أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية: الجزء الحادي عشر

 حول تشكل مفهوم الشريعة؟

 الدولة – الفقه – النص

-1-

بحسب التنظير السلفي، يجب إنشاء الدولة في الإسلام كي تقوم بتطبيق الشريعة التي يفرضها النص، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. (راجع تعريف الإمامة لدى الماوردي في “الأحكام السلطانية “، وعند ابن خلدون في ” المقدمة”، وراجع برهان الغزالي على وجوب نصب الإمام في ” الاقتصاد في الاعتقاد “).

تهدف هذه المقالة إلى تتبع فكرة الشريعة في السياق الإسلامي المبكر. متى ظهرت كمفهوم أصولي مستقر؟ هل لها حضور موضوعي وزمنى مستمد من النص وسابق على الدولة؟ هل يحتوي النص بالفعل على نظام تشريعي كلى واجب التطبيق في كل زمان ومكان؟ أم أن هذا مفهوم نظري مستحدث، خلقه الفقه، وجرى تكريسه عمليًا بفعل الحضور المتواصل للدولة طوال عصر التدوين؟ ألم تنشأ الدولة في الإسلام – كما في أي سياق تاريخي – كواقعة اجتماع طبيعية توافرت شروطها، قبل تشكل الصيغة النهائية للديانة، التي لم تظهر إلا في القرن الثاني؟ ثم ما هو النص؟ وكيف ظهر كمفهوم مرجعي تقوم عليه أصول الفقه والشريعة؟ ألم تتطور بنية “النص” كرد فعل لحركة الصراع السياسي المبكر وتداعياته المذهبية؟

ما هي أنثروبولوجيا الإسلام؟

توفى الرسول عن كيان سياسي يشبه الدولة، أو عن دولة في طور الإنشاء والتكون، بمعنى أنها لم تكن قد اكتملت بشكل واضح عند إغلاق النص، خصوصاً من جهة جهاز السلطة الذي يجسد حضورها كشخص معنوي منفصل عن شخص القائد المؤسس. بعد الهجرة إلى المدينة صارت حركة النبي تكشف عن وجه سياسي صريح أو – في عبارة أخرى – عن ملامح مبهمة لمشروع ديني سياسي مختلط. بدا ذلك واضحاً في عمليات التحالف والمواجهات العسكرية التي تواصلت مع القبائل المناوئة  (العربية واليهودية )، والتي ظلت تدفع الجماعة المسلمة في اتجاه التحول إلى دولة، وسنقرأ في هذا التوجه أول ملامح التطور في بنية الخطاب الديني، الذي ظل طوال المرحلة المكية خالياً من المضامين السياسية، أو التكاليف ذات البعد التشريعي.

بوجه عام، تولد الدولة ككائن اجتماعي طبيعي عند توافر شروطها في الواقع، سواء وجد أو لم يوجد محرك ديني. لكن حضور الدين يؤدى عادة إلى حركة توتير عالية في بقية عوامل الاجتماع، وهو ما أدى في الحالة العربية القبلية إلى إنضاج شروط الدولة.

الدولة والشريعة

داخل الثقافة القبلية، تفهم الدولة بشكل بدائي ككيان عائد إلى شخص القائد المؤسس، وليس كمؤسسة معنوية ذات وجود قانوني مستقل. بعد وفاة النبي أعلنت معظم القبائل المتحالفة معه عن فض التحالف بوصفه، اتفاقاً “قبليًا” سياسيًا خالصاً، ينتهي بوفاة أحد طرفيه. وفي اجتماع السقيفة واجه عمر بن الخطاب الأنصار بالحديث عن “سلطان” محمد الذي يجب أن ترثه قريش. وبالمنطق ذاته احتج علىُّ بن أبى طالب على القرشيين بالحديث عن “سلطان” ابن عمه الذي يستحق بالميراث لأهل بيته من بني هاشم، ولاحقاً، سيتحدث معاوية، وهو يدفع معارضة أبناء الصحابة لتوريث يزيد، عن “الملك” الذي أسسه محمد لبني عبد مناف : (في نصوص الأحاديث التي أدلى بها عمر وعلي ومعاوية، ومصادرها، وفي مفهوم الوراثة عمومًا في نظرية الحكم الإسلامي، انظر كتابي: “السلطة في الإسلام : نقد النظرية السياسية” ،  الفصل الأول) الدولة هنا سلطان فردى يرجع إلى شخص المؤسس، أي ملكية قابلة للتوريث إما للقبيلة (كما حدث في الواقع وتم تقنينه “سنيًا” عبر “نصوص” منسوبة إلى النبي تقول بأن الأئمة من قريش )، وإما لعائلة النبي ( كما احتج على وتم تنظيره “شيعيًا” عبر “نصوص” منسوبة أيضاً إلى النبي تؤكد أن الإمام من أهل البيت).

-3-

طوال المرحلة المكية (13 سنة)، ظلت فكرة الدولة غائبة كلياً، ولم تتضمن النصوص القرآنية أي إشارة تفيد باستهداف إنشائها في المستقبل. وبشكل طبيعي خلت النصوص من أي مواد تشريعية.

– بالانتقال إلى المرحلة المدنية، صار النص يغطى حركة التحول السياسي ويسجل الممارسات الفعلية للجماعة المسلمة في علاقاتها مع الجماعات القبلية والدينية المجاورة، وفي علاقاتها الداخلية، وفي هذا السياق صارت تظهر في النص معالجات ذات طابع تشريعي. ( ومع ذلك ظل النص المدني لا يشير إلى الدولة ذاتها ككيان كلي، ولا إلى نظام للحكم وإدارة السلطة ).

انغلق النص إذن عن منطوق له طابع اجتماعي سياسي، يرشح لفكرة الدولة، ويشتمل جزئياً على روح تشريعي، قد يوحي لمن يريد بالربط بين فكرة الشريعة وفكرة الدولة. أعني أن الصبغة الدينية التي أسبغها الفقه على الدولة وورثها الفكر الأصولي، لا تفتقر إلى أصول نصية، إن لم تكن صريحة ومباشرة فهي إيحائية وقابلة للاستلهام.

لقد كان النص “يعكس” حركة الواقع وهي تمضي باتجاه الدولة كفعل اجتماعي بحت، ولم يكن هو الذي “أنشأ” هذه الحركة بأمر تكليفي مبتدأ، ولذلك سنفهم كيف أن النص الذي تضمن بعض المواد التشريعية، وهي من المكونات الموضوعية للدولة، لم يتضمن معالجات قانونية ذات طابع دستوري.

واقعياً، يمكن قراءة المسألة كالآتي: الحضور المتواصل للدولة هو الذي كرس مفهوم الشريعة، وليس أن حضور الشريعة في النص هو الذي أوجب إنشاء الدولة لتقوم بتطبيق الشريعة. المواد التشريعية الحاضرة في النص، ليست أكثر من معالجات فرعية لوقائع محلية ذات طابع آنى، أفرزها مجتمع النص، وتم استصحابها – بسبب الدولة – إلى المجتمع الإسلامي الجديد، بعد توسيعها وتنظيمها بمعرفة الفقه. الدولة، التي تشكلت مبكراً في السياق الإسلامي كواقعة اجتماعية طبيعية، هي التي ثبتت منظومة الفقه التشريعية، وساعدت على تعميمها، ولم تخلق خلقاً من قبل النص من أجل تثبيت هذه المنظومة وتعميمها.

النص 

-4-

في الطرح الديني التوحيدي، يرتبط مفهوم النص بمفهوم الوحى   ( كلام الله )، و مفهوم الكتاب ( لغة مدونة)، ومفهوم المقدس (سلطة إلزامية عليا )، فهو في النهاية : وحى، مدون، ملزم. ونحن نقرأ المسألة من موقعنا الراهن، نستطيع القول بأنه : عندما توفي النبي سنة 13 هـ كان هذا الوصف الثلاثي للنص ينطبق على شيء واحد هو القرآن، حيث لم تكن الأحاديث النبوية قد اكتسبت بعد صفة النص من خلال عملية التجميع والتدوين التي ستجرى لاحقاً تحت مسمى “السنة ” في القرن الثاني.

وصف النص في القرآن

مع ذلك وحين نقرأ المسألة عند لحظة وفاة النبي، يلزم الحديث بشيء من التحفظ حيال إطلاق وصف النص على مادة القرآن ذاته، لسببين:

الأول: أن “التدوين”، بمعنى الجمع الشامل بين دفتي كتاب واحد، لم يكتمل حتى عصر عثمان بن عفان (ت 35 هـ). كما أن النقاشات النقدية التي دارت حول عملية الجمع، من جهة المنهج وجهة الموضوع، استمرت لفترة أطول بفعل التشقق المذهبي الذي نجم عن الفتنة الكبرى، وظلت تلقى بظلالها لبعض الوقت، ليس على موثوقية النص العثماني فحسب، بل على لزومية الجمع. من حيث المبدأ. هذه النقاشات تتجدد على نطاق واسع في الوقت الراهن في ظل تطور منهجيات التوثيق، وبحوث المخطوطات والنقد التاريخي، التي لا تستثنى النصوص المقدسة.

السبب الثاني: يتعلق بمفهوم السلطة “الملزمة” وكيفية قراءته في هذا الوقت المبكر. فنحن لا تستطيع الجزم بتوافر وعى “نظري” لدى الصحابة بمفهوم الإلزام النصي كمصدر تشريعي مسمى ومستقل عن قوة، “العرف”. يمكن الحديث عن توافر “الوعي” بقداسة المعاني اللاهوتية التي تضمنها القرآن، والتي شكلت صلب الإيمان الديني خصوصاً في المرحلة المكية. ولكن هذا الوعي لم يكن حاضراً بالمعنى نفسه ولا بالقوة نفسها في ما يتعلق بالنواحي التشريعية، التي لم يعالجها القرآن بلائحة مسبقة في كتاب مجمع، بل عالجها كحالات واقعية، في سياقات مفرقة وثيقة الارتباط بالأعراف المحلية السائدة.

لذلك، ورغم استخدام القرآن لمفردة الكتاب وصفاً لآياته، كان تعاطي الصحابة معه يتم من خلال التنزيل “المنجم”، الأمر الذي ترك أثره في تشكل الوعى بالنص (التشريعي خصوصاً ) كمصدر لأحكام مرتبطة بالواقع والعرفي العملي، أي في تشكل رؤية للنص أكثر واقعية           ( أكثر وعياً بغرضه الوظيفي) من رؤية الأجيال اللاحقة على الجمع والتنظير الفقهي.

أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية 4 إشكالية الدين والقانون

هذه الرؤية تفسر لنا الكثير من الممارسات التشريعية المبكرة التي أبدى الصحابة من خلالها نزعة اجتهادية صريحة لا تتطابق نتائجها مع أحكام منصوصة في القرآن. وهو ما يدل على أن الوعي لم يكن حاضراً بالقاعدة الفقهية : “لا اجتهاد في وجود النص، وهي القاعدة التي تصلح حرفياً كتعريف لمفهوم ” النصية”.

في نموذج لهذه الرؤية، ينقل الطبري عن ابن عباس: ” أنه لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله ينساه، أو نقول له فيغيره” فقال بعضم يا رسول الله أنعطي الجارية (البنت) نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيًا” (انظر الطبري، التفسير، النساء: 11).

لا تذكر الرواية رد الرسول، لكنها تشير إلى وعي الصحابة بأن الأحكام التشريعية ليست من المطلق الديني الثابت، ومن ثم فهي قابلة للنسيان وقابلة أيضا للتغيير، رغم ورودها في متن القرآن، الذي يأتي في شكل آيات مفرقة، ولم يكن قد اكتسب وضعيته التقنية تحت مسمى “النص” كوثيقة مرجعية حاملة لشريعة شاملة.

وقد ظل هذا الوعي حاضراً بعد وفاة النبي وانغلاق القرآن. ويمكن ملاحظته بوضوح في الممارسات التشريعية التي كانت تصدر عن عمر بن الخطاب من موقع الحاكم، في شكل أوامر قانونية واجبة الطاعة رغم تجاوزها لدلالات صريحة في النص القرآني: راجع مثلاً تحريم عمر لزواج المسلم من امرأة كتابية مع ورود النص بحله في القرآن: “نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر غضباً شديداً حتى هم أن يسطو عليهما.

فقالا: نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صغرة قماء” ثم قال: “أخاف أن يقتدى بهما الناس فيزهدوا في المسلمات) (انظر الطبري، التفسير ج 2 ص 389، ج 9 من ص307). وراجع مثلاً موقف عمر وهو يحرم على الإماء تغطية رؤوسهن، فقد كان يضربهن على ذلك ويقول لا تشبهن بالحرائر (القرطبي، الجامع، ج7، ص )183 وراجع أيضا ما نقله عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن قال : “هم عمر بن الخطاب أن يكتب في المصحف أن رسول الله (ص) ضرب في الخمر ثمانين، ووقت لأهل العراق ذات عرق”.

وراجع – أخيراً – موقف عمر بتحريم زواج المتعة، والجدل العنيف الذي ثار حوله بين الفقهين السني والشيعي، ولاحظ بوجه خاص منهج التوفيق السني بين تحريم عمر والنص القرآني التي يوحى بإباحتها كما فهم بعض الصحابة كابن عباس، وهو فهم مدعم بقراءة قرآنية ” شاذة” ” وعدد كبير من الأحاديث النبوية. ولاحظ في المقابل مبالغة الجانب الشيعي في تبنى حكم المتعة، لا كفعل تعاقد مدنى “مباح” فحسب، بل كفعل ديني من أفعال التقرب إلى الله، وربطه في سياق الطعن على عمر بين تحريمه لمتعة الزواج وتحريمه لمتعة الحج”.

ببساطة، كان عمر من موقعه كحاكم يعبر عن المرونة الطبيعية للتشريع التي تلبي حاجات الواقع الاجتماعي، ولم ينظر إلى التشريع كفعل ديني ثابت ومقدس في ذاته. لاحقاً في عصر التنظير المذهبي، سيتم تجاهل هذا التحليل المباشر عند تفسير موقف عمر، سواء من قبل خصومه الشيعة، أو من قبل مناصريه السنيين. وكلاهما كان يصدر عن رؤية مشتركة لمفهوم ” النصية”، الذي أفرزه التنظير المدون: وظف الخصوم مواقف عمر للتدليل على مخالفته لهدى القرآن، وتأول المناصرون هذه المواقف في إطار منظومة الأصول السنية التي صارت تعتمد قول الصحابي كمصدر للحجية عند غياب النص، لكن المناصرين واجهوا صعوبة حقيقية في تبرير مواقف عمر من داخل هذا الإطار، حيث تعين عليهم تفسير مخالفة عمر “لنص” حاضر، ولجأوا في ذلك إلى استخدام آليات متعددة مثل استدعاء الروايات، وادعاء الإجماع والقول بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم.

المعنى الواضح هنا أنه حتى فيما يتعلق بالقرآن، احتاج مفهوم النصية إلى بعض الوقت كي يتبلور في صيغته الفنية المعروفة أي كمرجعية مسماة ذاتية الإلزام بقوام لغوى مجرد عن تاريخ الوقائع. لم يكتسب القرآن هذه الوضعية إلا في عصر التدوين الذي سيبدأ في القرن الثاني، والذي ستتشكل من خلاله الصيغة النهائية المعروفة الآن للإسلام كديانة كتابية.

} تاريخيًا وفي جميع السياقات الكتابية، يمثل عصر التدوين مرحلة تأسيس ثانية، تعيد هيكلة الديانة وتعطيها شكلها النهائي المغلق. في هذه المرحلة يتم اعتماد النسخة الرسمية للنص التأسيسي، ويتم إضافة نص ثانوي، وتتشكل منظومة العلوم النقلية التي تدور على النصيين، مكونة ثقافة دينية أوسع. نحن في الواقع لا نقرأ مرحلة التأسيس الأولى إلا من خلال المادة الثقافية التي تم صنعها في عصر التدوين {.

ظهور النص الثاني وتبلور الفقه

-5-

بشكل تدريجي، اكتسب القرآن سلطته كمرجعية تشريعية رسمية. في البداية تجاورت هذه السلطة مع سلطة العرف والنظام الاجتماعي السائد، وتداخلت معها، وبمرور الوقت صارت تحرز مزيداً من التبلور والاستقلال. عملياً وخلافاً للطرح اللاهوتي الإيماني، لم يقدم القرآن طرحاً تشريعياً مناقضاً للعرف العربي الجاهلي، بل كان يستعير منه نصاً، أو يحيل عليه من خلال السكوت. ولذلك ظلت سلطة العرف تفرض حضورها في المجال التشريعي لفترة طويلة تالية، حتى بعد تبلور سلطة النص بالمعنى الأصولي.

طوال القرن الأول، اشتغلت سلطة القرآن مع سلطة العرف من خلال الممارسة العملية في القضاء، وبدرجة أقل في الفتوى قبل تبلور “الفقه” كمجال معرف مستقل عن القضاء.

تشتمل سلطة العرف على: السنن العملية التي تضم الآن سوابق الخلفاء، وفتاوى الصحابة، إلى جانب أعمال الرسول المنقولة في السيرة وأخبار القصاص.

حتى ذلك الوقت، كانت أعمال الرسول جزءاً من منظومة السنن التي يرجع إليها في ممارسات القضاء العملية، بمعنى أنها:

  • لم تكن تستغرق هذه المنظومة استعرافا كليًا، ولم تكن تشير حصراً إلى مصطلح “السنة”
  • لم تكن مفرغة في بنيات ذات قوام لغوى محدد يمكن التعاطي معه بأدوات الاستدلال البيانية والمنطقية. أي لم تكن مسماة كمصدر مستقل عن “ما جرى عليه العمل” وفي عبارة موجزة لم تكن قد صارت ” نصاً ” بالمعنى الذي اكتسبه القرآن قبل قليل.

في واقع الأمر، لم يكن ثمة مسافة زمنية واسعة بين اكتساب القرآن لصفة النص بالمعنى التقني المرجعي، واكتساب أعمال الرسول لهذه الصفة. لقد تم إنجاز العمليتين في السياق التنظيري ذاته، الذي تفاقم في القرن الثاني، ولعب فيه الشافعي دوراً رئيساً معروفاً عبر ترسيمه الأحاديث الآحاد المنسوبة للنبي في موقع “السنة” وترسيمه للسنة في موقع “الوحي” المكافئ للقرآن في الحجة.

-6-

كان ظهور “الفقهاء” كطبقة مستقلة خارج ممارسات القضاء يعنى الدخول في وضعية التنظير المنظم، التي تعلن مع تفشي “الكلام” عن الوصول إلى حالة “التدين القصوى” حيث يصير الاجتماع راغباً في التعبير عن نفسه (كلياً) بشكل ديني. وهو غرض لا يمكن تغطيته من خلال منظومة التشريع القرآنية المحدودة أصلاً، والتي عليها -الآن – مواجهة حاجات تشريعية (سياسية / اجتماعية / عقلية) أكثر تنوعاً وتعقيداً. في هذا السياق – وكإجراء متكرر في التاريخ التوحيدي – يتم استدعاء صيغة “النص” ذات السلطة المرجعية كي تكون وعاءً لمفردات الاجتماع المرغوب في تديينها. وهو ما يعنى في النهاية تحويل العرف إلى نص، أي إنشاء نص “اضافي ” إلى جوار النص التأسيسي. وقد جرى ذلك عبر عملية مركبة تضمنت:

  • استخلاص سنن الرسول من المواد العرفية. – تفريغ هذه السنن في صيغة الأحاديث اللغوية القابلة للتدوين.
  • تفريد هذه الأحاديث بوصف السنة وإعطاءها حجية الوحي.
  • بالنتيجة، تزامن ذلك مع طلب متزايد ومفتعل على الرواية المرفوعة.

هذه العملية المركبة كانت جزءاً من حالة التديين التي يمارسها الاجتماع تلقائياً في الجيل التالي على النبوة، وهي كما أشرت حالة متكررة في تاريخ الديانات الكتابية الثلاث. (هذا التكرار قابل للتفسير في ظل الثقافة الاجتماعية السائدة منذ الألف الثانية قبل الميلاد وحتى العصور الحديثة، وهي الثقافة الخاضعة كليا لللاهوت وهيئة التفكير الغيبي).

في كل مرة يقوم الجيل الثاني بإعادة تأسيس أو هيكلة الديانة، في إطار نظري منظم، تتضخم فيه بنية الدين عن منطوقها الأول. وهذا هو السياق الذي نقرأ فيه منظومة الفقه والأصول الإسلامية، التي لم تتبلور في صيغتها النهائية قبل القرن الثالث، أي باعتبارها منظومة تدين أعيد تكونية بفعل الاجتماع، أو منظومة اجتماعية أعادت بناء المنطوق الأصلي للدين، وأضافت إليه، وليست مجرد فعل تنظيري كاشف عن هذا المنطوق أو مبنى عليه.

كان استحداث النص الجديد، أو إنشاء السنة كمصدر مجاور للقرآن هو الإضافة الأكثر أهمية، وإليها ترجع المكانة المحورية التي يحتلها الشافعي لا كمؤسس لأصول الفقه السنية فحسب، بل كفاعل رئيسي في عملية التطوير اللاهوتي التي نجمت عن خلق “مفهوم” السنة.

-7-

أصول الشافعي: قراءة اجتماعية

أسس الشافعي لسلطة الحديث كبديل عن المصادر العرفية ( ما جرى عليه العمل)، وفي الوقت ذاته كبديل عن التفكير من خلال الرأي أو الاستحسان.

تقوم نظرية الأصول الشافعية على فكرة أن مادة الوحي ، أي النصوص، تكفي لتغطية النوازل إما من خلال دلالاتها المباشرة أو بالقياس عليها، وهي فكرة تحتاج إلى أكبر كم ممكن من النصوص، وقد وفرته الأحاديث وكان دفاع الشافعي عن حجية الحديث مثلما كان تأكيده لحجية “القياس ” يهدف إلى تثبيت هذه الفكرة. وهذا ما يجمع بين الحديث والقياس كآليتين متكاملتين في النظرية الشافعية.

العقل الديني – كما اختزله الشافعي – أراد أن يكون النص حاكمًا على كل شيء، ولأن النص الأصلي لا يحقق ذلك حرفياً لزم تمديد النص: توسيع مساحته بالحديث، وتوسيع دلالته بالقياس. ولأن الشافعي اعتبر ذلك كافيًا لمواجهة جميع النوازل (الحاجات التشريعية)، فقد حظر “الاجتهاد بالرأي”، في أي نازلة ما لم يتم ذلك من خلال القياس.

(كانت الترجمة النهائية لهذا الطرح كبت فاعلية التعاطي مع التطور، الذي يظل محكوماً بسياقات إنتاج النص أي باجتماعيات المحيط العربي في عصر التنزيل وعصر التدوين. فمؤدى القياس إحالة المسكوت عنه إلى النصوص، بينما النصوص بسكوتها تحيل إلى دائرة المباح، فكأن القياس يرد على النصوص إحالتها، ويفتئت على دائرة المباح، أي دائرة الحرية الإنسانية. التي تعنى حصراً، وجود مجال للاجتهاد البشرى الخالص خارج سلطة النص. راجع النقاش الموسع حول مشكلة القياس في نظرية الأصول السنية، في كتابي: السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، الفصل الأول).

واقعياً، كانت تنظيرات الشافعي الريادية تعكس نمط التفكير الديني في لحظة تمدده القصوى. لكن هذا التفكير بدوره، ومن حيث لا يعي وعياً صريحاً، كان يعكس إرادة الاجتماع غير المرئية ويختزن على نحو مضمر معطياته السياسية والاقتصادية والعقلية التي ظلت تتطور خلال قرنين سابقين بالتفاعل مع الدين.

يبدو القياس، كما نفهم من سياق تأسيسه – آلية توفيقية تجمع بين الرأي (وهو فاعلية إنسانية من ضرورات الاجتماع العقلي) والنص         ( بسلطته الحرفية كما صار يتعاطى معه الوعى السلفي). النص المقصود هنا هو النصص الجديد، أو روايات الآحاد التي كانت تتزايد بين يدي أهل الحديث، فالرأي لم يكن يشتغل – بالدرجة الأولى – ضد النص القرآني، بل في مواجهة الأحاديث، ثبت الشافعي سلطة الأحاديث، ونفي أي سلطة للرأي ما لم يكن منضبطاً بنص قرآن أو بنص حديث. لقد أراد ضبط فاعلية الاجتماع بالوحي.

لكن، نظرية الشافعي كانت في الواقع تثبت سلطة الاجتماع لا سلطة الوحي. لأن عملية جمع الحديث – كما يدل سياقها الظرفي – كانت فعلاً اجتماعياً بحتاً، تحولت من خلاله مصادر التشريع العرفية ذات الطابع الشفوي، إلى “نصوص” مكتوبة، أي اختبأ الاجتماع من خلالها في النص:

مادة الحديث (التي جرى جمعها وتدوينها على مدى زمني طويل لا يقل عن قرنين، وعلى فترات متقطعة، في ظل صراع سياسي ومذهبي متواصل وتطورات اقتصادية وثقافية متنوعة) حملت اجتماعيات عصرين: عصر “النص” الأصلي، وعصير “التنصيص” الجديد. من العصر الأول تضمنت ما جرى عليه العمل من سنن النبي التي كانت في غالبها، “تقريرية” أي مستمدة من أعراف العرب الجاهلية، وتضمنت فتاوى الصحابة وأحكام الخلفاء التي انقلب كثير منها إلى روايات مرفوعة. ومن عصر التنصيص كانت مادة الحديث تعكس نتائج التطور (الاقتصادي والاجتماعي والثقافي) الناجمة عن الصراع السياسي وعن التوسع العسكري، والتي اسفرت عن تعددية مذهبية واسعة على مستوى اللاهوت ومستوى التشريع.

في الواقع، نحن حيال عملية خلق لنص جديد، حامل لثقافة اجتماعية محلية، وبالتالي حيال تطور جسيم في بنية الديانة، يتعلق بتصورها اللاهوتي، ويكشف عن منابعها التاريخية.

ووفقاً لهذا الطرح، تبدو إشكالية الحديث/ السنة أكثر تعقيداً مما هي عليه في ثقافة المنظومة السلفية. ففي هذه الثقافة، الحاكمة حتى الآن على العقل السني والإسلامي عموماً، اختزلت الإشكالية إلى مسألة          ” اسناد”، أو “توثيق” تدور حول حجية خبر الآحاد. القضية ليست هنا، بل قبل ذلك، في المادة الاجتماعية للحديث ومضمونها “الاجتماعي التاريخي” الذي صار يسند إلى السماء ويحمل سلطة الوحي المقدسة.

ومع ذلك، فالشق التوثيقي من المشكل لا ينحصر من في منهج النقل الأحادي، بل يرجع إلى مجمل السياق الظرفي الذي جرت فيه عملية التحديث. أعني وضعية الصراع السياسي المتواصل بامتداد عصر التدوين، والذي تحول إلى صراع مذهبي ديني، وفيه صارت كل فرقة تؤيد دعواها السياسية بأحاديث مرفوعة إلى النبي. (بالنتيجة ظهرت ثلاث مجموعات رئيسية متناقضة من كتب الحديث، وكتب الرجال، تعبر عن المذاهب الإسلامية الرئيسية الثلاثة. (السنة والشيعة والإباضية)، التي تطورت عن الثالوث السياسي المبكر بعد الفتنة الكبرى).

المنظومة السنية تجاهلت المشاكل التوثيقية الحقيقية في عملية التحديث، ورغم الجهود النظرية التي بذلت في “علم الحديث” لم تستطع حل مشكل الثبوت الظني لخبر الآحاد ، أي لم تستطع إثبات نسبة الحديث إلى الوحى . ومع ذلك فهي تقدم رؤيتها حول حجية خبر الواحد باعتبارها أصلاً من أصول الدين ، لا يخرج عنه إلا المبتدعة ، وهو السيف الذي يبقى مرفوعاً في وجه الآراء المخالفة عموماً

الحديث – الفقه – التشريع

-8-

في البداية ظهر النص الجديد ليبلي الحاجات “الكلامية” للفرق التي أفرزها الصراع السياسي: خلق التشيع نصه الخاص لتأييد مقولاته في الإمامة، والعصمة، والوصية، والغيبة، والرجعة، والتقية. وفى المقابل، تخلق لدى التيار العام (الموافق للدولة والذي سيشار إليه لاحقاً بأهل السنة) نصه الخاص أيضاً وهو يرد على هذه المقولات وعلى مقولات الخوارج، وكانت المحصلة النهائية كمية وافرة من ” النصوص” ذات المضمون الكلامي السياسي. لاحقاً، ستتمدد عملية التنصيص (افتعال الطلب على الحديث) خارج نطاق اللاهوت السياس، كي تسهم في تلبية الحاجات “التشريعية” المتنامية، التي نجمت عن التوسع الجغرافي للدولة.

الظاهرة الجديرة بالتفحص هنا هي ظاهرة التزامن بين التحديث (الذى ظل مفتوحاً خلال القرنين الثاني والثالث) والفقه (الذي كان يتشكل كمؤسسة معنوية خلال الفترة ذاتها) وهو ما أسفر في الواقع عن تداخل موضوعي كان الفقه يتحول من جرائه إلى حديث. هذا التزامن لم ينشأ مصادفة، بل عن إرادة الاجتماع المضمرة لتلبية حاجته التشريعية التي تحتاج إلى “غطاء ديني” لا توفره مادة النص التأسيسي.

لا أشير هنا إلى حالات فردية متكررة من القلب الفقهي، بل إلى حالة تفاعل كلية لعب الفقه من خلالها دورًا خلاقًا في تكوين بنية الحديث وصياغته اللغوية. في الواقع، وكما يصعب فهم عملية التنصيص بمعزل عن الدولة وتداعيات الصراع السياسي، يصعب أيضًا فهما بعيدًا عن السياق الذي نشأ وتطور فيه الفقه.

-9-

انبنت منظومة الفقه / الشريعة في معظمها على الحديث، أي على النص الجديد وليس على النص التأسيسي، ثمة فارق كمي واضح، في كتب الفقه السنية والشيعية، بين النصوص القرآنية ونصوص الحديث المستخدمة في تأسيس الأحكام. يقول البغدادي: “عن طريق الحديث أثبت الفقهاء أكثر فروع الأحكام الشرعية في العبادات، والمعاملات، وسائر أبواب الحلال والحرام. وضللوا من أسقط وجوب العمل بأخبار الآحاد في الجملة من الرافضة والخوارج وسائر أهل الأهواء” (انظر ابن عبد البر، الاستذكار مؤسسة النداء، أبوظبي، مجلد 9، ص 558).

(الربط واضح بين المنظومة الفقهية وحجية أخبار الآحاد، فإذا سقطت الحجية سقطت المنظومة، ومن هنا يأتي تشيد الفقهاء وشهر سلاح التضليل في مواجهة المخالفين. وهو سلاح تقليدي معتاد في العقل الديني، يلجأ إليه عند انسداد طريق الاستدلال، أو لقطع الطريق على الاستدلال بغرض فرض المقولات كعقيدة لا تقبل النقاش).

الحديث لم يغط مساحة التشريع الخالية التي تركها القرآن فحسب، بل امتدت سلطته إلى آيات الأحكام بمقولة تفسير القرآن بالسنة، أو تفسير الوحي بالوحي.

أعيد قراءة الآيات في ضوء الروايات، التي كان لها القول الفصل في توجيه دلالة النصوص القرآنية إلى حد التغاضي أحيانا عن منطوقها الصريح (راجع مثلاً إقرار حكم الرجم في الزنا تأسيساً على الرواية ). وكقاعدة عامة لا نكاد نقرأ حكماً فقهياً صادراً عن نص قرآني محض، أعنى عن نص قرآني لم يشمله التعديل أو التأويل بالرواية.

كان من الطبيعي ظهور تناقضات صريحة بين آيات القرآن وبعض الأحكام التي يحملها سيل الروايات المتنوعة و”المتضاربة” وهي تضاف إلى التناقضات الأصلية التي نجمت عن تجميع الآيات المنجمة في نص واحد مكتوب هو نص المصحف. بغرض معالجة هذه التناقضات، استخدمت آليات منهجية ولغوية ضمن نظرية واسعة في “أصول الفقه”              ( راجع آليتي أسباب النزول، والنسخ ).

وكان على النظرية أن تضبط العلاقة بين سلطة الحديث/ السنة وسلطة القرآن / النص الأصلي. إلى أي مدى يمكن للحديث أن يعمل في منطقة القرآن ؟

التناول السنى لهذه المسألة لا يخلو من التداخل، ويشوبه الغموض: فرغم الحديث عن السنة بوصفها وحياً وصل الينا من طريق الرسول كالقرآن، نصب الشافعي القرآن في موقع الحجية الأعلى، وصرح بأن السنة لا تنسخ الكتاب. وبقى هذا الطرح يمثل المنطوق الرسمي للمنظومة السنية، رغم ما ينطوي عليه من تناقض نظري: إذ كيف يسمو وحي لله على وحي الله من جهة الموضوع. فإن لم تكن المسألة مسألة موضوع بل تتعلق بالثبوت، فكيف يتساوى اليقيني والظني في صفة الوحي أصلاً ؟

عملياً، أسفرت الممارسات الفقهية عن هيمنة كاملة للحديث على النص القرآني من خلال التفسير والتأويل حتى وصلت إلى الإقرار بنسخ السنة للقرآن، وهي نتيجة منطقية لمقدمة الشافعي الأولى التي تساوي بين القرآن والسنة في صفة الوحي. وهذا ما سينتهي إليه بالفعل الأصوليون المتأخرون من الشافعية أنفسهم كما نقرأ عند الجويني في كتابه “الورقات”.

سيروج الفقه لهذا المعنى من خلال صياغات حديثية كما في رواية الأوزاعي عن حسان : ” كان جبريل ينزل على النبي بالسنة كما ينزل بالقرآن “، وينسب إلى الأوزاعي القول بأن الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب ” ( انظر الزركشي، البحر المحيط، مسألة حاجة الكتاب إلى السنة )، وروى الدارمي في “السنن” عن يحيى بن أبي كثير قوله : “السنة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنة، لأن القرآن كما قال مكحول أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن”.

أحمد بن حنبل سيعبر عن هذه الهيمنة ( هوس الرواية ) بطريقته الخاصة؛ فمادة الفقه / الشريعة تستمد أساساً من الحديث (إما كأصل نصي أو كبيان شارح للنص الأصلي)، ولذلك لا يجوز أن يتصدى للفتوى من تقل حصيلته من الرواية عن نصف مليون حديث، أخرج ابن أبي يعلى في “طبقات الحنابلة”، عن الحسين بن اسماعيل : ” قيل لأحمد بن حنبل وأنا أسمع يا أبا عبد الله كم يكتب الرجل من حديث حتى يمكنه أن يفتى ؟ مائة ألف قال لا. قيل له مائتي ألف؟ قال لا. قيل له ثلاثمائة ألف ؟ قال لا. قيل له أربعمائة ألف ؟ قال لا. قبل خمسمائة ألف ؟ قال أرجو”.

عبد يسن

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete