أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية – 2

إشكالية الدين والقانون... النزول المفرق للقرآن: مناقشة حول زمنية النص التشريعي.

تمكين

سلفياً ، لاحظ العقل الفقهي ظاهرة الامتناع عن التشريع في القرآن المكي ، ووقف على ظاهرة النزول المفرق للآيات ، وأقر بعلاقة السببية التي تربط بينها وبين الأحداث، كما لاحظ تغير الأحكام خلال مرحلة التنزيل ، وتنبه إلى الصياغات البنيوية المتباينة للنص ما بين المكي والمدني. ومع ذلك، لم يتسن لهذا العقل الوقوف على المعنى الزمني الاجتماعي في هذه الظواهر، ومن ثم التقاط البعد النسبي للأحكام التشريعية وارتباطها بظروفها البيئية الوقتية. بل على العكس من ذلك مضى في الاتجاه المضاد فألحق هذه الأحكام بالمطلق الديني المؤبد باعتبارها جزءاً من بنية النص التي صارت مقدسة في ذاتها.

عاد العقل الفقهي ففرغ ظاهرة النزول المفرق من مضمونها عبر تبنيه لمقولة النزول المجمل للقرآن من اللوح المحفوظ منذ الأزل. ثم صادر على فاعلية أسباب النزول من خلال تبنى قاعدة ” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”. كما تجاهل الدلالة الجدلية لتغير الأحكام خلال فترة التنزيل القصيرة، عبر التعاطي مع مفهوم النسخ كعملية نظرية تتعلق ببنية النص، وليس كمسار واقعى متطور لتاريخ الجماعة المسلمة الأولى.

في المقالات التالية سأعمق النقاش حول هذه الظواهر القرآنية الثلاث: النزول المفرق ، أسباب النزول ، النسخ ، للوقوف على دلالاتها الزمنية المتحركة ، وكيف تم تغييب هذه الدلالات في عصر التدوين ( العباسي ) وهو عصر “التأسيس الثاني” الذي وضع التصميم النهائي للإسلام كما معروف الآن.

ما سبب نزول القرآن الكريم في أماكن متعددة؟

تكلم القرآن عن مسألة النزول المفرق مرتين؛ الأولى في الآية 106 من سورة الإسراء، والثانية في الآية 32 من سورة الفرقان، وهما سورتان مكيتان، ما يعنى أن المسألة نوقشت في المرحلة الأولى من زمن الوحي. لم يرد في مصادر أسباب النزول رواية تشير إلى السياق الذي وردت فيه الآيتان لكن نص آية الفرقان يكشف عن هذا السياق: “وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا”. فهي جواب عن سؤال تشكيكي من قبل القرشيين في مكة، حيث كان النقاش يدور حول نبوة محمد على خلفية المقارنة المضمرة مع التوراة، التي كانت – بحسب المعارف الدينية المتاحة – قد تنزلت على موسى جملة واحدة. وفي معرض الرد على التشكيك تعلل الآية نزول القرآن مفرقاً بتثبيت فؤاد النبي. أما آية الإسراء فتقدم تعليلاً إضافيا: “وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا”. العلة هنا هي التمهل في قراءة القرآن حتى تتحقق الغاية منه وهي الإسماع والإبلاغ.

ليس في الآيتين ما يشير إلى وجود مجمل للقرآن سابق على نزوله المفرق. لكن هذه الإشارة ستظهر لاحقا في عصر التدوين بعد انتشار الرواية وظهور كتب التفسير. في كتابه       ” البرهان” وهو الكتاب الأكثر أهمية في علوم القرآن على المستوى السني رغم تأخره الزمني ( ق 8هـ ) بسبب جمعه في صعيد واحد بين المباحث القرآنية المتعددة، التي سبق تناولها مفرقة منذ بداية التدوين ، والتي انصبت على بنية النص وتاريخه وليس على مضمونه الذي اشتغل عليه علم التفسير – يورد الزركشي في كيفية نزول القرآن ثلاثة أقوال:

الأول: ” أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجماً في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، على حسب الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد النبوة.

الثاني: ” أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، ما يقدر الله سبحانه إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة على رسول الله.

الثالث:” أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة ” (انظر البرهان في علوم القرآن ، الفرع الثالث عشر ) .

تبنى الزركش القول الأول، فذكر أنه “الأشهر والأصح “، ثم استشهد على صحته بروايتين موقوفتين أخرجهما الحاكم والنسائي عن ابن عباس نص الأولى : ” أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة »، ونص الثانية : ” فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي ». وقد ورد هذا النص الأخير بصياغات مختلفة عند البيهقي والطبراني، ومنها عن ابن عباس قال: ” أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه إثر بعض”.

لماذا أقسم الله تعالى في القرآن بمواقع النجوم ولم يقسم بالنجوم؟

من جانبي، لا أفهم كيف يمكن للقرآن أن يكون ” بمواقع النجوم” ولماذا ، وهي رواية غرائبية مناسبة للطور الثقافي الممتد من عصور التدين القديمة ، ولا مصدر السلطة الاحتجاجية التي يتقمصها ابن عباس بحيث يمتلك صلاحية التقرير في مثل هذه المسألة الغيبية . ولا أهمية هنا لمناقشة هذه الروايات من جهة القيمة التوثيقية بموازين علم الحديث الإسنادية، فهذه القيمة لا تعنى شيئاً بالنسبة إلى انتشار الرواية أو عدم انتشارها في أوساط العامة وكتب التفسير، ما يستحق الاهتمام هنا هو مضمون هذه الروايات ودلالاتها المناقضة لحقيقة التنجيم وفحواه الزمني التاريخي. وهي الدلالات التي قدر لها أن تسود كعقيدة شائعة في الوعي الإسلامي. وقد نسب القرطبي إلى مقاتل بن حيان حصول الإجماع عليها، وذكر الزركشي أنها “مذهب الأكثرين”، ثم قدم في تعليلها الشرح التالي: ” فيه تفخيم لأمره (القرآن ) وأمر من نزال عليه ، وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم. وقد صرفناه إليهم لينزل عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت نزوله منجماً بسبب الوقائع لأهبطه إلى الأرض جملة “، وهو تعليل إنشائي يحاول الجمع بين “واقع” النزول المفرق، و”عقيدة” الحضور الأزلي لكلام الله التي استحدثها الجدل الكلامي حول الصفات الإلهية.

بوجه عام، لم تفلح المحاولات التأويلية في علوم القرآن وكتب التفسير في رفع هذا التناقض بين مقولة النزول المجمل وحقيقة التنجيم التي تربط بعلاقة سببية بين الأحكام المنزلة والوقائع الحادثة. فالقول بالأولى يفرغ الثانية من مضمونها: إذ لا معنى للربط بين الأحكام والوقائع إذا كانت الأحكام مقررة سلفاً قبل أن تنشأ الوقائع، فهنا سوف تنعكس علاقة السببية، ويظهر السؤال عن معنى تعلق الأحكام بوقائع دون وقائع، وعن قصور اللائحة عن تغطية جميع الوقائع والحاجات الممتدة في الزمان طالما أنها وجدت منذ الأزل لتشريع سيمتد إلى الأبد.

ما الحكمة من نزول القرآن الكريم منجما مفرقا؟

يعكس الزركشي علاقة السببية وهو يعلل النزول المفرق للقرآن بقولة: ” في القرآن أجوبة على أسئلة، فهو سبب من أسباب النزول المفرق، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا في ما نزل مفرقاً. وفقاً لهذا التعليل تصبح موافقة البنية الشكلية للمصحف غرضاً أصليا مطلوباً لذاته ، فالقرآن نزل مفرقاً حتى يتوافق مع صيغة السؤال والجواب ، وحتى يوفر المجال لتحقق النسخ كما لو كان النسخ غاية دينية أو ضرورة نظرية تتحدد عليها هيئة التنزيل. هذا القلب الغريب للمسألة يجعل النسخ سبياً للنزول المفرق وليس نتيجة له، ما يؤدى إلى تجاهل الدلالة الضرورية للنسخ وهي: مرونة النص حيال الواقع المتغير حتى في المدى القصير، وامتناع وجود لائحة نصية مسبقة (بنفس ترتيب المصحف) لتنافى ذلك مع الإيمان بعلم الله وتدبيره.

لفهم هذا الطرح يلزم مقاربة السياق الذي ظهر فيه، أعنى السياق الجدلي الذي تمت فيه عملية جمع وترتيب المصحف العثماني: الخلاف حول مبدأ الجمع في ذاته، وحول نسخ التلاوة، وترتيب السور والآيات. فكما يشرح الباقلاني في الانتصار ” ( 1 / 279 – 299 ):” منهم من كتب السور على تاريخ نزولها وقدم المكي على المدني ، ومنهم من جعل أوله ” إقرأ باسم ربك”  وهو أول مصحف على ، وأما مصحف ابن مسعود فأوله ” ملك يوم الدين” ثم البقرة ثم النساء على ترتيب مختلف. وفي مصحف أبيَ كان أوله الحمد ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة على اختلاف شديد”.

بسبب المطاعن التي طالت عملية الجمع اتجه المسار السني في علوم القرآن وجهة “دفاعية” ذهبت به إلى تبنى القول بالتوقيف الإلهي لشكل المصحف العثماني، واحتاج في ذلك إلى رواية النزول المجمل من اللوح المحفوظ ضمن عدد من الروايات والتأويلات .

-3-

مؤدى هذه الرؤية وجود “لائحة تشريعية” سابقة التجهيز ضمن النص الكلى تحتوى على أحكام قانونية ، لكن نزولها توقف على حدوث وقائع بعينها تتعلق بأشخاص بأعيانهم مثل “هلال بن أمية” الذي نزلت فيه آية القذف ، و “أوس بن الصامت ” الذي نزلت فيه آية الظهار، و “جابر بن عبد الله” الذى نزلت فيه آية الكلالة : الأحكام موضوعة قبل الوقائع التي ستنزل بسببها ، ومن ثم فالوقائع واجبة الحدوث كما حدثت بالفعل ، وهى -بوصفها جزءاً من النص الكلى – مقدسة في ذاتها وتشريع أبدى للمستقبل. وهذا يعنى أن التشريع القانوني، مثله في ذلك مثل المطلق الإيماني، ليس مؤبداً فحسب، بل هو أيضا قديم أزلي. وفى هذه الحالة نكون بصدد شريعتين لله متزاحمتين في الأزل: شريعة التوراة، وشريعة القرآن. وهي نتيجة مناقضة للطرح الإسلامي، الذي يقول بقدم كلام الله ويقر في الوقت ذاته بحصول النسخ، خلافاً للطرح اليهودي الذي يذهب عموماً إلى عدم جواز النسخ عقلاً في حق الله ، وامتناعه بوجه خاص على شريعة التوراة ؟ (انظر مناقشة ابن الجوزي للطرح اليهودي “نواسخ القرآن”، الباب الأول ، باب جواز النسخ والفرق بينه وبين البداء).

واضح أن روايات النزول المجمل تخدم العقيدة السلفية في قدم القرآن، التي تبناها أهل الحديث كرد فعل على مقولة «”خلق القرآن” بعد تحولها إلى ” قضية” مثيرة للجدل بفعل المناخ ” السياسي” الذي تولدت واستخدمت فيه. ولدت القضية لأول مرة في العهد الأموي، ثم ثارت من جديد في العهد العباسي: في المرة الأولي جرى توظيفها من قبل المعارضة ضد الدولة ، فقد ثار النقاش حول خلق القرآن على يد الجعد بن درهم ثم جهم بن صفوان للرد على مقولة ” القدر الأزلي السابق في علم الله” التي استخدمها الأمويون – ضمن آليات أخرى – في تأسيس شرعية دولتهم .

وفي المرة الثانية كانت دولة المأمون العباسية هي التي تتبنى مقولة خلق القرآن، وتشهرها في وجه المعارضة التي صار يمثلها الفقهاء وأهل الحديث، وكان هؤلاء قد تحولوا إلى معارضين لسياسات المأمون التي كشفت في بداياتها عما اعتبر نوازع فارسية وميولاً إلى التشيع.

كان جهم بن صفوان قد تكلم في نفي ” الأزلية ” عن صفات الله التي يمكن أن تطلق على غيره، وذلك تنزيها له أن “يوصف بوصف يجوز إطلاقه على غيره، كشيء، وموجود ، وحى ، وعالم ، ومريد ، ونحو ذلك” وأثبت صفاته التي يختص بها وحده  ” قادر، موجد، وفاعل، وخالق، ومحيى ومميت ( البغدادي ، الفرق بين الفرق ) . وعلى نفى العلم الأزلي يترتب نفى القدم عن الكلام ومن ثم عن القرآن. وقد ذهب المعتزلة في جملتهم مذهب جهم في نفى الصفات والقول بخلق القرآن ، وإن اختلفت الحيثيات في تأصيل العلاقة بين المقولتين.

إقرأ أيضاً: المهمشون في التاريخ الإسلامي أو التاريخ المهمل للمعارضة السياسية والدينية بالإسلام

في الخط العام ، يتفق المعتزلة على القول بنفي الصفات الزائدة على الذات من منطلق أن إثبات الصفات يتنافى مع التنزيه المطلق لله كذات قديمة واحدة لا كثرة فيها بوجه ” ( انظر الشهرستاني، الملل ). فهل استطاع الموقف الاعتزالي من زاويتة المعاكسة للرؤية السلفية أن يقف على “المعنى الاجتماعي” للتشريع باعتباره يتعلق بمتغيرات حادثة لا تجوز عليها أزلية المطلق؟ وهل كان يلزم توقع ذلك من المعتزلة في سياقهم العقلي الاجتماعي ؟

تشير المصادر إلى اختلاف المعتزلة حول الإرادة الإلهية على رأيين الأول: وهو مذهب العلاف يقول بأن لله إرادة على الحقيقة، وأن إرادته محدثة أي مخلوقة، وإرادة الله غير مراده وهي زائدة على العلم. والثاني: وهو مذهب النظام، يقول بأن الإرادة لا تضاف إلى الله على الحقيقة، وأنه إذا وصف بها شرعاً في أفعاله ” فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم” وإذا وصف بأنه مريد لأفعال العباد فمعناه أنه آمر بها، وإن وصف بكونه مريداً في الأزل فالمراد بذلك أنه عالم فقط ( انظر الشهرستاني الملل ، والأشعري مقالات الإسلاميين ). يرى النظام أن الله عالم كامل ، فهو يفعل بعلمه، وإرادته هي فعله ، أي أن الإرادة هي المراد كما أن الخلق هو المخلوق. فإرادة الله للأشياء هي خلقها حسب العلم، وليس ثمة فاصل زمنى يمكن تصوره بين علم الله وإرادة الله . ويشرح القاضي عبد الجبار مذهب النظام بقوله ” من أنكر كون الله مريداً يتحاشى أن يدخل التغير في ذات الله ” لأنه تعلق للإرادة القديمة بالمحدث بعد أن لم تكن متعلقة به.

ما يستحق التوقف هنا هو مذهب النظام حول الإرادة الإلهية حين تتعلق بأفعال العباد ، أي حين تتعلق بأوامره التي يدخل فيها “التشريع” فالإلزامات التي تنتج عن هذا المذهب تؤدى إلى القول “بالضرورة “، وهذا مقتضى مذهب أرسطو الذي يعنى أن ما يريده الله ليس شيئاً آخر غير قانون الطبيعة الذى يحكم الكون والإنسان. وهي نتيجة مشابهة لما تنتهى إليه الفلسفة الرواقية التي تقول بجبريه كلية وشاملة تسرى في حق الله ذاته، من دون تفرقة بين قانون الطبيعة والقانون الخلقي. فهل كان النظام يقصد حقاً إلى هذه النتيجة؟ هل ذهب مع أرسطو إلى حد القول بأن ماهية الله علم، وأن لا فرق بين إرادته وقانون الطبيعة ؟ وهل ذهب مع الرواقيين إلى أن الله ليس فوق الناموس، أو أنه -بعبارة سينكا – إذا وضع نظاماً فإنه لا يخرقه ؟ هل كان النظام لا يفرق في وقوع الضرورة على الله بين قانون الطبيعة وقانون الأخلاق، ويوحد من ثم بين هذا القانون الأخير والإرادة الإلهية ؟

إذا صح هذا الاستنتاج نكون بصدد عقل إسلامي معتزلي يقول بأزلية القانون الأخلاقي والمرادفة بينه وبين الإرادة الإلهية : ليس ثمة إرادات الهية حادثة ( متجددة) بل إرادة واحدة مستمرة كقانون عام، وعلى ذلك يكون القانون الأخلاقي ( الكلي) هو القانون الوحيد الذي يمكن نسبته إلى الله ، وليس هناك “تشريعات” تفصيلية يمكن أن تصدر عن الله ، لأن هذه التشريعات تتطلب تجدد الإرادة الإلهية وتعددها، وهو مستحيل . ومن جانبي لا أستبعد أن يكون النظام بجموحه العقلي المعروف، قد توصل إلى هذه النتيجة في خصوص الشريعة التفصيلية، رغم أن أحداً من خصومه المذهبيين لم يلزمه بها، وليس ثمة إشارة إليها في كتب الفرق الأشعرية التي حرصت دائما على التصيد له.

إقرأ أيضاً: أنثروبولوجيا الشريعة الإسلامية

في القرن السابع عشر سيعيد اسبينوزا طرح المسألة بشكل صريح: ” هل نستطيع بالنور الفطري أن نتصور الله كمشرع أو أمير يسن القوانين للبشر”. ومنطلقا من ذات المقدمات الأرسطية التي وقف عليها النظام والتي تماهي بين الإرادة الإلهية والعلم الإلهي، انتهى اسبينوزا إلى القول بأننا ” لا نستطيع أن نصف الله بأنه مشرع أو حاكم ، ولا يمكن تسميته عادلاً ولا رحيماً ، إلا على طريقة فهم العامي ، ولنقص في معرفتنا. والواقع أن الله يفعل كل شيء ويسيره بالضرورة الناتجة عن طبيعته وكماله، وتكون أوامره ومشيئته حقائق أولية تنطوي دائماً على ضرورة .” ( رسالة في اللاهوت والسياسة ،الطليعة 1997 ، ص 197).

اسبينوزا – وهو ينفي الصفات كالمعتزلة – يوحد من حيث الضرورة بين إرادة الله في الطبيعة وإرادته في الإنسان. ولذلك كان عليه معالجة التناقض بين هذه المقولة وحقيقة الخرق الإنساني لأوامر الله من جهة، وحقيقة أن الكتاب المقدس يتضمن فعلًا تشريعات قانونية، ” فإذا كان الله قد قال لآدم مثلاً : لا أريد أن تأكل من شجرة علم الخير والشر، فإن من التناقض أن يكون آدم قد استطاع أن يأكل منها، وبالتالي يستحيل أن يكون آدم قد أكل منها ( إذ يجب أن يكون هذا الأمر الإلهي ضرورة أزلية ) .

ومع ذلك فما دام الكتاب يذكر أن الله حرمها على آدم وأنه أكل منها ، فيجب أن نقول ضرورة بأن الله قد كشف لآدم عن الشر الذي سينتج بالضرورة عن أكله ، ولكنه لم يكشف له عن حتمية نتيجة هذا الشر. ولهذا لم يدرك آدم هذا الوحى كضرورة أبدية ضرورية ، بل “كقانون”، أي كقاعدة تنص على أن نفعاً أو ضرراً ما سينتج عن فعل ما إرضاءً لرغبة حاكم وتنفيذاً لأمره المطلق، لا بضرورة متضمنة في طبيعة الفعل ذاته ، وهكذا أصبح هذا الوحى قانونا لآدم فقط، ونتيجة لنقص معرفته واتخذ الله بالنسبة إليه صفة المشرع والحاكم، ولهذا السبب نفسه ، ونتيجة لنقص في معرفة العبريين ، أصبحت الوصايا العشر قانوناً لهم وحدهم نظراً إلى أنهم لم يعرفوا وجود الله كحقيقة أزلية، ولو كان الله قد تحدث إليهم مباشرة من دون وسائط حسية أياً كانت ، لما أدركوا ذلك كقانون ، بل كحقيقة أزلية ، وما نقوله الآن عن آدم والإسرائيليين ينطبق أيضا على جميع الأنبياء الذين شرعوا قوانين باسم الله”. (رسالة اللاهوت والسياسية، ص 198 ، 199 ) .

وفقاً لتحليل اسبينوزا ، إرادة الله الأزلية فيما يتعلى بالإنسان هي القانون الأخلاقي العام ، وهو القانون الوحيد الذي أصدره الله إلى البشر، ولذلك يصح اعتبارها جزءاً من المطلق الديني الذي لا يتغير. أما التشريعات التفصيلية فهي تجليات اجتماعية تصدر عن البشر وتتغير بحسب طبيعة الشعب والزمان والمكان أي بحسب تغير الاجتماع، فشريعة التوراة التي عكست ظروف العبرانيين تغيرت بعد المسيح في المحيط الروماني، ثم تغيرت بعد محمد في الجزيرة العربية ، ولذلك لا يتصور أن تكون جميع هذه الشرائع أزلية صادرة عن إرادة الله الواحدة ، ولا يصبح التعامل معها كجزء من المطلق الديني الذي لا يتغير. المشكل هنا أن الطرح الديني الكتابي الموروث من التاريخ العبري ، يصر على اعتبار مواد التشريع جزءًا من المطلق الديني الأزلي والمؤبد لكونها منصوصة في الكتاب، الأمر الذي يعرض مصداقية الدين لخطر التناقض مع الواقع الاجتماعي المتغير .

-6-

يرجع اسبينوزا حضور التشريعات في الكتاب إلى الأنبياء الذين وصفهم جميعاً بالنقص في معرفة الله. فهي ليست صادرة عن الله بل عن “نور النبوة”، ومن هذه الزاوية يجوز اعتبارها بالمعنى الواسع “قانونًا الهيًا”. رغم أنها ” ليست شريعة شاملة ، وكانت مهيأة بحيث تلائم التكوين الخاص لشعب بعينه، وتهدف إلى المحافظة عليه، فموسى أدرك بالوحي، أو هو استنتج من مبادئ أوحيت إليه أفضل طريقة يستطيع بها شعب إسرائيل أن يتوحد وأن يكون مجتمعاً جديداً ، أي أن ينشئ دولة” (رسالة اللاهوت والسياسة ، ص 195 – 199) . النبي هنا يستوحي، ويستنتج ، ثم يشرع ما يتصور أنه موافق للقانون الإلهي ( العام ) ولمصلحة شعبه.

النبوة والوحي

هذا الطرح يتوافق مع المفهوم الذي قدمه اسبينوزا عن “النبوة” و “الوحى ” : يؤدى النبي في العملية الدينية دوراً إنشائياً فعالاً ، ليس في الصياغة والتبليغ فحسب، بل في التلقي الذي يعتمد على الخيال الخصب ( وهي الخاصية الأكثر وضوحاً في طبيعة النبي ) ، وعلى مخزونه من المعرفة الفطرية بالقانون الإلهي العام . هذا القانون بحسب اسبينوزا، يستطيع البشر جميعاً إدراكه “بالنور الفطري” ، وهو كامن في الروح الإنساني ومستنبط منه. وهذا هو المعنى العام للوحى كما يفهم من مجمل شروح اسبينوزا في كتاب ” الأخلاق ” وكتاب ” رسالة اللاهوت : الوحى عملية بشرية طبيعية، يستخدم فيها الأنبياء، إلى جانب الحس الإيماني ، مواهبهم الخيالية الفائقة لاستحضار وتلوين القانون الإلهي الموجود فطرياً في كل روح إنساني.

النبي إذن مثله مثل جميع البشر، يدرك القانون الإلهي بالنور الفطري ، ولكنه يتميز بقدرات خاصة في الإحساس والتخيل ( وهي هنا أهم من قدرات التعقل النظري التي لا تميز النبي بالضرورة )

هذه القدرات الخاصة توفر إمكانيات أعلى لالتقاط النور الفطري. وعملية الوحى هي عملية اتصال من جانب واحد هو الجانب الإنساني، يستخرج النبي من خلالها ، عبر الإحساس والتخيل، المخزون الكامل فيه من القانون الإلهي الفطري .

-7-

الدولة والتشريع الديني

كان اسبينوزا يقدم هذا الطرح في المناخ العقلي للقرن السابع عشر الأوربي ، حيث كان الدين لا يزال حاضراً بقوة على مستوى المجتمع ، ومحتفظاً بعلاقة التماس التي تربط بينه وبين الدولة . لم يهدف اسبينوزا إلى استبعاد الدين، بل كان يحاول تحريره من قبضة الكهنوت التاريخي وتسكينه داخل الفلسفة، فوضع مقدماته الأولية على محك العقل، الذي اعتبره أفضل ما في الوجود الإنساني ، وعن طريقه يبلغ خيره الأقصى، وأعاد تعريف المصطلحات الواردة في الكتاب المقدس ، وأخضعه لمنهج النقد التاريخي، الذي جمع فيه بين فكرة الوضوح الديكارتي وفحص النصوص على مستوى السند والموضوع .

انتهى اسبينوزا إلى القول صراحة بأن ” الشرائع التي أوصى بها الله إلى موسى لم تكن إلا قانون دولة العبريين ، وبالتالي لا يمكن فرضها على أي شعب سواهم . بل إن العبريين أنفسهم لم يخضعوا لها إلا في أثناء قيام دولتهم ” (رسالة اللاهوت من 390 – 391) . وأكد أن الدولة تقوم على عقد اجتماعي ديموقراطي ، وهي متحررة من ضرورة الخضوع للشرائع الواردة عن طريق الوحى ” فإذا رفضت السلطة العليا طاعة الله فيما أوحى به من قانون فهي حرة في ذلك ، وعليها تحمل ما ينتج عنه من أضرار أو أخطار. أعنى لا يمكن أن يقف في سبيل ذلك أي قانون مدني (وضعي ) أو طبيعي ؛ إذ يعتمد القانون المدني على مشيئة هذه السلطة وحدها ، أما القانون الطبيعي فإنه يعتمد على قوانين الطبيعة التي لا علاقة لها بالدين ، بل تتعلق بنظام الطبيعة الشامل، أي بمشيئة إلهية أزلية لا نعلمها. وهذا ما يبدو أن البعض شعروا به شعوراً مبهمًا حتى قالوا : “إن الإنسان يستطيع أن يخطئ في حق إرادة الله التي أوحى بها ، ولكن ليس في حق المشيئة الأزلية التي قدر بها مقدماً مصير كل شيء” ( رسالة اللاهوت ، ص 390).

في هذا التحليل يؤسس اسبينوزا تحرير الدولة من إلزامية القانون  الإلهي على فكرة  “الحرية الطبيعية” التي يمتلكها الإنسان حتى في مواجهة القانون العقلي” فكل شخص في حالة الطبيعة ملزم بالقانون الموحى به ،كما أنه يعيش وفقاً لقانون العقل لأن ذلك ضروري لمصلحته ولخلاصه ولكنه حر في أن يرفض ذلك متحملاً ما ينتج عنه من مخاطر وأضرار ” ويسرى ذلك على الدولة ، كان اسبينوزا يحاول تبديد التعارض بين فكرته القائلة بأن سيادة الدولة مطلقة بطبيعتها ، والفكرة التي تقول بوجود الالتزام بالقانون الإلهي.

مع ذلك ، وبصرف النظر عن الصياغات الالتفافية التي لجأ إليها أحيانا لتلافى الصدام مع السلطات الدينية ( المسيحية واليهودية ) وقف اسبينوزا على الأصول التاريخية للنص المسيحي بعهديه القديم والجديد، وكشف عن الطابع التاريخي الاجتماعي ( الوضعي ) للتشريعات المنصوصة في التوراة ، وأشار إلى مسيحية القرن السابع عشر في أوربا باعتبارها الدين الكاثوليكي التاريخي ” أو الدين البابوي ، وقابل بينها وبين الدين الخالص الذي يستطيع جميع البشر إدراكه بالنور الفطري . وهو  طرح يعبر – حرفياً – عن منطوق المشكل الذي تواجهه الحالة الإسلامية  الراهنة.

8

ما الفرق بين القانون الوضعي و الشرعي؟

في التشريع الوضعي تظهر فكرة “المصالح الاجتماعية”، بشكل صريح كهدف نهائي للقانون، سواء كان المشرع يعبر عن إرادة شعبية صحيحة أو مفترضة، أو كان يعكس مصالح طبقية بالمعنى الماركسي، أو يترجم ببساطة الإرادة المطلقة لحاكم أوتوقراطي.

و في التشريع “الديني” تبقى المصالح الاجتماعية هي موضوع التشريع و هدفه من حيث الواقع، ولكن هذه الحقيقة تختبئ خلف الصياغات اللاهوتية التي يصطنعها الفقه. في نمط التفكير السلفي الموروث من تاريخ التدين الكتابي ، تتوارى فكرة المصالح الاجتماعية أمام الحضور الطاغي لفكرة “الإرادة الإلهية” وفكرة “الطاعة”  التي ترتبط بفكرة الإيمان . تصير الطاعة هدفاً مطلوباً لذاته، فهذه الأحكام منزلة لكى تطاع ، بصرف النظر عما إذا كان وراءها مصلحة اجتماعية يمكن إدراكها من قبل البشر، لأن الله الخالق غير ملزم أصلاً بأن يستهدف مصلحة المخلوق.

ينزع الوعي السلفي إلى تغييب فاعلية الإنسان رغم كون هذه الفاعلية ترجع إلى إرادة الله الخالفة. ونتيجة لذلك انتهى الفقه نظرياً إلى المبالغة في مفهوم ” التحريم ” على حساب مفهوم “الإباحة” فافترض أن مزيداً من التدين يقتضي مزيداً من الإلزام. وهو افتراض مفتعل يعارض التكوين العزيزي للإنسان الفرد المفطور على الحرية، ويفضي إلى واحدة من أهم مشاكل التدين التاريخ عموماً: حيث تتسع بفعل الفقه دائرة الواجبات (العملية والاعتقادية) العصية على التحقيق أو التي يصعب تحقيقها على المستويين الفردي والجماعي. ولذلك فإن توسيع دائرة الإلزام يعنى توسيع دائرة المعصية ، والنتيجة صراع نفسي داخلي على المستوى الفردي ، وأشكال متعددة من الصدام والتوتر على المستوى الاجتماعي وعند هذه النقطة يسهل فهم فكرة فيورباخ عن “الاغتراب” الديني ، الذى يشير إلى أزمة الإنسان مع ذاته بعد أن صنع بنفسه – من خلال الكهنوت – قيود الدين الإلزامية الواسعة ثم أسندها إلى إرادة عليا مفارقة.

هل يوجد هناك رابط بين القانون و الدين الإسلامي؟

هذه القطيعة بين الإرادة الإلهية والمصلحة الإنسانية تسرى في الرؤية الكلامية الأشعرية، التي سيطرت مع الرؤية الأصولية الشافعية، على مجمل العقل السنى ولا تزال توجه مساره حتى الآن ، خلافاً لرؤية المعتزلة التي تحمل مزيداً من الاعتبار لفاعلية الإنسان داخل العالم.

اعتبر الأشعرية أن العقل – الذي يعجز عن التمييز بين الحسن والقبيح في ذاته – يعجز عن إدراك الحكمة الكامنة وراء أوامر الله ونواهيه. وأن الله ليس ملزماً ببيان هذه الحكمة. ليس ذلك فحسب، بل هو غير ملزم أصلاً بأن يأمر بما فيه خير الناس. وعلى ذلك إذا كان ثمة أسباب للتشريع فلا طائل من البحث عنها أو فيها، فالعلة في حال إدراكها ليست سببا للحكم التشريعي بل اقترنت به اقترانًا عرضياً، وهذا امتداد طبيعي للموقف الأشعري في إنكار السببية الطبيعية. المصلحة الكامنة خلف التكاليف الإلهية هي طاعة التكاليف لذاتها كسبًا لرضا الرب واتقاء لغضبه العنيف، ما يعنى أن ثمة مصلحة وحيدة جديرة بالاعتبار في العملية التشريعية هي المصلحة الإلهية.

واعتبر الشافعي أنه لا يجوز للإنسان أن يقوم بعملية التشريع، لأنها صلاحية إلهية خالصة، ” فكل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم”، والنصوص كافية لتحقيق هذا الغرض وتغطية كل تفاصيل الواقع. ولذلك لا يجوز “الاجتهاد” إلا بطريقة واحدة هي القياس على نص من النصوص التي صارت – الآن – حاضرة بوفرة، بعد تنصيب الشافعي لروايات الآحاد تحت مسمى “السنة”، في موقع النص المكافئ لحجية القرآن ، أي اعتبارها شقاً من الوحي .

لكن على المستوى العملي، لم يكن بوسع الفقه تجاهل المصلحة الاجتماعية التي جرى إنكارها نظرياً. فالفقه في جوهره عملية تشريعية تخاطب الاجتماعي وتعمل من خلاله، سواء كان ذلك يتم بترديد منطوق النص المباشر أو بالاجتهاد والرأي. وهذا في الواقع ما انتهت إليه ممارسات الفقه وقننته نظرية الأصول : فالقول بالإجماع هو إقرار بفعل اجتماعي محض، والقول بالقياس ذاته ينطوي على إقرار بالغرض الاجتماعي للنص الذي تتمدد دلالاته لمساحات أوسع من منطوقه لمعالجة الواقع. يظهر القياس أن الواقع يحتاج للنص ، لكن تقنيات القياس، في المقابل ، تظهر أن النصر كي يؤدى دوره التمديدي يحتاج إلى تحديد “العلة ” المشتركة بينه وبين المسكوت عنه في الواقع. مجرد الحديث عن العله هو إقرار بمكنون اجتماعي مستهدف. وهذا واضح في النقاشات الأصولية المتنوعة والمكثفة حول مصطلحات العلة والحكمة والمناسبة، وهي تدور في جوهرها حول معنى المصلحة.

من هنا كان القياس ، كالإجماع ، آلية غير مباشرة من قبل العقل الفقهي السلفي للالتفاف على مقولاته النظرية ( الكلامية / الأصولية ) التي فرضها على نفسه : مقولة ” اللا تعليل ، الأشعرية و مقولة ” النصوصية ، الشافعية التي تشير إلى شريعة لائحية شاملة .

-9-

في الفترة السابقة على التنظير الشافعي – حيث تميز الفقه بقدر “نسبي” من العفوية العملانية – لم يستند حرفياً أو بشكل منهجي ثابت إلى “النصوص” كمصدر حصري للتشريع، مفهوم “النصية ” نفسه لم يكن قد تبلور بمعناه الأصولي ، وكان الواقع يفرض نفسه على القضاء والفقه لمراعاة المصلحة الاجتماعية، وبدون حرج من الاجتهاد بالرأي. بشكل عملي تم الاعتماد على “ما جرى عليه العمل” في السوابق الثابتة ، التي كانت تضم إلى جانب ممارسات الرسول العملية ، فتاوى الخلفاء السابقين ، وفقهاء الصحابة ، وبعض الأعراف الشفهية المستمدة من التراث العربي. كان هذا يعنى بروز ” الرأي”، كآلية ضرورية لإنتاج الفتوى والتشريع ، سواء بالاستنباط المباشر مما جرى عليه العمل، أو بالاجتهاد الحر لتغطية الحاجات التشريعية الجديدة. ولكن مع تكاثر الرواية وتكريس سلطتها المرجعية ستتراجع مكانة الرأي من جراء النظر إليه كمقابل بشرى منافس للنص. ومن هنا يظهر الدور الذي لعبه الشافعي في تأسيس مفهوم “النصية”، بالانتصار للرواية المكتوبة كآلية وحيدة للتعبير عن السنة، على اعتبار أن “ما جرى عليه العمل ” مفهوم غير محدد بالقياس إلى الأحاديث ذات القوام اللغوي الموثقة بالإسناد .

عملياً، كان هذا النظام سارياً كمصدر تشريعي للقضاء والفقه في المدينة عاصمة الدولة، والأمصار الجديدة التي  أنشأتها الجيوش الإسلامية كالكوفة والبصرة، والمناطق الحضرية الخاضعة مباشرة لسلطة الدولة المركزية، أما المناطق الداخلية من الجزيرة فظلت محكومة بأعرافها البدوية لفترة طويلة لاحقة، قبل أن تندمج ببطء وعلى نحو جزئي في نسيج الثقافة التشريعية الجديدة . وبوجه عام، كانت البلدان المفتوحة قد تركت لأنظمتها الاجتماعية والتشريعية. لكن الحضور الديني داخل هذه البلدان سيتزايد تدريجياً بفعل الاحتكاك الثقافي الذي كان يجرى على وقع الانتصارات السياسية والعسكرية المشحونة دائماً بقوة إبهار مضمرة، والمصحوبة أحياناً بعنف صريح. لم تكن المنظومة التشريعية الجزئية التي يقدمها القرآن والفقه المنقول عن بيئة جغرافية بعيدة، كافية للتعامل مع الحاجات التشريعية الأكثر تنوعاً وتعقيداً في هذه البلدان. وفى هذا السياق يلزم ملاحظة أن تزايد الطلب على رواية الحديث وتبلور الوعي به كمصدر تشريعي جاء مزامناً لمرحلة التطور الديني في البلاد المفتوحة وتحولها بشكل متسارع إلى الإسلام، خصوصاً في المناطق الشرقية الفارسية التي ستنتج الكثير من المحدثين أصحاب الصحاح والسنن .

يتبع

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete