أبو حنيفة .. من المرجئة أم من أهل السنة؟

تكوين

في (كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين)

يقول الحافظ والمحدث ابن حبان :”كان أبو حنيفة جَدِلاً ظاهر الورع .. لم يكن الحديث صناعته، حدث بمائة وثلاثين حديثا مسانيد، ما له حديث في الدنيا غيرها، أخطأ منها في مائة وعشرين حديثا، إما أن يكون أقلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم، فلما غلب خطؤه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار.

ومن جهة أخرى: لا يجوز الاحتجاج به، لأنه كان داعيًا إلى الإرجاء، والداعي إلى البدع لا يجوز أن يحتج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافًا”

وكلام ابن حبان عن أبي حنيفة في غاية الخطورة ، وقد جازف فيه بتدخله – غير المشروع – في باطن أبي حنيفة

حين وصفه بأنه :” جَدِلاً ظاهر الورع ” أي أن الورع عنده ليس إلا مظهر خارجي ، وأنه لا وجود للورع الحقيقي في باطنه .. أي جرأة تلك التي تدفع شخصا لأن يحكم على نوايا وبواطن وحقيقة شخص آخر مثله ؟! وقد يزداد الأمر عجبا حين نعلم أن ابن حبان لم يعاصر أبا حنيفة وأنه قد ولد بعد وفاته بحوالي 127 سنة !!

أما بالنسبة لتهمة الإرجاء التي قطع بها ابن حبان ونسبها دون مواربة إلى أبي حنيفة ، فإن الباحث في المسألة يكتشف شيئين : الأول أنه ليس ابن حبان وحده من وجه تلك التهمة لأبي حنيفة , بل وجهها له آخرون لعل أبرزهم  ابن تيمية في كتاب ( الإيمان) ، والإمام أبو الحسن الأشعري في ( مقالات الإسلاميين ).

 

و الثاني أن كثيرا من أهل العلم  قد وجه إليهم نفس الاتهام ، إلا أن المحدثين لم يلتفتوا إليهم بالدرجة التي ركزوا فيها مع أبي حنيفة واهتموا بجمع ونقل كل ما قيل عنه في هذا الشأن.

هل ابو حنيفة مرجىء

 

ولم يتوقف اتهام أبي حنيفة بالإرجاء عند الماضي ، بل هناك تداعيات وامتدادات حية ومستمرة حتى الوقت الحاضر ، فعندما سئل الشيخ السلفي السعودي ربيع بن هادي المدخلي :

هل صحيح ما ينسب إلى أبي حنيفة أنه مرجئ ؟

جاءت الإجابة منه بالحرف :

“هذا صحيح لا ينكره أحد؛ أبو حنيفة رحمه الله وقع في الإرجاء ولا ينكره لا أحناف ولا أهل سنة, لا أحد ينكر هذا وأخذ عليه أهل السنة أخذا شديدا؛ أخذوا عليه الإرجاء وغيره – غفر الله له – يعني لا يجوز لحنفي أو لغيره أن يتبع أحدا في خطئه كائنا من كان لا أبو حنيفة ولا مالك ولا شافعي لكن هؤلاء ما عرفنا عليهم أخطاء في العقيدة, أما أبو حنيفة وقع في القول بخلق القرآن ورجع عنه كما أثبت ذلك علماء, لكن القول بالإرجاء ما ثبت أبدا أنه رجع عنه ولا أحد يدعيه له لا من الأحناف ولا من غيرهم في حسب علمي”.

 

وقد نفهم معا مدى قسوة وصعوبة نسبة شخص -أي شخص -إلى الإرجاء ، في ضوء ما جاء على ألسنة الأئمة والفقهاء في ذم الإرجاء والتنديد به وبرجاله ، حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم (يقصد المرجئة)  أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. و الأزارقة فرقة من فرق الخوارج , و على ما يبدو فإن النخعي كان يرى أن المرجئة أخطر من الخوارج من حيث أثرهم في العقيدة , لأن مقتضى قولهم -من وجهة نظره-  تضييع الدين وتمييعه، إذ يجعلون الفاسق كامل الإيمان، والنفوس الضعيفة تميل إلى ذلك فتستسهل المخالفات و الذنوب و الكبائر ، و هو الشيء نفسه الذي عبر عنه زيد بن علي بن الحسين: ” أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو الله”.

ويقول الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء.

وقال الأوزاعي : كان يحيى بن أبي كثير، وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.

أما شريك القاضي  فكان يرى أن المرجئة: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله .

 

إذا كان هذا هو الموقف من الإرجاء ومن المرجئة ، فكيف

يتصور العقل أن ينسب بعض المحدثين إمام كبير مثل أبي حنيفة إلى فرقة أو اتجاه له مثل هذه الخطورة على الإسلام وأهله ؟ وهل يصح ذلك أم لا يصح ؟

وقبل أن نجيب على السؤال :هل صدقت اتهامات المحدثين لأبي حنيفة بالإرجاء ، وهل حقا كان الرجل من المرجئة ؟ ،

نوضح باختصار  أن المرجئة فرقة من المسلمين تعتقد أن الإيمان قول بلا عمل، كأنهم قدموا القول وأرجأوا العمل أي أخروه،  لأنهم يرون أن الإيمان يكفي لنجاتهم  ولو لم يصلوا ولم يصوموا .. فعندهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

وقيل الإرجاء هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة ، فلا يحكم عليه بحكم ما في الدنيا ، من كونه من أهل الجنة أم من أهل النار ، فأمره إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عذب .

وعند أبي حنيفة ، فالإرجاء هو إرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية ، حيث أن الإيمان عنده إقرار و تصديق والأعمال ليست بداخلة في هذا الإيمان ، وأن الإيمان في عمومه لا يزيد ولا ينقص ، وأن مرتكب الكبيرة تحت حكم المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، مع بقاء إيمانه. وإن عذبه فإنه عذاب بلا خلود  في النار. .

 

يقول ابن حزم الأندلسي في ( الفصل في الملل والأهواء والنحل ) :

“ذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معا فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقر بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وأن الأعمال لا تسمى إيمانا ولكنها شرائع الإيمان وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء”

وتبعا لكلام ابن حزم فإن أبا حنيفة يكون قد خالف سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج الذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو المعرفة القلبية بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح، وإن كل طاعة وعمل خير فرضًا كان أو نافلة فهي إيمان، وكلما ازداد الإنسان خيرًا ازداد إيمانه، وكلما عصى نقص إيمانه.

 

ويرى ابن حزم أن أقرب فرق المرجئة إلى أهل السنة من ذهب مذهب الإمام أبي حنيفة الفقيه ,  الذي مؤداه أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معًا وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط… ونفس الرأي قد تبناه الشهرستاني في ( الملل و النحل) : “كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه: مرجئة السنة” على خلفية الفصل بين الإيمان و العمل ، و قد حاول الشهرستاني أن يقدم سببا آخر لاتهام أبي حنيفة بالإرجاء ، قائلا  : ” و له  سبب آخر، وهو أنه كان يخالف القدرية، والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأول. والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئا، وكذلك الوعيدية من الخوارج. فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه من فريقي المعتزلة والخوارج “.

 

وحتى تكتمل الصورة ، لا بد وأن نذكر أن أبا حنيفة لم يتفق مع المرجئة في ظاهر فهمهم للحديث : ” من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله : دخل الجنة ”  وبنوا على ذلك الفهم أنه لا حاجة إلى العمل ، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.

بل كان رأيه وتصوره الشامل أن العمل غير داخل فى حقيقة الإيمان ، بل هو فرع منه وتبع له  ، وبفوت التبع لا ينتقص ذات الشىء. وعلى طريقته الذكية في القياس أعطى مثالاً سهلا وبسيطا  قائلاً : كفوت القرن من الشاة ” وهو هنا يقصد   أن الشاة التي بدون قرن لا يمكن أن تحرم من اسمها ، ويطلق عليها اسم مخلوق آخر بسبب خلوها من القرن. فهى- بالقرن ومن غيره – مازالت شاة ،  وكذلك المؤمن الذي بلا عمل، ما زال مؤمنا ولا يملك أحد إخراجه من دائرة الإيمان ، ويحاسب على تقصيره في العمل والطاعات ، لكن لا يخرج من الإيمان إلا إذا جحد وأنكر ما أدخله فيه .

و  للإمام محمد أبي زهرة كلمات في غاية البساطة و الدقة و العمق وربما يكون فيها حسم القضية، حيث يقول في كتابه القيم ( أبو حنيفة حياته و عصره – آراؤه و فقهه ) :              ” و عندي أنه لا يمكن أن يعد أبو حنيفة مرجئا إلا إذا عد مرجئا كل من يرى أن الفاسق من المؤمنين و أن الله تعالى قد يعفو عن بعض العصاة و أنه لا قيد يقيد هذا العفو. و في هذه الحال لا يدخل أبو حنيفة في الإرجاء وحده، بل يدخل كل الفقهاء و المحدثين إلا من كان من المعتزلة”.

 

المصادر و المراجع :

 

– المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين      ابن حبان

– الإيمان                                         ابن تيمية

– مقالات الإسلاميين                             الأشعري

– الفصل في الممل والأهواء و النحل      ابن حزم

– الملل و النحل                               الشهرستاني

– أبو حنيفة حياته وعصره – آراؤه وفقهه        محمد أبو زهرة

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete