أصولية الغرب

عندما نتحدث عن الغرب، فينبغي ألا نغفل بأن هذا الأخير ذات متعددة الأوجه، فهناك الغرب الذي يؤمن بالحرية والتعددية الثقافية ويعلي من شأن الحوار والتواصل بين مختلف الثقافات، وهناك الغرب المنكفئ على ذاته والذي ينظر الى مختلف الثقافات والشعوب بنظرة استعلائية، فهي في موضع الاتباع وهو في موضع الريادة والقيادة. وهناك الغرب المنتقد لذاته والواعي بضرورة تجديد ذاته من خلال ذاته.

مع الأسف الاتجاه المهيمن والمسيطر والذي يملك القرار في الغرب هو الاتجاه المتمركز حول ذاته إلى درجة الجنون، ويتجلى هذا الاتجاه في المركزية الغربية، التي بسطت نفوذها على العالم بدءا من أواخر القرن التاسع عشر، وقد استعملت في سبيل تلك السيطرة مختلف العتاد والأسلحة الحربية، بهدف تكسير أي شكل من أشكال الرفض والمقاومة، هذا هو الوجه الذي عرف به العالم الغرب طيلة بالأخص في النصف الأول من القرن العشرين.

وقد صاحب هذا الوجه وجه آخر يتجلى في بسط مختلف مناهج المعرفة والتربية والتعليم في رؤية الحاضر والماضي والمستقبل، بمعنى أن الغرب، خرج إلى العالم مصحوبا بنموذجه للحضارة والمدنية، وهو النموذج الذي نال إعجاب رواد النهضة في المشرق والمغرب، وبالأخص الذين كانت لهم رحلات الى الغرب، وقد وثقوا مختلف انطباعاتهم في مؤلفات متعددة بدءا من رحلة[2] رفاعة رافع الطهطاوي (-1873م) إلى فرنسا، والتي قام بها ما بين سنة 1826م/ 1831م. من خلال كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”. أو رحلة الفقيه المغربي محمد الصفار إلى العاصمة الفرنسية باريز[3] في دجنبر 1845م، وقد ورث العالم العربي والإسلامي عن رواد النهضة وغيرهم، بأنه لا مشكلة لدينا مع مدنية الغرب ومع مختلف مجالات العلوم في الحضارة الغربية. فالمشكلة كل المشكلة ترتبط بالغرب المهيمن والمسيطر. هذه الصورة المزدوجة التي يتصف بها الغرب الأربي ومن بعده الأمريكي، والتي تجمع ما بين الهيمنة والانفتاح والتواصل الذي يخدم مصالحه، لازالت حاضرة حتى هذه اللحظة، في علاقته بالعالم.

فمن بين ما أخذه الشرق عن الغرب هو الدولة الحديثة، وهي دولة لها مساحة جغرافية، وحدود تعرف بها، وتقوم على المؤسسات: البرلمان، الحكومة الأحزاب…المؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية وتحكم هذه المؤسسات بدساتير وقوانين…فمختلف أفراد الشعب بكونهم مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات وهم سواسية أمام القانون…وقد واجهت الدولة الحديثة في العالم العربي تيارات الأصولية الدينية المتطرفة، التي ترفض مفهوم الدولة الحديثة وكل ما يرتبط بها، وتختزل الغرب في الجرح التاريخي الذي خلفه الاستعمار، فخطابها مليء بكره الغرب وهي تُذكّر كلما سمحت لها الفرصة بجرائمه ووجهه المظلم، وتستعدي كل من خالف تصوراتها المتشددة في فهمها للدين والدولة والمجتمع.

تتصف الأصولية بالجمود ورفض كل أشكال التكيف مع الحاضر ومتطلباته، فهي ترى في الماضي القريب أو البعيد الشكل والنموذج المكتمل الذي ينبغي اتباعه، الأصولية لها أصل معين تعود إليه وتفهمه كما يبدوا لها، وتقصي كل فهم مختلف عن فهمها له، والأصل ليس بالضرورة أن يكون فكرة فقد يرتبط بشيء من الأشياء أو مصلحة من المصالح الاقتصادية أو المالية…التي ينبغي الاستحواذ عليها مهما كان الأمر، الأصولية لا تأخذ بالحوار والتواصل والتسامح في حل مختلف القضايا المختلف حولها، فهي لا تؤمن إلا بتصوراتها وفهمها فقط، إيمانا منها بأنه هو الحل الوحيد. فالأصولية وفق هذه القاعدة ممكن أن تكون دينية، أو سياسية، أو حزبية، أو علمانية أو اقتصادية…وقد تتداخل مكونات علمانية ودينية وسياسية في قالب أصولية بعينها. السؤال هنا إذا كانت الأصولية على هذا المنوال المتعدد الأوجه، وقد عانى العالم الإسلامي ولازال من معضلة الأصولية الدينية باسم القاعدة وباسم داعش…فهل هذا يعني أن الغرب معافى وسليم وبعيد كل البعد من الأصولية؟

ظاهرة الأصولية والتشدد والتطرف في مختلف وسائل الإعلام الغربي، يتم ربطها بالإسلام، وهي صورة يتم تسليط الضوء عليها وتعميمها كلما سمحت الفرصة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين حتى هذه اللحظة. وفي مقابل هذه الصورة يتم تلميع صورة الغرب، بكونه مجال الحريات والاختلاف والتعددية الدينية والثقافية. وحقيقة الأمر أن (المركزية الغربية) وجه من وجوه الأصولية الغربية، وهي أصولية حبيسة سياقها التاريخي المرتبط بروما، فالرومان كانوا أكثر بربرية، وورث عنهم الأوربيون والأمريكيون من بعدهم كل أشكال البربرية والعنف والتسلط على مختلف الشعوب منذ خروج أوربا الى العالم في القرن 15م نحن “في آخر المطاف نلاحظ اندفاعا هائجا لخمسة قرون من البربرية الأوربية خمسة قرون من الغزو والاستعباد والاستعمار. [لقد تم] عولمة هذه البربرية الأربية.”[4]

وجه عولمة الأصولية والبربرية الغربية، في جزء منه، يتمثل في دولة إسرائيل في الشرق الأوسط، وهو مشروع غربي يلخص أسوأ ما تتصف به الأصولية والبربرية الغربية، فمصلح البربرية يرتبط بالعنف بشتى أنواعه، الجسدي والمعنوي، من أجل إخضاع المعنفين لأمر معين يترتب عنه سلب ممتلكاتهم أو وطنهم أو حريتهم… فالعنف يُعتبر المركّب الأساسي للبربرية، بكونها تمثّل تلك الأعمال التخريبية التي تطال الذوات البشرية، وهذا هو ما تقبل عليه إسرائيل الآن أمام أعين العالم بمباركة أمريكا وحلفائها، وقد تفاجأ الجميع من قول الرئيس الأمريكي عند زيارته لإسرائيل (بتاريخ:18/10/2023م) إثر أحداث (7 أكتوبر2023م) “حتى ولم توجد إسرائيل لأوجدناها” وكذلك من تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية قوله: “أزور إسرائيل بصفتي يهوديا وسنلبي جميع حاجاتها الدفاعية” هذه التصريحات أسقطت القناع بشكل جديد عن الغرب، وظهر بأنه يتصرف بدافع أصوليته الدينية بهدف حماية مختلف مصالحة الإستراتيجية، وكالعادة قد اصطفت مختلف الدول الأوربية من وراء القرار الأمريكي. والغريب عندما تجد فيلسوف مشهور بالتنظير لفلسفة التواصل، وبالدعوة إلى العقل كأفق كوني للتواصل العقلاني، وهو يورغن هابرماس (-1929م) يصدر بيانا إلى جانب آخرين، تضامنا مع مختلف الجرائم التي قامت بها وتقوم بها إسرائيل في حق الفلسطينيين، فموقف هابرماس وغيره، فاجأ الكثير من المثقفين العرب وغير العرب، فأين هو وجه العقل والتواصل والإنسانية في فلسفة هابرماس إذن؟ هل هابرماس يفكر من داخل الأصولية اليهودية؟ أمام هذا الوضع البئيس، هناك غرب آخر، يتظاهر كل يوم في مختلف شوارع العواصم الغربية، يدين الحرب، ويستنكر كل ما تقوم به إسرائيل.

أكبر خطر يهدد العالم اليوم هو خطر الأصوليات، فكل الأصوليات يهودية أو مسيحية أو إسلامية، تشكل خطرا أكبر على مستقبل الإنسانية، فانتصاراتها لا نجني من ورائها إلا الدمار.[5] كما هو الحال اليوم في غزة التي دمرتها الأصولية اليهودية بمساعدة ورعاية الأصولية الغربية. فما حصل في غزة شبيه بما وقع طيلة القرن العشرين، بقتل المدنيين العزل والأطفال والنساء. وهذا يعني أن غرب القرن العشرين هو نفسه غرب القرن الواحد والعشرين. أمام هذا الوضع لا يكفي رؤية العالم من منظور غربي فقط، وقد اتضح للجميع أن رؤية الغرب متطابقة مع مصالحه على حساب مصالح الغير. فمنذ زمن الاستعمار، تم تهميش التصورات غير الغربية بشكل متزايد، بل تم تدميرها جزئياً ومحوها. لقد جعل التغريب العالم أفقر وأكثر رتابة.[6]

الإنسانية اليوم في أمس الحاجة لترى العالم بمعزل عن أي شكل أو لون من ألوان الأصولية. فأصولية الغرب جعلته يتصور نفسه في مقدمة خط السباق سباق التقدم، وما دونه يتمركز وراءه، السؤال هنا بالنظر إلى مختلف مشكلات وأزمات العالم والحروب التي كان الغرب وراء الكثير منها. هل حلها يكمن أمام الغرب أم وراءه؟ هل الغرب اليوم مستعد ليلتفت وراءه إلى مختلف ثقافات الشعوب والأمم التي يعتقد أنها وراءه؛ أي الشرق؟ أم أن أصوليته ستحيل بينه وبين ذلك؟

 

المراجع:

[2]  سبب رحلة الطهطاوي ارتبطت بمهمة مصاحبة بعثة طلابية إلى فرنسا أرسلها محمد علي (-1849م)، بصفته إمامًا لها وواعظًا ومرشدا دينيا.

[3]  وهي رحلة لم يكتب لها أن تصل أيدي القراء بشكل كبير، وبقية طي النسيان، وأول من حققها هي الباحثة الأميركية سوزان ميلار، التي نالت عنها درجة الدكتوراه من جامعة ميشغن، في شعبة التاريخ سنة 1976. ونقلها الى العربية خالد بن الصغير 1995م. رحلة محمد الصفار وهي رحلة قصيرة، دامت أكثر من شهر، فقد ارتبطت بمهمة بعثة دبلوماسية كان الصفار من بين أعضائها، أرسلها السلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام (-1859م) إلى فرنسا.

[4]  إدغار موران، “ثقافة أوروبا وبربريتها” ترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2007م. ص.20

[5] الأصوليات المعاصرة، ترجمة، خليل أحمد خليل، دار عام ألفين، طبع سنة 2000م، ص 11

[6] شتيفان فايدنر، ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد، ط.1، منشورات مؤمنون للنشر سنة 2013م (مقدمة الكتاب)

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete