هل يُمثل التليفزيون تهديدًا للديموقراطية؟

 تكوين

إن أكثر التوصيفات دلالة على العصر الذي نعيشه الآن هو عصر الأزمات الأخلاقية الكبرى. فهناك أزمات أوشكت أن تُنهي على العالم مثل: سباق التسلح وحيازة الأسلحة النووية، وهناك أزمات تُهدد حياة الإنسان واستقراره على كوكب الأرض بسبب الاستغلال السيئ للبيئة، وهناك أيضًا أزمات تُمثل خطرًا على السلوك العام والخاص بسبب التليفزيون.

فقد أثير في الآونة الأخيرة جدلًا كبيرًا بشأن تأثير التليفزيون في نواحِ الحياة المختلفة بعامة وفي النواحي السياسية والاجتماعية بخاصة. وقد أثار هذا الموضوع إلى حد كبير اهتمام عديدٍ من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، فهناك على سبيل المثال: كارل بوبر، بيير بورديو، هابرماس، جيل ديلوز وغيرهم كثيرين ممن ألقوا الضوء أخيرًا على ذلك النقاش. وسوف تتناول مداخلتي رأى كارل بوبر تحديدًا في هذا الموضوع.

الأثر السلبي للتليفزيون

إذ تؤدي وسائل الأعلام دورًا كبيرًا، كما يرى بوبر وبحق، في تزييف وعي الناخبين مما يُعرض العملية الانتخابية في المجتمعات الديموقراطية إلى انحيازات معينة. ويشير بوبر إلى الأثر السلبي للتليفزيون مؤكدًا أن الطريقة الحالية للدعاية إلى الانتخابات تُمثل إهانة للمرشحين candidates والمنتخبين electors سواءً، لأنها تُقدم المرشحين بوصفهم سلعًا تجارية يجب اقتنائها بسرعة. ويعترض بوبر على ذلك ساخرًا فيقول:

“إن الدعاية من هذا النوع ربما تكون مفيدة في حالة بيع الصابون، ولا يجب استخدامها في موضوعات ذات تبعات مهمة، لذلك يُمثل التليفزيون تهديدًا للديموقراطية”(1).

هذا الجانب التجاري الذي أصبح يطغى على الممارسة السياسية بسبب التليفزيون هو ما أشار إليه أيضًا الباحث الأمريكي دوجلاس كلنر Douglas Kellner إذ يقول: ” لقد أصبح الساسة في عصر التليفزيون مثل السلع التجارية التي تُباع إلى الناخبين، كما أصبح الناخبون بدورهم مثل السلع التي يحاول الساسة شراءها من طريق إعلانات التليفزيون أو من طريق برامج الأخبار التي تَحثُّ المشاهد على التصويت له في عملية الاقتراع(2).

إقرأ أيضًا: النقد الفلسفي للتكنولوجيا جاك إلول نموذجا: الجزء الأول

بالرقابة الخفية

ولا يقف أثر التليفزيون عند هذا الحد، بل يمضي إلى أبعد من ذلك إذ يكشف بورديو عما يُسمى بالرقابة الخفية، وهي التي تُمارس على المدعوين ومقدمي البرامج أنفسهم لخوفهم على مواقعهم من جهة وتحكم الشركات والمعلنين من جهة أخرى. وهو ما يُسمى “المحددات الاقتصادية “، مما يجعلهم المدعوين ومقدمي البرامج خاضعين للتلاعب والتأثير، وهو ما يمارسونه بأنفسهم أيضًا في كثير من الأحيان في الآخرين. وهذا يؤدى غالبًا إلى العنف الرمزي الذي يُمارس بتواطؤ ضمني على مشاهدي التليفزيون. كذلك هناك عملية حجب للمعلومات، ويتفنن الإعلاميون في هذا عندما يضخمون أو يقللون من شأن الحدث، حينما يمارسون في هذا عملية اختيار ثم عملية تركيب لما اختير، أو عندما يُغلبون اختياراتهم النسبية، وهو ما يعقبه مخاطر سياسية(1).

كما أكد بيير بورديو أن التليفزيون أصبح يُمثل خطرًا على الحياة السياسية والديموقراطية، ويستشهد على ذلك بالنزاع الذي حدث بين تركيا واليونان على جزيرة إيميا Imia وهو النزاع الذي تعاظمت حدته بسبب الدعاية الإعلانية ليصبح تجنب اندلاع الحرب في هذا النزاع شيئًا صعبًا(2).

لكن التصور الذي يرى أن التليفزيون خطرًا على الديموقراطية ليس محل إجماع، إذ نجد في الجانب الأخر بعض المفكرين الذين يرون أن التليفزيون يلعب دورًا مهمًا في عملية الانتخابات، فيُمكن بعض الناخبين من تغيير موقفهم الانتخابي وهو ما يُمثل في بعض الأحيان شيئًا مهمًا وضروريًا. وقد أبرز روبرت جلبرت  Robert E Gilbert وهو متخصص في دراسة الإعلام الأمريكي، أهمية التليفزيون في مساعدة الناخبين لمعرفة الحقائق عن طريق السماع للرأي والرأي الأخر، فالتليفزيون في نظره وسيلة فاعلة للتعرف على الآخر، وهو ما عبر عنه عندما قال:

“لا يجب أن نترك بعض الناخبين عُرضة للحملات الانتخابية التي تُعرض لهم من جانب واحد دون السماع لأي مناقشات مضادة من الجانب الأخر. ويلعب التليفزيون دورًا مهمًا في توضيح تلك الصورة”(3).

سلبيات التلفاز على الأطفال

وهكذا نجد تباينًا شديدًا في الآراء بخصوص التليفزيون وأثره في الديموقراطية، لكن الدور الأخطر للتليفزيون في نظر بوبر، ليس هو الدور السياسي، بل الاجتماعي. إذ يؤكد بوبر أثاره السلبية في الحياة الاجتماعية. فالتليفزيون من وجهة نظر بوبر غير قادر على تعليم الأطفال ما هو ضروري لتعليمهم، وهو بنظامه الحالي لا يستطيع أن يلعب هذا الدور، لأنه من الصعب إيجاد أشخاص قادرين على إنتاج برامج ذات قيمة ثقافية في عشرين ساعة متصلة يوميًا، في حين سيكون من السهل إيجاد أشخاص قادرين على إنتاج برامج تافهة وسيئة. بالإضافة إلى هذا يرى بوبر أن عدد القنوات أصبح ضخمًا بحد كبير وكلها تدخل في منافسة لشد المشاهدين ليس لأغراض تعليمية، فلا تتبارى تلك القنوات بالتأكيد في إنتاج برامج ذات قيمة عالية أو تقديم شيءٍ أخلاقي(4).

إن المنطق الكامن خلف تلك النوعية من العروض هو اقتصاد السوق، إذ يُبرر مديرو القنوات وجود تلك النوعية التافهة من البرامج مستخدمين تعبير: نحن نقدم إلى الناس ما ينتظرونه، أو بتعبيرنا العامي “الجمهور عايز كدة“.

إقرأ أيضًا: مظاهر القمع الحضاري المعاصر عند ماركيوز: الجزء الأول

لكن يعترض بوبر على ما صرح به مدير إحدى القنوات التليفزيونية بأنه يُقدم إلى الناس ما ينتظرونه، لأنه بوبر يرى أن مدير القناة نفسه لا يعرف ماذا سيختار المشاهدون إذًا عُرضت عليهم اقتراحات أخرى غير التي تقترحها القنوات التليفزيونية. وما يحاول بوبر أن يكشف زيفه هو موقف مدير القناة الذي بدى مُتماشيًا مع مبادئ الديموقراطية. فقد اعتقد مدير القناة التليفزيونية أنه ينبغي إتباع الاتجاه الأوحد والمفهوم لدى الديموقراطية الذي كان يعده الأكثر شعبية، وهو تقديم ما يطلبه جمهور المشاهدين، لكن لا شيء في الديموقراطية يُبرر أطروحة مدير القناة هذه كما يرى بوبر، كي يجعله يُقدم برامج تافهة، بدعوى أن هذا ما ينتظره الناس. ويشير بوبر إلى الخطر الكامن في هذا التصور على الديموقراطية قائلًا:

“بهذه الحصيلة لن يبقى لنا سوى الذهاب إلى الجحيم”(1).

 نحن إذن أمام تصورين متعارضين عن الديموقراطية وهما: التصور الشعبي، الذي أدلى به مدير القناة والتصور الذي قدمه بوبر، والذي براها بالأحرى نظامًا للحماية. ويرى بوبر أن أفكار مدير القناة لم تتوافق مع مبادئ العقل الديموقراطي الذي يسعى دائمًا في تقديم أفضل الإمكانات والفرص إلى الجميع، بل على العكس فقد قادته مبادئه إلى أن يقترح على المشاهدين برامج أكثر سوءًا، فحواها العنف والجنس وما هو شهواني. وقد رأى بوبر أن هناك خطورة كبيرة في هذه البرامج لأنها تُربي الأطفال على العنف. ويعبر عن حقيقة ما وصلنا إليه قائلًا: “أتفق مع معظم المتشائمين بأننا نُعلم أولادنا أن يتآلفوا مع القسوة والعنف عندما نعرض لهم أفلام عنيفة وقاسية”(2). فالجنس والعنف وما هو شهواني، هي الوسائل التي يلجأ إليها بسهولة شديدة منتجو برامج التليفزيون، وهي طريقة لديها القدرة على إبهار العامة، ولكنها تؤدي في تصور بوبر، إلى زيادة معدلات الجريمة إذ

“إننا أحصينا حالات عدد كبير من مرتكبي الجرائم، وقد أعترف مرتكبو هذه الأفعال الإجرامية بأنهم قد استلهموا أفكارهم الإجرامية من التليفزيون”(3).

وقد أكد عديدٌ من الباحثين مخاوف بوبر، مما يُسببه التليفزيون من آثار ضارة، مثل فردريك فيرتهام  F.Wertham حينما يقول: “عندما يشاهد الصغار الرقص في شاشة التليفزيون فإنهم ينزعون إلى الرقص. وإذا ما شاهدوا مأكولات شهية أو مشروبات مغرية فأنهم يودون شراءها. ولا يمكن التأكيد بصورة قاطعة أن الأطفال الذين يشاهدون العنف على شاشة التلفزيون لا يتذوقونه إلى حد ما حتى ولو لم يكونوا واعين تمامًا بذلك”(4).

بالإضافة إلى هذا فقد أكد بعض الأساتذة الأمريكان الآثار السلبية لبرامج العنف التليفزيوني والتي تتمثل في الآتي:(5).

  • تعلم الأفكار ومحاكاتها واتجاهات السلوك العدواني.
  • تحجر المشاعر وتطور الرؤية القاسية تجاه العالم الواقعي.
  • الخوف.

كذلك تؤكد الإحصائية التي وردت في منظمة النفسيين الأمريكيين تزايد العنف وانتشاره لدى قطاعات السكان من صغار السن بصورة أكبر منها في القطاعات العمرية الأخرى، فقد ورد في تلك الإحصائية ما يلي:(1).

  • يُعرَّض الطفل كل خمسة دقائق لبرامج العنف.
  • يحمل الأطفال أكثر من 100000 من البنادق البلاستكية إلى المدرسة.
  • جاء في مسح لخمسة مناطق في New Orleans  نيو أورلينز أن أكثر من 50% ضحايا للعنف.
  • زيادة معدلات الجريمة بين الأعمار من 12 – 19، وقلتها بين الأعمار التي تتجاوز سن 35.
  • يعدُّ القتل هو السبب الثاني للموت بين الأعمار من 15 – 24.

وعلى الرغم من اعتراف الجميع بأن ظاهرة العنف نتاج لعوامل متعددة مثل: العصابات والمخدرات والفقر والعنصرية، إلا أن هناك وعيًا كبيرًا بأن الأعلام هو أكثر العوامل أهمية في ترقية العنف.

لكن بعضهم يُعارض هذه الآراء التي تنظر إلى التليفزيون بوصفه جهازًا يُحفز على استخدام العنف، ويؤكدون أن التليفزيون مصدرٌ ثقافي مهم، ويستند هؤلاء إلى أن هناك تأثيرات مهمة ومفيدة للتليفزيون يجب العمل لترقيتها مثل: برامج التسلية التي تُريح من التوتر وهي ما تُطهر المشاهدين من المشاعر البغيضة.

دور التليفزيون في العنف

ربما تكون المبالغة في دور التليفزيون في العنف من وجهة نظر فريدمان  Freedman ، ومليفسكى Milavsky هي حيلة يستخدمها المسئولون لإخفاء الأسباب الحقيقية التي تعود إلى أوضاع اجتماعية وسياسية ظالمة: “إن العنف التليفزيوني ليس له تأثير في السلوك الواقعي وخاصة الجريمة، فالعدوان والجريمة في مجتمعات تعود إلى عوامل أخرى مثل: الفقر والحروب”(2).

لذا رفض هؤلاء فكرة الرقابة على البرامج التي يقدمها التليفزيون، واستندوا في ذلك إلى أن فرض الرقابة على أي فن من الفنون لهو فكرة غبية في ذاتها، والقيد الوحيد الذي يُمكن تصوره في ذاك المجال إنما ينطبق فقط على الصغار. وحتى فمن يعتقد بوجود صغار منحرفين بسبب أفلام عن المنحرفين إنما يقلب الأوضاع رأسًا على عقب، فهناك منحرفون لأن ثمة أكواخ قذرة وأزمة مساكن وحروب استعمارية وليس للسينما والإعلام علاقة بذلك(3).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد في ساحة النقاش الآن هو: هل ثمة حل لتلك المشكلة التي نواجهها؟ في الحقيقة يتركنا بعض المفكرين دون حلول للموقف الذي يُمثله التليفزيون من خطورة على الديموقراطية وعلى الحياة الاجتماعية، ولكن هناك من يجتهد على الرغم من صعوبة المُهمة، في إيجاد مخرج من تلك الأزمة. إذ تقترح ماري وين ضرورة نزع السيطرة بوصفها وسيلة للسيطرة، فالسماح للأطفال بمشاهدة كم غير محدود من المواد التليفزيونية، بل وتشجيعهم حتى على التهام التليفزيون، سوف يُفقدهم اهتمامهم بتلك الوسيلة الإعلامية ويجعلهم ينظمون أمورهم بأنفسهم. وهي ترى أن هناك بعض الصدق في تلك الخرافة، فلا ريب أن تراجعًا في الاهتمام بالتليفزيون يحدث بعد فترة غير محدودة من المشاهدة. ومشكلة نزع السيطرة بوصفها وسيلة للسيطرة هي مشكلة وقت(1).

كما قدم بوبر حلًا لمشكلة التليفزيون يتماشى من وجهة نظره مع مبادئ الديموقراطية، فقد رفض في البداءة فكرة الرقابة، لأنها ستكون بلا جدوى في البلاد الديموقراطية هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فلن يكون لها تأثير في التليفزيون، لأنها تتدخل دائمًا بعد فوات الأوان، كما أن هناك استحالة في إعداد رقابة وقائية على البرامج.

لذا يستلهم بوبر من نموذج عمل الأطباء في المجتمع: قسم أبقراط والبرتوكول الذي يخضع له الأطباء حلًا لمشكلة التليفزيون، إذ يرى أنه ما دام للأطباء سلطة مهم على حياة مرضاهم وموتهم، كان يلزم إخضاع تلك السلطة لنوع من المراقبة. فالأطباء مراقبون عن طريق هيئاتهم الخاصة، وتحافظ كل البلاد المتحضرة على وجود تلك الهيئات، بالإضافة إلى وجود قانون يُحدد وظيفتها، لذلك أقترح بوبر أن تُصبح الدولة شكلًا مشابهًا من تلك الهيئات تضعه أمام كل هؤلاء الملتزمين بإنتاج البرامج للتليفزيون، إذ ينبغي على كل فرد يشارك في هذا الإنتاج أن يكون حاملًا لرخصة أو شهادة أو تصريح يُمكن أن يُسحب منه نهائيًا إذا ما تصرف بطريقة تتناقض مع مبادئ تلك الهيئات. ومن هنا يُمكن وضع بداءة لعملية تنظيم في هذا المجال، يصبح كل شخص عاملًا في التليفزيون جزءًا من منظمة وسيحصل على ترخيص، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل ستكون الهيئة التي لديها السلطة في سحب التراخيص تحت رقابة هيئة ما، وهذه المراقبة الدائمة ستكون في تصور بوبر أكثر فاعلية من الرقابة.

لكن هناك سؤالًا آخر يطرح نفسه وهو: على أي أساس ستمنح هذه الهيئات الخاصة بالتليفزيون هذا الترخيص؟ ويُجيب بوبر على ذلك قائلًا:

“ستمنح الهيئات هذا الترخيص على أساس تدريب يتلقاه العاملون بالتليفزيون، وسيعقب هذا التدريب امتحان. والهدف من التدريب هو أن يفهم هؤلاء الذين يتوجهون إلى العمل في التليفزيون أنهم سيشاركون في عملية تعليم ذات أبعاد هائلة”(2).

فما ينبغي أن يتعلمه رجال التليفزيون –حسبما يرى بوبر– من الآن فصاعدًا هو أن التعليم ضروري لكل مجتمع متحضر. ولا يجب أن يكون تكون تنشئة المواطنين المتحضرين خاضعة للصدفة، لكن نتاجٌ لعملية تعليمية. فالحضارة في تصور بوبر يجب أن تنطوي جوهريًا على التقليل من العنف، وتلك هي وظيفة الحضارة الأساسية، لذلك حاول بوبر أن يُقدم تصورًا لطبيعة ما يُمكن أن تحتويه تلك المحاضرات التي تُقدم إلى العاملين في التليفزيون، إذ ينبغي أن تركز تلك المحاضرات في الدور الأساسي للتعليم ومشكلاته، وعلى حقيقة أن التعليم لا يحتوي فقط على تعليم الوقائع، وإنما توضيح أهمية إلغاء العنف، كما ينبغي أن تقدم هذه التدريبات معلومات عن كيفية استقبال الأطفال للصور، وكيفية هضم ما يقدمه التلفزيون إليهم. ولأن الأطفال في تصور بوبر لا يميزون دائمًا بين الواقع والخيال، فهناك دائمًا ضرورة لطرح الآليات العقلية حتى لا تختلط الحقيقة والخيال لدى هؤلاء العاملين بالتليفزيون، ولأن هذا الشيء غير معروف لدى كثيرين، فكثير من العاملين بالتلفزيون يتجاهلون كل التأثيرات التي يمارسها إنتاجهم في الوعي الباطن للأطفال، لذلك يجب على العاملين بالتليفزيون أن يأخذوا بعين الاعتبار تلك المشكلة في أثناء التدريب(1).

هذا بخصوص مُهمة المحاضرات التدريبية كما تصورها بوبر، أما بخصوص مُهمة الاختبار، فإنه سيبين للمتقدمين أنهم وعوا بمسئوليتهم بوصفها معلمين، وأنهم سيلتزمون بالتصرف نتيجة لذلك:

“ينبغي أن يعرف أي شخص سوف يعمل في التليفزيون الأخطاء التي لا بُد من تفاديها بطريقة تجعل ألا يكون لنشاطه نتائج سيئة على الخريطة التعليمية”(2).

ويؤكد بوبر أن الاقتراحات السابقة تتوافق مع وجهة النظر الديموقراطية، إذ يجب أن تعمل الديموقراطية لإخضاع أي سلطة لمراقبة ما. وما دام أصبح التليفزيون اليوم سلطة ضخمة، فكان لا بُد من وضع حد لهذه السلطة الكبرى.

“فلا يُمكن إيجاد ديموقراطية إذا لم نُخضع التليفزيون لمراقبة ما، أو بطريقة أكثرُ تحديدًا، أن الديموقراطية لا يُمكن أن تعيش طويلًا ما دامت سلطة التليفزيون لم تُحَجَّم كُلية”(3).

ويُمكن أن نخلص مما سبق إلى أن الحرية والدفاع عنها والمحافظة عليها كانت الشغل الشاغل لدى بوبر، لذا جاءت نظريته في الديموقراطية تعضيدًا لفكرة الحرية. وقد جعل بوبر من الدولة وسيلة لخدمة غاية أكبر وهي حماية الحرية الفردية بشتى صورها، لذلك دعا إلى ضرورة تدخل الدولة في الإعلام وطالب بمحاولة تكوين إعلام مستنير يكون قادرًا على لعب دور مهم في تعليم الشباب وتثقيفهم، بدلًا مما هو سائد الآن من برامج قوامها العنف والجنس وما هو شهواني، وهو ما أصبح له تأثيراته الضارة في الشباب.

لكن على الرغم من معقولية الحل الذي قدمه بوبر لمشكلة التليفزيون، والذي بدا مُتماشيًا مع وجهة نظره عن الديموقراطية التي هي ليست شيئًا آخر سوى حماية الحرية والدفاع عنها، إلا أن هذا الحل يجعلنا نقف هنا أمام مفارقة وهي: هل يجب أن تتدخل الدولة في فرض رقابة ما على الإعلام لحماية الأطفال والشباب من البرامج السيئة أم لا؟ وهل إذا تدخلت الدولة أفلن يُمثل هذا خطرًا كبيرًا على حرية التعبير والنشر والفن؟ وهل إذا لم تتدخل الدولة حفاظًا على حرية التعبير والنشر والفن، أفلن يُمثل هذا خطرًا جسيمًا على الأطفال والشباب الذي يؤثر بدوره في المشاركة داخل الحياة السياسية؟ وهنا تكمن المفارقة الثالثة التي لم يستطع بوبر أن يرسم لنا فيها خطًا فاصلًا يوضح حدود تدخل الدولة، وحدود حرية النشر التعبير والفن.

يعد اهتمام بوبر بالمشاكل الناجمة عن التليفزيون وأثاره الضارة في الحياة الاجتماعية مثل: ترقية العنف وتأثيره السلبي في الديموقراطية اهتمامًا فريدًا من نوعه. ونعتقد أن الحل الذي قدمه بوبر لتلك المشكلة الذي يتمثل في الإعداد الثقافي للقائمين على إنتاج البرامج التليفزيونية حلًا جديرًا بالاعتبار في حالة التعامل مع ما يُعرض للأطفال فقط في شاشة التليفزيون.

لكننا نعتقد أن هذا الحل إذا طُبق على الشباب والبالغين فهو يجردهم من كل قدرة على الفصل بين ما هو جيد وما هو رديء، لذا يجب أن تتعدد البرامج التليفزيونية وأن تقدم عروضًا ترفيهية وتعليمية واجتماعية وسياسية وجنسية وأفلام عنيفة، وفى تلك الحالة يجب أن نترك المشاهد -البالغ- يُقرر بنفسه ماذا يود أن يشاهد؟ وهو ما يتماشى بالقدر الأكبر مع فكرة المسئولية الشخصية، ومع حرية النشر والإبداع.

 

المراجع:

 (1) Ian Jarvie” Sir Karl Popper ( 1992 – 94 ) Essentialism and Historicism in Film Methodology ” in Historical Journal of Film, Radio & Television, June 95, Vol.15, Issue 2, p301

 (2) Douglas Kellner, Television and The Crisis of Democracy, New York, West View Press, 1990, p. 152

(1) بيير بورديو، عن التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة وتقديم / درويش الحلوجي، القاهرة، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر، 1999، صـ 27، 32.

(2) المرجع السابق، صـ 18.

(3) Robert E. Gilbert, Television and Presidential Politics, New York, The Christopher Publishing House, 1972, p.297, 298.

(4) Karl Popper, John Condry, La Television : Un Danger Pour La Democratie, Paris, Anatolia, 1995, p. 20, 22

 (1) Ibid., p.24

(2)  Ian Jarvie”  Sir Karl Popper ( 1992 – 94 ) Essentialism and Historicism in Film Methodology” in  Historical Journal of Film, Radio & Television, June 95, Vol.15, Issue 2, p301

 (3) Karl Popper, John Condry, La Television : Un Danger Pour La Democratie, op. Cit., p.27

 (4) أندرية جلوكسمان، عالم التليفزيون بين الجمال والعنف، ترجمة / وجيه سمعان عبد المسيح، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، صـ 18.

(5) James T. Hamilton, Television Violence and Public Policy, Michigan, The University of Michigan Press, 1998,p. 3

(1)  Ibid., p.14, 15

  (2) Stuart Oskamp, Television as a Social Issue : applied Social Psychology Annual, London, Sage Publications, 1988, p.141

(3) أندرية جلوكسمان، مرجع سبق ذكره، صـ 18.

(1) ماري وين، الأطفال والإدمان التليفزيوني، ترجمة / عبد الفتاح الصبيحي، الكويت، مطابع الوطن، سلسلة عالم المعرفة، 1999، صـ 260، 261.

 (2)  Karl Popper, John Condry, La Television : Un Danger Pour La Democratie, op. cit., p.32

 (1) Ibid., p. 33, 34

 (2) Ibid., p.35

 (3) Ibid., p. 36

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete