًا فيما يتعلق بالمحيط العربي الإسلامي:
بحسب السياق التاريخي، تشكل “مفهوم” الحداثة في الغرب الأوروبي بعد عصر النهضة من خلال الصدام مع “النظام الديني” بالذات. ولذلك فهو يقوم على قاعدتين أساسيتين: العلم، والعلمانية. وهذا هو المعنى الضيق لمصطلح الحداثة؛ كان إقرار العلم يهدف إلى كسر احتكار اللاهوت/ الكنيسة لسلطة المعرفة خصوصًا في مجال الطبيعة، وكان قرار العلمانية يهدف إلى تجريد اللاهوت/ الكنيسة من سلطة التشريع والحكم السياسي، وهذا هو المعنى الضيق لمصطلح العلمانية.
إقرأ أيضًا: الحداثة العربية وأوهام التأصيل
بالمعنى الضيق للمصطلحين، لا يمكن فصل التحديث عن العلمنة، لأن العلمنة شرط التحديث. وهذا الفصل لم يحدث على أرض الواقع لا فى الغرب الجغرافي ولا في المناطق الجغرافية الواسعة التي اخترقتها الحداثة حول العالم.
يمكن الحديث بالطبع عن تراجع في زخم الاندفاع الحداثي، لكنه لم يشمل العلمانية بالمعنى الضيق الذي يشير إلى حضور “الدولة المدنية”. فقط شمل التراجع فكرة العلمانية بالمعنى الواسع الذي يتحفظ على الدين فى ذاته كعقيدة روحية ونمط كلي في السلوك والتوجه الأخلاقي، وهو المعنى الذي روج له الفكر “الأنواري” المبكر فى خضم صراعه مع اللاهوت وسلطة الكهنة.
صارت جاذبية الحداثة تتناقص بالفعل على امتداد القرن العشرين، مع ظهور التيارات ما بعد الحداثية، التي وجهت إليها سهام النقد، من جهة بنائها النظري الأخلاقي، وأدائها السياسي والاقتصادي المحبط بشقيها الرأسمالي والاشتراكي، وبدا هذا التناقص واضحًا في ظل “بقاء” الدين واستقراره شعبيًا وعلى المستوى المؤسسي، خلافًا للنبوءات التنويرية التي توقعت زواله مع تقدم العلم في المدى المنظور. وازدادت الصورة وضوحًا في ظل تصاعد الحركات الأصولية وتمددها الواسع في جميع الأنساق الدينية عبر العالم.
لكن، رغم تراجع جاذبية الحداثة بالمعنى الأنواري العام، لم تتراجع جاذبية نموذج “الدولة الوطنية” ببنائها المدني الدستوري الذي يستبعد اللاهوت من دائرة القانون. لقد تواصل حضور هذا النموذج كنمط وحيد للدولة الحديثة. ولا ينطبق ذلك فقط على السياق الغربي المسيحي، الذي يسمح تاريخه اللاهوتي بفصل الدين عن الدولة، بل أيضًا على السياق الإسلامي الذي درج فقهيًا وتاريخيًا على ربط الدولة بالدين.
– 8 –
في الحالة المصرية – كمثال رئيسي – تواصل حضور “الدولة الوطنية” بشكل راسخ منذ تشكلها في القرن التاسع عشر، وظلت تشمل المظهر الأهم للتحول الحداثي وتشتغل على تكريسه. وفيما نجحت في تحقيق تراكم مدني ملموس على المستوى الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، استطاعت التكيف مع ثقافة التراث التي ظلت حاضرة، فهي لم تقطع مع الدين كعقيدة فردية ونسق أخلاقي كلى، بل مع النظام الفقهي التقليدي ببنائه التكليفي الضيق.
بشكلٍ ما، ورغم خضوعها النسبي للضغوط الأصولية، لا تزال هذه الدولة قادرة على احتواء حركات الارتداد السلفوية التي تستهدف مدنية الدولة، وحتى عندما تسللت هذه الحركات إلى السلطة عن طريق استخدام القوة، أو بانتهاز حالة الترهل السياسي في المنطقة، لم تستطع إنهاء صيغة الدولة المدنية، ولجأت إلى مناورات تأجيلية أو حيل تأويلية للتوافق مع بنائها الدستوري.
فكرة الدولة المدنية بإطارها الوطني القانوني، تبدو الآن جزءًا من الثقافة “العامة” المحلية، مثلما هي في ثقافة الاجتماع السياسي المعاصرة حول العالم، وليس مجرد أطروحة نظرية لدى النخبة الفكرية المتعلمنة. صحيح أن هذه الدولة المدنية لم تستكمل بعد معايير الشروط الموضوعية التي تطلبها الحداثة السياسية، لكن ذلك يرجع جزئيًا إلى “الانقطاع” التاريخي الذي أحدثه حضور الحركة الأصولية، وأدى إلى تبطيئ عملية التراكم الحداثي.