أسئلة حول الفكر العربي المعاصر: الجزء الثاني…سؤال التأريخ والتحقيب

تكوين

المقدمة والإشكالية:

القارئ للفكر الغربي لا يجد أي مشكلة في التمييز بين مراحل تطور هذا الفكر، من الفكر اليوناني إلى الفكر الوسيط، ثم عصر النهضة، فالفلسفة الحديثة التي اعتبر  ديكارت مؤسسها، في حين اعتبر القرن الثامن عشر خاصة أعمال كانط(1724-1804) عصر التنوير، فيما يعد عد نيتشه (1844-1900) فاصلا بين الحديث والمعاصر، بينما إذا انتقل القارئ للفكر العربي فسيجد تداخلا كبيرا بين مفاهيم: النهضة والتنوير والإصلاح والتجديد والإحياء والصحوة والثورة ..إلخ، وهذا ما يجعلنا عاجزين عن تحديد تمييز واضح بين الفكر العربي الحديث والفكر العربي المعاصر، وهو ما يجعلنا نطرح إشكالية: هل هناك نقطة معينة -حدث تاريخي أو فكري أو شخصية فكرية – يمكننا اعتبارها نهاية للفكر العربي الحديث وبداية للفكر العربي المعاصر؟ والغاية من طرح هذه الإشكالية هي الإجابة عن سؤال: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وإلى أي جيل نحن ننتسب؟ وبالتالي عن أي إشكاليات يجب أن نجيب وفقا للمرحلة التي ننتمي إليها، حتى لا نجيب عن إشكاليات غيرنا وأسئلة زمن غير زماننا؟

1/ ملاحظات أولية:

أول ملاحظة يجب التنبيه إليها هي الابتعاد عن المقارنة ومحاكاة التأريخ الغربي، ذلك أن المسألة أعقد من مجرد تسلسل مفاهيمي: نهضة، تنوير، حداثة، معاصرة، لأنها مرتبطة في العمق بمقولات مؤطرة وإشكاليات منبثقة يرتد إليها الفكر في كل مرحلة من المراحل، بالإضافة إلى المعطيات الاجتماعية والسياسية والدينية والعلمية التي تسمح بالانتقال من مرحلة لأخرى وتبرره، هذه المعطيات هي ما سماه مؤرخو الأفكار بالأطر الاجتماعية للمعرفة أو الباراديغم أو الإبيستيمية..، وما عاشته المجتمعات الغربية عبر مسار تطورها يختلف تماما-خصوصا في الفترة الحديثة والمعاصرة-عما عاشته المجتمعات الغربية، وعلى “الرغم من أننا والغرب متعاصرين في المكان إلا أننا لا نعيش الزمان نفسه، فالحضارة الغربية في نهاية عصورها الحديثة التي بدأت منذ خمسة قرون ونحن في بداية عصورنا الحديثة التي بدأت منذ قرنين ومازالت في الطريق إلى أوجها على الرغم من انكساراتها وردتها وكبوتها”[1]، كلنا راكبون في قطار الحداثة ولكن، هناك قائد القطار ومعاونوه وركاب درجة أولى وهناك ركاب الدرجة العادية، بل هناك ركاب فوق القطار معرضون لكل المخاطر..

إقرأ أيضاً: الفكر العربيّ الجديد، والتحديث بوصفه إشكالَ العالَميَّة

الملاحظة الثانية التي نسجلها حول موضوع التأريخ للفكر العربي منذ القرن التاسع عشر تتمثل إهماله ممن حاولوا التأريخ للفلسفة من العرب على قلتهم -وهذا بذاته يطرح سؤال عدم الاهتمام بتاريخ الأفكار في السياق العربي- ونخص بالذكر هنا: يوسف كرم (1886-1959)*، ومحمد علي أبو ريان (1920-1996)**، فكلاهما لم يدرج الفكر العربي ضمن الأعمال التي خصصاها لتاريخ الفكر الفلسفي، قد يكون مبرر ذلك مكاحاتهما التأريخ الغربي للفكر، ونحن نعلم أن هذا التأريخ يتحرك وفق ما تمليه المركزية الغربية التي تجعل مبدأ الفكر هو اليونان ومآله هو أوروبا وأمريكا فيما بعد، وهو ما جعله لا يولي أي اهتمام للفلسفة والفكر الشرقي عموما  وللفلسفة الإسلامية الكلاسيكية التي يعتبرها مجرد جسر عبرت عليه الفلسفة اليونانية إلى أوروبا فكيف ننتظر منه أن يهتم بالفكر العربي الحديث أو المعاصر.

لم تطرح بداية الفكر العربي الحديث أي إشكال، فالكل يتفق على أن بدايته كانت مع غزو نابليون لمصر في نهاية القرن الثامن عشر، وهي اللحظة التي سميت بصدمة الحداثة، وأبرز مؤسس لهذا الفكر هو الطهطاوي (1801-1873) بعد عودته في فرنسا، وتأليفه للكتاب الشهير “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، ثم جاء بعده العديد من المفكرين ضمن نفس الاتجاه كجمال الدين الأفغاني والكواكبي وخير الدين التونسي ..الخ، الإشكال يطرح حول نهاية هذا الفكر وانبثاق الفكر العربي المعاصر، وهنا تتعدد الآراء والمواقف بين الخائضين في الموضوع، وتظهر العديد من التحقيبات المختلفة رغم تقاربها في العمق، ولعل الاختلاف حول هذه المسألة مرده وجود العديد من الأحداث المهمة التي يمكن اعتبارها نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة فكرية أخرى، أبرز هذه الأحداث: الحرب العالمية الأولى (1914-1919)، نهاية الخلافة العثمانية (1922-1924)، تأسيس الجامعة المصرية (1925)، ظهور كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق (1925)، ظهور كتاب “في الشعر الجاهلي لطه حسين(1926)، الحرب العالمية الثانية(1939-1945)، بداية استقلال الدول العربية (1947)، العدوان الثلاثي على مصر (1956)، هزيمة (1967).

2/ تأريخات وتحقيبات واعتراضات:

هناك العديد من القراءات التي حاولت الإجابة عن سؤال التأريخ للفكر العربي منذ صدمة الحداثة، وهي في الغالب تقسم هذه الفترة إلى مرحلتين أو ثلاثة، مع تأثرها جميعا بأحد أهم الكتب حول هذا الموضوع، وهو كتاب: “الفكر العربي في عصر النهضة” لألبرت حوراني، فقد اعتبره المفكر الراحل  هشام شرابي(1927-2005) “مرجعا لا غنى عنه لأي دراسة لتاريخ الفكر العربي الحديث”[2]. وهذه بعض النماذج لمراحل تطور الفكر العربي منذ القرن التاسع عشر:

1/ تحقيب ألبرت حوراني(1915-193)[3]:

– الفكر النهضوي من 1798 إلى 1939.

– الفكر العربي المعاصر بعد 1939.

2/ تحقيب جورج طرابيشي(1939-2016)[4]:

  • الفكر النهضوي من 1798 إلى 1939.
  • الفكر العربي الحديث من 1939 إلى 1967.
  • الفكر العربي المعاصر بعد 1967.

3/ تحقيب هشام شرابي[5]:

  • المرحلة الأولى (1875-1914).
  • المرحلة الثانية (1914-1945)
  • المرحلة الثالثة بعد 1945.

4/ تحقيب محمد أركون(1928-2010)[6]:

  • الفكر النهضوي بمختلف اتجاهاته: من 1800 إلى 1950.
  • الفكر الثوري بمختلف اتجاهاته: بعد 1950.

5/ تحقيب حسن حنفي(1935-2021): يرى أن الفكر العربي مر بتجربتين دون أن يحدد تاريخ نهاية الأولى وبداية الثانية، مضيفا أن العرب الآن يمرون بتجربة ثالثة لا يدرون ما كنهها إلا أنها رد فعل على التجربة الثانية[7].

  • التجربة الليبرالية: وشملت ؛ الإصلاح الديني (الأفغاني)، التيار العلمي العلماني(شبلي شميل)التيار الليبرالي(الطهطاوي والتونسي)
  • التجربة القومية الاشتراكية العربية.

هناك نماذج مماثلة كثيرة لا يمكن الإحاطة بها جميعا، وليس هدفنا في هذه الوقفة وضع لائحة بهذه الاجتهادات، إنما الهدف هو بحث مبررات هذه التقسيمات، وهل فعلا حدث انتقال في الفكر العربي من مرحلة إلى مرحلة أخرى بكل ما تعنيه كلمة الانتقال أو التحول من دلالات؟ هل هناك تغير في الإشكاليات المطروحة؟ هل حدث تغير في لغة المفكرين؟ هل توفرت حوامل للفكر الجديد من أطر اجتماعية وسياسية على غرار تلك التي توافرت في السياق الغربي تجعله متميزا عن الفكر الذي سبقه؟

يرى بعض المختصين في الفكر العربي أنه لا يوجد فرق واضح في العمق بين الفكر العربي الحديث والفكر العربي المعاصر، إنما هناك تواصل واستمرار لنفس الفكر، انطلاقا من تطابق الموضوعات التي اشتغل عليها هذا الفكر،  والتي تحددت في العمق بنفس الإشكالية المركزية، فكأنه فكر يعيد إنتاج نفسه باستمرار، ذلك ما يؤكده المفكر عبد الإله بلقزيز بقوله:” تظل الإشكالية المركزية في الفكر العربي المعاصر هي إشكالية النهضة بثنائياتها الحادة والمتعارضة”[8]، والمقصود بهذه الثنائيات المضادة هو ما جرى التعبير عنه بعدة ثنائيات مفاهيمية متعارضة: التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الأنا والآخر، العلم والدين، نحن والغرب..الخ. وهذا ما جعل الفكر العربي الحديث والمعاصر لا يخرج عن دائرة الفكر التوفيقي[9]، فنحن نعلم أن الفكر العربي المعاصر لم يستطع أن يتجاوز هذه الإشكالية-الهم كما يصفها فتحي التريكي، بالإضافة إلى الموضوع المشترك يبرر بلقزيز موقفه هذا، بالتطرق لأبرز سمتين من سمات الفكر العربي الحديث المعاصر، ويحددهما في “ظاهرة غلبة الإيديولوجي في بناء الأفكار والتصورات”[10]، وهي ظاهرة يمكن التأكد منها بيسر من خلال العودة إلى أعمال كثيرة تبدو فيها الحماسة الإيديولوجية طاغية على الفكر النقدي المنفتح (انظر أعمال الكثير من الماركسيين أو القوميين العرب أو غير ذلك من الاتجاهات التي ظهرت في الفكر العربي)، السمة الثانية التي رصدها بلقزيز للفكر العربي الحديث والمعاصر هي غلبة البعد السياسي على الأبعاد الأخرى، يقول موضحا: “من الحقائق المثيرة التي ينطوي عليها الفكر العربي منذ لحظة الطهطاوي إلى الآن، هيمنة البعد السياسي فيه، فلو طفقنا نبحث في الكتابة العربية المعاصرة-الفكرية والاجتماعية والفقهية والأدبية-لوجدنا بأن الفكر السياسي يشكل الإطار النظري العام الذي يعمل الفكر العربي المعاصر ويتحرك في دائرته، وذلك أيا كانت الموضوعات التي يتناولها”[11]. وهو أمر مبرر بالنظر إلى تأثير الاستعمار والتدخلات الأجنبية في الدول العربية بعد الاستقلال، مما جعل السياسة تبدو كمفتاح لحل كل القضايا الأخرى، الغريب في الأمر أن مبحث السياسة في جل تاريخ الفكر الفلسفي اقترن دوما بالأخلاق، في حين غاب مبحث الأخلاق بصورة واضحة في الفكر العربي الحديث والمعاصر إذا استثنيا بعض الاجتهادات، بالرغم من أهميته في توجيه السلوك الفردي والاجتماعي.

بمثابة خاتمة:

من المؤكد أن الأحداث – سالفة الذكر- التي عاشها العالم بصورة عامة والمنطقة العربية بصورة خاصة، قد أثرت بصورة ما في سيرورة الفكر العربي، وبالتالي، فهي تبرر إلى حد كبير هذه التحقيبات، والتمييز الذي وضعه أصحابها بين الفكر العربي النهضوي أو الحديث والفكر العربي المعاصر، ونخص بالذكر هنا حدثين لعلهما الأكثر تأثيرا من بين تلك الأحداث؛ أولهما الاستقلال السياسي للدول العربية، ذلك أنه مهما كان التقارب بين الأفكار التي طرحها المفكرون العرب قبل الاستقلال وبعده، فهناك فرق كبير بين من يفكر في ظل الاستعمار ويبحث سبل التحرر، ومن يفكر في ظل قسط كبير من الحرية والاستقلال ويطرح مشكلات التنمية والبناء.

الحدث الثاني هو هزيمة 1967، وهي منعرج مهم في إعادة تفكير الكثير من الموضوعات في الفكر العربي، خصوصا موضوعات الوحدة والهوية والقومية والمستقبل، بالإضافة إلى الخيارات السياسية لمختلف الأنظمة العربية البارزة في ذلك الوقت. ضف إلى ذلك عوامل أخرى تصب في بوتقة التمييز بين الفكر العربي الحديث والمعاصر، كالبعثات الطلابية التي سمحت لمئات الطلبة العرب أن يحتكوا بصورة مباشرة بالمنتوج الفكري في الغرب ويتعرفوا على أساليب البحث وأحدث العلوم والمناهج، ثم عامل انتشار الترجمة وما أتاحه من اطلاع واسع على الأفكار التي ينتجها الآخر، وما رافق ذلك من تأسيس الجامعات ومراكز البحوث والجمعيات الفكرية..الخ، هذه العوامل وغيرها، جعلت الفكر العربي المعاصر، خاصة من خلال المشاريع الفكرية التي انبثقت في الساحة الثقافية العربية بعد 1967، (المدرحية، الرحمانية، الجوانية، الشخصانية، الماركسية، البنيوية، التأويلية، الأركيولوجية، التفكيكية..الخ)، وإن كان لا يزال تتحرك ضمن محاولة تجاوز الإشكاليات النهضوية، إلا أنه يبقى متميزا بصورة كبيرة على مستوى اللغة التي يتم توظيفها والحضور الكبير للمفاهيم الفلسفية ومفاهيم العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكذا المرجعيات والمناهج التي تبنتها وحاولت تطبيقها في مقاربة مختلف الموضوعات بطريقة جديدة لا نعثر عليها ضمن المنتوج الفكري لمفكري مرحلة النهضة العربية أو ما قبل استقلال الدول العربية، وهذا ما سنتطرق إليه من خلال التفصيل في بعض النماذج لاحقا.

المراجع:

 حسن حنفي (وآخ): الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2006، ص 19.[1]

 تاريخ الفلسفة اليونانية، وتاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط وتاريخ الفلسفة الحديثة….*

تاريخ الفكر الفلسفي: من طاليس إلى أفلاطون، أرسطو والمدارس المتأخرة، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، الفلسفة الحديثة.**

 هشام شرابي: المثقفون العرب والغرب، بيروت: دار النهار للنشر، ط4، 1991، ص14.[2]

 ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة (1798-1939) ت: كريم عزقول، بيروت: دار النهار للنشر، ط1، 1968.[3]

 جورج طرابيشي: المثقفون العرب والتراث، لندن: رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1991، ص 11.[4]

 هشام شرابي: المرجع السابق، ص 13.[5]

 محمد أركون: الفكر العربي، ت: عادل العوا، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، ط1، ص 147.[6]

 حسن حنفي (وآخ): مرجع سابق، ص 37.[7]

 عبد الإله بلقزييز: إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر، بيروت: دار المنتخب العربي، ط1، 1992، ص 26.[8]

 أحمد الأمين: أزمة الفلسفة العربية بين التوفيقية والحداثة، ضمن: حسن حنفي (وآخ): مرجع سابق، ص ص43-51.[9]

 المرجع نفسه، ص 05.[10]

 المرجع نفسه، ص ص 16-17.[11]

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete