أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية- الجزء العاشر

تكوين

الأصول الاجتماعية للتشريع القرآني – 6

مناقشة حول القانون المدني

كمنهج عام، لم يقدم القرآن نظاماً تشريعياً شاملاً في أي فرع من فرع من فروع القانون، ورغم أنه عالج العقوبات ومسائل الأحوال الشخصية بشيء من التفصيل قياساً بالمسائل المدنية، إلا أنه لم يصل بهذه المعالجة إلى حد إنشاء نظام تشريعي بالمعنى الفني: لائحة تفصيلية موسعة، تغطى حاجات التعامل الأكثر شيوعاً داخل المجتمع، وتنضوي في الوقت ذاته تحت إطار نظري كلي.

على المستوى الجنائي، نص القرآن على عدد محدود من الجرائم المسماة، لا يغطى دائرة التأثيم العقابي داخل نطاقها الزمني الإقليمي، ما سيدفع بالفقه لاحقاً إلى مفهوم ” الجرائم التعزيزية ” أي الجرائم التي يترك للقضاء تحديد موضوعها وتقدير العقوبة عليها، وهو مفهوم إشكالي في صيغته الفقهية السلفية، التي تتعارض بوجه ما مع مبدأ الشرعية النصية (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق).

عدم النص على جرائم بعينها من قبل القرآن، منهج تشريعي طبيعي يترجم حالة الواقع الاجتماعي؛ فإغفال النص مثلاً على جرائم الأموال العامة (الاختلاس، الاستيلاء، الرشوة) مفهوم تماماً في ظل غياب دولة ذات جهاز إداري منظم. وإغفال النص مثلاً على جرائم النقد (تزييف العملة، الترويج، التهريب) مفهوم تماماً في ظل غياب نظام اقتصادي نقدي. كما أن طريقة المعالجة تعكس بدورها مشاغل المجتمع المباشرة، ففي القتل مثلاً يبرز مفهوم ا القصاص، ومفهوم الدية بشكل يتماشى مع الأهمية التي يسبغها عليهما الاجتماع القبلي في الجزيرة العربية. وهذا يضعنا بوضوح أمام الطبيعة “التاريخية” لعملية التشريع، حتى ولو كانت تجرى من داخل الأطر الدينية، إذا كان التشريع الديني مطلقاً، أي يقصد نظام قانوني مؤبد يصلح لكل مكان كما يعتقد الوعي السلفي، فما معنى إغفال النص على حاجات المستقبل؟ وإذا كان الغرض من ذلك ترك كل زمن يعبر عن حاجاته فما معنى النص على حاجات الماضي؟

-2-

أهمية الشريعة الإسلامية في القانون

على المستوى الجنائي أيضا، يقدم القرآن معالجة مقتضبة ومجملة؛ فهو لا يعطى تعريفاً جامعاً يحدد أركان الجريمة التي ينص عليها، ويكتفى بالإشارة إلى العقوبة، دون بيان تفصيلي لشروط تطبيقها وكيفية تنفيذها، فالنص مثلاً وهو يتكلم عن القتل العمد والقتل الخطأ، لا يعرض لمفهوم العمد ولا لمفهوم الخطأ. فهو لا يتناول “القصد الجنائي” في جريمة القتل العمد، أو ما إذا كانت هذه الجريمة تتطلب قصداً جنائياً خاصاً هو نية إزهاق الروح، وهوما سيكشف لاحقاً عن نوع من الاضطراب الفقهي: فالمذهب المالكي يعتبر الضرب المفضي إلى الموت قتلاً يستحق عقوبة الإعدام قصاصاً حتى ولو لم تكن نية الجاني قد انصرفت إلى إحداث الوفاة.

وفي السرقة، لا يقدم النص تحديداً موضوعياً للجريمة يفرق بينها وبين غيرها من جرائم الاعتداء على المال، التي تتشابه أو تتقاطع معها، ولا يقدم تصنيفاً داخليا لها، فالسرقة هي السرقة بغض النظر عن قيمة المال المسروق، أو صفة الجاني وظروف ارتكابه للفعل سواء كانت مشددة أو مخففة، وكذلك عن صفة المجني عليه وعلاقته بالجاني، وينعكس ذلك على مستوى الجزاء الذي خلا بدوره من التفريد العقابي، ليقدم في شكل عقوبة بدنية مصمتة ذات حد واحد، تطبق في جميع الأحوال وعلى جميع الأشخاص. وهي معالجة تبسيطية تعكس طبيعة الاجتماع الذي كانت تعالجه، في بيئة صحراوية خشنة، ذات اقتصاد فقير (رعوي إجمالاً رغم وجود أنشطة تجارية وزراعية متفرقة).

لاحقاً، سيتكفل الفقه بمعالجة هذا التناول الإجمالي، وسيسقط على النص بعض أنواع من التفريد، بالحديث عن “النصاب” أو الحد الأدنى لقيمة المال المسروق الذي يستوجب القطع، والنقاش حول استحقاق العقاب على السرقة بين الفروع والأصول، وسوف يؤسس الفقه ذلك على روايات الحديث التي كانت في الواقع تقنيناً مباشراً للعرف العربي الجاهلي. (قارن منهج المعالجة القرآنية المجملة، بمنهج النصوص اليهودية التي تضمنت تفريداً موضوعياً وعقابياً واسعًا، والتي تعتبر السرقة بحسب الأصل، “قضية مدنية” تجد حلها في التعويض المالي).

وفي الزنا، لا يعطى النص تعريفاً محدداً للفعل المؤثم، يمكن التمييز من خلاله بين صور مختلفة من الممارسات الجنسية التي تمثل اعتداء على العرض، وعلى سبيل المثال، ثار النقاش في الفقه حول الممارسات المثلية بين الرجل والرجل أو بين المرأة والمرأة وما إذا كانت تدخل في معنى الزنا، بسبب الصياغة المقتضبة للآية 16 من سورة النساء ” و اللذان يأتيانها منكم فأذوهما”  ومن اللافت أن القرآن وهو يعالج الزنا في سورة النور، أسهب في مسألة “الإثبات”، على نحو نفتقده في جريمة القتل وجريمة السرقة، وهي ملاحظة تستحق التوقف في ظل غياب نظام إجرائي، شامل، أو نظرية عامة في الإثبات و المحاكمة، علماً بأن الشق الإجرائي من عملية التشريع الجنائي (خصوصاً) ينطوي على أهمية موضوعية بالغة بسبب حساسية الآثار التي تترتب على العقوبة. قد يبدو هذا الإسهاب مفهوماً بالنظر إلى السياق الظرفي الذي وردت فيه آيات الزنا من سورة النور، فقد وردت هذه الآيات في أعقاب وبسبب حادثة الإفك (الاتهام الموجه إلى زوجة النبي)، وهو سياق يستدعى مفهوم التشدد في طلب الثبوت وتفصيل آلياته ( أربعه شهود) و المعنى أن العلاقة وثيقة بين الظروف الواقعية والحكم النصي في أساس حضوره، وفي مضمونه، وبنيته الصياغية.

أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية – 2

بوجه عام، كان التشريع القرآن يأتي لاحقاً على وقائع اجتماعية بعينها، أي كان يظهر بشكل آني لمعالجة حالات فردية خاصة فيما يعرف بأسباب النزول، الأمر الذي يكشف عن أغراضه المحلية المؤقتة. هذا المعنى الذي كان واضحاً بالنسبة إلى المخاطبين الأوائل، سيحرى تجاهله لاحقاً في عصر التدوين (العباسي) بعد تبلور ثقافة “الفقه” وتشكل مفهوم “الشريعة” في ظلل الحضور الثابت “للدولة” ودورها المعلن من قبل الفقه كحارسة للدين.

-3-

ماذا تعنى هذه المعالجة الجزئية المجملة؟

تعني أن الأصل التشريعي العام فيما لم يرد بشأنه نص في عصر التنزيل هو العرف القانوني السائد في المحيط العربي الجاهلي. وهو العرف الذي سيعتمد عليه الفقه في عصر التدوين وهو يشكل منظومته التشريعية الواسعة.

بشكل رئيسي، سينتقل هذا العرف إلى الفقه من خلال روايات الحديث. عملية التحديث التي جرت على نطاق واسع في القرن الثاني تمت بتوجيه فقهي، وكانت تعنى في الواقع تحويل العرف إلى ” نص” خصوصاً بعد تنظيرات الشافعي التي خلقت مفهوم “السنة”. أعني أنها أدت تنظيريًا إلى إخفاء العرف من المشهد الذي صار يقدم بلغة الأصول على النحو الآتي: إجمال القرآن تفصله الأحاديث أي السنة وليس العرفي الجاهلي، ثمة نص يفصل النص. ومن هنا صعوبة التعامل مع التشريع داخل العقل الديني السلفي كفعل اجتماعي.

طبيعي أن ينشأ فقه بالمعنى الفني عند وجود نص تشريعي و جهاز قضائي الفقه – الذي صنع مفهوم الشريعة، ونصب النص كمرجعية أصلية لها – سيتكفل عمليًا بسد الفراغ التشريعي الذي تركه النص بمعالجاته الجزئية وصياغاته المجملة. وندرك الآن حجم الفارق الكمي بين المادة التشريعية الواسعة التي راكمها الفقه بامتداد عصر التدوين، والمادة التشريعية المحدودة التي قدمها القرآن.

-4-

المعاملات المدنية

جرياً على منهجه الدارج، لم يقدم القرآن في مجال المعاملات لائحة تفصيلية أو نظرية كلية، بل أشار إلى بعض المضامين المدنية العامة، في صياغة مجملة مشربة بنفس أخلاقي، كما في الآية 29 من سورة النساء “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم”. لكنه تناول بشيء من التفصيل بعض الأحكام الفرعية مثل حكم الربا في الآيات 275 – 279 من سورة البقرة، وبعض القواعد ذات الطابع “الإجرائي” التي تتعلق بالدين من جهة التوثيق بالكتابة، أو بالشهود، أو بالرهن في الآيتين 282 – 283 من سورة البقرة أيضًا.

الربا في الإسلام

“الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا. وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون”

يبدو النص حاسمًا في تحريم الربا، فهو يتوعد آكله بالخلود في النار، ويربط بين فعله والكفر، وبين تركه والإيمان بالله، ومن هذه الزاوية يحمل النص تناقضًا صريحًا مع النظام العرفي الجاهلي.

كان الربا فعلاً دارجاً في ممارسات العرب المالية قبل الإسلام، وهي ممارسات بسيطة بوجه عام رغم حضور التجارة والتعامل أحيانًا بالعملتين الفارسية والبيزنطية. ومع ذلك لا يمكن القول بأنه كان يمثل ركناً أساسياً من أركان النظام الاقتصادي الجاهلي، على النحو الذي يمثله سعر الفائدة في النظام الاقتصادي المعاصر، وهو ما يدعو إلى استبعاد أو تأخير التعليل الاقتصادي المباشر للتحريم في النص القرآني، واقتراح التعليل الديني (الأخلاقي)، الذي توحي به صياغة النص المشبعة بنفس أخروي صريح (الوعيد بالنار مع التبشير بالجنة، والتذكير بتقوى الله).

ومن اللافت، مع ذلك، أن بعض القراءات التراثية تنبهت إلى هذا التعليل الاقتصادي، ربما على نحو مقارب لتحليلات النظرية الكينزية ( التي تشير إلى تخفيض أو الغاء سعر الفائدة كحافز لتنشيط الاستثمار في نظام مالي نقدى يعاني من الركود).  فنحن نقرأ في تفسير الرازي في أواخر القرن السادس (ت 604 ه) قال بعضهم: الله تعالى إنما حرم الربا من حيث أنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم زائدًا، نقداً كان أو نسيئة، خف عليه اكتساب وجه المعيشة فلا يكاد يحتمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق) ( مفاتح الغيب، م 4، ج 7، ص 77).

هذا التحليل يتناسب مع التطورات الاقتصادية التي انتهى إليها الاجتماع الإسلامي في القرنين الخامس والسادس، والتي شهدت تزايدًا نسبياً لفاعلية النقود، لكنه لم يكن ورادًا في ظل النظام الاقتصادي السائد في الجزيرة العربية عند القرن الأول.

ينتمي الرازي في التفسير إلى المنهج “العقلي”، أو الأقل نقلية بالقياس إلى المناهج السلفية الشائعة، وهو يتجاوز بتحليله آليات الفقه التقليدية، حيث الأصل هو عدم تعليل الأحكام أو قراءتها في سياق البحث الاجتماعي أو العقلي فهذه الأحكام. معللة إجمالاً بحكمة الله سواء أمكن أو لم يمكن إدراكها.

أما التعليل الذي يمارسه القائلون بالقياس فهو تعليل سطحي يدور مع النص الجزائي في منطوقة اللغوي المحدود.

يظل التعليل الديني الأخلاقي لحرمة الربا هو التعليل السائد في التفسير السلفي. والرازي نفسه يشير في تعليل التحريم إلى أربعة أسباب أخرى: ” ذكروا في أسباب تحريم الربا وجوهًا أحدها: الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة، قال (ص) “حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ” فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً.. وثالثها” قيل السبب في تحريم عقد الربا أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض.. ورابعها: أن الغالب أن يكون المقرض غنياً والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالاً زائداً، وذلك غير جائز برحمة الرحيم، وخامسها: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بحرمة عقد الربا وإن كنا لا تعلم الوجه فيه” (الرازي، مفاتيح الغيب، م4، ج 7، ص 76، 77).

-5-

هذا الموقف المتشدد من قبل النص حيال الربا يستحق مزيداً من النظر فهو فضلاً عن صياغته التي تستخدم أشد عبارات التأثيم يتضمن نهياً فورياً عن الفعل بما في ذلك العقود التي انعقدت قبل نزول النص “ذروا ما بقي من الربا” و “إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم” فهو يدخل في صدام مباشر مع النظام الاجتماعي ويهدف إلى تغييره الآن وليس على التراخي:

القول بالتعليل الأخلاقي يستدعى المقارنة بين هذا الموقف. والموقف القرآني من العبودية، فكلا الموقفين غير مقبول بمقاييس الأخلاق الكلية، وكلاهما مقبول اجتماعياً. ولكن النص لم يحرم الرق، وتعاطى معه كأمر واقع مباح يستحب التخفيف من آثار السلبية قدر المستطاع. الفارق بين الموقفين التشريعيين يعكس الفارق بين موقع كل من الفعلين بالنسبة إلى النظام الاجتماعي السائد: الربا يتوفر على موقع ها مشي نسبياً بسبب طبيعة البنية الاقتصادية البسيطة، على عكس العبودية الله تتغلغل في نسيج هذا النظام. والمعنى الواضح في الحالتين هو أن “الاجتماع” يظل الفاعل الأساسي الذي يحرك ” التشريع” حتى لو كان صادراً في سياقات دينية:

في العبودية، ورغم أن النص يبدو واعيا بالمشكل الأخلاقي ويسعى إلى تخفيف آثاره قدر المستطاع بالحض على العتق وترويجه من خلال الكفارات، إلا أنه يقر في نهاية المطاف بشرعية الفعل ومقبوليته الاجتماعية.

متى يجوز الربا

وفى الربا، ورغم النهي الفوري الصريح، سنقرأ في المصادر الإخبارية ما يفيد أن النبي رخص لبعض الناس في الربا على سبيل الاستثناء، بغرض تشجيعهم على الدخول في الجماعة المسلمة ثم عاد فألزمهم بالتحريم في وقت لاحق. ينقل القرطبي عن ابن إسحاق وابن جريج والسدى أن الآية 278 ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا” نزلت في ثقيف، وكانوا عاهدوا النبي (ص) على أن ما لهم من الربا على الناس فهو لهم، وما للناس عليهم فهو موضوع عنهم. فلما أن جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت على بني المغيرة المخزوميين. فقال بنو المغيرة لا نعطى شيئاً فإن الربا قد رفع. ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد فكتب به إلى رسول الله (ص) ونزلت الآية فكتب بها رسول الله إلى عتاب، فعلمت بها ثقيف فكفت» (القرطبي، الجامع، ج 5، ص 245، 246).

وقد أورد الواحدي هذا الخبر في أسباب النزول عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في بنى عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفى بن المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنو المغيرة يربون لثقيف. فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمر بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا وضع عن الناس غيرنا، فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله (ص) فنزلت هذه الآية والتي بعدها، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله” فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله” (الواحدي، أسباب النزول، ص76).

من المعلوم أن التصالح مع ثقيف جرى عقب غزوة حنين أي في وقت لاحق على فتح مكة، ويفهم من ذلك أن الترخيص بالربا لثقيف كان بعد نزول التحريم، ويفهم أيضا أن الآية 278 نزلت بعد فترة زمنية من نزول الآيتين 275، 276 لمعالجة حالة واقعية خاصة. هذا التصالح الذي يتم على شروط مخالفة لنص تشريعي صريح، يكشف عن مرونة في التعاطي مع التشريع، بما يؤكد القول بأن التشريع لا ينتمى إلى جوهر الدين الأخلاقي بل يصدر عن دوافع الاجتماع السياسي المتغيرة، وقد تكرر هذا الموقف من قبل الرسول وهو بصدد التفاوض مع القبائل للدخول في تحالف الدولة الناشئة، فقد تضمنت هذه المفاوضات عروضاً صريحة بإعلان الدخول في الإسلام مع البقاء على أوضاعهم التشريعية والسياسية، وهذا واضح في رسائل الرسول التي بعث بها إلى رؤساء القبائل مثل الحارث الغساني في دمشق، وهوذة بن علي في اليمامة، والمنذر بن ثاوي في البحرين، وأيضا في رسالته إلى ثقيف في الطائف (انظر ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج2 ، ص 146 وانظر ابن سعد، الطبقات الكبرى ج1، ص 62.). في هذه المرحلة كان التداخل واضحاً بين المعنى السياسي والمعنى الديني داخل المشروع الإسلامي. كان الدخول في الدين يعنى الدخول في حلف الرسول، بمعنى أن الانضمام الجماعي إلى هذا الحلف خطوة سياسية تسبق عادة الانخراط في الدين، الذي يحتاج إلى وقت لاستيعاب الإيمان والتعاليم.

-6-

الربا المحرم بين القرآن والفقه

لا يعطى القرآن تعريفاً للربا، فهو من المجمل الذي يحتاج إلى بيان من خارج النص. وهو ما يربط مفهوم الربا بالمعنى المتداول للفظ لدى المخاطب الأول. فنحن حيال عرف لغوى وثيق الصلة بالعرف الاجتماعي العام، لكن هذا الارتباط لا يظل قائماً على امتداد الزمن، بسبب أن العرف الاجتماعي يتطور عادة بوتيرة أسرع من تطور اللغة، وهي حقيقة واضحة في تاريخ اللغة العربية ذات الطابع المعجمي البطيء.

في العرف العربي لدى المخاطب الأول، لم يفهم من لفظ الربا إلا معنى “النسيئة”، أي زيادة الدين بسبب الأجل، سواء كان دين قرض أو دين بيع. يشرح الرازي: “ربا النسيئة هو الأمر الذي كان متعارفاً في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به” ( مفاتيح الغيب، م 4، ج7، ص 25).

لكن الفقه سينتهي إلى أن الربا المحرم ينطبق على أصناف من البيوع المعروفة في الجاهلية العربية، وهي البيوع التي تندرج. تحت ما يسميه الفقهاء بربا الفضل، أي زيادة الوزن أو الكيل بسبب التفاضل في النوع ( مثل بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو التمر بالتمر )، ويستند الفقه في ذلك إلى روايات الحديث.

يذهب ابن عباس إلى أن الربا المحرم في الإسلام هو فقط ربا النسيئة الذي تناوله القرآن، أما بيوع الفضل فهي بيوع مباحة تدخل في عموم الآية القرآنية “وأحل الله البيع”. يشرح الرازي هذا الخلاف الفقهي بقولة: ” حجة ابن عباس أن قوله تعالى “وأحل الله البيع” يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً، وقوله “و حرم الربا” لا يتناوله، لأن الربا عبارة عن الزيادة، وليست كل زيادة محرمة، بل قوله “وحرم الربا” إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى في ما بينهم بأنه ربا وذلك هو ربا النسيئة. فكان قوله” وحرم الربا” مخصوصاً بالنسيئة، فثبت أن قوله” وأحل الله البيع” يتناول ربا الفضل، وقوله “وحرم الربا” لا يتناوله. فوجب أن يبقى على الحل، ولا يمكن أن يقال: إنما يحرمه بالحديث لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز. وهذا هو عرف ابن عباس، وحقيقته راجعه إلى تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا؟ وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، فأما القسم الأول فبالقرآن، وأما ربا النقد ( الصرف وبيوع الفضل) فبالخبر. ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ( التي وردت في الأحاديث) ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء: حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة بل ثابتة في غيرها، وقال نفاة القياس بل مقصورة عليها” ( مفاتيح الغيب، السابق، ص 76،75).

لا أهدف هنا إلى الدخول في مجادلة فقهية حول تحريم هذه البيوع بل إلى قراءة عملية التحريم قراءة “اجتماعية” بين لحظتي النص والفقه، وإبراز أن النص تحمل بفعل الفقه – بحمولة دلالية لم يكن يحملها وقت التنزيل. وذلك من خلال الروايات الآحادية التي صارت تأخذ وصف السنة، وتمثل مصدرًا أساسياً للشريعة:

يعتمد الفقه هنا على رواية رئيسية تجمع البيوع المحرمة في صياغة واحدة ترد في جميع كتب الحديث: عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (ص) “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً يمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء”.

شاهد أيضاً: ماهي الشريعة التي يطالب المتطرفون بتطبيقها؟

نفاة القياس يقصرون التحريم على الأصناف السنة الواردة في الحديث. أما الجمهور فيذهب إلى أن التحريم يمتد إلى كل مكيل أو موزون من جنس واحد، فيمتنع مثلاً بيع التراب بالتراب متفاضلًا لأنه يدخل في الكيل، ويجوز بيع الخبز قرصاً بقرصين لأنه لا يدخل في الكيل. ورأى البعض أن علة التحريم لا تكمن في الكيل أو الوزن. بل في كون الصنف طعاماً، فبحسب الشافعي، في الجديد، لا يجوز بيع الدقيق بالخبز، ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلاً ولا نسيئًا ) ( انظر الننوي، المجموع، 9/397). فيما رأى المالكية أن علة التحريم في أصناف المأكولات الأربعة الواردة في الحديث، ليست في كونها من الموزونات أو المكيلات، ولا في مجرد كونها من الطعام، بل في كونها من القوت الضروري الذي يدخر عادة من أجل العيش (انظر القرطبي، الجامع، ج 3، ص 241).

في النص النبوي يمكن ملاحظة الطابع ” المحلي” الخاص، فالأصناف الأربعة المشار إليها هي الأكثر شيوعاً كطعام أساسي في بيئة صحراوية جافة وفقيرة كبيئة الجزيرة العربية، وهو ما يسمح لنا بفهم الإشارة إليها كنوع من الحماية التشريعية التي يسبغها عليها النص لاعتبارات اجتماعية واضحة. (كون الأشياء قوتاً أساسياً يضفي عليها ” قيمة معيارية” داخل محيطها الاجتماعي الخاص، ما يجعلها تصلح للقيام بوظيفة النقود كمخزن للقيمة في اقتصاد مقايضة، وهو ما يساعد على فهم التعاطي معها كالتعاطي مع الذهب والفضة، أي أن الدينار والدرهم).

في لحظة الفقه، حيث تمددت الاعتبارات الاجتماعية بفعل التوسع الجغرافي، فرض مفهوم “القياس” نفسه كآلية ضرورية لتوسيع دلالة النص، وفى ضوء ذلك يمكن فهم التنوع المذهبي داخل الفقه بوصفه مظهراً ضرورياً للتنوع الاجتماعي: في بيئة العراق الزراعية الأكثر وفرة اعتمد أبو حنيفة معيار الكيل والوزن. وفي البيئة المصرية الأكثر تنوعاً اعتمد الشافعي معيار الطعام. بينما اعتمد مالك الذي عاش في المدينة، أي في بيئة النص النبوي الأولى، معياراً أقرب إلى روح النص وغرضه المباشر وهو كون المطعومات قوتاً أساسياً مما يعتمد عليه الناس العيش.

-7-

أحكام الدين

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)).

لا يذكر الواحدي في أسباب النزول خبراً يتعلق بهاتين الآتيين. لكن المصادر تنقل عن ابن عباس أن آية الدين نزلت في بيع السلم خاصة، يعنى سلم أهل المدينة، فقد قدم الرسول اليها “وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم”. رواية ابن عباس واردة في البخاري ومسلم وعند أصحاب السنن، وهي تربط مباشرة بين الآية والنشاط الاقتصادي الخاص بأهل المدنية، أي تشرح نص الآية من خلال سياق محذوف، فالنص لا يصرح بعبارة السلم، ولكن المخاطب الأول كان يدرك دلالته بمساعدة هذا السياق.

ونتيجة لذلك ذهب بعض الفقه إلى أن معنى المداينة في الآية يقتصر على دين المسلم، بينما ذهب آخرون إلى أن الآية تنطبق على أي دين ناتج عن بيع، سواء كان بيع سلم أي بيع الدين بالعين، أو بيع أجل أي بيع العين بالدين. وذلك تطبيقا للقاعدة التي اصطنعها الفقه، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب يشرح القرطبي: “الدين كل معاملة كان أحد العوضين فيها (حاضرًا) والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً، والدين ما كان غائباً” (الجامع، السابق، ص 455).

ونتيجة لذلك أيضا، ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية نص في إباحة بيع السلم، استثناء من النصوص التي تحرم بيوع الربا و بيوع الغرر، فنقرأ عند الرازي: ” الله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم” مفاتيح الغيب، م4، ج7، ص 94).

ويشرح القرطبي المسألة على النحو الآتي: “السلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، مستثنى من نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك. وأرخص في السلم لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين. فإن صاحب رأس المال محتاج أن يشترى الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية. وقد سماء الفقهاء بيع المحاويج”. (الجامع، م.2، ج3، ص 256).

في هذا النص يقدم القرطبي تعليلًا اقتصادياً مباشراً للحكم التشريعي، فإباحة السلم استثناءً من قاعدة تحريم أوسع، وعله الاستثناء هي “المصالح الحاجية” الخاصة بمجتمع المدينة، حيث كانت بيوع الثمار قبل نضجها أو قبل زراعتها تمثل نشاطًا ضروريًا من الناحية الاقتصادية. والمعنى الواضح هنا هو أن النص النبوي في خياره التشريعي موجه من قبل مصالح اجتماعية، وأن هذه المصالح هي بالذات مصالح المجتمع، التي تتغير بالضرورة بتغيير الزمن. وهذا معنى القول بأن التشريع بطبيعته فعل اجتماعي متغير لا يجوز تثبيته إلى الأبد تحت عنوان الشريعة الدينية.

-8-

قواعد اتفاقية

في نص الآيتين مفردات حقوقية متعددة، تبدو أوسع من موضوع السلم (أبرز صور التداين في مجتمع المدينة) فهو يعالج أساسًا مبدأ كتابة الدين كوسيلة للتوثيق، ويشير من خلال ذلك إلى عدة أحكام تتعلق بطريقة الكتابة، وواجبات الكاتب، وتتطرق ضمناً إلى مسألة الولاية والأهلية، فالمدين هو الذي يملى على الكاتب، وولى المدين يحل محلة إذا كان لا يملك أهليه التعاقد لصغر أو سفه، أو كان عاجزًا بسبب الضعف. (لاحقًا ستظهر هذه المسائل في شكل تفصيلي مبوب ضمن نظرية موسعة في الأهلية). ويعالج النص مبدأ الشهادة بشيء من التفصيل، فيعرض لعدد ونوع الشهود، وواجب الشاهد في التحمل والأداء (لاحقًا سيعمم الفقه هذه الأحكام في الإثبات المدني والجنائي). ويتنبه النص إلى واحدة من قواعد الفكر القانوني الحديث هي التمييز بين الدين المدني والدين التجاري، بسبب الطبيعة الخاصة للتجارة التي تتطلب السرعة والائتمان. فالدين التجاري مستثنى من حكم الكتابة (وهذا تفصيل استطرادي يشير إلى توسع أغراض النص). ويواصل النص معالجته لحكم الكتابة فيعرض لحالة عدم حضور كاتب بسبب السفر (التنقل في البادية حيث لا يفترض وجوده بحسب الغالب) والحل المقترح في هذه الحالة هو الرهن (الحيازي کما يفهم من السياق). ثم يعقب النص بذكر الضمان الأخير الذي يغطى جميع حالات المداينة، في شكل وصية ذات طابع أخلاقي تحض على أداء الأمانة، فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه”.

يذهب جمهور الفقهاء إلى أن هذه الأحكام التي تتعلق بالتوثيق واردة في النص على سبيل الندب وليس الوجوب، وذلك خلافاً لرأى البعض الذين يحملون الأمر على الفرض في جميع الأحوال. فنحن – كما يشرح الرازي – ” نرى جمهور المسلمين على جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤدية من غير كتابة ولا إشهاد. وذلك إجماع على عدم وجوبها، ولأن في إيجابها أعظم التشديد على المسلمين”. (مفاتيح الغيب، السابق، ص 96).

القول بالندب يعنى أن النص التشريعي القرآني يتضمن قواعد اتفاقية. وهي في مصطلح القانون المدني، قواعد غير ملزمة يجوز الاتفاق على ما يخالفها، فهي مقترحات إرشادية مقدمة من قبل المشرع لتسهيل التعامل في المسائل المدنية، على اعتبار أن التعامل في هذه المسائل يقوم بحسب الأصل على قاعدة “حرية الإرادة” ولذلك فإن المشرع لا يرتب على مخالفتها أثراً جزائياً كالذي يرتبه على مخالفة القواعد الملزمة (العقوبة في المواد الجنائية – البطلان كجزاء على بعض صور التصرف أو مخالفة الإجراءات).

مؤدى ذلك أن مفهوم “الندب”، وهو مفهوم بارز في نظرية الأحكام الفقهية، يستلزم الإقرار بأن ثمة تشريعات غير ملزمة رغم كونها منصوصة، وبأن النص الديني حين يمارس التشريع يستخدم آليات القانون الاعتيادية والتي تجمع بين القواعد الملزمة وغير الملزمة.

-5-

التشريع هو التشريع، في موضوعه، وآلياته الفنية، سواء كان واردًا في نص ديني أم في نص وضعي، في الحالتين يصدر عن المصالح الاجتماعية ويستهدفها. وفي الحالتين يتضمن قواعد ملزمة وأخرى اتفاقية. القواعد الملزمة تشير إلى مصالح تتمتع بدرجة اعتبار عالية بالنسبة إلى مجتمع النص في لحظة التشريع من وجهة نظر المشرع.

في التشريع الوضعي تظهر فكرة “المصلحة الاجتماعية” بشكل صريح كغرض نهائي للقانون، سواء كان المشرع يعبر عن إرادة شعبية صحيحة أو مفترضة، أو كان يعكس مصالح طبقة اقتصادية بالمعنى الماركسي، أو يترجم ببساطة الإرادة المطلقة لحكم أوتوقراطي.

هدف التشريع

وفي التشريع الديني تبقى “المصلحة الاجتماعية” هدف التشريع من حيث الواقع، لكنها تختبئ تحت الصياغات الأخلاقية والغيبية للنص الديني وشروحاته الفقهية: في الوعى الفقهي السائد تتوارى فكرة المصلحة الاجتماعية أمام الحضور الطاغي “لفكرة الإرادة الإلهية”، أو فكرة الطاعة التي تختلط داخل هذا الوعى بفكرة “الإيمان”، فتصير  الأحكام الفرعية هدفاً في ذاته، فهي منزلة لكن تطاع، بصرف النظر عما إذا كان وراءها مصلحة أو لم يكن، وسواء تم إدراك هذه المصلحة أو لم يتم إدراكها.

مع ذلك، وبغض النظر عن إنكارها أو الاعتراف بها، تظل المصلحة الاجتماعية حاضرة في التشريع النصي (الخالص) كما في التشريع الفقهي        ( الاجتهادي ). علماً بأن التشريع النصي الخالص لا يكاد يوجد من الناحية العملية. بسبب أن النص في الحقل الديني يعمل عادة من خلال رؤية الفقه ( رؤية عقلية اجتماعية دائماً، ومذهبية غالباً ) على الدوام يلون الفقه النص ببصمة المجتمع، وتاريخيًا مارس الفقه حيال النص دوراً إنشائيًا تجاوز التلوين إلى الخلق والتكوين، الأمر الذي يضفي على فكرة “المشرع” في الحالة الدينية قدراً من الخلط والالتباس. حيث کل تشريع في الواقع يوجد عبر الفقه، سواد تعلق بنص أو باجتهاد، ومع ذلك فهو منسوب في الحاليين إلى المشرع الإلهي.

أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية الجزء التاسع: أحكام الزواج… مشكل المرأة

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete