تكوين
إنّ دواعي الشكّ في المدونة التراثية الشعرية والنثرية كثيرة، نظرا لتأخّر عصر التدوين عن عصر التأسيس لمدة تزيد عن القرن من الزمان، وهي مدّة كافية لتعمل الذاكرة عملها في الخبر بالتحوير والإعدام والاختلاق، ونظرا لخضوع الخبر إلى نوازع دينية وسياسية واجتماعية وثقافية. ولقد تناول عدد من الدارسين قضية الصحة التاريخية لعدد من الأخبار وانتهوا إلى التأكيد على أثر صناعة الخبر في المدونة التراثية عموما. ولئن كانت قضية انتحال الشعر الجاهلي قد أبانت عن إمكانية اختلاق بيت أو أبيات ونسبته/ ها إلى شاعر جاهليّ لأسباب شتى، وهو ما بيّنه دارسون كثر بدءا بابن سلام الجمحي وصولا إلى طه حسين (في الشعر الجاهلي)، مرورا بطائفة من المستشرقين أمثال مرجوليوث وغولدتسيهر[1]، فإنّنا نودّ في هذا المقال الوقوف على ضرب آخر من التصرّف في الموروث الشعري يؤكد خطأ المسلّمة التي صاغها الجرجاني القائلة إنّ “الدّين بمعزل عن الشعر”[2]، ويتمثل هذا التصرّف في التلاعب بهذا الموروث لتحقيق غاية أساسية رسمها القائمون على حياة الشعر العربي القديم تتمثل في جعل الشعر خادما لصرح العقائد الدينية. وقد تمّ لهم ذلك بطرائق عديدة نحصيها بعضها في ما يلي:
1- تغيير رواية الأشعار:
جاء في الخبر عن قصيدة كعب بن زهير يوبخ أخاه بجير بن زهير بسبب إسلامه، أنّ النبي أهدر دمه بسبب هذه القصيدة، وهو ما جعل كعبا يعتذر وينشد النبي قصيدته الشهيرة “بانت سعاد”. وينتظر قارئ قصيدة كعب التي جعلت النبي يهدر دمه أن يجد فيها معاني تسيء إلى النبيّ، لكننا نقرأ فيها قوله عن انقياد بجير إلى دعوة النبي (الطويل):
سقاكَ بها المأمونُ كأسًا رَوِيّةً فأنْهَلَك المأمون منــها وعــــــــــلّــــــــــكَا[3]
فممّا لا شك فيه أنّ كلمة “المأمون” الواردة في البيت السابق قد وضعت محلّ كلمة أخرى حتى يستقيم أمر غضب النبي من كعب وإهدار دمه[4].
ولئن كانت غاية هذا التغيير في هذا البيت تجنب نقل معنى مسيء إلى النبيّ، فإنّ في بعض الأمثلة الأخرى تجنبا لألفاظ تسيء إلى بعض صحابته ومثال ذلك قول أمية بن الأسكر في عمر بن الخطاب: سأستعدي على الفاروق ربّا[5]، بينما روى ابن سلام البيت كما يلي: سأستأوي“[6]. وقوله في طلحة والزبير:” أتاه مهاجران تكنّفاه ففارق شيخه خطئا وخابا” ، بينما نجد في رواية أخرى نسبة الخطإ والحوب (الظلم) إلى المهاجريْن أي إلى طلحة والزبير: وإنّ مهاجريْن تكنّفاه/ غداة إذٍ لقد خطئا وحابا [7] .
ومن ضروب التغيير ما تعلق بتجنّب نسبة استعمال قرآني إلى الشعراء الجاهليين، من ذلك قول امرئ القيس في الديوان: “حبلى ومرضع”، بينما روى سيبويه عن امرئ القيس قوله: “بكرا وثيّبا”[8] ، أو اللجوء إلى تثبيت حكم فقهيّ بتحريف بعض الكلمات، من ذلك ما جاء في في ديوان ابن مقبل: هل عاشق نال من دهماء حاجته في الجاهلية قبل الدين مرحوم، بينما نجد كلمة “مرحوم” في روايات أخرى محرفة إلى “مرجوم”[9]. ولما كانت دهماء هي زوجته بعد أن كانت زوجة أبيه، وقد قضى الإسلام بتفريقهما فطفق الشاعر يتحسر على فراقها، فإنّ اختيار لفظ “مرجوم” بدل لفظ “مرحوم” ليست غايته سوى التأكيد على حكم الرجم، وهو حكم فقهي اضطرب الفقهاء في إيجاد سند نصي له. ويمكن أن نعدّ بيت حسان بن ثابت بروايتيه: “أملح ماء زمزم أم شروب”/ “أمحض ماء زمزم أم مشوب”[10] غايته تجاوز القدح في جودة ماء زمزم، ففي الحال الأولى يشكك الشاعر في عذوبة ماء زمزم، بينما في الرواية الثانية يرتفع الشكّ ليحلّ محلّه معنى آخر يتعلق بآداب شرب الخمر مطلقا: مزج الخمر بالماء.
2- إعدام بعض الأشعار:
لقد صرّح القدماء بإعدام بعض الأشعار حينا وتغافلوا عن التّصريح بذلك أحيانا، فابن هشام مؤلّف السّيرة النبويّة قد صرّح بالحذف فقال عقب إيراد قصيدة أميّة بن أبي الصّلت الثقفي: “تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم”[11]. ويمكن أن نعدّ المقطوعات الشّعريّة المنسوبة إلى كعب بن الأشرف[12] وإلى أبي عفك[13] وإلى عصماء بنت مروان[14] من الشّعر الذي حذفت منه أبيات كثيرة. إنّ قصر هذه المقطوعات من جهة، والمصير الفاجع الذي لاقاه الشّعراء المعارضون للنبي بسبب شعرهم من جهة ثانية، يدفعنا إلى ترجيح حذف المقاطع المحرجة للمسلمين. ولعلّ اكتفاء ابن سلام في ذكر شعراء اليهود بمقاطع من شعرهم في الفخر دون الهجاء دليل على هذا الحذف[15]. وتنسحب هذه الملاحظة نفسها على شعر الشّعراء المكّيين المعارضين، فقصائد شعراء النّبيّ أطول من قصائد الشّعراء المكّيين المعارضين، والحال أنها من باب النّقائض[16]. ونحن نعثر في الشّعر المناصر للنبيّ على أثر هذا الحذف، دليلنا على ذلك مثلا قول كعب بن مالك في الردّ على ابن الزّبعرى: (المتقارب)
تبجّستَ تهجُو رسولَ المليــــــ ك قاتلك الله جِلْفًا لَعِينَا
تقول الخَنَا ثمّ ترْمِـــــــــــــــــــي به نقيَّ الثّياب تقيًّـا أمــــــينَا[17]
فهذان البيتان يؤكّدان أنّ ابن الزّبعرى قد بالغ في هجاء النبي حتى رماه بــ”الخنا”، بيْد أنّنا لا نعثر في ما أُثر عن ابن الزّبعرى من هجاء على هذه المعاني الهجائية.
وأما التّغييب الكلّيّ فيمكن أن نستدلّ عليه بقول ابن هشام:”ثمّ رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبّب بنساء المسلمين حتّى آذاهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:”من لي بابن الأشرف؟…”[18] لكنّه لم يذكر القصيدة في خبره. ولا يقتصر هذا الأمر على فترة الدعوة المحمدية، وإنما يتعداها إلى فترة رسوخ الإسلام، ومن الأمثلة على ذلك إسقاط هذين البيتين من ديوان ابي نواس لجرأتهما على القرآن:
وفتيةٍ في مجلسٍ وجوهُهم ريحانُهم قد عَدمُوا التنقيلاَ
ودانِية عليهم ظِلالُـــــــــــــــــــــها وذُلّلت قطوفُها تذْلــــــــــــــــيلا[19]
3 –التلاعب بالشرح اللغوي:
إن تدوين الشعر قد صاحبه عادة شرح ألفاظ الأبيات، وهو شرح لم يكن خاليا من المقاصد الدينية، ونمثل لذلك ببيت الأعشى: (المتقارب)
وقابلها الريح في دنّها وصلّى على دنّها وارتسم[20]
فالارتسام: التكبير والتعوّذ حسب ابن منظور، لكن أبا حنيفة الدينوري (لغوي ت282 هــ ) شرح اللفظ على معنى “أغلقها بإحكام” أي ختمها بالروسم ، رغم أن الشاعر يذكر الختم/ الإغلاق في البيت السابق على هذا البيت. وهكذا تنتقل دلالة البيت من الإشارة إلى ممارسة تعبدية طقسية مسيحية إلى مجرد الدلالة على ممارسة خمرية خالية من الأبعاد الدينية. ومن الأمثلة الأخرى على ما نذهب إليه قول خفاف بن ندبة: (الوافر)
حلفتُ بربّ مكّة والمصلّى وأشياخ محلّقة تهود[21]
فرغم دلالة اللفظ الأخير في البيت على معنى التهوّد، فإنّ محقق الديوان قد حمل اللفظ على معنى التوبة، فقال: “تهود: تتوب”. وبالتالي، فإنّ عملية الشرح في حالات كثيرة قد نابت عملية تغيير رواية الأشعار، وذلك في سبيل الخلوص إلى معنى لا يحرج الضمير الديني الإسلامي.
4 – في التلاعب بسِيَر الشعراء:
نودّ أن نتوقف في رواية سير الشعراء على ملمحيْن أساسيين هما:
أولهما التلاعب بتاريخ الوفاة، ذلك أن الناظر في تأريخ القدماء للشعراء المخضرمين يلاحظ إطالة متعمّدة في سنيّ حياتهم، فهذا لبيد بن ربيعة قد عاش حسب رواياتهم 120 سنة !، ستين في الجاهلية ومثلها في الإسلام، وهو أمر لا يمكن فهمه إلا بالنظر في شعر لبيد بن ربيعة. إنّ احتواء شعر هذا الشاعر على مبادئ الحنيفية، وعلى شعور ديني عميق وتوحيد صارم وإيمان بالبعث، قد دفع القدماء إلى إطالة عمره ليكون شعره ذاك من باب التأثر بالعقائد الإسلامية. ورغم ورود خبر يؤكد على أنه قد استنكف عن قول الشعر في عهد عمر بن الخطاب، واستبدله بسورة البقرة، فإنّ المدة بين إسلامه في حياة النبي، وبين اعتزاله الشعر في خلافة عمر، تسمح باحتواء القصائد ذات الطابع التوحيدي الصرف. ولا يقل الشاعر المخضرم حميد بن ثور عن لبيد تعميرا، فهو في روايات القدماء قد نال إعجاب النبي حين قال في إحدى قصائده: “وحسبك داء أن تصح وتسلما”، وهذا يعني أنه معاصر للنبيّ، وهو في الآن نفسه قد عاش إلى ما بعد سنة 70 ه! وهذا يعني أنه عاش نحو 100 سنة على الأقل. ويبدو أن هذه الإطالة في عمر حميد بن ثور غايتها التأكيد على أنه هو من أخذ قول النبي: “كفى بالسلامة داء” وجعله شعرا[22].
إقرأ أيضاً: فيض الألم في حياة الفلاسفة والشعراء
وثانيهما التأكيد على إسلام جلّ هؤلاء المخضرمين، وهو إسلام أجمله القدماء في القول عن كل شاعر منهم “أسلم وحسن إسلامه”، بينما نجد في مدوّنات هؤلاء الشعراء روحا مناقضة للقيم الإسلامية الجديدة. وتبدو لنا الأخبار عن الشاعر أبي خراش الهذلي نموذجية في هذا الباب، فهي أخبار غايتها وضع قصائده المتمردة على القيم الإسلامية في فترة ما قبل إسلامه، واختلاق قصص توبة هؤلاء ونسكهم واعتذارهم، وحتى موتهم في سبيل الإسلام: لقد صوّرت الأخبار موت أبي خراش الهذلي كما يلي: نهشته أفعى حين كان يجلب الماء لحجاج يمنيين مروا به، وقد قال في ذلك شعرا، وقد أمر الخليفةُ عمر بن الخطاب أولئك الحجيج بدفع ديته[23]، والحال أن أبا خراش ذكر الأفعى في سياق فكرة جاهلية قوامها أنّ تربص الموت بالإنسان تربّص الحيّة يدفع الفتى إلى الإقبال على اللذة (الخمر والمرأة) وعلى الحرب.
إنّ ما تقدّم يكشف عن ضرورة الحذر في التعامل مع المصادر الإسلامية الناقلة للشعر العربي القديم ولأخبار الشعراء، وعن تحكّم قيد العقيدة في ذلك النقل. وهو أمر لم يخضع له جل الرواة الأقدمين فحسب، بل شارك فيه عدد من محققي كتب التراث وشراحها وحتى ناشريها. ومع ذلك، فإن بعض الروايات المخالفة قد ظلت حية رغم عين الرقابة. ولئن كان اختلاق الأشعار رغم قيود الوزن والقافية قد تسرّب إلى هذه المدونة التراثية، فما بالك باختلاق الأخبار وهي الخالية من قيود الوزن والقافية؟
المراجع:
[1] – راجع: عبد الرحمان بدوي: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط1 ، 1979
[2] – الجرجاني(علي بن عبد العزيز): الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ، مطبعة عيسى بابي الحلبي، القاهرة 1966، ص64
[3]– راجع مثلا ابن هشام (عبد الملك): السّيرة النّبويّة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000 ، ج4 ص86، كذلك الأصفهاني(أبو الفرج): الأغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4 ، 2002، ح17 ص91-92. والطّريف أن أبا سعيد السكّري أهمل هذه الأبيات في ديوان كعب، وكذلك فعل المحقّق، انظر: كعب بن زهير: الدّيوان، صنعة أبي سعيد السكري، شرح ودراسة مفيد قميحة، دار الشواف للطباعة والنشر، الرياض، ط1 ، 1989
[4] – أضاف ابن هشام في سيرته ما يلي: “ويروى “المأمور”
[5] – شعر أمية بن الأسكر: جمع عبد الله بن سليمان الجربوع، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ع5 ، محرم 1412 هـ، ص ص 287-339 ، والقصيدة ص321 .
[6] – ابن سلام الجمحي(محمّد): طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 2001، ص78
[7] – قارن ديوان امية بن الأسكر ص 311 بما جاء ضمن أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن ، مكتبة الخانجي، ط1 ، 1954 ، ج1 ، ص113.
[8] – سيبويه، الكتاب، ج2 ، ص163
[9] – قارن بين ديوان ابن مقبل: تحقيق الدكتور عزة حسن، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1962، ص267 وعبد الله بن أحمد الفيفي شعر ابن مقبل: قلق الخضرمة بين الجاهلي والإسلامي: دراسة تحليليّة نقديّة، ،الرياض 1420 هــ، ج1 ، ص204-205
[10] – حسّان بن ثابت: الدّيوان، تحقيق وليد عرفات، ج1، ص 173-174
[11]– ابن هشام: السّيرة النّبويّة، ج3 ، ص17
[12]– نفسه، ج3 ص28-29. وقد احتوت المقطوعة الأولى على أحد عشر بيتا، واحتوت المقطوعة الثانية على ستة أبيات
[13]– نفسه، ج4 ص169. وقد احتوت المقطوعة الوحيدة على خمسة أبيات
[14]– نفسه، ج4 ص169-170. وقد احتوت المقطوعة الوحيدة على أربعة أبيات
[15]– ابن سلام: طبقات فحول الشّعراء، ص ص 106-110. وقد ذكر من شعراء اليهود السموأل والربيع بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وشريح بن عمران وشعبة بن غريض وأبا قيس بن رفاعة وأبا الذيّال ودرهم بن زيد.
[16]– قارن مثلا بين أشعار شعراء المسلمين وأشعار شعراء قريش إثر معركة بدر، ضمن ابن هشام: السّيرة النبوية، ج3 ص ص 6-22
[17]– كعب بن مالك: الدّيوان، ص277
[18]– ابن هشام: السّيرة النّبويّة، ج3 ص29
[19] – الباقلاني(أبو بكر، تـ403 هـ):إعجاز القرآن، تحق أحمد صقر ، دار المعارف، مصر1954، ص52، والبيت الثاني هو تمام الآية” ودانية عليهم ظلالــها وذللت قطوفها تذلــــيلا” (الإنسان76/14). كذلك: الأصفهاني(أبو الفرج): الأغاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4 ، 2002 ، ج25 ص262 ، وهذا الجزء الخاص بأخبار أبي نواس مضاف إلى كتاب الأغاني ومأخوذ عن ابن منظور. ونلاحظ أنّ هذين البيتين قد أسقطا من الديوان ومن الاستدراك على الديوان المنشور باسم: النصوص المحرمة.
[20] – الأعشى الكبير (ميمون بن قيس): الدّيوان، شرح وتعليق محمّد حسين، مكتبة الآداب، مصر1950، ص35
[21] – شعر خفاف بن ندبة، حققه نوري حمودي القيسي ، مطبعة المعرف، بغداد ، 1967، ص62
[22] – ديوان حميد بن ثور، جمعه وحققه محمد شفيق البيطار، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث، الإمارات العربية المتحدة، ط1 ، 2010 وانظر كذلك: ديوان النمر بن تولب العكلي: جمع وشرح وتحقيق محمد نبيل طريفي دار صادر، بيروت، ط1 ، 2000 ، ص ص 141-142
[23] – الأصفهاني (أبو الفرج): الأغاني، ج21 ، ص233-234