إشكالية النزعة الإنسانية في السياقات الإسلامية المعاصرة في فكر محمد أركون

تكوين

إن استشكال وضعية النزعة الإنسانية في السياقات الإسلامية المعاصرة لدى محمد أركون يقتضي مساءلة مسلمتين اثنتين: أولاهما الإقرار بضمور وانقراض النزعة الإنسانية في هذه السياقات مقارنة بالسياق الكلاسيكي، ثانيهما التأكيد على وجود أسباب منظوماتية، سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية كانت وراء غياب هذه النزعة في السياقات الإسلامية المعاصرة. ثمة ثلاث مراحل ستُسعفنا في فهم  هذا القدَر التراجيدي الذي أدى إلى اندثار جميع مقومات النزعة الإنسانية الكلاسيكية في السياق المعاصر: أولا، المرحلة التاريخية القروسطية وإفرازاتها. ثانيا، مرحلة الحروب الإستعمارية والهيمنة الأوربية. ثالثا، مرحلة الخطاب الأصولي والممارسات السياسية ما بعد الإستقلال. سينخرط تحليلنا لهذه المراحل الثلاث في إطار ابستيمي الفهم التاريخي كما تصوره أركون وليس ضمن مواقف أيديولوجية سواء تلك التي تحاول الدفاع عن ذات تاريخية طاهرة من خلال تبجيلها أو تلك التي ترنو الهجوم والضرب في المكتسبات الإنسانية للحضارة العربية الإسلامية. موازاة مع أزمة النزعة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، يقترح أركون ثلاث خطوات رئيسية لتحقيق نزعة إنسانية منفتحة في السياق الإسلامي المعاصر: أولها، ضرورة البدء من التراث العربي الإسلامي، وذلك من خلال نقده وتفكيكه قصد إعادة بناءه وتأسيس أرضية تفتح لنا مجال الحوار البناء؛ ثانيها، إعادة قراءة تراثنا انطلاقا من مناهج جديدة بديلا عن مناهج لا ينعتها أركون بالقديمة البالية، لكن يرى أن الإبستيمي الذي كانت تسبح فيه قد تغير واستجد فيه ما لم تكن قد أدخلته في حسبانها؛ ثالثها، الإنخراط في مشروع الكونية، أي اعتبار الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية ليس بدعا من الأمم، بل لا يمكن فهمه إلا في إطار السياق الكوني الإنساني.

 

مقدمة:

كان أول ظهور تاريخي واعٍ بذاته[1] للنزعة الإنسانية خلال عصر النهضة بأروبا (القرنين 15 و 16)؛ تجلى ذلك في التمرد الذي أعلنته الطبقة البورجوازية الصاعدة ضد ثقافة القرون الوسطى وتبنيها لرؤية جديدة للكون والإنسان والمجتمع؛ إنه، كما يقول عبد الرزاق الدواي، “تمردٌ على أسلوب معين في الحياة وفي التفكير وفي التعامل بين البشر كان يُعتبر مُهينا للإنسان، وكانت ثقافة العصر الوسيط تكرسه وتعيد إنتاجه. لقد تضمنت تلك النزعة أفكار الإهتمام بالإنسان كفرد، والإهتمام بكل ما يثبت ذاته، ويعيد إليه الثقة في قدراته، ويغني حياته وشخصيته وفكره”[2].

كان عصر النهضة إذن، بداية فعلية تم التأكيد فيها على مكتسبات إنسانية كبيرة أهمها إثارة قضية حقوق الإنسان وحريته في مجتمع تحكمه الكنيسة والإقطاع، معارضة التعصب الديني ومحاكم التفتيش، بالإضافة إلى الإشادة النسبية بأهمية التجربة والعقل في مقابل الأشكال العديدة من انتهاك كرامة الإنسان باسم التفويض الإلهي.[3]  وقد بلغت تلك النزعة أوجها خلال عصر الأنوار في القرن 18، ويتضح ذلك من خلال مؤلفات فلاسفة العصر الذين أعلنوا حق البشر في المساواة حقوقا وواجبات، مع ضرورة العمل على تحقيق سعادتهم ورفاهيتهم؛ كما كان لهم الفضل في محاربة النزعات الظلامية والمساهمة في وضع اللبنات الأولى لميثاق حقوق الإنسان.

النزعة الإنسانية محمد أركون

بعد هذه اللمحة التاريخية السريعة، يتعين علينا أن نشير إلى كون الحديث عن النزعة الإنسانية لدى محمد أركون، مرتبط أيما ارتباط بمدى ذيوع التفلسف والعقلنة من جهة، ومكانة الإنسان وحريته الدينية والفكرية من جهة أخرى. من هنا نلمس في التعريفات التي يقدمها أركون للنزعة الإنسانية انضواءها تحت هذا التصور، إذ إنه يقوم بتعريفها واقعيا لا نظريا، أي من خلال دراسة ورؤية شاملة لروح العصر؛ على هذا المنوال، يرى ضرورة أن تشمل النزعة الإنسانية جميع أفراد الجنس البشري بغض النظر عن أصولهم الجغرافية أو الدينية أو العرقية أو اللغوية، إذ إن “أنسنة العلاقات الإجتماعية أمر ضروري. [فـ]الموقف الإنساني لا يعترف إلا بالإنسان، في كل زمان ومكان. فالإنسان بالنسبة له هو قيمة عليا لا يجوز المس بها أو الإعتداء عليها. والإنسان إنسان بغض النظر عن مشروطيته السوسيولوجية أو العرقية أو الدينية”[4].

في هذا السياق، تأخذ النزعة الإنسانية منحى الصراع من أجل حرية الإنسان، صراع تكمن ميزته في كونيته من جهة الفاعل (الإنسان) واستمراريته من جهة التفاعل بين كونيةِ وخصوصيةِ هذا الأخير. من هنا يأتي تمسك محمد أركون بضرورة الحديث والعمل وفق نزعة إنسانية تفتح آفاق جديدة لمساعي الإنسانية وفق وعي جديد بالتاريخ العربي الإسلامي وسياقاته؛ وكذا من أجل إعادة الدلالة الإيجابية التي كانت لهذه النزعة في البداية قبل أن تُسحق سياسيا خلال حركات الإستعمار التي شهدتها الدول العربية الإسلامية والتوسع الجاري للإسلام السياسي بُعيد حركات الإستقلال.

لم يكن إذن اشتغال أركون على موضوع النزعة الإسلامية اعتباطا، بل جاء استجابة لما رصده من توسع لإسلام متزمت ومستبد في تأويله، الشيء الذي دفعه إلى الإشتغال في أطروحة دكتوراه حول النزعة الإنسانية في السياق الإسلامي الكلاسيكي خلال القرن الرابع الهجري، وذلك من أجل الوقوف على تجليات ازدهار العقلانية المنفتحة في الماضي، حيث يرى أن “التذكير بهذا الخط العقلاني المهمل والمنسي في الإسلام منذ ألف سنة قد يدفع بالمسلمين اليوم إلى إعادة الصلة بما انقطع وانتهاج طريق آخر غير الخط الضيق والمتزمت لِدينهم.”[5]   يقول في هذا الصدد:

“إن الحضارة العربية الإسلامية قد بلغت أوجها في بغداد [وإيران] أيام العباسيين[والبويهيين]. ففي ذلك الوقت نشأت وتطورت حركة إنسية عربية حقيقية (هيومانيزم). وقد كانت هذه الحركة الإنسية منفتحة جدا وليبرالية جدا أيضا. كما كانت مرتكزة على عقلانية حقيقية ومصحوبة بتصور واسع ومنفتح للإنسان (أو شخص البشري)”[6].

إن الوقوف التاريخي على ازدهار النزعة الإنسانية في السياق الإسلامي الكلاسيكي جعل محمد أركون يستفسر عن واقع النزعة الإنسانية في السياق الإسلامي المعاصر من خلال طرحه لسؤال منطقي بسيط: “ما هو سبب ازدهار النزعة الإنسانية أثناء العصر الكلاسيكي، ثم انقراضها بعد ذلك من ساحة المجتمعات الإسلامية والعربية؟ ما هو هذا القدَر التراجيدي الذي أصابها فجعلها تختفي وتموت؟”[7]

سنعتمد في استشكال وضعية النزعة الإنسانية في السياقات الإسلامية المعاصرة على مسلمتين اثنتين: أولاهما الإقرار بضمور وانقراض النزعة الإنسانية في السياقات الإسلامية المعاصرة مقارنة بالسياق الكلاسيكي، ثانيهما التأكيد على وجود أسباب منظوماتية، سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية كانت وراء غياب هذه النزعة في السياقات الإسلامية المعاصرة. سنحاول إذن التركيز على مقاربة تلك الأسباب، وذلك انطلاقا من ثلاث مراحل قد تُقربنا من فهم ذلك القدَر التراجيدي الذي تحدث عنه محمد أركون، والذي أدى إلى اندثار جميع مقومات النزعة الإنسانية الكلاسيكية:

أولا: المرحلة التاريخية القروسطية وافرازاتها، والتي يمكن تحديد فترتها الزمنية منذ القرن 13م إلى حدود القرن 19م؛ فما عرفته هذه المرحلة من غموض من الناحية التاريخية أدى إلى سوء فهم أهم الأحداث التي جرت خلال هذه الفترة، سواء السياسية منها والإجتماعية والفكرية؛ إلا أن تركيزنا سينصب في الآثار التي نجمت عن ضمور الفكر الفلسفي- النقدي ليحل محله الفكر المدرساتي (السكولاستيكي) والأرثوذكسي (الوثوقي) وسيطرة ذهنية التكفير والتحريم. تُعتبر هذه المرحلة إذن هي الطبقة الأولى التي تكونت حول الموقف الإنساني في السياق الإسلامي الكلاسيكي لتطمس معالمه.

ثانيا: مرحلة الحروب الإستعمارية والهيمنة الأوربية، والممتدة من منتصف القرن 19م إلى حدود خمسينيات القرن الماضي، بما في ذلك ما يسمى بعصر النهضة وما آل إليه خصوصا بعد الهيمنة الإستعمارية ؛ تُعتبر مرحلة الإستعمار  إذن هي الطبقة الثانية التي عملت على طمس معالم النزعة الإنسانية الكلاسيكية.

الأصولية الدّينية وعولمة العنف

ثالثا، مرحلة الخطاب الأصولي والممارسات السياسية ما بعد الإستقلال والتي تعرف امتدادا في زمننا الحاضر؛ حيث تميزت هذه المرحلة بارتكاسات على عدة مستويات. على مستوى الفكر مثلا تمت العودة إلى فكر أصولي منغلق لا يقبل الإختلاف ولا التعدد، بالإضافة إلى مستوى الممارسات السياسية التي استغلت هذا الفكر لتخلع المشروعية على سلطتها السياسية وتفرض نمطا معينا من الحكم سمته الإستبداد  وغياب الديمقراطية. تُعتبر هذه المرحلة هي الطبقة الثالثة من طبقات طمس معالم النزعة الإنسانية الكلاسيكية.

من هذا المنطلق، سينخرط تحليلنا لهذه المراحل الثلاث في إطار ابستيمي الفهم التاريخي وليس ضمن مواقف أيديولوجية سواء تلك التي تحاول الدفاع عن ذاتها التاريخية من خلال تبجيلها أو تلك التي ترنو الهجوم والضرب في المكتسبات الإنسانية للحضارة العربية الإسلامية. سنؤسس تحليلنا إذن على المقولة الأركونية الآتية: إن “الشيء الأهم بالنسبة لنا تاريخيا اليوم، هو أن نبحث عن أسباب فشل النزعة الإنسانية أو إجهاضها الكلي في الجهة العربية أو الإسلامية، لا أن نستخدمها كتبجيل دفاعي أو هجومي على غرار الحركات الأصولية المضادة للغرب”[8].

إلى أي حد إذن يمكن تفسير الغياب التراجيدي للنزعة الإنسانية في السياقات الإسلامية المعاصرة ضمن تصور محمد أركون؟

  1. رواسب الفضاء التاريخي القروسطي:

 في البداية، لا بد من التذكير بأن التعددية العقائدية والمذهبية والثقافية في السياق الإسلامي الكلاسيكي دامت حتى مجيء السلجوقيين الذين بدأوا يفرضون ما سماه أركون بالأرثوذكسية السنية بدءا من عام 429هـ/1039م، ولقد كان ذلك إيذانا بولوج عصر الجمود والتقليد وإجهاضا لكل موقف فلسفي منفتح.[9]

في هذا السياق، عادة ما يؤرَّخ لانقراض الموقف الفلسفي في المشرق برد فعل الغزالي على فلسفة ابن سينا والفارابي، حيث تزامن هذا الحدث مع انتصار السلاجقة بداية القرن الحادي عشر الميلادي ومن تم دخول عصر ما يسمى بالإنحطاط؛ بينما ظل الموقف الفلسفي بالغرب الإسلامي (المغرب والأندلس) موجودا إلى غاية أواخر القرن الثاني عشر، أي تاريخ موت ابن رشد وعزله وحرق كتبه (1194م). إن دراسة أركون لهذه الفترة بينت أن الفكر الإسلامي، التساؤلي والنقدي، بات محكوما عليه بالنسيان والطمس منذ موت ابن رشد، وذلك لأنه أصبح بعد تلك الفترة محروما من الأطر الإجتماعية التي يمكن أن تستقبله وتناقشه وتخلق له مجالا تداوليا واسعا.[10]

من هذا المنطلق، يؤسس أركون فرضية كون غياب النزعة الإنسانية مرتبط بهزيمة الفكر الفلسفي- النقدي إزاء فكر مذهبي – منغلق، ويعتبر هذا الأخير فكرا لا يمكن أن يؤمن بمواهب الإنسان وقواه الإبداعية، حيث ينخرط في تأويل لاهوتي للوجود والإنسان، ومن تم يختزل الإنتاجات الفنية والفلسفية في كونها بدعا وكفرا وزندقة.[11] لا يزال هذا الموقف التاريخي في نظر أركون ساري المفعول في السياق الإسلامي المعاصر وذلك من خلال واقع البحث التاريخي حول الدين وصعوبة القيام بدراسات تاريخية حول القرآن والحديث والشريعة والفقه والتفسير، وذلك راجع لكونها لا تزال حكرا على السلطة الدينية التي تصادر كل ما يخالف أطروحاتها اللاهوتية.[12]

نستنتج إذن أن الشروط التي أتاحت للنزعة الإنسانية بالتطور والإزدهار في السياق الإسلامي الكلاسيكي خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة/ التاسع والعاشر للميلاد لم تكن أحادية البعد، بل كانت في آن معا ظروفا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. على هذا الأساس، وبدءا من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، بدأت هذه الظروف تتضاءل وتفقد قوتها الإنجازية تدريجيا، حيث كانت بدايات هذا التراجع عن المكتسبات الإنسانية في ذلك الوقت ذات بعد سياسي وانتهت لتغطي باقي المجالات الفكرية والفنية والثقافية.[13]

انطلاقا من هذا المنظور، يحاول أركون فهم حيثيات تضاءل الموقف الإنساني في شموليتها، إذ ينتقد الموقف الإيديولوجي الذي يختزل هذا التراجع فيما هو فكري محض، فهو يرى أن الحديث عن هذا الضمور الذي لحق الفكر الإنساني من وجهة نظر صراع الأفكار المجردة قد يؤدي إلى إهمال البنى الإجتماعية والإقتصادية العميقة التي كان لها باعٌ في هذا الإنقراض التراجيدي للنزعة الإنسانية في العصور الوسطى. يقول في هذا الصدد:

“…تفسير ظاهرة الضمور الحضاري هذه بواسطة “رد الفعل السني” على الدولة البويهية  ذات المذهب الشيعي المعتدل والمتسامح يعني اختزالا كبيرا لرهانات تلك الصراعات التي جرت في الساحة العربية الإسلامية بدءا من القرن الخامس الهجري. وينبغي على الباحثين أن يكفوا عن تفسير المجتمعات الإسلامية (أو المؤسلمة) بواسطة تلك التعارضات الدينية بين “الفرق” و”المذاهب” و”الطرق الصوفية” و”الأرثوذكسية” و”الهرطقات”، إلخ… (فهذا يعني الإستسلام لمنظور تاريخ الإفكار التقليدي والإعتقاد بأن الأفكار المجردة هي وحدها التي تقود العالم وإهمال البنى العميقة من اجتماعية واقتصادية وعقائدية بطبيعة الحال)”[14].

يرى أركون إذن صعوبة في تحديد الأسباب وفصل القول في التفسيرات الحقيقية التي كانت وراء ضمور النزعة الإنسانية؛ بل إنه يرى أن التفسيرات الشائعة المرتبطة بالتأثير الأحادي للأفكار المجردة  قد أتتنا من كتابات المستشرقين وغيرهم، ومن تم ضرورة تصحيح التجاوزات الإستشراقية التي طالت دراسة هذه المرحلة التاريخية. يَخلص أركون في هذا الإطار إلى أن تفسير سبب هذا الفشل التاريخي غير ممكن إلا بعد القيام بدراسات وتحريات عن سوسيولوجيا الفشل، “أي ما هي الأسباب الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي تؤدي إلى فشل تيار فكري معين في لحظة ما من لحظات التاريخ ونجاح معاكسه؟”.[15] هذه المقاربة وحدها تكفي، في نظر أركون، للكشف عن البنية المؤسسة لانهيار النزعة الإنسانية في الساحة العربية الإسلامية منذ العصر الوسيطي وحتى يومنا هذا.

من هذا المنظور، نحتاج إلى دراسات جنيالوجية لتاريخ الأفكار حول الفضاء التاريخي القروسطي والتي تحاول فهم تشكلات بنيات الأفكار في علاقتها بالبنيات المادية. بناء على هذا الأساس، يرى أركون أنه ينبغي أن نأخذ بعين الإعتبار -خلال دراستنا لهذا الفضاء التاريخي- الضغوط التي مارستها القوى الإجتماعية الجديدة كالعبيد والبدو والأتراك والمغول والصليبيين، إذ يعتبر أن “كل هذه العوامل الضاغطة داخليا وخارجيا قد ساهمت في دفع المسلمين إلى تشكيل ايديولوجيا دفاعية (الجهاد) وإحلالها محل الفكر العقلاني-الإنساني.”[16]

السياق الإسلامي الكلاسيكي

من هذا المنطلق، يضعنا أركون في موقف إشكالي يعيد النظر في مسألة وعي النزعة الإنسانية في السياق الإسلامي الكلاسيكي بذاتها، ومن تم اعتبار الأسباب الكامنة وراء ضمورها راجعة إلى استعمالاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، حيث تم الإنخراط في منطق الصراع والسلطة بين الطبقات الإجتماعية والسياسية السائدة والتي لم يكن ازدهار أو ضمور النزعة الإنسانية إلا إفرازا من إفرازاتها وليس عاملا حاسما في وجودها. يقول في هذا الصدد:

إذا كان صحيحا القول بأن الفلسفة [والنزعة الإنسانية عموما] اكتسبت في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي نضجا كافيا مكنها من أن تصبح إحدى المكونات الأساسية للبنية الكلية للمجتمع، فإنه ينبغي ألا ننسى أنها باتت خاضعة في هذا القرن ذاته للعبة القوى المتناقضة التي تضمن لها التشجيع والإنتشار من جهة، وتقوي ضدها نزعات الإحتجاج والعداء من جهة أخرى.”[17]

يجعلنا هذا التحليل الأركوني نتساءل ما إذا كان ازدهار النزعة الإنسانية في العصر الكلاسيكي الإسلامي راجع لضرورة تاريخية، أم أنه لم يكن سوى آلية للوصول إلى الحكم -على غرار الديمقراطية في عصرنا الحالي- ومن تم أصبح ترفا فكريا أملاه الإستقرار السياسي والإزدهار الاقتصادي والإنفتاح الحضاري الذي كانت تعيشه المجتمعات الإسلامية آنذاك.

انطلاقا مما سبق، يتبين لنا مستوى التعقيد والتركيب التاريخي الذي مرت به الحضارة العربية الإسلامية خلال العصور الوسطى والإشكالات المتعددة التي كانت وراء ضمور النزعة الإنسانية، الشيء الذي أدى إلى سيطرة الفكر الأرثوذكسي. من هنا نتساءل عن الدور الذي لعبته المرحلة الإستعمارية بدورها في تكوين طبقة ثانية تنضاف إلى إفرازات المرحلة القروسطية التي أدت إلى حول ضمور النزعة الإنسانية الكلاسيكية وتراجع دورها الإنجازي في السياسة والثقافة والمجتمع؟

 

  1. الحروب الإستعمارية بين الهيمنة والمغالطة:

لعبت المرحلة الكولونيالية في نظر أركون دورا لا يُستهان به في طمس ما بقي من معالم النزعة الإنسانية في الحضارة العربية الإسلامية، ذلك في محاولة منها لتشويه التاريخ العربي الإسلامي ونفي إمكانية أن يكون قد عاش من بين لحظاته التاريخية نزعة إنسانية منفتحة ومتعددة. يشير أركون كذلك إلى أنه خلال هذه الفترة بدأت تتزايد كتابات المستشرقين بخصوص هذا الأمر، وقد ازدهرت هذه الأخيرة في القرن 19م حين عرفت النزعة الوضعانية  Positivisme والتاريخانية Historicisme أوجهها، ويتعلق الأمر بالتوجه الفكري الذي قد يرى مثلا أن الإسلام كدين وحضارة قد استنفذ إمكاناته التاريخية ولم يعد قابلا لإنتاج المعنى وصناعة الحضارة. هكذا يمكن اعتبار المرحلة الكولونيالية قطيعة إن لم نقل تحريفا عن/لأهم أحداث التاريخ الكلاسيكي الإسلامي وما أعقبه من عصور وسطى؛ ويعتبر أركون في هذا الصدد إن نسيان الفتوحات المعرفية للعصر الكلاسيكي ورفضها وحصول القطيعة الكاملة معها، كلها أشياء تمثل فصلا طويلا من تاريخ الفكر والثقافة في السياقات الإسلامية”[18].

إن تعرض البلدان العربية الإسلامية للهجوم والإقتحام والغزو الإستعماري جعل علاقها بذاتها التاريخية وبالآخر الغربي في وضع متأزم، سواء فيما يتعلق بمعالم تاريخها الشخصي ومقوماته الحضارية أو بخصوص رؤيتها لكل منجزات الغرب باعتباره مستعمرا لا غير. في هذا الإطار، يقف أركون وقفة تأملية ومنهجية ليعيد النظر في هذه العلاقة بين الذات المسلمة والآخر الغربي، إذ يعتبر أن الغزو الإستعماري باعتباره تدخلا عنيفا باسم قيم الحداثة أدى إلى رسم صورة سلبية في المخيال العربي-الإسلامي عن الغرب وعن الحداثة معا، ومن تم الخلط بين الحداثة كمنجز إنساني وأشكال استثمارها السياسية والعسكرية. يقول في هذا الصدد:

“[إذا ما] اخترت كلمة اقتحام أو الهجوم فذلك لأنني أريد أن أشير إلى عنف التدخل الغربي الذي ابتدأ أولا بشكل عسكري، ثم إلى تلك الإنقلابات (البنيوية) أو الهيكلية Structurelles التي نتجت عن التجاوز ما بين القطاع الكولونيالي والقطاعات التقليدية في المجتمعات المفتَتَحة (المستعمَرة). جرت العادة منذ لحظة استرجاع الإستقلال السياسي على معاكسة الخطاب الناقص والمتحيِّز (للعلم الإستعماري) بخطاب قومي لا يقل عنه تشويها ومبالغة. وفي المناخ الحاضر الممتلئ بالحماس لقيم الإسلام في مواجهة الإمبريالية والإستعمار الجديد للغرب الليبرالي، الإشتراكي منه والشيوعي؛ فإنه لمن الصعب أن نؤسِس مسارا علميا (داخل المناخ العربي الإسلامي).”[19]

يمكن في هذا السياق تطبيق القاعدة الفيزيائية القائلة: لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار ومضاد له في الإتجاه؛ حيث ارتبط الغرب في المخيلة العربية الإسلامية بالغزو والعنف والهجوم، دون أن يُعير الإنسانَ أية قيمة كما كان ينادي بها في عصر الأنوار. لهذا السبب كان الخلط حاصلا ما بين الحداثة كمنجز إنساني قد تتقاسمه البشرية جمعاء، وبين الحداثة كغطاء خارجي لتحقيق مصالح استعمارية. نستخلص إذن مع أركون كون الحداثة “لم تدخل إلى المجتمعات العربية أو الإسلامية بطريقة صحيحة وإنما بشكل متوحش أو فوضوي. لذلك كانت تأثيراتها سلبية أحيانا.”[20]

من هذا المنطلق، نلاحظ أنه بعد نكسة القرون الوسطى جاءت الهيمنة الكولونيالية في القرن التاسع عشر لكي تعزز عمليات الإنكفاء على الذات وتبرر أشكال الجمود الفكري الذي كانت البلدان العربية الإسلامية تعيشه. أدى ذلك في نظر أركون إلى “تعميق الإنقسامات الثقافية والطائفية داخل الأمة الإحتمالية التي مزقتها القوى الداخلية والخارجية”[21]. في هذه الفترة أصبح الجهاد يفرض نفسه في كل مكان بصفته “إيديولوجيا للكفاح ضد كفار الداخل، أو ضد كفار الخارج: أي دار الحرب”[22].

الخطاب الديني وعلاقته بميادين المعرفة الإنسانية عند محمّد أركون

يذكرنا أركون في هذا الصدد إلى أن القطيعة التاريخية مع التراث العلمي والفلسفي للمرحلة الكلاسيكية كانت حاضرة منذ القرون الوسطى، إلا أنه يشير إلى عملية اكتمال هذه القطيعة في بداية القرن 19م منذ سنة 1830. في هذه الفترة بسط الإصلاحيون السلفيون رؤية أسطورية حول الإسلام والحضارة الكلاسيكية التي استلهمته، ومن تم بدأ التركيز على الأبعاد الأسطورية والطهرانية للتاريخ الإسلامي والدعوة إلى ضرورة العودة للزمن الإسلامي الأول. وقد انخرطت الإيديولوجية القومية فيما بعد في نفس المسار، فمن خلال توجيهها لمعارك التحرير في القرن العشرين، فاقمت تلك “القطيعة الدلالية مستبقة المطالبة بالماضي المجيد، ولا سيما على الصعيد العلمي.”[23]

تجدر الإشارة هنا إلى أن حديث أركون عن مقولة الفشل بخصوص الحركات التحررية لا يعني أن ليست لها أي مشروعية، بل على العكس من ذلك تماما؛ حيث كان القضاء على الهيمنة الإستعمارية يجد مشروعيته في “النزعة الراديكالية المضادة للإنسانية التي كان يحملها المستعمرون معهم والتي حاولوا إخفاءها تحت ستار نقل الحضارة الحديثة إلى الشعوب المتأخرة”[24]. ما يحاول أركون تسليط الضوء عليه في هذا الإطار هو تبيان أن ما كان يحكم هذه الحركات هو الإنفعالات الجماهيرية وحتى السياسية والدينية، وبالتالي لم تكن مؤسَّسَّة على رؤية استراتيجية واضحة المعالم، وذلك إلى كون المرجعية المعتمدة هي مرجعية القرون الوسطى؛ حيث كان “الجهاز العقلي للفكر الإسلامي الكلاسيكي منغلق داخل الفضاء التاريخي القروسطي”[25]، ينضاف إلى ذلك اعتبار عقل الأنوار والحداثة في المخيال المجتمعي هو العدو في صورته الإستعمارية العسكرية.  كان من البديهي إذا أن يكون خطاب رد الفعل خطابا لاهوتيا أسطوريا يجد مشروعيته ليس في الفترة الماقبل قروسطية التي عرفت نزعة إنسانية متطورة، بل كان المنبع المستقى منه هو الفضاء القروسطي عينه، وعلى الأخص فترة الصراعات والحروب الصليبية التي انتهت بطرد المسلمين من الأندلس؛ فكما لو كان الأمر يتعلق بعودة ذلك المكبوت التاريخي مجردا من الزمان والمكان وتحت غطاء آخر وبمثير قد يتشابه إلى حد ما مع ذاك الذي عاشه المسلمون في لا شعورهم، والذي، في نظر أركون،”… لم يُكتب بعدُ داخل المنظور الواسع للمنافسات التي حصلت بين الإسلام والمسيحية في حوض المتوسط منذ أن كان المسيحيون قد استرجعوا إسبانيا وانتزعوها من أيدي المسلمين.”[26]

استنادا إلى ما سبق، يستنتج أركون أن بنية المجتمعات الإسلامية كانت هشة بصورة كبيرة خلال فترة الخمسينيات لأنها قد تعرضت لهيمنة استعمارية طويلة الأمد وصلت إلى قرن من الزمن. إضافة إلى ذلك وقبل هذه الهيمنة، كانت البلدان الإسلامية قد تعرضت لقطيعة تاريخية خلال الفترة القروسطية مع الإسلام الكلاسيكي (القرن الأول وحتى السادس للهجرة/ السابع وحتى الثاني عشر للميلاد)[27]. يجعلنا هذا الأمر نتساءل ما إذا كانت فترة ما بعد الإستقلال أقل هيمنة ونكوصا مما عاشته هذه الأخيرة، أم أن التيارات الأصولية والإسلاموية التي ظهرت بُعيد الإستقلال وكذا الممارسات السياسية للأنظمة الإستبدادية قد كوَّنت بدورها طبقة ثالثة عملت على تفاقم تلك الأزمة التي عرفتها النزعة الإنسانية منذ العصر القروسطي ومرورا بالمرحلة الإستعمارية؟

 

  1. الخطاب الأصولي والممارسات السياسية ما بعد الإستقلال:

رأينا كيف كانت المرحلة الكولونيالية نكسة أُضيفت إلى النكسات السابقة التي شهدتها النزعة الإنسانية الكلاسيكية في السياق العربي-الإسلامي، فأُدينت بذلك الحداثة باسم الإستعمار، وأصبحت مسألة إدانة الثقافة المهيمنة للإمبريالية سمة البلدان الإسلامية خصوصا بعد حصولها على الإستقلال”[28]. يشير أركون في هذا الإطار إلى أن الحركات الأصولية التي ظهرت بُعيد الإستقلال لم تنخرط في نقد ذاتي لآليات اشتغالها، بل على العكس من ذلك تعالت صيحاتها دعوة منها إلى محاربة الآخر المتمثل في الغرب بما له وما عليه؛ ونشير إلى أن هذه العقلية الأصولية قد استكملت نضجها في فترة الإستعمار من خلال الشرعية التي استقتها من أشكال الدعوة إلى الجهاد ضد العدو المستعمر، ومن تم أصبح الدين أداة وآلية للاستلاب الفكري باسم التراث ذاته، وذلك من خلال إضفاء المشروعية على أشكال التخلف الحضاري. يقول أركون في هذا الصدد:

“… استمد المجاهدون من هذه المحاجة [المتعلقة بلا إنسانية الهيمنة الإستعمارية] إحساسا بالتفوق الأخلاقي والمعنوي على الإستعماريين المهيمنين. لكنهم نسوا أنهم هم أيضا يحملون معهم نزعة لا إنسانية راديكالية فيما يخص علاقتهم بماضيهم، وبالمعطيات الحالية لمجتمعاتهم، وبالآمال المشروعة لشعوبهم. لقد نسوا أنهم يستخدمون الدين كمجرد أداة من أجل ترسيخ أو تأبيد وظائفه الإستلابية وتفريغه من تعاليمه الروحية الأكثر خصوبة.”43

يبقى مع ذلك من الصعب طمس ذاك الجرح الذي خلّفته المرحلة الإستعمارية، لهذا فمن البديهي في نظر أركون أن نعلم حجم المكانة التي تتخذها “مصطلحات الأصالة والخصوصية أو الشخصية القومية في خطاب الحركات السائدة حاليا والتي تبحث عن ملاذ للهوية”[29]. كان إذن للتأثيرات التفكيكية للأشكال المتوحشة للديمقراطية والحداثة دور لا يستهان به في تفاقم أزمة الهوية الإسلامية والدعوة إلى الرجوع للتراث ضد الحداثة.[30]

من هذا المنطلق، نفهم كيف أن جميع الحركات الأصولية والإسلاموية  ترفض الدخول في مغامرة جديدة للعقل، وبالتالي تختزل نفسها في حركات “تنسب نفسها إما إلى تراثات دينية لا تزال حية، أو إلى إيديولوجيات الهوية والقوميات العتيقة”[31]. نشهد جراء ذلك انتشارا واسعا لذهنية التحريم والتكفير في خطابات هذه الحركات؛ إنها نفس العقلية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، على الرغم من تغير إبستيمي العصر ودخول عالم التقنية ومجتمع العولمة والديمقراطية، بيد أن هذه الذهنيات والحركات الإسلاموية ما تزال قائمة، ولعل خير مثال على ذلك ما شهدته البلدان العربية الإسلامية بُعيد الحراك العربي في سنة 2011 وصعود الحركات الإسلامية للحكم في عدد من البلدان العربية.

في المقابل، يذكرنا أركون إلى أن الخطاب الإيديولوجي المعاصر في الساحة العربية الإسلامية لا ينكر وجود عصر ذهبي قد عاشته الأمة الإسلامية في بداياتها، إلا أن ذلك التصريح هو تصريح دفاعي وتبجيلي للذات وليس نقديا وتفكيكيا. في هذا الصدد يشير أركون إلى أن الخطاب الإيديولوجي المعاصر سواء أكان قوميا عربيا أم أصوليا إسلاميا “لا ينفك يستخدم العصر الذهبي للحضارة العباسية كسلاح للدفاع أو للهجوم تجاه الغرب وحضارته. فبما أننا لا نملك شيئا في الحاضر، وبما أننا نقف في مؤخرة الأمم، فإننا نعود إلى الماضي، إلى تراث الآباء والأجداد لكي نبرر ذاتنا، لكي نعوض عن عقدة النقص التي نعانيها”[32].

نخلص في هذا المقام إلى أن التعامل اللاواعي مع التراث هو الذي لا يزال سائدا حتى وقتها الحاضر؛ ومع أنه لا يمكن تحقيق نزعة إنسانية منفتحة في السياقات الإسلامية المعاصرة دون التأسيس على التراث، إلا أن أركون لا يدعو إلى الذوبان في هذا التراث الذي سنرجع إليه، بل يجب أن تكون عودتنا عودة ناقدة ومحللة أكثر منها تبجيلية ودفاعية؛ أي عودة إلى التراث لكن ضدا على هذا التراث وليس حبا فيه، وذلك في محاولة “لانتشال التراث من التراث، وإقامة التقليد ضد التقليد”[33]. ولعله من خلال هذا التصور يكمن تميز أركون عن بعض من أكدوا ضرورة العودة إلى التراث لكن بنظرة تبجيلية، وعن البعض الآخر ممن تنكر لهذا التراث كما أنه لم يكن قط وأخذ يدعو عن وعي أو عن غير وعي إلى تبني تراث آخر.

موازاة مع الخطاب الإيديولوجي ودوره في تأزيم الواقع العربي-الإسلامي المعاصر، نتساءل عن الدور الذي لعبته الأنظمة السياسية في فترة ما بعد الإستقلال وعلاقتها بالخطابات الأصولية الدينية؛ مع العلم أن الإسلام كدين لا يزال، كما يؤكد ذلك أركون، “خاضعا لأوامر السلطان القائم في جميع السياقات الإسلامية المعاصرة. وهنا نلمح ظاهرة التضامن الإيديولوجي بين الدولة، والدين “المستقيم” أو الأرثوذكسي، وطبقة علماء المحتكرين لإدارة ذهنية التحريم أو التقديس على حد تعبير ماكس فيبر. وبقدر ما يسود هذا التضامن الإيديولوجي ويقوى بقدر ما تضمحل النزعة الإنسانية، ويتهمش الموقف الفلسفي، وتغيب الثقافة النقدية أو تنعدم”[34].

في هذا الإطار، نتساءل عن إشكالية العلمانية في السياقات الإسلامية المعاصرة. فإذا كانت العلمانية نتيجة سيرورة تاريخية فصلت الكنيسة التي كانت تحتكر السلطة عن الدولة التي كانت خاضعة بمعنى من المعاني لهذه الأخيرة، فتم بذلك تحرير الدولة من سلطة الكنيسة وقويت بذلك سلطة الدولة على حساب سلطة الكنيسة. من هذا المنطلق التاريخي، هل يمكن الحديث في السياقات الإسلامية عن سيرورة العلمنة بصورتها الغربية أم سيرورة الفصل بين الدين والدولة في السياق الإسلامي أخذت شكلا مغايرا تماما، ذلك أن الدولة هي التي كانت ولا تزال تمتلك السلطة بينما الدين كان ولا يزال معرضا لاستغلال الدولة له، أي إن ما يجب تحريره من الآخر هو الدين من الدولة من خلال نزع بساط الدين من أيدي هذه الأخيرة التي تستغله سياسيا وايديولوجيا لكي يتمتع باستقلاليته وفردانيته. العلمانية إذن هي مُنجز إنساني وضرورة وجودية لا مناص لأي أمة من المرور بها قصد ولوج أفق الكونية، إلا أن أشكال ترجمتها هي التي تختلف حسب السياقات التاريخية والحضارية.

على أية حال، نجد أن النخب السياسية التي احتكرت إدارة الدول في السياق الإسلامي بعد الإستقلال لم تكن قادرة على إعادة التراث الإنساني في نظر أركون، ذلك لأن هذا التراث كان قد طُمس كليا من قبل خطاب التحرير الذي لم يكن خطابا واحدا ومتجانسا، بل كان خطابا متعددا تتنازعه إرادات متناقضة ومتصارعة: بين دعوات الحداثة والقطع مع الماضي من جهة، وبين الدعوات التبجيلية للإرتباط بالهوية من جهة أخرى.[35]

يستنتج أركون من هذا الوضع المتأزم أن التراث العربي الإسلامي تراث قد أصابه العطب واشطُطّ في أشكال فهمه وإعادة قراءته، وذلك راجع إلى هيمنة النزعة السكولاستيكية الإجترارية والأرثودوكسية المنغلقة؛ إضافة إلى ذلك، كان المنعطف التاريخي المعاصر للمجتمعات الإسلامية والذي هيمنت عليه تحديات العولمة والإمبريالية منعطفا يصعب معه مواجهة هذه الأخيرة وتجاوزها في الوقت الراهن.[36] مع ذلك، يبقى أركون متفائلا في مواقفه، إذ يرى أن التفكيك الفلسفي والموضوعي للخطاب الإسلامي بكل صيغه اللاهوتية والفقهية والتاريخية سوف يؤدي حتما إلى “تفكيك الخطاب السياسي والممارسات السياسية التي تستمد منه أسس المشروعية الموصوفة تجاوزا أو تعسفا بالإلهية والمقدسة والروحية”[37].

في هذا السياق، يَعتبر أركون أن خطاب الإعتقاد في السياقات الإسلامية هو خطاب تتنازعه سلطة السياسة لضمان مشروعيتها وسلطة المجتمع لضمان هويته، الشي الذي يخلق ضرورة ملحة في أن يصبح هذا الخطاب موضوعا للتحليل الفلسفي-التفكيكي وللدراسة العلمية-الموضوعية؛ حيث إن خطاب الإعتقاد هو حصيلة تاريخ يتضمن المفكر واللامفكر فيه، الشيء الذي يقتضي على الخطاب العلمي-الموضوعي أخذه بجدية في عملية التفكيك والدراسة، ذلك لأنه قابل للإستثمار السياسي والإيديولوجي كلما كانت السلطة السياسية في حاجة إلى مبررات البقاء والإستمرارية.[38]

خاتمة:

نشير في خاتمة بحثنا هذا، إن محمد أركون لم يكتفي فقط بدراسة الحضور التاريخي للنزعة الإنسانية في السياق الإسلامي الكلاسيكي أو بمقاربة الأسباب التاريخية لضمور هذه الأخيرة في السياقات الإسلامية المعاصرة، بل ارتأى ولوج مرحلة ما بعد التشخيص في محاولة منه لتقديم أفق جديد من خلال الحدود التي رسمها لتاريخ هذه النزعة في السياقات الإسلامية، وذلك في إطار ما أسماه بالعقل الإستطلاعي المنبثق والمستقبلي[39]، قصد تحقيق نزعة إنسانية حية في السياقات الإسلامية المعاصرة.

ثمة إذن ثلاث خطوات أساسية في منظور محمد أركون لتحقيق النزعة الإنسانية: أولها، ضرورة البدء من التراث العربي الإسلامي، وذلك من خلال نقده وتفكيكه قصد إعادة بناءه وتأسيس أرضية تفتح لنا مجال الحوار البناء؛ ثانيها، إعادة قراءة تراثنا انطلاقا من مناهج جديدة بديلا عن مناهج لا ينعتها أركون بالقديمة البالية، لكن يرى أن الإبستيمي الذي كانت تسبح فيه قد تغير واستجد فيه ما لم تكن قد أدخلته في حسبانها؛ ثالثها، الإنخراط في مشروع الكونية، أي اعتبار الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية ليس بدعا من الأمم، بل لا يمكن فهمه إلا في إطار السياق الكوني الإنساني.

في هذا السياق، إذا كانت الفلسفة وسيلة لتكوين موقف إنساني جديد بعدما كان غيابها سببا في ضمور هذا الموقف الإنساني في الفترة الكلاسيكية؛ فإن الإنخراط في الكونية أساس تدشين نزعة إنسانية منفتحة ومتعددة في السياقات الإسلامية المعاصرة، لاسيما إذا علمنا بأن الإنغلاق والإنطواء الذي ولجته الأمة في القرون الوسطى هو سبب تخلفها. يقول أركون في هذا الصدد:

“نحن الآن نعيش مرحلة انتقالية تاريخية بالفعل. أقصد الإنتقال من مرحلة الدولة القومية المدافعة عن الأنانيات القومية المقدسة مع انحرافاتها المعروفة باتجاه النزعة التوتاليتارية، إلى مرحلة العولمة الشاملة. وأقصد بالعولمة هنا انفتاح العالم كله على الفضاءات الواسعة والموسعة للمواطنية. وهكذا يصبح العالم كله وطنا للإنسان بعد أن تزول الحواجز والحدود. وهذا يتيح توسعات جديدة للأبعاد الإنسانية للإنسان”[40].

يطرح أركون إذن اتجاهين لا ثالث لهما أمام مستقبل الأمة العربية الإسلامية: إما أن تشهد “تصلبا ايديولوجيا للعقل السياسي-الديني الذي يؤسس السياسة والأخلاق على لاهوت دوغمائي لم يتعرض أبدا لأي مناقشة نقدية أو مراجعة فكرية”[41].، وإما أن يساهم المسلمون بشكل فعال في “التشكيل الجماعي لنزعة إنسانية كونية تساهم فيها جميع تراثات الفكر وثقافات العالم.” [42] يبقى المشروع الإنساني في نظر أركون رهان البشرية للخروج من قبضة الدوغمائيات بشتى أنواعها قصد تحرير الإنسانية في الإنسان، من خلال التصالح مع كل التجليات الإنسانية والتحكم بغرائز الهيمنة والعنف في سبيل تحقيق المشروع الإنساني المبني على الحوار والإختلاف والعيش المشترك.[43]

ختاما، يذكرنا محمد أركون إلى أن النزعة الإنسانية التي تهمنا هي نزعة لا يمكن فصلها عن النضالات التي لا تنتهي، ويقصد النضال الذي نخوضه من أجل تأسيس الديمقراطية وترسيخها، إذ لا وجود لهذه الأخيرة في نظره دون مضامين إنسانية نبيلة؛ كما لا يمكن أن توجد نزعة إنسانية قابلة للحياة كونيا بدون ديمقراطية مُعلنة باسم الكرامة الإنسانية وباسم القانون والتنظيم الدوليين، فهما اللذان “يضمنان احترام حقوق الإنسان والواجبات المترتبة عليه في جميع الفضاءات السياسية التي تتحقق فيها.”[44]

 

لائحة المراجع والمصادر

  • باللغة العربية:
  1. أركون، محمد (1997)، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت- لبنان.
  2. أركون، محمد (2001)، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت- لبنان.
  3. أركون، محمد (1996)، العلمنة والدين: الإسلام والمسيحية والغرب، ترجمة هشام صالح، سلسلة بحوث اجتماعية 04، الطبعة الثالثة، دار الساقي، بيروت- لبنان.
  4. أركون، محمد (1996)، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الثانية، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، بيروت.
  5. أركون، محمد (1996)، نافذة على الإسلام، ترجمة: صياح الجهيم، الطبعة الأولى، دار عطية للنشر لبنان- بيروت.
  6. أركون، محمد (1995)، أين هو الفكر الإسلامي؟، ترجمة: هاشم صالح، الطبعة الثانية، دار الساقي، بيروت- لبنان.
  7. الدواي، عبد الرزاق (1992)، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر: هيدغر، ليفي ستروس، ميشيل فوكو، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطباعة والنشر- بيروت.
  8. موهوب، محمد (2011)، ترجمان الفلسفة، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية.

 

  • باللغة الفرنسية:
  1. ARKOUN Mohammed (2008), Humanisme et Islam : combats et propositions, Editions Marsam, Rabat.
  2. ARKOUN Mohammed (2005), Humanisme et Islam : combats et propositions, collection : Études musulmanes – Poche / Vrin, Paris.

[1] – قد تم التركيز على عبارة النزعة الإنسانية الواعية بذاتها، ذلك لأن النزعة الإنسانية L’humanisme “كموقف فكري إيجابي تجاه الإنسان ومناصر له، لا يمكن أن تتحدد فقط بفترة عصر النهضة، ولا أن ترتبط برقعة جغرافية معينة، ولا بأسماء خاصة[…] لكن المرجح جدا أن تلك الأفكار الإنسانية لم ترد في فكر الأقدمين إلا كحلم أو كمثل أعلى طوباوي صعب التحقيق في هذا العالم. وأنها لم تشكل إطارا نظريا متناسقا للتعبير عن مطالب وطموحات، داخل صراع اجتماعي وسياسي معين، وفي فترة تحولات حاسمة، إلا ابتداء من عصر النهضة”. (الدواي، عبد الرزاق (1992)، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر: هيدغر، ليفي ستروس، ميشيل فوكو، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطباعة والنشر- بيروت، ص190).

[2] – نفس المرجع، ص190.

[3] – نفس المرجع، ص191.

[4] – أركون، محمد (1997)، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت- لبنان، ص 38-39.

[5] – نفس المرجع، ص 46

[6] – أركون، محمد (1996)، العلمنة والدين: الإسلام والمسيحية والغرب، ترجمة هشام صالح، سلسلة بحوث اجتماعية 04، الطبعة الثالثة، دار الساقي، بيروت- لبنان، ص 96.

[7] – أركون، محمد، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مرجع سابق، ص 10 (مقدمة الطبعة العربية).

[8] – أركون، محمد (2001)، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الأولى 2001، دار الساقي، بيروت- لبنان، ص 60-61.

[9] – نفس المرجع، ص62.

[10] – نفس المرجع، ص47.

[11] – نفس المرجع، ص12، إحالة 1 للمترجم.

[12] – «Ainsi, l’écriture historienne sur le Coran, le Hadîth, la Sharî’a, le Fiqh et l’exégèse, est immédiatement mise en échec par l’argument d’autorité enseigné dans les sermons, les cours de religion et tout l’enseignement dit supérieur des facultés de Sharî’a.» (ARKOUN Mohammed (2008), Humanisme et Islam : combats et propositions, Editions Marsam, Rabat, p.6)

[13] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص68-69.

[14] – أركون، محمد، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مرجع سابق، ص 49 (مقدمة الطبعة العربية).

[15] – نفس المرجع، ص 49-50.

[16] – نفس المرجع، ص 50.

[17] – نفس المرجع، ص 66.

[18] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص70-71.

[19] – أركون، محمد (1996)، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة: هشام صالح، الطبعة الثانية، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، بيروت، ص 229.

[20] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص28، إحالة 1 للمترجم.

[21] – نفس المرجع، ص69.

[22] – نفس المرجع، ص70.

[23] – أركون، محمد (1996)، نافذة على الإسلام، ترجمة: صياح الجهيم، الطبعة الأولى، دار عطية للنشر لبنان- بيروت، ص125-126.

[24] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص73.

[25] – نفس المرجع، ص39.

[26] – نفس المرجع، ص70-71.

[27] – أركون محمد (1995)، أين هو الفكر الإسلامي؟، ترجمة: هاشم صالح، الطبعة الثانية، دار الساقي، بيروت- لبنان، ص130.

[28] – أركون، محمد، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مرجع سابق، ص 236-237.

[29] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص28.

[30] – نفس المرجع، ص28.

[31] – نفس المرجع، ص36-37.

[32] – نفس المرجع، ص61، إحالة 1 للمترجم.

[33] – موهوب، محمد (2011)، ترجمان الفلسفة، الطبعة الأولى، المطبعة والوراقة الوطنية، ص 92.

[34] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص15-16.

[35] – نفس المرجع، ص72.

[36] – نفس المرجع، ص76-77.

[37] – نفس المرجع، ص29.

[38] -« Il y a pas divorce entre le discours de la croyance et celui de l’intelligibilité critique ; le second prend totalement en charge le premier ; celui-ci demeure dans l’impossibilité intellectuelle, culturelle et psycholinguistique d’assumer adéquatement le second. De là naissent toutes les difficultés de la communication dans les sociétés où le discours de la croyance et de la représentation mytho-idéologique de soi, de son histoire, des instances de validation et de légitimation, bénéficie à la fois de soutiens officiels et d’une assise sociologique dominante. » (ARKOUN Mohammed (2008), Humanisme et Islam : combats et propositions, Editions Marsam, Rabat, p.6).

[39] – إن عبارة “العقل الإستطلاعي المنبثق والمستقبل” هي ترجمة هاشم صالح (المترجم الرئيسي لأعمال أركون) لما يصطلح عليه محمد أركون بـ La raison émergente:

 « On verra que mes combats s’inscrivent tous du côté de ce que j’appelle la raison émergente. » (ARKOUN Mohamed (2005), Humanisme et Islam : combats et propositions, collection : Études musulmanes – Poche / Vrin, Paris, p.11)

نطرح ها هنا سؤالا يتعلق بترجمة هذه العبارة، وإلى أي حد يمكن أن تفتح في السياق الإسلامي المعاصر أفقا جديدا للنقاش والحوار، إذا ما علمنا أن عبارة “العقل الإستطلاعي المنبثق والمستقبلي” قد لا يكون لها وقع تاريخي ربما لأنها لم تُنحت من داخل تاريخ الحضارة الإسلامية. وقد نجد في تراث الفلاسفة الصوفية مثلا ما يمكن أن يسعفنا في ترجمة هذه العبارة بأخرى أشد وقعا وأكثر قابلية على فتح باب الإبداع في هذا الإتجاه، من قبيل العقل الكامل (ابن عربي) أو العقل الفعال (الفارابي) وغيرها.

[40] – أركون، محمد، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مرجع سابق، ص32-33.

[41] – نفس المرجع، ص39.

[42] – نفس المرجع، ص39.

[43] – نفس المرجع، ص93.

[44] – نفس المرجع، ص84-85.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete