“أطواق” حول الفلسفة

في السياقات العربية الإسلامية

ينطلق هذا المقال من مفهوم بسيط وعميق للفلسفة، كان قد اقترحه الدكتور عبد الرحمن بوقاف أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر، يعتبر فيه الفلسفة “نصا قارئا أو نصا شارحا لنصوص أخرى”، قد تكون نصوصا علمية أو دينية أو فنية أو غير ذلك، فتتحول الفلسفة وفقا لهذا التعريف إلى منهج أو طريقة للنظر في النصوص الأخرى، والميزة الأهم لهذه الطريقة هي كونها نظرا نقديا. وقد حققت الفلسفة في السياق الغربي مكاسب كثيرة ومهمة، واعتلت منزلة راقية خصوصا منذ لحظة التنوير في القرن الثامن عشر، ولأن النقد كان السمة الأبرز لهذه اللحظة، فقد استطاعت الفلسفة الغربية، بفضل هذا التوجه النقدي أن تعيد النظر في الكثير من المفاهيم والرؤى، تمخضت عنه رؤية حداثية شاملة لمختلف مفاهيم الإنسان والطبيعة والتاريخ والسياسة وما إلى ذلك.

وإذا تحولنا بأنظارنا شطر الشرق، وتأملنا منزلة الخطاب الفلسفي، وبالتالي، النقدي، في السياقات العربية الإسلامية، نجد أن هذا الخطاب، وإن كان موجودا وحاضرا، إلا أنه في الغالب، خطاب محدود، حذر، وخجول، إن لم يكن خائفا، وغير قادر على الانتشار والتأثير على أوسع نطاق، ومن ثم نطرح إشكاليتنا المتمثلة في البحث عن العوائق التي حالت وتحول دون انتشار الفكر الفلسفي النقدي في السياقات العربية الإسلامية.

هناك ملاحظة وجب التنبيه إليها في هذا السياق، هي أن وضع الفلسفة أو مكانتها تختلف من بلد لآخر، ومن ثم يبدو من غير الممكن ولا المفيد إطلاق حكم عام حول الفلسفة في كل العالم الإسلامي، غير أنه في المقابل يمكن الحكم أن هذه المكانة ومهما كانت الاختلافات بين الدول والمجتمعات العربية المسلمة ليست بالمكانة المرموقة، كما أن المنتوج الفلسفي لمفكرينا ليس بالمنتوج الذي يمكن وصفه بالعالمي لأنه لم يستطع أن يترك أثرا مهما في فكر الآخر المختلف، والدليل على ذلك هو قلة الترجمات الخاصة بالنصوص الفلسفية العربية المعاصرة للغات الأجنبية، ونحن متيقنون أن الغرب لم يكن ليترك هذا النصوص غير مترجمة للغاته لو وجدها ذات قيمة فلسفية يمكنه الاستفادة منها.

نعتقد أن هناك العديد من العوامل التي اجتمعت لتقزيم منزلة الفلسفة في المجتمعات العربية الإسلامية، فقد اعتبرت عبر التاريخ الإسلامي لدى الدوائر النافذة في توجيه البلاد والعباد “رأس العلوم الدخيلة” و”أس السفه” و”مسلك الزندقة والهرطقة”، وانتهى الأمر بـــ”لعنة الحرمان” التي أطلقها أبو حامد الغزالي ضد المشائين المسلمين من خلال مؤلفه الشهير “تهافت الفلاسفة” والتي لا تزال تطال الكثير من المشتغلين بالفلسفة إلى يوم الناس هذا، ولم تجد الفلسفة في العالم العربي الإسلامي الحظوة إلا في فترات زمنية متقطعة وغير طويلة.

يرى الأستاذ عبد الرحمن بوقاف أن الفلسفة أو الخطاب النقدي في مجتمعاتنا يعاني من حصار محكم، يظهر في شكل “أطواق” تحيط به لتحد من انتشاره ومن ثم فعاليته، وهي: الطوق المعرفي أو الإبستيمولوجي، الطوق السياسي، والطوق الديني وهو أكثرها تأثيرا وخطورة على القول الفلسفي.

1-الطوق المعرفي: يتجلى فعل هذا الطوق في تقاسم موضوعات المعرفة مناصفة بين العلوم الطبيعية التي تهتم بالطبيعة والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تدرس الإنسان، لتجد الفلسفة نفسها دون موضوع ومن ثم لا ضرورة للاشتغال بها، هذا ما يفسر تهميش أقسام الفلسفة في جامعاتنا، وتهميش خريجي الفلسفة في سوق العمل مقارنة بغيرهم من التخصصات الأخرى علمية كانت أو إنسانية، هذا ما أدى بالتدريج إلى عزوف الطلبة عن الالتحاق بتخصص الفلسفة في العالم الإسلامي، يكفي أن نذكر بأن هناك دولا عربية لا تضم جامعاتها أي قسم للفلسفة!! وهذا أمر غير معقول تماما في القرن الواحد والعشرين، كما أن الفلسفة كمادة تعليمية تبدو أقل أهمية من غيرها من المواد الدراسية، من جهة أخرى فالفلسفة تعاني من المشاكل العديدة التي تتعلق بعالم الكتب من نشر وتوزيع وارتفاع أسعار الكتب مما يضعف نسبة المقروئية وبالتالي الحضور والاستثمار والاستفادة من النص الفلسفي وجعله يكتسح قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية، وبالتالي يظل نصا نخبويا يتداوله المختصون والأكاديميون دون سواهم، إلا فيما ندر. يمكننا أن نضيف، ضمن هذا الطوق، طوقا آخر لا يقل أهمية من حيث تضييقه على الفكر النقدي، عن العوائق سالفة الذكر، أقصد به طوق المرجعية، ذلك أن جل ما يكتب ويقال ضمن الفكر العربي المعاصر، فهو يتحرك ضمن حدود –قد تتسع وقد تضيع-ترسمها المرجعية التي يتكئ عليها هذا القول، وهي مرجعية تتأرجح عموما بين نصوص وشخصيات تراثية أو غربية، وتضغط هذه المرجعيات بشكل كبير على ممكنات القول، لتوجهها نحو هذه الوجهة أو تلك، وهي بهذا الضغط تحد من استقلالية هذا القول، وبالتالي، تحد من إمكانية الإبداع والتجديد.

2-الطوق السياسي: فعل هذا الطوق يظهر في الحجر على الفكر النقدي باسم المصلحة العليا للوطن أو الأمن القومي، وكما هو معروف، فإن الخطاب النقدي في الغالب يصدر عن المعارضة، وموقف السلطة من المعارضة في مجتمعاتنا لن يكون إلا إقصائيا كما هو ملاحظ بجلاء، ومن ثم فالمفكر النقدي أو الفيلسوف يبقى في مجتمعاتنا منظورا إليه بريبة وحذر في أحسن الأحوال، وغير مرغوب فيه تماما في أحيان كثيرة، باعتباره يمثل خطرا على النظام العام، ومصدر قلق للفئة السياسية الحاكمة، إلا في بعض الحالات التي يتخلى فيها هذا المفكر عن الوظيفة النقدية ويتحول إلى الوظيفة التبريرية التسويغية، وفي هذه الحالة يفقد صفة الفيلسوف بفقدان الوظيفة الأساسية للفلسفة، وهنا ترضى عنه السلطة، وقد تمكنه من مناصب المسؤولية العليا في الدولة.

3-الطوق الديني: وهو أعتى هذه الأطواق على الإطلاق، ولنا في تاريخ صراع المتحدثين باسم الفلسفة ورجال الدين أمثلة كثيرة، ففي كثير من المرات كانت تجند أسلحة السماء والأرض لردع الفكر الحر، كلما تم خرق قاعدة “يشترط ألا يكون خارج الضوابط الشرعية”. بمعنى أن هناك دوما مساحة محددة بإحكام للممكن التفكير فيه، ولا يجوز خرق حدود هذه المساحة بتفكير “الممنوع التفكير فيه” -إذا وظفنا لغة محمد أركون- وسلاح التكفير جاهز دوما لكل من تسول له نفسه الخروج عن الشروط والضوابط التي عادة ما يحددها غيره، بمعنى أن هناك عقلا ما يحدد لعقل/عقول الآخرين ما يمكن/يجوز التفكير فيه، وما لا يمكن/لا يجوز التفكير فيه، وكل خرق لهذه الحدود يجعل صاحبه يدفع الثمن باهضا، من التهميش إلى التكفير والتبديع إلى السجن أو حتى إلى القتل مثلما حدث في بعض الدول العربية الإسلامية.

طبعا، هناك عوامل أخرى مرتبطة بما يسمى بالأطر الاجتماعية للمعرفة أسهمت كلها في المنزلة الدونية التي حشرت فيها الفلسفة نصا وخطابا في السياق العربي الإسلامي، غير أن هذه العوامل لا تعفى المشتغلين بالفلسفة من مسؤوليتهم تجاه هذا الوضع، والتي تكمن في عدم قدرة غالبيتهم على إقناع القارئ العادي بمدى فعالية الخطاب الفلسفي، وهذا قد يكون مرده توظيف أجهزة مفاهيمية مستعصية على غير المتخصص وموغلة في التجريد، وبعيدة عن الانشغالات اليومية والمشكلات التي يرغب الإنسان العادي في إيجاد حلول فعالة وسريعة لها، كما أن الفلسفة كما هي ممارسة في العالم العربي الإسلامي لم تستطع كسب أصدقاء ومساهمين من فضاءات معرفية أخرى خاصة فضاء العلوم الدقيقة والبيولوجيا، فإذا استقرأنا التجربة الفلسفية الغربية نجد أنه في كل اللحظات الحاسمة من تاريخها كانت تطعم بمفاهيم ومناهج وتصورات علمية عبر مساهمات العلماء الفلسفية، من رينيه ديكارت إلى إسحاق نيوتن إلى غاستون باشلار وتوماس كوهن إلى جورج كانغليهم والقائمة تطول، فهؤلاء العلماء حين دخلوا ميدان الفلسفة وقاربوا بعض مشكلاتها وأسئلتها كانت مقارباتهم تتم من خلال أجهزة مفاهيمية ومنهجية تنتمي إلى الميادين العلمية التي جاؤوا منها ومن ثم قدموا إضافات نوعية على مستوى المفاهيم والرؤى والتصورات الفلسفية.

في المقابل نعاني في الساحة العربية الإسلامية من غياب علماء بالمعنى الدقيق للكلمة وإن وجدوا فيندر أن ينفتحوا على الفضاء الفلسفي ويسهموا في تطعيمه بأفكارهم وتصوراتهم التي تشكلت ضمن فضاءاتهم العلمية الأصلية، وفي غياب الإضافات العلمية للخطاب الفلسفي العربي لن ننتظر زحزحة الفلسفة من منزلتها التي رسمها لها المستفيدون من ازدرائها وتغييبها.

من جهة أخرى، لابد من انفتاح المشتغلين بالفلسفة في العالم العربي على ميادين الفنون والآداب بمختلف تشكيلاتها وتفريعاتها، فالملاحظ أنه بالرغم من كون القيم الجمالية إحدى الأقسام المهمة لمبحث الأكسيولوجيا الذي هو أحد المباحث الكبرى للفلسفة منذ الإغريق، إلا أن اهتمام متفلسفة العرب بهذه القيم يبدو ضعيفا جدا وغير ذا قيمة تذكر، اللهم إلا بعض الترجمات أو الدراسات الوصفية للمنتوج الفلسفي الغربي، وهي قليلة جدا مقارنة بالمباحث الأخرى للفلسفة، وأهمية انفتاح الخطاب الفلسفي على الفنون والآداب يمكن تلمسها في مواطن كثيرة، لعل أهمها تطعيم الفلسفة وإثرائها بما تنتجه هذه المجالات الإبداعية من مفاهيم ورؤى حول الإنسان والعالم والتاريخ والحياة..الخ كما هو الشأن بالنسبة للعلوم، كما أن الفن يفيد الخطاب الفلسفي كثيرا في مسألة المعنى على اعتبار أن الفن مجال خصب للتعدد والاختلاف والحرية..الخ، وهي قيم يبدو الخطاب الفلسفي العربي والإسلامي بحاجة ماسة إلى تثبيتها والتعود عليها في ظل طغيان الدغمائية والنزوع لممارسة الوصاية على كثير من الفاعلين في الحقل الفلسفي عندنا.

في الأخير يمكننا القول أن تحسين منزلة الفلسفة والخطاب النقدي عموما في مجتمعاتنا مقترن بالسعي للتحرر من هذه الأطواق التي تضيق على القول الفلسفي، هذا التحرر وإن كان صعبا، فإنه يبقى ممكنا وهو مقترن بصورة كبيرة بانفتاح المشتغلين بالفلسفة على مختلف النصوص الأدبية والعلمية والدينية، وقراءتها قراءة جديدة، بلغة قريبة من الواقع الذي نعيشه، وبأجهزة مفاهيمية غير موغلة في التجريد، أقصد لغة قريبة من الإنسان العادي، لغة  يمكن أن يتفاعل معها القراء من مختلف المستويات بصورة أكبر، وبالتالي، خلق إمكانية انتشار القول الفلسفي في المجتمعات العربية الإسلامية.

 

 

 

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete