تكوين
تطرح العلاقة بين الأسطورة والدين أسئلة كثيرة. وكانت الأسطورة والدين حيناً من الدهر شيئاً واحداً تقريباً. وكل منها قام مقام الآخر أو شكل مُدْخَلاً ومُخْرَجاً له في الآن نفسه. وشهدت الأديان تطورات كثيرة، لكنها لم تقطع مع الظواهر الأسطورية والميثية، بل ان ثمة “علاقة تأسيسة” و”تبادلية”، كانت في الماضي، ولا تزال قائمة!
وتَرِد الأسطورةُ هنا بالمعنى الرمزي والقيمي، وليس بمعنى الوهم أو الخرافة، وهذا ما يجب التأكيد عليه. علماً أن الحمولة السلبية للتعبير (الأسطورة) لا تزال تحكم جانباً كبيراً من استعمالاته وتلقيه في الفضاء العربي والإسلامي، ولو أن الأمر في تراجع أو من المؤمل أن يكون كذلك. كما ان دراسة الجانب الأسطوري/الميثي من السرديات الدينية يساعد في فهم أكبر وأعمق للظاهرة الدينية والظاهرة البشرية عامة، و”يحرر” الدين والسرديات الدينية من استخدامها في رهانات الهيمنة والسلطة من قبل فواعل الدين والسياسة معاً، وهذا يعزز الجانب القدسي والروحي من الدين، ولا يقلل منه.
في الأسطورة
الأسطورة، وهذا مجرد تحديد أولي، هي حكاية أو قصة تتضمن إجابة أو إخباراً بشأن سؤال أو حدث غير اعتيادي يواجه الإنسان أمام نفسه وعالمه، في شروط مختلفة من حيث الأفعال والفواعل، ومن حيث الزمان والمكان. وثمة مقاربات كثيرة لمعنى الأسطورة، تذهب مذاهب شتى في تحديد المعنى والرؤية. وتشغل موقعاً مهماً في قطاعات معرفية وفكرية وعلمية متزايدة حول العالم، وخاصة في علوم الانثروبولوجيا والاجتماع والدراسات التاريخية والدينية.
والأسطورة هي، أيضاً، اللغة السردية والحكاية عن أمور حدثت في زمن مقدس لا يشبه الزمن الذي نعرفه، أو أمور سوف تحدث في زمن مقدس لاحق، لا نعرفه أيضاً، مثل: يوم القيامة والحساب، والجنة والنار. والدين أو المقدس هو الجوهر الرمزي والمعنى الروحي لتلك السردية أو الحكاية. والدين والأسطورة -بهذا المعنى- هما وجهان لأمر واحد تقريباً، والمضمون الديني عادة ما يعطي الأسطورة أو السردية الميثية نوعاً من الثبات والديمومة من حيث قدرتها على الاستمرار، ويهيء لها من يتمسك بها ويحرسها ويدافع عنها. وتشكل الأسطورة والدين معاً نسيجاً ثقافياً يساعد الإنسان على فهم معناه والغموض المحيط به وبالعالم من حوله، وخاصة مآله فيما بعد الموت.
إقرأ أيضًا: الدلالات الرمزية لبيئة الصحراء وأثرها على فضاء المتخيل الديني
ويأتي في باب الأسطورة، بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه: أسطورة الخلق البابلية (ملحمة جلجامش). وقصة الخلق في سفر التكوين -التوراة. وقصة خلق آدم في القرآن (سورة الحجر 26). والمعجزات مثل: ولادة يسوع/المسيح (الانجيل، متى-1)، و(القرآن، سورة آل عمران-1، وسورة مريم-19). وقصة النبي يونس في بطن الحوت (القرآن، الصافات، 139-148، القرآن). وعصا موسى (سورة الشعراء-45). وقيامة يسوع/المسيح (الانجيل- متى – 28، ومواضع مختلفة). وتتضمن معطيات وموضوعات ونظماً للمعنى، تتجاوز القدرة على الفهم والتلقي وفق المعايير الاعتيادية، ولها رمزية ومركزية في الوعي (واللا وعي) الجمعي والفردي.
“المَكْر المؤسس” و”الغيب”
غالباً ما تساعد الأسطورة في بناء الدين، ثم إنه (الدين) بعد أن يكون بمعناه وقوته، يسبغ على الأسطورة منهما (المعنى والقوة)، ويطلب من المؤمنين به التسليم بها، إيمانياً وروحياً وليس عقلياً (بالمعنى الذي يعرفه العلم اليوم) بالضرورة. وفي ذلك نوع من “المكر” العميق والمؤسس أيضاً. يطلب الدين إدراج الأسطورة التأسيسة في بنيانه، وتأجيل التفكير فيها مؤقتاً، ثم إنه يدرجها في إطار التسليم بالمعنى الإيماني والروحي، إذ ثمة في الدين والأسطورة ما لا يقبل التفسير بحدود مجرد العقل، “كما عرفه” العالم أو بالأحرى كما كان يعرفه!
ان حوادث التأسيس ونشوء العقائد التي تتطلب تسليماً إيمانياً، كما تتكرر الإشارة، هي من جنس الأسطورة، ولا يُنظر إليها بوصفها أمور “أسطورية” أو “ميثية”، بل بوصفها أمور حدثت في الواقع أو التاريخ، حتى مع عدم وجود دلائل إثبات وتحقق مباشرة عليها، ذلك ان ما هو غير قابل للتفسير (بالعقل، مرة أخرى، كما كنا نعرفه) هو نتيجة “فعل إلهي”، وهو رسالة يجب تلقيها وقبولها والتسليم بها، بوصفها كذلك.
وتنشأ الأسطورة والدين في حيز واحد أو متشابه، ويغرفان من معين واحد تقريباً وهو “الغيب” أو “المجهول”، ويقومان أكثر على حاجة الإنسان لـ”المعنى” و”الإيمان”. ويقدمان إجابات على أسئلة هي خارج نطاق التفكير العلمي (أيضاً، كما نعرفه). ويفسران أحداثاً ووقائع حقيقية أو مفترضة تنطوي على معان وتأثيرات تتجاوزها ذاتها، وتسبغ معناها على السردية الدينية ككل. وهي علاقة مضارعة وذات راهنية كبيرة لدى جماعة المؤمنين، ولها دور في تصور الجماعات للمستقبل.
أنساق رمزية
وطالما أن الحديث هو عن الأسطورة والدين، فإن “الأسطورة التأسيسية” تتعلق بنشوء دين وليس مجرد حدث أو نقطة ابتداء. وعادة ما تكون الأسطورة من هذا النوع، جزء من أحداث مشابهة أو “أساطير متضافرة” تتجاوز فيها الأسطورة حدثاً بعينه إلى زمن نشوء أو تكوين وانطلاق الدين، شبكة من الأحداث والحكايات والمعاني التي تسبع عليها قوة إلهية ورمزية تتجاوز المكان والزمان والأفراد والوقائع.
و”الأساطير التأسيسة” هي “انساق رمزية” تحكم المعنى واتجاهاته لدى الأفراد والجماعة المؤمنة. وتخلق رؤية أو “حس مشترك” يعزز “الوعي بالذات والآخر”. وتمنح الهوية والشرعية للجماعة الدينية، عبر تقديم قصة مشتركة حول النشأة والتكوين. وتشكل جزء مهماً من وعي الجماعة الدينية بتاريخها، وما كان منها من أحوال وتطورات، وذاكرة جمعية، ووضع الجماعة الراهن، وخاصة في تجاذباتها، وتجلياتها الاجتماعية والسياسية، ومنافساتها ورهاناتها، وتطلعها إلى المستقبل، وبالطبع قدرتها على التلقي والاستجابة، بوصفها جماعة دينية، بما في ذلك مواجهة التحديات (الأزمات والصراعات).
حدث مؤسس
تحيل “الأسطورة التأسيسة” إلى “حدث مؤسس”، سواء تعلق الأمر بدين أو جماعة أو قبيلة أو دولة أو لغة الخ ولا يتطلب ذلك أن يكون الحدث واقعياًُ بالتمام أو مدركاً بمعايير العقل والواقع. وفيما يتعلق بالدين، فثمة “أساطير مؤسسة” كثيرة مثل: الخلق والتكوين، وآدم وحواء، وهابيل وقابيل، وطوفان نوح، وعصا موسى، والسبي البابلي، وقيامة المسيح بعد الصلب، وغيرها كثير. وهكذا، فإن “الأساطير التأسيسة”، بما هي تصورات ميثية ونظم للمعنى، تروي حكاية “الحدث المؤسس”، سواء أكان رمزياً مثل: نزول الوحي على النبي محمد في “غار حراء”. (سورة العلق، 1-5). ورؤيا يوسف النبي التي رواها إلى أبيه النبي يعقوبن في الإسلام (سورة يوسف). و”قيامة السيد المسيح” بعد الصلب، (الانجيل، متى 28: 1-10، ومرقس 16: 1-8، ولوقا 24: 1-12، وغيرها). و”استنارة بوذا” (تحت شجرة البودي) في البوذية. ويتم تلقي ذلك على أساس القبول والتسليم. أو حدثاً مثل: هجرة النبي محمد إلى “يثرب”. (المدينة المنورة).
الرمزي، الرسالي، الروحاني
الأسطورة هي نسق رمزي بطولي (موسى في اليهودية، زرادشت في الزرادشتية). وتضحية وفداء (يسوع في المسيحية). و”التضحية العظمى” المتمثلة بجسد الإله “بوروشا” الذي يضحي من أجل خلق العالم، ومن جسده تتشكل العناصر الكونية والطبقات الاجتماعية (الفارنا)، في الهندوسية. والأسطورة حدث استثنائي وجزء من دينامية نشوء الدين والرسالة. وعادة ما تتداخل الأساطير والسرديات والنصوص والحكايات لا في نسق تفكير منطقي: مقدمات ونتائج، سابق ولاحق، وإنما في “تشكيل متراكب”، كما سبقت الإشارة، كما لو أن الأمور “يفسر” أو”يبرر” بعضها بعضاً.
إقرأ أيضًا: قضية الدلالة و السياق في التعامل مع الحديث النبوي
والأسطورة هي حدث غير ذاتي أو غير شخصي، بل روحاني. إذ لا تتضمن الأسطورة أي دافع ذاتي للأفراد (مثل الأنبياء والرسل) بل هم يطيعون ما يأمرهم الله به، وقد يجدوا أنفسهم في حالة تلقِّ للوحي أو الأمر الإلهي أو ما شابه، من دون توقع أو تقديير منهم، ويُكَلَّفون بالمهمة من دون استشارتهم. نزل جبريل على النبي محمد، من دون توقع أو انتظار منه، وكان ذلك حدثاً صادماً أو غير عادي بالنسبة له (النبي)، على ما يرد في السرديات والتقديرات الإسلامية الكلاسيكية. (سورة العلق، 1-5).
الوعد الإلهي
تتحدث السرديات الأسطورية/الميثية والدينية عن ان الله أو الغيب لا يترك الرسول أو الفاعل لوحده أو مصيره، بل يؤيده، ويَعِدُهُ بالانتصار وإتمام الرسالة وإكمال الدين. وقد يؤيده بجند من عنده، كما حدث مثلاً في معركة بدر في بدايات الحدث الإسلامي. (سورة آل عمران، 123-124). وهكذا انتهى الصراع بين النبي محمد وقريش بانتصار الرسالة والتنزيل. (سورة إبراهيم 13)، والذي تطور إلى مشروع سياسي وإقامة دولة الإسلام الأولى. ومثل ذلك صراع يسوع مع الفريسيين في المسيحية، (الانجيل، متّى 12: 31-32 ). وصراع زرادشت مع قومه وعشيرته من جهة، ومع الكهنة من جهة أخرى، في الزرادشتية. (فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، الجزء 5).
وإذا كان الوعد الإلهي للانبياء حتمياً وناجزاً، لكن من غير الواضح كيف يمكن تدبير ذلك لدى جماعة المؤمنين، هل ينسحب الوعد الإلهي للأنبياء على جماعة المؤمنين بالتمام، أم أنه مشروط في الحياة الدنيا، بأن يغير المؤمنون “ما بأنفسهم”؟ وفق الآية “ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. (القرآن، سورة الرعد، 11). ولو ان بعض السرديات والتأويلات الدينية يؤكد أن الوعد الذي قطعه الله للأنبياء ينسحب على جماعة المؤمنين، إنما في “الآخرة” أو في “نهاية التاريخ”.
وهكذا، كما كان الوعد في البداية، فثمة الوعد في نهاية التاريخ أو قبل ذلك، إنما في وقت غير محدد، مثل وعد الرب للنبي إبراهيم ومقولة “أرض الميعاد” في اليهودية (التوراة، هوشع 3:9، تثنية 12:11، زكريا 12:2). ومثل ذلك في الإسلام، إذ ان الله وعد المؤمنين بـ”وراثة الأرض”. (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰالِحُونَ). (القرآن، سورة الانبياء، 105). ولو أن الوعد لم يتضمن أجلاً أو موعداً زمنياً، كما تتكرر الإشارة.
وثمة في المسيحية، “عودة المسيح” المخلص أو “الظهور الثاني للمسيح”. ومثل ذلك في اليهودية. (التوراة، التكوين، 10:49، ومواضع أخرى). و”ظهور المهدي” في السرديات الإسلامية، على اختلاف الصيغ والتسميات لدى مختلف المذاهب والطرق الصوفية في الإسلام.
لا تقتصر الأساطير على إحالات إلى وقائع أو أحداث غير اعتيادية أو فوق بشرية، بل تتعدى ذلك إلى “وقائع واقعية”، لكن يتم النظر إليها بوصفها “وقائع رمزية كبرى”، مثل: هجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة. الحدث ممكن واعتيادي وفق الاعتبارات البشرية، لكنه أخذ مقاماً أسطورياً أو ميثياً أي فائق المعنى والرمزية بالنسبة لنشوء الإسلام، وتحول أو توسع الدين والرسالة من دعوة إيمانية وروحية إلى مشروع اجتماعي واقتصادي وسياسي وإقامة دولة.
في الختام
الأسطورة هي “لغة المقدس”، بتعبير مرسيا إلياد، (إلياد، مظاهر الأسطورة، 2024). و”أداة لنتظيم التجربة الإنسانية”، بتعبير جوناثان سميث. (سميث، نحو نظرية في الطقوس، 1987). وقد لا تكون العلائق التأسيسية للظاهرة الدينية، قصدية أو موعى بها بالتمام، إلا أن الوعي بها لا يغير كثيراً من طبيعة التشابك فيها، وإن حدث، فقد يعزز حاجة الدين للأسطورة، بما هي نظام للرموز والمعاني والقيم، والعكس، أي أنه يعزز حاجة الأسطورة للدين، بما هو نظام للعقائد الروحية والإيمانية، الذي يقوم في جانب رئيس منه على القبول التسليم.
صحيح أن الأديان مثلت ثورة في علاقة الإنسان بالغيب والماورائيات، وأسئلة الوجود الكبرى، وأسئلة ما بعد الموت، إلا أنها لم تقطع مع الأسطورة، بما هي نظام للرمز والمعنى، لا غنى للدين عنه، بل “تعيد إنتاجها” في عالم اليوم، بكل التدفقات والتحولات التي تحدث فيه، بكيفية أكثر اندفاعاً وقوة، ما يجعل الدين والأسطورة جزءا من ديناميات الصراع على المعنى والقوة في العالم اليوم. (يُنظر مثلاً: سلافوي جيجيك، الموضوع السامي للإيديولوجية، 1989).
تُظهر العلاقة بين الدين والأسطورة، حجم التعقيد والتركيب في الظاهرة البشرية، وخاصة في علافتها بالغيب. ومكنت تلك العلاقة الإنسان من ترتيب نظام للمعنى يساعده في “تدبير” عدد من الأسئلة والقضايا الوجودية الكبرى، ولو ان ذلك أغرقه -بالمقابل- في كم هائل من السرديات المتناقضة والمتعارضة، على ما يظهر من الأسس الثقافية والدينية والقيمية للصراعات في العالم.
ثمة ما لا يمكن تجاوزه بين الدين والأسطورة، والصحيح أنهما، بهذا المعنى، كما لو أنهما تكوين واحد تقريباً.