تكوين

مقدمة:

يعد موضوع التحول الديني من المواضيع التي اهتمت بها الدراسات السوسيولوجية العربية بشكل عام، نظرا لتنامي هذه الظاهرة خاصة ابان الثورات وتوالي الدراسات المُنْجَزة في هذا الإطار، لمحاولة فهم وتفسير حيثيات وإشكالية تغيير المعتقد الديني أو التحول من عقيدة أو ديانة إلى أخرى، وذلك بالبحث في أسباب وميكانيزمات التحول والتي من نتائجها إعادة بناء وتشكيل هوية دينية جديدة مغايرة تماما للهوية الاجتماعية والسياسية السائدة وكأنها بها خروج عن معايير وضوابط الضمير الجمعي المتوارث من جيل إلى جيل والمتجذر في النسق الاجتماعي. كما أن من أولويات الدراسات السوسيولوجية في تحليل هذه الظاهرة هو الوقوف على الأبعاد التفاعلية للعلاقة مع الآخر، ناهيك عن تحليل حيثيات الروابط الاجتماعية في ظل هذا التغيير الهوياتي.

ان دراسة التحول الديني في مجتمع مثل المجتمع التونسي الذي عرف عنه ظاهريا تجانسه الديني والعرقي هي دراسة لظاهرة اجتماعية لم تكن بارزة في الماضي أي قبل ثورة 2011، خلاف لما هو الحال اليوم في ظل مناخ عام يتسم في ظاهره على الاقل بحرية الراي والتعبير وسرعة انتقال المعلومة، فتآلف البنيات الاجتماعية والتغييرات السياسية التي شهدتها البلاد في هذه السنوات الأخيرة كان لها دورها البارز في بناء هذه الظاهرة وتشكيل هذا المسار الهوياتي الجديد، خاصة في جانب الأثر الذي يخلفه تغيير المعتقد أولا على مستوى المحيط الاجتماعي وثانيا على مستوى إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، الأمر الذي يسعى من خلاله المتحولون دينيا او عقائديا إلى بناء استراتيجيات خاصة بهم في رسم هذه العلاقات وتقويتها، فالظاهرة الدينية كمنظومة شمولية تقدّم للإنسان رؤية وجودية خاصة تحوي جملة من الإشكالات تفرض على العقل بحكم طبيعتها المركبة تساؤلات فلسفية ووجودية شتى، خاصة وأنها كانت ولازالت مصدرا للخلاف الذي قد يؤدي في الكثير من الأحيان الى صراع بين أتباع الديانات المختلفة وحتى بين الطوائف والمذاهب من نفس الدين. إن ظهور تحولات حتى على مستوى الحقل الديني، اقترن أساسا ببروز نمط “التدين الفردي”، هذا النمط افسح المجال لظهور أشكال من التعاطي الديني لم تكن مسبوقة على مستوى الممارسة في البلاد التونسية، كما اقترن بروزها ببروز العديد من التعقيدات التي تَلُفُّ الموضوع أهمها وجود “أزمة” إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية”، إلى جانب تراجع دور المؤسسات الدينية الرسمية وغيرها في التربية والتنشئة الدينيتيْن، بالإضافة إلى الطفرة المعلوماتية التي كانت دافعا للعديد من الفئات خصوصًا الشباب والنساء للاستقلال عن المعرفة الدينية الجماعية، والتي تم تعويضها بالمعرفة المستمدة من “الإعلام الديني” اما بواسطة القنوات التلفزية او شبكات التواصل الاجتماعي والانترنت واللذين شكلا معا مجالا لانتعاش تدين “مُنْفَلتٍ” من كل التنميطات التي التصقت بالخريطة الدينية في السابق، سواء التدين: الشعبي أو الرسمي أو المذهبي أو الحركي-الإسلاموي أو غيرها. إن تغيير المعتقد الديني يندرج ضمن حقل التحولات الاجتماعية وبالتالي فهذه التحولات مرتبطة أساسا بالفاعل الاجتماعي ودرجات تحوله عبر الأزمنة المختلفة في سياق بحثه عن الحقيقة وهذا ما يؤكده ميشال فوكو بقوله: “ليس هناك من حقيقة بدون تحول وتغير الفاعل. إن فكرة التحول القادرة على منحنا ولوجا للحقيقة توجد لا محالة في الفلسفة القديمة إنه لا يمكن الولوج إلى الحقيقة إذا لم نغير من نمط وجودنا”[1]، إن فعل التحول الديني هو فعل فردي بعيد كل البعد عن الفعل الجماعي، كما أنه تجسيد لاستقلاليته عن منظومة رأى فيها المتحول عجزها على اشباعي حاجياته العقائدية والايمانية، فهو نموذج فعال لبناء الذات بعيدا عن الهويات الاجتماعية التي باتت تشهد هشاشة في ظل انتشار الفضاءات المعولمة وهو ما يطلق عليه ب un bricolage identitaire[2]. وعادة ما يتم المزواجة بين العولمة والتحولات الدينية بل يذهب البعض إلى اعتبار الثانية إحدى نتائج الأولى، لأن ما يميز هذا العصر هو “الحضور المتزامن لكل الأديان وكل الأنساق الثقافية المنفصلة عن سياقها الزماني والمكاني، والجاهزة للإقتناء من طرف المؤمنون الذين يدمجون عناصر دينية غريبة عن مجالها الثقافي الأصلي بفعل ظاهرة العولمة التي تعرض آفاق غير مسبوقة لنشر العالمي والفوري للرسائل الدينية. فالعولمة بذلك لم تهمش الديني ولكنها عملت على فصل الديني عن الثقافي وجعل الديني مستقلا”[3]، وتماشيا مع هذه الفكرة يشير الباحث “أوليفيه راو” أن ارتباط العولمة بالتحولات الدينية هو نتاج لحالتين:

الأولى هي حالة التثاقف وهي تفترض أن التحولات الدينية هي نتيجة لفرض هيمنة الدول التي تملك الإمكانيات على الدول المعدمة وبالتالي يجب على هذه الدول أن تنتهج وتتبنى نفس العناصر الدينية والثقافية للدول المهيمنة، سواء بممارسة ضغوطات وعادة ما تكون إما اقتصادية أو سياسية، أو حتى في الكثير من الأحيان باللين أو المزواجة بينهما، وهنا يتعامل الطرف الأضعف إما بالانصهار الكلي أو التمسك بنمط تدينه لكن مع تغيير محتواه.

أما الحالة الثانية فهي أسماه بالسوق الدينية، ف “استخدام عبارة السوق الدينية مستوحى من قاموس علم الاقتصاد وهو على العموم استخدام مجازي أكثر مما هو مفهوم حقيقي. السوق الدينية هذه تفترض وجود فاعل فردي متحرر من الإكراهات الاجتماعية، التاريخية العرقية، الثقافية والسياسية، ما يتيح له الاختيار بمطلق الحرية المنتج الذي يناسبه عملية العرض والطلب”[4]، والمقصود هنا أن هذه السوق الدينية توفر وتلبي للأفراد حاجتهم الدينية والروحية عن طريق العولمة التي طرحت سوقا دينيا عالميا، وبالتالي يصبح الأفراد المستهلكين أمام عدة خيارات تيسر لهم عملية البحث والمعرفة وهي تشمل الأنترنت، مواقع التواصل الاجتماعي، القنوات الإعلامية… كما تتقاطع مسألة التحول الديني بعدة قضايا مثل الحداثة والهوية والاعتراف الاجتماعي والحرية الدينية وغيرها من المواضيع التي تتشابك مع هذه الظاهرة، بل إنها تمنح الباحث تصورا مفصلا لحيثياتها وتمفصلاتها مما يساعده على الإلمام بجل إشكالاتها.

عموما فقد عمل التدين الفردي على التحرر من نمطية أشكال التدين التقليدية السائدة في النظم الاجتماعية، خصوصا الجوانب المتعلقة بالفضاء العام وبالبعد العلائقي بين الدين الدولة وبمفهوم الديمقراطية، هذا علاوة على أن هذا التوجه قد جاء نتيجة رد فعل على التناقضات والتوترات التي عاشتها حركات الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة وما صاحبها من أزمات فعلية عايشها التونسيون، وهو توجه يعمل على ربط الدين والحقوق والعقائد بالحريات، والإسلام بالتحرر. فإقرار حرية الضمير في الدستور التونسي، عمق إشكالية التدين الفردي في المجتمع ناهيك عن الإرهاصات التي باتت تعايشها الأقليات الدينية والأنساق الدينية الأخرى في تونس، وهذا ما سنعالجه كمبحث في ورقتنا العلمية هذه لذلك سننطلق من الطروحات التالية:

ما هو الفرق بين الدين والتدين؟ وكيف هو الواقع الاجتماعي بالنسبة للأقليات الدينية في تونس؟ وإلى أي مدى يترسخ مفهوم التعددية الدينية في البعد العلائقي بين التونسيين المختلفين؟ وما هو دور الدولة في تكريس قيم المواطنة الحاضنة للتنوع والقطع مع كل اشكال التمييز على أساس الدين او المعتقد في داخل المجتمع؟

1-الدين والتدين من المنظور السوسيولوجي

يُعرف علم اجتماع الديني بأنّه “العلم الذي يدرس المؤسسات الدينية دراسة اجتماعية (أماكن العبادة، الطقوس…)، والعمليات الاجتماعية داخل المؤسسة الدينية”[5]، كما عُرف بأنّه العلم الذي يهتم بدراسة الجذور الاجتماعية للظواهر الدينية وأثارها على نسق المجتمعات الإنسانية وتطور بناها. وقد عرفه “هولت” “بأنه المنظمة الرسمية ذات الطابع والصبغة الدائمة والمستمرة”[6]، ولهذا فان ما يهم علم اجتماع الدين ليس الدين كمعتقد او ايمان سواء كان عند الفرد أو الجماعة، بل المهم هو تشكلات الاجتماعية والثقافية لهذا الايمان وتأثيراته على المجتمع وتفاعلات أفراده.

وتختلف الدراسات السوسيولوجية للظاهرة الدينية عن الدراسات في العلوم الانسانية، فالدين من ناحية علم الاجتماع هو نتاج الأفكار والمعتقدات التي تشكلها الجماعات حول الحياة وتعتمدها في انتظامها الطبيعي والاجتماعي والسياسي، وفي هذا يرى “إميل دوركايم” أنّ تعريف الظاهرة الدينية، يعتبر من أصعب الوظائف التي يمكن أن ينتدب العالم الاجتماعي نفسه للقيام بهذه الوظيفة، ويرجع الأمر في نظره إلى تعدد الممارسات الدينية وكثرتها وتعدد الاعتقادات الروحية واختلافها، هذا بالإضافة إلى وجود الدين في كل أشكال المعرفة الإنسانية العلمية منها والعملية”([7]).

أما في تونس فيعد الدين متجذر داخل المجتمع رغم سياسيات النظم السابقة وسعيها لحظره من المجال الاجتماعي، أو لنقل بصورة أوضح تقييد حضوره في المجال العام وذلك عبر مأسسته والسيطرة على التعليم الديني، لكن هذا التعامل السياسي لم يمنع غالبية المجتمع التونسي من تقديس الدين، والذي تراه كجزء لا يتجزأ من الهوية التونسية يتجلى في العادات والتقاليد. ولا نبالغ ان قلنا إنه بات نوعا من الفلكلور الشعبي، والدليل أن الكثير من التونسيين خاصة الشباب اليوم لا يلم بأبسط تعاليم الدين الإسلامي لكن مجموعة واسعة منهم تحاول ممارسة الطقوس الإسلامية، رغم ان العقيدة عندهم هي وراثة أو لنقل انتماء للنسق الاجتماعي بالأساس، لذلك فمستوى التدين وشكله يختلف من فرد إلى اخر وهذا ما ينطبق قياسا على المجتمع التونسي. فعلى الرغم من القيود الصارمة التي فُرضت على أنماط التدين الخارجة عن نطاق مؤسسة التدين الرسمي، إلاّ ان العديد من التونسيين بقوا متشبثين بالدين باعتباره المحور الأساسي الذي يشكل انتماءهم الثقافي وهو الواجهة الأساسية على حد تعبير البعض امام محاولات التغريب والتفقير الديني الذي عايشه المجتمع التونسي منذ الاستقلال إلى حدود اندلاع الثورة في 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011.

وسوسيولوجيا هنا يتحدد الدين” باعتباره جمعيا واجتماعيا، فهو ينشأ في النظام الثقافي للجماعة ويضفي عليه خصائصه ويصبح من اهم العوامل البانية للهوية الثقافية للجماعة. ان انتماء الدين إلى الظاهرة الثقافية من منظور سوسيومعرفي يقوم أيضا على اعتبار ما يمثله من قوة ودينامية في حياة الجماعة يظهر من خلال الفعل الاجتماعي والمعنى والرموز التي تضفيها الجماعة على الحياة والمعاش فضلا عن الممارسات والعلاقات”[8]، لهذا اكتسبت الظاهرة الدينية خصائصها الجمعية وتركت بصماتها على العقول والذهنيات والعادات، وتم توارثها عبر الأجيال في صيغ من “التدين” تدفع الافراد إلى التماثل والالتزام بها. فالتدين يختلف في مضمونه عن الدين لهذا تعددت التعاريف واختلفت بين من اعتبره شكلا من اشكال الاهتمام بالأنشطة الدينية والمشاركة فيها وبين من اعتبره تعبيرات للخبرة الدينية التي تتميز بعدة اشكال مثل التعبيرات النظرية كالاعتقادات والمذاهب والاساطير، والتعبيرات التطبيقية كالطقوس والاحتفالات، والتعبيرات السوسيولوجية كأنواع الروابط الاجتماعية في وسط التنظيمات الدينية، والتعبيرات الثقافية والتي هي أساسا متغيرة حسب الاشكال الاقتصادية المهيمنة كدين الارستقراطي ودين المحارب، المزارع…، وأخيرا التعبيرات التاريخية التي تؤدي إلى تحولات للحياة الدينية خلال تواتر الحقب والفترات الزمانية. لكن هناك من اعتبر التدين فعلا اجتماعيا ونتاجا لممارسة الجماعة، كما انه يخضع لمفهومها ومحيطها الجغرافي وبيئتها السياسية وسلوكها ناهيك عن تراثها قبلا، لكنه ليس معمما فهو إن صح القول نسبيٌّ يختلف من جماعة إلى أخرى ومن تراث إلى اخر، بعكس الدين الذي يتصف بأنه مطلق من تعاليم وتشريعات ومعتقدات مصدرها “الله”.

قد يتمظهر التدين في عدة جوانب منها المعرفي والعاطفي والسلوكي في شخصية الافراد لكن بشكل متفاوت، وينتج عنه ما يمكن ان نسميه أنماطا من الخبرات الدينية والتي يمكن ملاحظتها حسب الأستاذ “عبد الغني عماد” في:

*التدين الجوهري والمقصود به الانصهار الكلي للأفراد في تعاليم دينهم وتمثله من اجل مرضاة الله وكسب الآخرة.

*التديّن الغرضي وهو جعل الدين مطية أو وسيلة من اجل الحصول على أشياء ذات قيمة دنيوية أو منفعة خاصة سواء كانت اقتصادية أو سياسية، وهنا ينحصر اغلب المتدينين في نمط “التدين السلوكي” أي ممارسة الطقوس والعبادة دون المعرفة أو الاطلاع الكامل على تعاليم هذا الدين وأصوله، وقد يحقق هذا النوع من التدين مكانة اجتماعية لصاحبه أو وظيفة أو امتيازات اعتبارية أخرى.

*التدين العاطفي وهذا النوع يتسم بمغالاة العاطفة الدينية التي تصل إلى درجة “التعصب والتطرف” دون امتلاك المعرفة الدينية الكاملة، وهو ما يجعل المعتقد فيه عاجزا على الحوار ويمكن ان نقول إن هذا النوع يندرج ضمن نمط “التدين التفاعلي” الذي هو اما وليد صدمة دينية أو تجربة مريرة للشخص، وعادة ما يكون تدين المنساقين في هذا النمط سطحيا حماسيا وانخراطه في التدين هو من اجل تحقيق نوع من الموازنة العاطفية والاستقرار النفسي.

صحيح أنّ هذا التصنيف هو نظري باعتبار أنّ طبيعة الانسان محكومة بالتغيير ناهيك أنّ طبيعة التدين تختلف من فرد إلى آخر، وهو ما يعني أنّه محكوم بالتحولات السيكولوجية، أما من منظور السوسيولوجيا فإنّ أنماط التدين عند الأفراد محكومة بطبيعة علاقاتهم الاجتماعية والسياسية لذلك من الصعب تحديد أنماط المتدينين وتصنيفهم.

إن ما تقدم يبين لنا الدور الذي يلعبه الدين في المجتمعات باعتباره أولا سيرورة حياتية وثانيا نسقا ثقافيا متكاملا تتبلور من خلاله الأنماط الدينية وبالتالي العلاقات الاجتماعية، ففي تونس مثلا نجد أنّ التونسيين منذ القديم منفتحين على الآخر ولم يعرف عنهم النزوع إلى معاداة الأديان الأخرى، كما أنّهم أيضا لا يتّسمون بالمغالاة الدينية إلاّ في مرحلة السبعينات مع ظهور حركة الاتجاه الإسلامي والتي كانت حسب ما راج حركة احتجاجية ضد التغريب الاجتماعي والاقتصادي والديني الذي عايشه المجتمع آنذاك، ثم عايش التونسيين حالة استكانة دينية بعد هيمنة المؤسسة السياسية على الجانب الديني واصبح التدين الرسمي أو دين الدولة هو السائد، الى ان فتحت الثورة التونسية المجال امام العديد من الحركات الإسلامية المتأدلجة بالظهور بل والهيمنة في مرحلة ما على الفضاء العام، خاصة منها الحركات الجهادية الراديكالية التي عرف عنها مناوئتها لأشكال التدين المخالفة لها أو لنقل للتدين الشعبي، هذا في المطلق أمّا بالنسبة إلى الشباب في العصر الراهن فأغلبه منسلخ عن كل الأنماط التقليدية التي مازالت متجذرة في المجتمع، وهذا ما أكدته دراسة مشتركة بين منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية والمرصد الوطني للشباب والصندوق العربي لحقوق الانسان حول مفهوم التدين وحرية الضمير في تونس، وقد قدمت  هذه الدراسة استقراء لظاهرة التدين  في تونس، وفيها أكد الأستاذ “منير السعيداني” عبر مقالة دارجة بها ان التدين في تونس لا يخضع لمقاييس محددة بل أنّه منوط بشخص الافراد، وقد عزز طرحه هذا بجملة من الأمثلة الإحصائية فنجد أنّ 3.73% من العينة المدروسة يقرون بعدم رغبتهم في الصلاة مطلقا، وهذا الانموذج موجود بنسبة اكبر لدى الشباب في حين أنّ 2.17% لا يصلون إلاّ في المناسبات الدينية، كما نجد أنّ 14.5% من العينة المبحوثة يمارسون الصلاة لكن بشكل متقطع كما نجد أنّ 22.22% يقيمون الصلاة بشكل يومي لكن في غير وقتها، بينما 36.63% ملتزمون بأدائها في وقتها، وهذه النسبة نجدها مرتفعة عند كبار السن والكهول دون الشباب في حين نجد أنّ 20.75% لا يصلون  لكنهم ابدوا رغبتهم في أدائها، ومن خلال هذه الاحصائيات يمكن أن نستنتج عدة ملاحظات أهمّها أنّ النمط التديني في تونس هو نمط مرتبط أساسا برغبة التونسي وميولاته وتمثلاته للدين، وما مدى أهمية البعد الديني في حياته الوجدانية والاجتماعية لأنّ أغلب التونسيين عقيدتهم الإسلامية هي عقيدة مُوَرَّثَةٌ (إسلام بالوراثة)، إذ أنّ أغلبهم غير ملمين بالأحكام الدينية إلاّ بأبسطها وحتى إنّ مارسوا بعض الطقوس فهو بغير قناعة ذاتية بل على العكس فهم يريدون إرضاء محيطهم الاجتماعي خاصة إذا كانوا من وسط ديني محافظ، لكن نسبة كبيرة من الشباب اليوم يعايش حالة من الانفصام الديني خاصة في صلب المعتقدين غير الممارسين والذين إذ ما سألتهم عن انتماءهم الديني يجيبك بأنه” مسلم عاصي”، والملفت أيضا أنّه عند شتم احد الرموز أو المرجعيات الدينية مثل “النبي، الصحابة، الأولياء الصالحين…” نجد أنّ بعض من هؤلاء الشباب ينفعل ويقوم بممارسة العنف اعتراضا على المساس بمقدسه وهو ما يمكن ان نطلق عليه “بالتدين اللفظي”، وهنا نجد أنّ الرمزية الدينية تنوب الرمزية العقلية والعلموية التي تشهد اليوم ازمة عميقة، ليس في بلدان العالم الثالث فقط بل في بلدانها الاصلية أي الأوروبية”([9])، وبالتالي يبقى الدين مكونا أساسيا من مكونات الهوية التونسية، وهي هوية مركبة فيما يتعلق بعلاقة الشخصية التونسية بالدين. فتتراوح مدركات التونسيين لهذا المعطى المتعلق بالهوية بين الشعور بالانتماء السوسيولوجي للحضارة الإسلامية وبين الشعور بضرورة الالتزام بتعاليم الإسلام كدين وإعطائه مكانة مركزية في الحياة اليومية”([10]). ناهيك أنّ الرمزية الدينية تتماهى مع الوسط الثقافي المحلي، كما أنّها عادة ما تخضع للاستبطان التاريخي في رسم علاقتها بالأخر المختلف دينيا والذي يتشارك معها نفس الانتماء الاجتماعي والثقافي، وهو ما يساهم في رسم العلاقة الأخلاقية بين الأفراد والتي تتسم في الغالب بالرفض.

2-التحول الديني والرفض الاجتماعي

في البداية يجب أن نحدد مفهوم التحول الديني والذي يندرج إجرائيًّا ضمن عمليات الانتقال العقائدي/المذهبي والديني، وهذا ما ذهب إليه صلاح عبد الرزاق بقوله:” أنه انتقال من دين إلى آخر، أو تبديل مجموعة من العقائد والشعائر بأخرى[11]، وهو بذلك ينبني على جملة من المراحل الدالة في حياة المتحول، التي تمثل الأسباب والعوامل الدافعة في تشكيل مسار هذا التحول، وانعكاس ذلك على معيشه اليومي بما فيه من مواقف وتمثلات أو حتى في علاقته مع محيطه الاجتماعي. وبهذا نلحظ أن المسار المحدد لهذه العملية تتداخل فيه الأبعاد السوسيولوجية ومع الأبعاد السيكولوجية ومن أكثر علماء النفس الذين اهتموا بدراسة هه الظاهرة نجد الأمريكي Edwin Diller Starbuck الذي يعد من الأوائل الذين أنتجوا بحوثا حول مفهوم التحول الديني، وذلك من خلال كتابه “سيكولوجية التحول الديني والانتقال الروحي”، والذي اعتبر فيه أن الانتقال العقائدي مرتبط أساسًا بإيجاد حلول لأزمة نفسية، يسعى فيها المتحول لبناء ذات جديدة، وأن استدعاء هذه الذات يرجى منها الشعور بالسعادة الروحية والسلام الداخلي.

وليست الأسباب النفسية وحدها من تشكل استعدادات الفرد وبناء مواقفه نحو تبني معتقد آخر بل إن للحضور السوسيولوجي دوره هام في تحليل جوانب من هذه الظاهرة ومنها دراسة الباحثة السويسرية “إيناس جيندرا” Ines W. Jindra في مؤلفها نموذج جديد في التحول الديني [12]حيث اعتبرت أن العلاقات الاجتماعية والخلفية الثقافية تلعب دورا رئيسيا في تشكل هذه الظاهرة، فالمشاكل العائلية أو الإحساس بغياب الروابط الاجتماعية في حياة الفرد، تدفع به نحو البحث عن روابط متينة تقوي من انتمائه الاجتماعي، وذلك من خلال “الانتماء هوياتيًّا ودينيًّا لجماعة  المشترك الديني الجديدة، المُشكِّلة لقوة الرابط الاجتماعي، والمحققة لهوية المتحول الجماعية”[13]، فمسألة التحول الديني تتقاطع بعدة قضايا مثل الحداثة والهوية والاعتراف الاجتماعي والحرية الدينية وغيرها من المواضيع التي تتشابك مع هذه الظاهرة، بل إنها تمنح الباحث تصورا مفصلا لحيثياتها وتمفصلاتها مما يساعده على الإلمام بجل إشكالاتها، وهو ما يحيلنا بالضرورة إلى الارتباط الوثيق بين ما هو ديني وما هو ثقافي إلى حد التجانس وربما التماثل في العديد من المجتمعات والمجموعات، يشكل فيها الاعتقاد الديني هوية جماعية بعيدة كل البعد عن الاعتقاد الفردي،” فيها يتطابق الثقافي والديني، حينها يمثل الدين ثقافة كاملة لشعب أو امة أو حضارة، ليس في كونه نصوصا وتعاليم وقيما فحسب بل بما هو كيان مجسد اجتماعيا، ومبلور بالممارسة في أنماط وتقاليد وافعال”[14]، فمثلا يعد الدين الإسلامي مقوما هوياتي يستمد منه المجتمع التونسي انتماءه الجمعي، لكن هذا لا يعني أن التونسيين لا يتقبلون الآخر المختلف دينيا، بل على النقيض من ذلك فالأخر عند أغلبهم هدف مباشر “لأسلمته” أي إدخاله للإسلام، وحتى وإن ظل ذلك المختلف على دينه، فالتونسي متصالح معه لأنّه لا تربطه به إلاّ المقومات الإنسانية المحضة، هذا في علاقته مع غير المسلم الاجنبي الجنسية، بينما يكون أشد شراسة إن صح التعبير مع من يغير معتقده او دينه، أي ذاك الذي يشاركه نفس الجنسية والثقافة واللغة والعرق، وقد أشار الأستاذ عبد الوهاب حفيظ في مقاله المعنون ب” الدين وحرية الضمير، منعرج التحولات الكبرى”، إلى أنّ التونسي يرفض تماما أن يتحول أي فرد من مجتمعه إلى أي ديانة أخرى سواء كانت مسيحية أو بهائية أو حتى يتحول إلى المذهب الشيعي، حتى إنّ وجدت نِسْبِيًة في التقبل إلاّ أنّ الطابع النسبي للرفض يتحوّل إلى رفض شديد وبنسبة عالية %88 عندما تستيقظ الهويات التاريخية والخصومات القديمة.وما يمكن أن يعامل كحرية شخصية في العموم يتحوّل إلى خطر على كيان الجماعة أي خطر “الانسلاخ”. ويمثل الموقف من الديانات غير الإسلامية اختبارا آخر لاشتغال كل من آليات الاستمرارية والوفاء للهوية من جهة ورياح التغيّر الديني من جهة أخرى”[15].

وفي بحث أجرته الباحثة في الأنثربولوجيا “كاتيا بوسفان” أكّدت فيه على أنّ فكرة “الغدر والخيانة” دائما ما تلاحق المتحول دينيا سواء كان ذلك على المستوى الاجتماعي أو السياسي وبالأخص الديني. خاصة وأنّ تونس من خلال بحثها في تصورات افرادها، هي دولة متجانسة غير قابلة للتجزئة وبالتالي فإن التحولات الدينية تعد خرقا لهذا التجانس الخيالي على حد تعبيرها، كما أكّدت أنّ التونسيين عندهم خلط بين مسألة الدين كعقيدة أو ممارسة فردية وبين الهوية الوطنية كانتماء جماعي، بمعنى أنّ الاعتراف الفعلي بوطنية الفرد التونسي مرتبطة بالانتماء لنفس النسق الاجتماعي خاصة منه الديني، لأنّ التونسيين حسب بحثها لديهم قناعة بأنّ “إله الإسلام” هو الإله الحقيقي وأمامه تنتفي كل الديانات الأخرى، وبالتالي هيمنة نظرة التعالي تجاه غير المسلمين باعتبار أنّ قيمهم دونية مقارنة بمنظومة القيم الإسلامية.

فالتحول الديني عند أغلب التونسيين هو بمثابة الانسلاخ عن الجسد الاجتماعي، هو “خيانة” لنظمه وقيمه باختصار هو التخلي عن الانتماء الذي به تتأسّس الوحدة الاجتماعية، وهنا نستشف مدى التأثير الاجتماعي للدين والذي به تضبط مستويات العلاقة بين الفاعلين الدينين المختلفين، كما أن الوصم الاجتماعي للعابرين دينيا هو عبارة عن عقوبة جماعية للفرد الخارج عن النسق السائد الذي حددته الجماعة، وبالتالي اعتباره منحرفا عن القاعدة الكلية لذلك وجب عزله، ونجد أن رفض الأخر في المجتمع التونسي له محددين:

– أولا، الذاكرة الجمعية الموجوعة والتي يتم توارثها جيلا عبر جيل وهي تترسخ في الجانب اللاواعي للفرد، وهنا يمكن القول من أنّ حيز ذاكرة الفرد تبقى منسية إلى أن تحفزه ذاكرة الآخر، وبالتالي لهذا يصبح موضوع الذاكرة أكثر حساسية في المجتمعات التي تتسم بالتنوع والتعدد سواء كان اثني أو ديني، لكونها تخضع الأطراف المختلفين لوضع حدود للتواصل (بين “نحن” و”هم”)، على اعتبار أنّ الأخر الذي فضل اعتناق “دين العدو” على حدّ تعبير بعضهم يصبح هو بدوره عَدٌّوا كأن بهذا الدين هو الأساس الوحيد للانتماء، ناهيك ان المسألة الدينية من هذا المنظور هي مسألة جماعية يجب أن تخضع لتصوّر الجماعة لا الفرد، وبالتالي يمكن القول تذويب “الأنا” لصالح سلطة وتصوّرات “النحن”، وقد أشار  تالكوت بارسونز إلى هذا الامر من خلال تناوله لمسألة الفعل الاجتماعي فقد اكد على “ان الناس يستدمجون قيم المجتمع، أي انهم يجعلون القيم الاجتماعية المتضمنة في النسق الثقافي ملكية لهم”([16]).

ثانيا، استبطان بعض النصوص الفقهية والدينية كمُسَلَمَة في تحديد علاقة الايمان و”الكفر” والتي أشار إليها بورديو بالرأسمال الديني، وطبعا هذا ما لاحظناه في خطاب مستجوبينا الرافضين للتحول الديني والذين أجمع غالبيتهم على أنّ “المرتد” يقتل إستنادا لحديث من السنة، في المقابل وجدنا بعضهم يستنكر التحول الديني لكنه لا يتبنى فكرة القتل متعاملا مع المسألة باللامبالاة على اعتبار الآية القرآنية والتي مفادها” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”، وهو ما جعلنا نقف على خطابين في التصور الإسلامي، الخطاب الأول هو الخطاب التفسيري الفقهي المتوارث والخطاب الثاني هو المرتبط بالنص الديني المطلق المرتبط بالنص المعياري.

فالمتأمل في الخطاب الفقهي يجد أنّ الكثير من الفقهاء لازموا بين التحول الديني والقتل، وحتى في+ تفسيرهم لبعض الآيات القرآنية أقروا بأن المتحول هو “كافر” وأن عقابه من منظورهم القتل والتعذيب جزاء له، وقد ارتأى بعض الباحثين أن تأويل هؤلاء يمكن أن يصطلح عليه بالتسويغ اللاهوتي، أي تقديم تأويلات معيّنة لآيات من القرآن قصد الحفاظ عن مصالح أو الدفاع عن إيديولوجيا أو موقف ما، والدليل على هذا ما ذكرته بعض الآيات القرآنية مثل “لا اكراه في الدين”، “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، “لست عليهم بمصيطر”، وغيرها من الآيات التي إن تدبرناها بمنحى عقلي نجد أنها ترسخ مبدأ حرية المعتقد بعكس الخطاب الفقهي، وهو ما حذا بالعديد من الباحثين للقول أن الخطاب القرآني يدافع عن كرامة الانسان بينما الخطاب الفقهي التأويلي يدافع عن توجهاته ومصالحه، كما أنّ البعض الآخر يؤكّد على أنّ المؤسسة الدينية في العالم العربي عامة تتّسم بالنقائص البنيوية التي تتخلّل التأويلات والتفسيرات الفقهية والتي تُؤثّر في البعد العلائقي والثقافي بين الأفراد لا بل تنعكس حتى على مستوى تفكيرهم وطبيعة سلوكهم، وفي نفس السياق يؤكّد الشيخ محمد أبو زهرة “لقد احترم الإسلام حرية الاعتقاد، وجعل الأساس في الاعتقاد هو أن يختار الإنسان الدين الذي يرتضيه من غير إكراه، وأن يجعل أساس اختياره التفكير السليم، وأن يحمي دينه الذي ارتضاه فلا يكره على خلاف ما يقتضيه”([17])، أما الشيخ محمد الغزالي فيقول: الايمان الصحيح المقبول يجيء وليد فطنة عقلية واقتناع قلبي إنّه إستبانة العاقل للحق ثم إعتناقه عن رضا ورغبة”([18])، أما الأستاذ عبد اللطيف الهرماسي فيرى أن ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي تعكس أزمة الدين الإسلامي “الذي بقي أسير نسق ديني تبريري مرتبط بنظام اجتماعي وثقافي تفكك إلى حد كبير، وإن بصور متفاوتة، وبمناخ عقلي يصعب عليه الصمود أمام أدوات الحداثة الفكرية…هذا النمط من التفكير يحلينا على ظاهرة اجتماعية قديمة وليست خاصة بالإسلام، وهي المتمثلة في نزوع الديني إلى احتلال المجال الدنيوي وفرض رقابته على كل نواحيه. إنها الاستراتيجية اللاواعية والعريقة المتمثلة في تبرير وشرعنة الأفعال البشرية والمؤسسات والسلطات البشرية بوضعها تحت سقف المقدس وتقديمها كتعبير عن الإرادة الإلهية”[19].

تبقى قناعات الفرد الدينية رهينة قناعات ابستمولوجية منغلقة ومُؤَثَرٌ فيها من قبل المسيطرين على الحقل الديني دون التدبر في النص الديني ذاته، فالتحليل السوســيولوجي يسمح للباحث بفهم العوالم الدينية وآثارهــا الاجتماعية سواء كان ذلك على مستوى الفاعلين، أو التنظيمات والإيديولوجيات كما يركز على النشــاط الديني كنشــاط اجتماعي يربط بيــن الأفراد، كفاعلين في الحقل الديني وعلاقتهم بالفاعلين الآخرين وعادة ما تربطهم بهم حسب ما تقدم علاقة جدلية، وهو ما أشار إليه بورديو بقوله: “كلّ حقل تيولوجي هو عبارة عن سيرورة تاريخية، فهو يمرّ بعدة مراحل طويلة وبطيئة، وصراعات متعددة، الهدف منها الحصول على الاستقلال الذاتي، فهو سوق تنافسي تسود فيه علاقات القوة والاحتكار والمقاومة والاستراتيجيات، والمصالح والفرص المادية والاجتماعية والرمزية”([20]).

3-الدين والدولة

منذ بناء الدولة التونسية سعى المشرعون إلى ترسيخ قوانين تحمي حرية المعتقد لكل المقيمين بالدولة وجاء كتنصيص دستوري سنة 1959 في الفصل الخامس وفيه يقول: تضمن الجمهورية التونسية الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها وترابطها… الجمهورية التونسية تضمن حرمة الفرد وحرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام”. 

كما صادقت تونس على مواثيق دولية وعالمية في مجال الحريات ومن بينها حرية المعتقد، وقد عدت بهذا من الدول العربية الأكثر تقدّما في هذا المجال خاصة بعد في دستور 2014 ، وقد اثار تشريع حرية المعتقد وحرية الضمير استنكار الكثير من المواطنين في جل الجهات من البلاد باعتباره يهدد المنظومة القيمية والاجتماعية للمجتمع التونسي، فحرية الضمير تعني حسب الفصل (18) من الإعلان العالمي لحقوق الانسان أنّ ” لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء اكان ذلك سرا ام مع جماعة”([21])، وفي نفس السياق يؤكد الفصل (17) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ديسمبر 1966) على أنّ لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”([22]).

 

ومن هذا المنظور، فإنّ حرية الضمير تعد جملة الحريات الأساسية الفردية التي تجسم كونية حقوق الانسان، فهذه الحرية تسمح للفرد بأن يبرز قناعاته ورغباته، وبالتالي ترسيخ القيم التي يراها مناسبة لمعيشه والنابعة من ضميره وهو ما يفضي في النهاية إلى الاستقلال عن قيم الجماعة ومبادئها، والتي ترى بدورها أنّ حرية الضمير هي ضرب لوحدة المنظومة القيمية والاهم هو تهديد للهوية الدينية التي تعدّ أهم ركائز الهوية الاجتماعية، فمفهوم حرية الضمير هو من المفاهيم التي يصعب تقبلها في المجتمعات المسلمة ومنها المجتمع التونسي، ففكرة وجود تعدد ديني صعبة التقبل إذ ” يطغى الاعتقاد على أعضاء المجتمع كافة يجب أن يكونوا ينتمون إلى هوية دينية واحدة، وإن يقاسموا علانية المعتقدات الدينية نفسها وهو اعتقاد ثقافي لا ديني([23])، وهنا يمكن القول أنّ “حرية الضمير أوسع مجالا من حرية الدين وأشمل منها، لأنها تعني الحرية المطلقة للفرد في اعمال عقله وفق ما يرتضيه، ووفق ما يمليه عليه ضميره الحر”([24])، وقد أشار العديد من كبار المدافعين عن الحرية الدينية في العالم إلى وجوب تمتع اصحاب الضمير الحر بكافة الحقوق التي يتمتع بها غيرهم باعتبارهم مواطنين ضمن إطار ديمقراطية الدولة، لذلك لا يمكن أن يحرموا أولا من كونهم مواطنين، ثانيا يجب عدم إقصائهم ونبذهم بسبب تصوراتهم للوجود وتمثلاتهم للقيم والأخلاق، فحسب بعض الباحثين فحرية الضمير منوطة بذوات الأفراد وهي لا تشكل تهديدا للأمن العام والسلم الاجتماعي، وبالتالي لا يجب مقايضة الفرد بين حريته الفكرية وقناعاته الوجودية وبين مواطنته وحقوقه ضمن محيطه الاجتماعي، كما لا يجب أن تكون حريته الفردية مصدرا للتحامل ضده أو تسليط العنف على شخصه.

وعلى الرغم من الإجماع حول أهمية الحقوق والحريات الفردية بما فيها (حرية التنقل، حرية التعبير، حرية النشر، حرية التنظم، الحق في المساواة وعدم التمييز…الخ،) إلاّ أنه في مسألة حرية الضمير فإن الأمر يحتاج إلى الهوادة العلمية خاصة عند تناوله بالدراسة في مجتمعات ذات خصوصية ثقافية ودينية معينة كالمجتمع التونسي، فكل الحريات الآنف ذكرها يصطلح عليها “بالحريات الاجتماعية” ويعد هذا المفهوم نموذجيّا وجب على كل المجتمعات الإنسانية ترسيخها ضمن إطار وضعي قانوني لضبط النظام العام في بلدانها، وبالتالي هنا فإن حرية الفرد ترتبط أساسا بحرية المجتمع الذي ينتمي إليه “وذلك لأن مفهوم الحرية بإعتبارها غياب القيود الاجتماعية قد واجه انتقادا كبيرا، ممّا أدّى إلى أن يطوّر الفلاسفة مفهوما آخر للحرية الاجتماعية يقوم على تطابق إرادة الفرد والمجتمع، كما أن الحرية الحقيقية للإنسان تتحقق من خلال إلتزاماته بالواجبات الاجتماعية، فالواجبات تحرر الإنسان من النزوات الفردية وتؤدي إلى إرغام العناصر المنحرفة في المجتمع من إتباع القانون والتحرر من المصالح الضيقة”([25])،  لكن العالم بات يشهد دينامية وتغيرات سريعة أدت لبروز عدة تحولات قيمية وأخلاقية ثقافية وحتى نفسية، وتونس لم تكن بمنأى عن هذه الدينامية خاصة إبّان الثورة التي كانت مرحلة انتقالية على جميع الأصعدة، وبالأخص في مسالة الحرية الفردية، ولهذا “فإنّ التحليل السوسيولوجي لا يدخل الحتمية أو الجبرية في تناوله لمسألة الحريات الفردية، بل يركز على ضرورة وجود قوانين وقواعد ومعايير تحدد الفعل الإنساني داخل المجتمع، لأن الحرية يجب أن تقدم دوما كفعل”([26]).

فالخوض في مسألة الحريات الفردية هو بالضرورة خوض في التمثلات والمخيال الجمعي للمجتمع، فالحريات الفردية تعد سيرورة اجتماعية وبالتالي لا يمكن الفصل بينها وبين طبيعة المجتمع و”راهنية الفعل الاجتماعي”، فالحريات الفردية في تونس لا تمثل إشكالا فعليا إلاّ في الجوانب المتعلقة بحرية الإعتقاد أو المجاهرة به والدعوة إليه أو بالمسائل التي لها صلة بالجانب الديني “كالمثلية الجنسية وزواج المسلمة بغير المسلم، وحرية الضمير … وهذا ما يحيلنا إلى أن الحرية الفردية على الرغم من أنها سلوك فردي إلى أنه ومن خلال حراكه الاجتماعي فهو شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي.

لقد أثار الفصل السادس من دستور الجمهورية الثانية جدلا واسعا نظرا لمضمونه القائل بأن “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي، تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدي لها”([27])، فالجدل الأول قام على تصور يلازم بين حرية الضمير والحرية الدينية كأنهما شيء واحد وهذا ليس صائبا حسب العديد من الباحثين ومنهم عياض عاشور والذي يقول: “ولأّنا كنا نقرّ بأنّ حرية الضمير حيزها الاختيار الفردي القائم على ملء الإرادة الذاتية، وبأنّ مجال الحرية في الدين منبعه الإلزام الجمعي النابع من قوة متعالية مفارقة قاهرة فإننا نقف على خيوط رفيعة تقرب الثقة بينهما، لهذا تقع حرية الضمير في منطقة وسطى بين حرية التفكير وحرية الدين. فبها ينصت الواحد منا إلى وازعه الوجداني في مستويات الاختيار والسلوك والقناعات بما في ذلك القناعات الدينية دون قهر وإكراه”([28])، فعدم وضوح هذا المفهوم لدى العديد من أفراد المجتمع هو الذي يشكل الرفض القاطع له على الرغم من أنّ العديد من الحقوقيين أقروا أنّ هذه الحرية هي صنوان الحرية الفردية، وهذا ما شكل الجدل الثاني حيث أن العديد من الجمعيات ذات الطابع الديني قامت بالتنديد بالفصل السادس وخاصة حرية الضمير باعتباره يشكل تهديدا للمنظومة الدينية والقيمية للمجتمع كما أنه يفتح باب الردة أمام التونسيين المسلمين، وهذا ما أكده الأستاذ عبد الوهاب حفيظ بقوله: ” ثمّة لدى التونسي تسامح إزاء وجود أديان ومعتقدات مختلفة عمّا يدين به وتقبّل لمبدأ حرية العقيدة ولكنه يقترن بعدم تسامح إزاء تغيير العقيدة والمقصود بدون شك عقيدته هو”([29])، فالتنصيص على مسألة حرية الضميرla liberté de conscience  ومدنية الدولة من أكثر الإشكاليات التي دار في شأنها الحوار بين مختلف الفرقاء السياسيين في تونس زمن صياغة أبواب الدستور وفصوله”([30])، لهذا فإنّ مسألة الهوية التونسية باتت محل مداولات خاصة “مسألة الدين وتحديد الإسلام (وليس الدين في المطلق) ومكانته في الدولة وفي المجتمع، محور أشاد التجاذبات داخل المجلس الوطني التأسيسي من جهة وبين المجلس الوطني التأسيسي وجانب من المجتمع المدني من جهة أخرى([31]).

فعلى الرغم من أنّ الحريات الفردية لا تلزم إلاّ ذاتية الفرد إلاّ أنّ المجتمع دائما ما يسعى لفرض وصايته على هذه الحريات باعتبارها مصدرا للتصادم بين من يتبنى الهوية الإسلامية كمرجعية ومرتكز لحياته وممارساته وبين من يعتقد أنّ الممارسات الفردية لا علاقة لها بالهوية الاجتماعية أو الثقافية أو العقائدية لأي مجتمع.

فمسألة الحريات والتعدد الديني من المسائل الجديدة على المجتمع التونسي، وهي نتائج لتطور النسيج المجتمعي في تونس (الثورة التونسية والتغيير الاجتماعي والسياسي صلب المجتمع)، وربما هي كما أشار بعض الباحثين مرحلة انعتاق من العوائق المجتمعية التي فرضها النظام السياسي السابق والتي تمثلت في سيطرة القيم الجماعية على حساب الحريات الفردية، وتقديس كل ما هو جماعي على حساب كل ما هو فردي، ومن الأمثال الشعبية المجسدة لهذا التمثيل نجد (الشنقة مع الجماعة خلاعة) بمعنى حتى الموت مع المجموعة يعد نزهة طبعا هذا تصور اجتماعي لقيمة الجماعة ، ولهذا فان كل حراك حقوقي داع لترسيخ الحريات الدينية والفردية وتجذيرها صلب المجتمع التونسي يمكن أن يخلق نوعا من النفور والصد وربما حتى الوصم المؤدي إلى النبذ الاجتماعي فمثلا “الحرية الدينية مسألة معقدة في مجتمع معقد، وتبرز أكثر في المجال العمومي، إذ لا يتعلق الأمر بمجرد الاعلان عن اعتناق دين من الأديان أو مذهب من المذاهب بل يتعلق بالتعقد الثقافي الذي يميز الحالة المجتمعية، وما ينجر عن هذا التنوع الديني والحرية الدينية من انعكاسات على مستوى العلاقة الاجتماعية بين الطوائف والمذاهب والأديان خاصة وأن صعوبة وحساسية الحريات الدينية تبرز أكثر في المجال العمومي”([32]).

فالمسألة الدينية حينما تنحصر في الممارسة الفردية فهي تبقى في حدود المسائل الشخصية، وبالتالي هي لا تشكل تهديدا للمنظومة والهوية الاجتماعية، لكن بمجرد ولوج هذه الممارسات “الدينية الجديدة” إلى الفضاء العام فكل شيء يتغير “لأنّ الهوية تشكل رهانا لصراعات “التصنيف” الاجتماعية الهادفة إلى إعادة انتاج أو قلب علاقات السيطرة، فان الهوية تتكون من خلال استراتيجيات الفاعلين الاجتماعين”([33])، ولهذا يعد الاقصاء والنبذ والتهميش وسائل حماية لمنظومة القيم الاجتماعية حتى ان الكثير من الباحثين يعتقدون ان التعصب الديني هو نتاج فعلي للإقصاء الهوياتي، كما انه صناعة مجتمعية بحتة باعتبارها تخضع للعاطفة دون العقل وهو ما يحيلنا إلى إقرار “سبينوزا” في نقده للاهوت، “حيث رأى أنّ الخضوع الاعمى للنصوص المقدسة يحطّ من شأن العقل، وإذا ما كان هذا النص يعارض التفكير فلا معنى للإيمان به”([34])، ناهيك أنّ الرفض للهويات الدينية المختلفة هو أمر رائج اجتماعيا بمسمى المعتقدات وكما أسلفنا سابقا ان الذاكرة الشعبية التونسية تستبطن عادة على سبيل المثال الربط بين الدين المسيحي والاستعمار، كما الدين اليهودي والصهيونية، وهذا ما يحلينا إلى أنّ صراع الهويات خاصة منها الدينية انما هو صراع على التمايز الثقافي والتموقع الاجتماعي، وبالتالي الهيمنة على آليات السيطرة.

اما من الناحية السياسية والقانونية فإنهم يتماهون في رأيهم مع رأي العديد من الفاعلين الحقوقيين الذين يعتبرون أن الإقرار الدستوري بالحق في حرية المعتقد والضمير ما هو إلاّ تنصيص شكلي أو صوري لم يٌفَعلْ على شكل قانون صادر في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، كما يتضمن هذا الإقرار العديد من التناقضات التي تحد من حيز حرية الضمير بل وتقييدها، وهو ما يجعل الأفراد المتمتعين بهذا الحق مواطنين من درجة ثانية وذلك استنادا للفصل الرابع والسبعين من الباب الرابع، السلطة التنفيذية، نقرأ: “الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام”([35])، وقد اعتبر العديد من المتحولين دينيا والحقوقيين ان ما تضمنه هذا الفصل يعد اقصاء فعلي لباقي المواطنين غير المسلمين وهو ما يتعارض مع مفهوم المواطنة والذي ينص جوهرها على المشاركة في الحكم والمساواة بين جميع المواطنين والمواطنات بصرف النظر عن الدين أو العرق، فالانتماء للوطن والالتزام بقانون الدولة هو المعيار الأساسي للحصول على كافة الحقوق والواجبات.

ناهيك أنّ العديد من المتحولين دينيا نددوا بعدة ممارسات اعتبروها انتهاكا لخصوصيتهم ولحريتهم في الفضاء العام واهمها اغلاق المقاهي والمطاعم في شهر رمضان والحملات البوليسية المصاحبة لهذا الاجراء، ناهيك عن عدم وجود أماكن عبادة تابعة لهم، أو مقابر لدفن موتاهم خاصة في ظل تعرض العديد منهم الى انتهاك حرمة موتاهم عند الدفن بسبب رفض المسلمين دفن من هم على غير الإسلام في مقابرهم وغيرها من الممارسات الأخرى.

وهنا يذهب بعض المحللين إلى أنّ احتكار الفضاء العام ليس بسبب ديني فقد “أصبحت الظاهرة الدينية الخالصة غير موجودة، فهي ظاهرة اجتماعية واقتصادية ونفسية، وبالطبع ظاهرة تاريخية”([36])، والدين هنا هو مجرد أيديولوجيا وآلية من اليات الهيمنة السياسية لكن حذر أغلبهم أيضا على مغبة المفاضلة بين الجماعات والتمييز بينها، لأن هذا التمايز يصنع التطرف والتعصب بين الجماعات ويتحول الانتماء من الانتماء الخالص للوطن إلى الانتماء الخالص للجماعة بسبب الإحساس بالظلم والاضطهاد والمكانة الدونية وهذا الانتماء “قد يتحول إلى غطاء ديماغوجي شعبوي لانعدام المساواة، هذه جاذبية القومية، هذه فرصتها وهذا خطرها”([37]).

ويذهب البعض أنّ الدولة ستكون مسؤولة عن كل اضطراب اجتماعي وسياسي يمكن أن يحدث في المستقبل، فالتعتيم والتغافل السياسي عن وضع الأقليات الدينية في تونس والذي يصل إلى حد الإقصاء الفعلي لهم، معتمدين الدين كأساس لهذا الاقصاء ستكون نتائجه وخيمة على المجتمع وقيم التعايش السلمي بين أفراده خاصة وأن الأنظمة السياسة ما بعد الثورة تنتهج نفس التمشي في التعاطي مع الأقليات تماما كمن سبقهم رغم السرديات القانونية المعتمدة في التشريعات الجديدة والتي كما وصفها بعض الحقوقيين بأنها شكلية، وقد أكد العديد من الباحثين على أن الأقليات الدينية بما فيها المسيحية والبهائية تعايش حالة من الاستلاب والاغتراب الاجتماعي والذي يتجسد في حراكهم الحقوقي ونشاطهم كفاعلين مدنيين على مستوى الجمعيات في محاولة للاعتراف بهم كمواطنين تونسيين مسيحيين وبهائيين.

وفي هذا السياق يرى تايلر “أنّ المجتمعات التي تعيش تعدداً ثقافياً ّ يصبح فيها الاعتراف حاجة ضرورية ملحة، وذلك بالنظر إلى العلاقة القائمة بين الاعتراف والهوية، فالهوية شيء أشبه بالإدراك الذي يمتلكه الأفراد حول أنفسهم والمميزات الأساسية التي تحددهم بوصفهم كذلك”([38])، لكن يبقى الاشكال هنا في كيفية الاعتراف بهم كعناصر فاعلة صلب المجتمع التونسي فهذا الاعتراف يستوجب استراتيجية كاملة تشمل كل المجالات الحيوية في البلاد واهمها قطاعي الاعلام والتربية والتعليم، فقد طالب العديد من المنظمات والناشطين الاجتماعيين وقيادات دينية بإدراج مقرر دراسي في المناهج التعليمية يتناول التنوع والتعدد الديني وتاريخه في تونس حتى يتسنى للنشء معرفة أنهم يعيشون ضمن مجتمع متعدد الثقافة الدينية، كما طالبوا أيضا بوجوب إعلان عن الاحتفالات الدينية الخاصة بكل ديانة أو مذهب في الإذاعات الرسمية تماما كما الاحتفال بالأعياد الإسلامية وادراجها في رزنامة الأعياد الرسمية، وهذا ما يحلينا إلى نظرية “هابرماس” الذي “يرى أنّ المجال العام قبل كل شيء هو جانب من حياتنا الاجتماعية، ويمكن فيه أن يتشكل شيء يقترب من الرأي العام، وإمكانية الوصول اليه مضمون لكل المواطنين، يتشكل جزء من المجال العام مع اجراء كل محادثة بين مجموعة أفراد منحدرين من المجال الخاص لتكوين كيان عام”([39])، فهابرماس يؤكّد على أهمية التمسك بالقيم التنويرية وأهمها إعمال العقل في كل المجالات وخاصة في الحوارات التي تهتم بالقضايا التي تتصل بالممارسة الديمقراطية بين الافراد دون الاهتمام بتمايزهم أو مكانتهم الاجتماعية وهذا هو أساس المجال أو الفضاء العام، أما بالنسبة إلى تصوره للجانب الديني فهو يرى أنّ التراث الديني يشكل مصدرا أساسيا للقيم الأخلاقية  كالعدل والمساواة وغيرها من القيم التي غالبا ما يتأسس عليها النظام القانوني للدول وهي لا تتعارض مع القيم العلمانية ويقول في هذا السياق: “ان القانون العقلاني المساواتي له أيضا أصوله الدينية، انها تغوص في ثورة أنماط الفكر والتي تزامنت مع صعود الديانات العالمية، إلاّ ان أصول التقليد الديني التي منها ترتوي هذه المشروعية للقانون وللسياسة أو بواسطة القانون العقلاني، هي أصول صارت دنيوية ومنذ زمن طويل”([40])، ولهذا يجب أن يحتكم الافراد في مناقشاتهم للعقل وأن يتجنّبوا اعتماد الحجج الدينية التي يمكن أن تكون سببا إمّا في تعزيز أو تهديد بعض الأمور والتي منها: التواصل بين الافراد، التضامن الاجتماعي، الموقف الأخلاقي الأساسي تجاه الآخرين، العدالة في تطبيق القرارات العامة، والاهم قدرة المجتمع الديمقراطي في التعاطي مع مشاكل الجماعات والتي من بينها الجانب الديني.

ولهذا يرى أنصار التوجه العلماني أنّ الدولة يجب أن تتبنى هذا التوجه قلبا وقالبا حتى لا تهيمن جماعة على أخرى وتضطهدها لا لشيء إلاّ لأنّها تمثل أغلبية، لقد حاول هابرماس الجمع بين الاتجاهين العلماني والديني في المجال العام معتبرا أنهما لا يتعارضان، خاصة وان الاتجاهين باتا يتسمان بالتطرف إزاء بعضهما البعض وصار كلاهما أيديولوجيا توظف لتفكيك الفضاء العام ومن نتائجهما بروز التعصب الهوياتي والعرقي والديني والسياسي، وهنا يذهب هابرماس إلى أن مصلحة الدولة الدستورية أن تكون حاضنة ومتسامحة تجاه كل المكونات والمصادر الثقافية التي تعد رافدا أساسيّا في تغذية الوعي المعياري والتضامن المدني، وهذا ما يريد ان يذهب اليه “المختلفون دينيا فهم يريدون الاعتراف بهم وباختلافهم داخل المنظومة الاجتماعية للبلاد التونسية حتى يتفادوا الازدراء والوصم ناهيك عن ان الإقرار بوجودهم صلب المجتمع هو بالأساس ضمانة لحفظ حقوقهم سواء من الناحية القانونية والاجتماعية على حد سواء.

خاتمة:

لقد غير التحوّل الديني من الملمح العام للهوية الدينية في تونس بعد أن سادت ولمدة قرون طويلة فكرة أنه مجتمع متجانس هوياتيا ودينيا، فالتعاطي العلمي والحقوقي مع هذه المسألة يعد تحديا وخوضا عسيرا في مجموعة من المتناقضات والتباينات والتي تعكس بدورها الاختلاف بين التونسيين فيما بينهم حول الدين والثقافة من جهة وبين مدنية الدولة والتطور الإنساني من جهة أخرى، فتناول مثل هذه القضية الحيوية على أهميتها هو تناول بالضرورة للبعد الوجداني الذي تثيره قضية حرية المعتقد أو الاعتقاد نظرا لامتزاجها بالبعد الأيديولوجي والفلسفي ناهيك عن البعد الذاتي العاطفي في التعاطي مع مثل هذه المواضيع التي أساسها قدسية المعتقد وحرمته الاجتماعية. فعملية التحول الديني هي مرحلة جدّ صعبة للمتحول باعتبار الإرهاصات النفسية والاجتماعية التي يعايشها ومن آلياتها الرفض والنبذ والوصم الاجتماعي، وهو ما يولد حالة من الإغتراب النفسي والاجتماعي لديه ممّا يجعله ينخرط في مجتمع بديل يشترك أفراده في نفس الخصائص الدينية والثقافية، وذلك طبعا استنادا لطقوس دينية تمثل الاعتراف بفعالية الفرد وشرعيته داخل الجماعة.

لكن أكبر تحدّ يوجهه المتحوّلون بكل أشكالهم وأطيافهم هو مسألة الاعتراف بهم اجتماعيا وهذا يرونه حقا أساسيّا من حقوقهم، والأهم هو اعتراف الدولة بهم باعتبارهم عناصر فاعلة صلب مجتمعهم بغضّ النظر عن اختلافاتهم الفكرية والثقافية والدينية، وأن لا يعاملوا على اعتبارهم مواطنين من درجة ثانية، كما أنّ الفضاء العام يجب أن يكون فضاءً مشتركا لكل التونسيين دون اعتبار الاختلافات القائمة بينهم بل في اطار الإقرار بالتعددية الدينية كأساس للتعايش السلمي ناهيك على أنها الاطار العام المجسم لمبدأ المواطنة الكاملة لكل التونسيين، وأنّ الانتماء الوطني ليس منوطا بديانة أو معتقد دونا عن غيره، كما يطالبون أيضا بتحييد الجانب القانوني والسياسي من هيمنة التيارات الدينية التي تقصي الأخر المختلف وتجسد مبدأ مدنية الدولة التي أقرها الدستور التونسي.

المراجع العربية:

– إدريس (محمد يوسف)، حرية الضمير في الدستور التونسي الجديد بين دواعي الانفتاح على القيم الانسانية وسلطة المرجع الثقافي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016.

– إلياد (ميرسيا)، المقدس والمدنس، ط1، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 1988.

– الغزالي (محمد)، حقوق الانسان بين تعاليم الإسلام واعلان الامم المتحدة، دار المعرفة، الجزائر، 2007.

– الهرماسي (عبد اللطيف)، ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي من منظور العلوم الاجتماعية للأديان، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010.

– الكنز (علي)، الإسلام والهوية ملاحظات للبحث: الدين في المجتمع العربي، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000.

– الزواوي (بغوره)، “الهوية وسياسة الاعتراف، شارل تايلر نموذجا”، مركز الموقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ، 2014

– بدر الدين (سوسن)، المواثيق والمعاهدات الدولية، ط1، منشورات أفلاك، إسطنبول، 2015.

– حفيظ (عبد الوهاب)،” الدين وحرية الضمير، منعرج التحولات الكبرى، تقرير الحالة الدينية في تونس”، 2015.

– روسو (جون جاك)، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة، وتقديم: عبد العزيز لبيب، ط1، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2011.

– شلحت (يوسف)، نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، ط1، دار الفارابي، لبنان، 2003.

– طاحون (أحمد رشاد)، حرية العقيدة في الشريعة الإسلامية، نقلا عن الشيخ محمد أبو زهرة في كتابة: تنظيم الإسلام والمجتمع، ايتراك للنشر والتوزيع، القاهرة، 1998.

– عبد الرزاق (صلاح)، اعتناق الإسلام في الغرب: أسبابه ودوافعه، منتدى المعارف، بيروت، 2010.

– عماد (عبد الغني)، سوسيولوجيا الهوية جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017.

– غازي (مها)، “في الصناعة الاجتماعية للهويات الدينية المتعصبة”، مقال منشور ضمن مؤلف جماعي بعنوان” الهوية والاختلاف والتعدد، مقاربات في المجتمع والدين والسياسة”، إشراف وتحرير منير السعيداني، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2020.

– غماري (طيبي)، “الحرية الدينية في الجزائر من رهانات وتحديات”، مجلة الدراسات الإسلامية، العدد السادس عشر، الجزائر،2011.

– فرج محمود (أنور محمد)، ” التعايش بين الاتجاهين العلماني والديني في المجال العام: دراسة في اسهامات يورغن هابرماس”، مجلة جامعة التنمية البشرية، مجلد 4، العدد 1، 2018.

– كلي. رايت (وليم)، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط2، ترجمة محمود سيد أحمد، دار التنوير، 2010.

– كوروتايف (أندريه)، الديانات في العالم والتطور الاجتماعي لحضارات العالم القديم، ط1، لويستون، مطبعة ملين، 2004.

– نويرة (أسماء)، “مؤسسة الإفتاء وحرية الضمير، تقرير الحالة الدينية في تونس”، منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية، 2015.

– هابرماس (يورغن)، مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية، ترجمة جورج كتوره، مكتبة الشرقية، بيروت،2006.

المراجع الأجنبية:

– Ben ACHOUR Yahd, La Deuxième  Fâtiha : L’islam et la pensée des droits de l’homme, PUF, collection «  Proche Orient » dirigée par Gilles Kepel, PUF, Paris, 2011.

– BERGSON Herni, La pensée et le mouvant : Essais et conférences, bibliothèque de philosophie contemporaire, Paris : PUF, 1969.

– BOURDIEU Pierre, « Genèse Et Structure Du Champ Religieux », Revue Française de Sociologie, n° 12, 1971.

– Foucault (Michel), L’hermeneutique du sujet: Cours au Collège de France (1981-1982), Editions seuil (2001).

-Jürgen Habermas, The Public Sphere: An Encyclopedia Article, In: Arendt, H., Benhabib, S., Bohman, J., Dewey, J., Elster, J., Fraser, N., & Lippmann, W. (2010) . The idea of the public sphere: A reader. Lexington Books.

– Mayer Jean-François, Les courants religieux à l’horizon 2037, Les religions entre mondialisation et individualisation, Religioscope, n° 332, 2007.

– Mossière Géraldine, Converties à l’islam. Parcours de femmes au Québec et en France, religiosités d’un nouveau genre, Faculté des arts et des sciences – Département d’anthropologie, 2009.

– Pereza  Déborah ، « La prégnance du débat sur l’identité tunisienne à L’ANC », Texte présente lors du Colloque international sur les processus électoraux le territoire et la légitimité en Tunisie et au Maghreb, 23-24 octobre 2012, Institut de Recherches sur le Maghreb Contemporain et l’observatoire tunisien de la transition démocratique.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] Michel Foucault, L’herméneutique du sujet : Cours au Collège de France (1981-1982), Editions seuil (2001), p.17.

[2] Géraldine Mossière, Converties à l’islam. Parcours de femmes au Québec et en France, religiosités d’un nouveau genre, Faculté des arts et des sciences – Département d’anthropologie, 2009, p23.

 

[3] Jean-François Mayer, Les courants religieux à l’horizon 2037, Les religions entre mondialisation et individualisation, Religioscope, n° 332, 2007, p 57.

 

 

 

[4] أوليفيه روا، الجهل المقدس (زمن دين بلا ثقافة)، ترجمة صلاح الأشمر، دار الساقي، 2012، ص 233.

([5])  أندريه كوروتايف، الديانات في العالم والتطور الاجتماعي لحضارات العالم القديم، ط1، لويستون، مطبعة ملين، 2004، ص 83.

([6])  يوسف شلحت، نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني، ط1، دار الفارابي، لبنان، 2003، ص 17.

([7])  وليم كلي. رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط2، ترجمة محمود سيد أحمد، دار التنوير، 2010، ص 134.

 

([8])  عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الهوية جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017، ص89.

([9]) علي الكنز، الإسلام والهوية ملاحظات للبحث: الدين في المجتمع العربي، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص109.

([10])  أسماء نويرة، مؤسسة الإفتاء وحرية الضمير، تقرير الحالة الدينية في تونس، منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية، 2015، ص 90.

[11] صلاح عبد الرزاق، اعتناق الإسلام في الغرب: أسبابه ودوافعه، ط1، بيروت، منتدى المعارف، 2010، ص 12.

[12] Paloutzian,R.(2014). Psychology of Religious Conversion and Spiritual Transformation. In: L.Rambo and C. Farhadian, ed., The Oxford Handbook for Religious Conversion, 1st ed. NewYork&Oxford : Oxford University Press.

[13]Ibid, P : 65.

([14])  عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الهوية…، مرجع سابق، ص 77.

([15])  عبد الوهاب حفيظ،” الدين وحرية الضمير، منعرج التحولات الكبرى، تقرير الحالة الدينية في تونس، 2015، ص 20.

([16])  عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الهوية…، مرجع سابق، ص 118.

([17])  أحمد رشاد طاحون، حرية العقيدة في الشريعة الاسلامية، نقلا عن الشيخ محمد أبو زهرة في كتابة: تنظيم الإسلام والمجتمع، ايتراك للنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص 139.

([18]) محمد الغزالي، حقوق الانسان بين تعاليم الاسلام واعلان الامم المتحدة، دار المعرفة، الجزائر، 2007، ص 60.

[19] عبد اللطيف الهرماسي، ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي من منظور العلوم الاجتماعية للأديان، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010، ص 37.

([20]) Pierre Bourdieu, « Genèse Et Structure Du Champ Religieux », Revue Française de Sociologie, n°12, 1971, p.334.

([21])  سوسن بدر الدين، المواثيق والمعاهدات الدولية، ط1، منشورات أفلاك، إسطنبول، 2015، ص 7.

([22])  المرجع نفسه، ص 102.

([23])  مها غازي، في الصناعة الاجتماعية للهويات الدينية المتعصبة، مقال منشور ضمن مؤلف جماعي بعنوان” الهوية والاختلاف والتعدد، مقاربات في المجتمع والدين والسياسة”، اشراف وتحرير منير السعيداني، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2020، ص 126.

([24]) Achour( Yahd) , La Deuxième  Fâtiha : L’islam et la pensée des droits de l’homme, PUF, collection «  Proche Orient » dirigée par Gilles Kepel, PUF, Paris, 2011, p 158.

[25] جون جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة، وتقديم: عبد العزيز لبيب، ط1، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، 2011، ص 35-36.

([26])  Herni Bergson, La pensée et le mouvant : Essais et conférences, bibliothèque de philosophie contemporaine, Paris : PUF, 1969, P 16.)

([27])     دستور 2014، الفصل السادس.

([28])  محمد يوسف ادريس، حرية الضمير في الدستور التونسي الجديد بين دواعي الانفتاح على القيم الانسانية وسلطة المرجع الثقافي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016، ص 6، انقلا عن:

Ben Achour (Yadh) , Droits du croyant et droits de l’homme, un point de vue islamique islamo-christiania, Roma, N°39, 2008.

([29])  عبد الوهاب حفيظ، الدين وحرية الضمير…مرجع سابق، ص 19.

([30])    محمد يوسف ادريس، حرية الضمير في الدستور التونسي…مرجع سابق، ص3.

([31]) Déborah Pereza, « La prégnance du débat sur l’identité tunisienne à L’ANC », Texte présente lors du Colloque international sur les processus électoraux le territoire et la légitimité en Tunisie et au Maghreb, 23-24 octobre 2012, Institut de Recherches sur le Maghreb Contemporain et l’observatoire tunisien de la transition démocratique.

([32])  طيبي غماري، الحرية الدينية في الجزائر من رهانات وتحديات، مجلة الدراسات الإسلامية، العدد السادس عشر، الجزائر، جانفي، 2011، ص 36.

([33])  عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الهوية… مرجع سابق، ص 141.

([34])  مها غازي، في الصناعة الاجتماعية للهويات…مرجع سابق، ص 129 انظر:

Spinoza, Theological-Political treatise, Cambridge University Press, Cambridge, 2007,p 188.

([35])  محمد يوسف ادريس، حرية الضمير في الدستور التونسي الجديد بين دواعي الانفتاح على القيم الانسانية وسلطة المرجع الثقافي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016، ص 8.

([36])  ميرسيا الياد، المقدس والمدنس، ط1، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 1988، ص 148.

([37])  عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الهوية… مرجع سابق ص 149.

([38])  بغوره الزواوي، الهوية وسياسة الاعتراف، شارل تايلر نموذجا، مركز الموقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ،2014، ص 196.

([39])  أنور محمد فرج محمود، التعايش بين الاتجاهين العلماني والديني في المجال العام: دراسة في اسهامات يورغن هابرماس، مجلة جامعة التنمية البشرية، مجلد 4، العدد 1، 2018، ص 69، لمزيد التفاصيل انظر:

Habermas, J. (2010), The Public Sphere: An Encyclopedia Article, In: Arendt, H., Benhabib, S., Bohman, J., Dewey, J., Elster, J., Fraser, N., & Lippmann, W. (2010) . The idea of the public sphere: A reader. Lexington Books.

([40])  يورغن هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية نحو نسالة ليبرالية، ترجمة جورج كتوره، مكتبة الشرقية، بيروت،2006، ص131.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete