إعادة تعريف القرآن في مشروع نصر أبوزيد (من النص إلى الخطاب)

تكوين

  بعد أن حوكِم نصر أبو زيد بتهمة الردة وتم التفريق بينه وبين زوجته بموجب حكم قضائي، أدى به للخروج من مصر والعيش في المنفى بسبب طرحه لمفهوم النص، يفاجئنا نصر أبو زيد بنقده لمفهوم النص وطرح تعريف جديد للقرآن في محاضرة قدمها في مكتبة الإسكندرية عام 2008 أي قبل وفاته بعامين تحت عنوان: “إعادة تعريف القرآن”. وأوضح في محاضرته أن المشكل الرئيس في التعامل مع القرآن بوصفه نصًا، فالتعامل مع القرآن تاريخيًا كنص هو الذي أدى بتيارات التأويل القديمة والحديثة إلى مشكلاتٍ عديدة، تفضي عادة إلى التوظيف الأيديولوجي. ومن ثم طرح أبو زيد تعريفًا جديدًا للقرآن في محاضرته، ويعلن فيها انتقاله من تعريف القرآن بوصفه نصًا إلى تعريفه كخطاب، ويرى أن أزمة التفسير قديمًا وحديثًا، تكمن في التعامل مع القرآن على أنه نص، ولا يستثني نفسه من هذا الأمر بوصفه في نهاية الأمر جزءً من الخطاب الثقافي([1]). فمعاملة القرآن كنص جعلت أي محاولة للتأويل تنحصر في بعدين إما رفع التناقض ما بين الواقع والنص، ومحاولة إسقاط النتائج الواقعية على النص، أو رفع التناقض بين أجزاء النص وبعضها، وهو ما انتج أليتي المحكم والمتشابه في السياق الكلامي، والناسخ والمنسوخ في السياق الفقهي([2]).

مفهوم النص نصر حامد أبو زيد

وحسب ما صرح به نصر في محاضرته فإن الفكرة كانت في طور البلورة ولم تكتمل بعد، وعبر عن هذا بقوله إنه لا زال في المطبخ مع روائح الطعام يعدها، ونمى مفهوم الخطاب للوحي القرآني في كتاباته، فلم يكن فكره يعبر عن قفزات، بل كان متصلا ينتقد نفسه بنفسه، وظهر هذا في نقده لمفهوم النص، ودراسة القرآن في الحياة اليومية للمسلمين اللذان أديا إلى طرحه لمفهوم جديد عن الوحي بوصفه خطابًا، وهذ ما سيتم تناوله في هذه الورقة.

         أولا: مفهوم النص وتناقضاته

يطرح نصر مفهومه للنص القرآني منطلقاً من بنية اللغة العربية والثقافة العربية، ومن النص القرآني ليبدو فيها النص متحدثاً عن نفسه، فمن خلال إعلان القرآن عن نفسه أنه رسالة يتخذ مفهوم الرسالة مدخلاً لتقديم مفهوم علمي للنص القرآني، لا ينفصل فيه النص عن واقع نزوله وتشكله ويعد فيه النص منتجاً ثقافيًا، أي جاء متعاطيًا مع ثقافة شبه الجزيرة العربية، وتشكل خلال بضع وعشرين سنة؛ من مفرداتها ومستوى إدراكه، ومجيبًا عن تساؤلاتها واحتياجاتها اليومية([3]). فالرسالة “علاقة اتصال بين طرفين تتضمن إعلاماً –رسالة– خفياً سرياً. وإذا كان ((الإعلام)) لا يتحقق في أي عملية اتصال إلا من خلال شفرة خاصة، فمن الضروري أن يكون مفهوم الشفرة المستخدمة في عملية الاتصال والاعلام شفرة مشتركة بين المرسل والمستقبل”([4]) وبما أن لكل عصر مفرداته المعبرة عن فكره بالضرورة، واختلاف المفردات يعني اختلاف الفكر، ومن ثم عدم الفهم واللقاء، فلا يعقل أن يأتي النص بلغة لا يفهمها متلقيه([5]). فالواقع –حسب أبو زيد- هو الاصل في جميع الخطابات –البشرية منها والإلهية- ولا سبيل لإهداره؛ فمن الواقع تكوّن النص ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، وإلا أصبح غير مفهوم مرفوض من قبل الثقافة، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، والواقع هو الهدف النهائي من الديانات، فالواقع أولاً والواقع ثانياً والواقع أخيراً([6]). فمفهوم النص عند ابو زيد يضع واقع النص ضمن أفقه التاريخي، ويركز على بعده الواقعي، ولا يتعامل معه بوصفه نصًا في الفراغ معزولًا عن أي بعد واقعي أو تاريخي.

الإخفاء والكشف

حسب أبو زيد لا مجال لتحقق أي بعد تطبيقي للنص القرآني وتقديم قراءة إبستمولوجية له إلا من خلال التاريخية؛ وذلك يتحقق من خلال آليتين تقوم بهما القراءة غير المتزامنة مع نزول النص والتالية عليه. هما “الإخفاء والكشف” تخفي ما ليس جوهريا بالنسبة إليها ولا تهتم به، وتكشف عما هو جوهري بالنسبة إليها من خلال التأويل؛ إذ لا يوجد ما هو ثابت وجوهري في النصوص ذاتها، بيد أن لكل قراءة جوهرها الذي تكشف عنه في النص([7]). يعد هذا اعترافاً ضمنياً من نصر بأن فعل التأويل في ذاته فعل أيديولوجي، حيث يتم إسقاط رغبات العصر على النص بآلية أيديولوجية، وفقاً للطبيعة الانتقائية التي يتميز بها العقل البشري؛ فهو يقر بأن “الأسئلة مرهونة بطبيعة الإطار الاجتماعي الثقافي والفكري الذي يحددها، ولذلك يمكن أن تتغير الأسئلة ويمكن أن تطرح أسئلة جديدة؛ ومعنى ذلك أن ((جوهر)) الإسلام ليس معطى ثابتاً، بل هو جوهر قابل دائما للاستنباط وإعادة الاكتشاف بحسب تطور الوعي الإنساني”([8]). ويمثل هذا إقراراً صريحاً بأن آليتي الإخفاء والكشف ما هما إلا أدوات أيديولوجية جديدة.

مدلول البيان…بين القرآن وما قال به الشافعي

وأدرك أبا زيد أن مفهوم النص أوقعه في الفخ الذي يحاول تفاديه، حيث إنه يجعل النص خاضعاً لسلطة المؤول-بذهنيته المكونة اجتماعياً وفرضياته المسبقة، وحاجته الراهنة- يتمكن من فرض أيديولوجيته عليه واستنطاقه بها، ومن ثم يعود بالنص من جديد إلى جدل الثنائيات والفضاء الأيديولوجي، ولا يسع النص الخروج عن التوظيف الأيديولوجي واستخدامه كأداة للنبذ والإقصاء وفرض الرؤية. فثنائية ((الكشف والاخفاء)) لا تختلف عن مثيلتها من ((المحكم والمتشابه)) و((الناسخ والمنسوخ)) اللهم إلا في التسمية، فهي تخلع على النص أيضاً وظيفته الأيديولوجية التي خلعتها مثيلاتها.  وينتبه أبو زيد إلى ما يحمله مفهومه العلمي للنص القرآني من مغالطات ومشكلات، فلم يختلف مفهوم النص الذي يطرحه عن مفهوم الفكر الإسلامي التقليدي؛ وذلك بوصفه بنية واحدة، ومن ثم يحاول أن يقدم آليات –كما فعل المشتغلون بالعقيدة والفقه قديما– ترفع التناقض عن مكونات النص، كـ ((الكشف والإخفاء)) ولكنه يجد أنه ينتهي إلى ما حاول تفاديه مسبقا.

ويرى نصر على إثر محاولته لبلورة مفهوم النص، أن مفهوم النص عادة ما يفضي إلى ما يسميه نصر ((المخاتلة الدلالية))، وهي ما بين الخداع المقصود وما بين اضطراب الفهم، لهذا يسميها نصر المخاتلة وليس الخداع([9]). ويصرح بأن “التعامل مع القرآن، فقط بوصفه ((نصّاً))، سينتج دائما تأويلية ((كليانية)) أو تأويلية ((سلطوية)) وكلتاهما تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة “([10])، ووفق هذا ينتقل إلى نمط آخر للتعامل مع القرآن لا بوصفه نصاً ولكن كخطاب، بل بالأحرى ((خطابات)) لكل منها سياقه الذي لا تستبين دلالة الخطاب إلا به([11])*.

 القرآن في الحياة اليومية للمسلمين

في دراسة لأبي زيد بعنوان: (القرآن في الحياة اليومية عند المسلمين Everyday Muslim Life, Qurān In Introduction) في الموسوعة القرآنية الهولندية يقر بأن القرآن “لا يشكل الأساس لعقيدة وديانة فحسب، بل إنه أساس الحضارة أيضا، الحضارة التي أظهرت نفسها في وضح النهار. وليس بإمكان أي شخص درس حضارة الإسلام بحيادية أن ينفي الدور المركزي الذي لعبه القرآن الكريم في بناء هذه الحضارة وتطورها. ومع ذلك نجد أنه في الحياة اليومية، يمكن العثور على الوجود الأبرز للقرآن في تلاوته”([12]). في هذا الاقتباس يقر، بحيوية القرآن وحضوره في التاريخ الإسلامي، كأهم ركائز الحضارة الإسلامية والحث على الإبداع، ويرى أن حضوره داخل الحياة اليومية، يميل إلى الحضور الشفهي أكثر من الحضور النصي.

ويصرح أبو زيد بأن “الوظيفة المستمرة للقرآن في الحياة اليومية تعتمد بشكل أساسي، على خصائصه الأساسية، كنص يتلى شفهياً؛ فبالرغم من أنه قد تم تسجيل القرآن بشكل مكتوب في وقت مبكر من عهد النبي، لكنه دائما ما كان ينتقل شفهيا على مر القرون، وقد تعلم المسلمون القرآن إلى حد كبير من فم المعلم الذي حفظ النص في ذاكرته، فعادة ما كان يجمع الطالب بين الدراسة والحفظ. وهذه الطريقة في تعلم القرآن تستلزم قراءة القرآن والإصغاء، ولضمان هذه الطريقة والوثوق بها، منع علماء المسلمين على مر التاريخ الاعتماد على النص المكتوب وحده في تعلم القرآن، وتم تطبيق نفس الأسلوب في تعلم التقاليد النبوية (الأحاديث)”([13]). في هذا النص يتضح ميله إلى الطبيعة الخطابية للقرآن من حيث إنه يقر بأن وجوده في الحياة اليومية يعتمد على الشفهية، ويؤسس لهذه الرؤية من خلال التراث الإسلامي، حيث كان تعلم القرآن لا يقتصر على النص المكتوب، ولكن يتم بطريقة شفهية، خاصة قبل تقنينه داخل المدونة الرسمية (المصحف).

النصّ القرآني في أفق التّأويل الحداثي: إشكاليات ومنطلقات

ويبدو أن أبا زيد في هذه الدراسة بدأ يدرك البعد الحيوي للقرآن، الذي يجعله يميل إلى بنية الخطاب الحيوي، أكثر من ميله إلى النص الصامت، أو الكتاب، وهذا ما جعله يقر بأن القرآن يمارس وظيفته في الحياة اليومية –بعيداً عن النخبة- بوصفه ((خطاباً)) لا بوصفه نصاً([14])، فحضوره داخل الحياة اليومية للمسلمين حضوراً شفهياً. وتعد هذه الدراسة هي حلقة الوصل بين مفهوم النص والخطاب الذي سيتم توضيحه في السطور التالية.

ثالثا: مفهوم الخطاب

كما حاول أبو زيد بناء مفهوم النص من داخل الثقافة العربية، من داخل النص القرآني أيضا حاول تقديم طرحه للقرآن بوصفه خطابًا، على أنها طبيعة داخل القرآن والثقافة الإسلامية؛ وذلك تأسيساً على البنية القصصية للقرآن التي يصفها بأنها ((مشتتة))؛ فهي لا تسرد قصة في بناء سردي واحد متكامل، اللهم إلا سورة يوسف، وهذا يتضمن أن أجزاء القصة المتناثرة، ينتمي كل واحد منها إلى سياق خطابي، ولحظة خطابية مختلفة، ومن ثم لا سبيل لفهمها دون فهم الأجزاء بلحظتها وسياقها الخطابيين([15]). فضلاً عن أن نصر يؤرخ لمفهوم الخطاب، بأنه كان معروفاً بين متلقيه الأوائل كخطاب، حتى تم تجميعه في صورته النصية على يد عثمان بن عفان([16]).

فيرى نصر أن الطبيعة الأصلية للقرآن انطلاقًا من أنه موجه للإنسان دون التقيد بزمان محدد ولا مكان محدد – وفقاً لدعوته العالمية – “((خطاباً)) موجهاً للناس ف “((الناس)) هم هدف الوحي وغايته… فإن الثقافة العربية ذاتها قبل الإسلام تنحو نحو المخاطب في نصوصها أكثر مما تنحو ناحية المتكلم، وانتماء القرآن إلى مجال الثقافة يجعله – من هذه الوجهة – ينحو ناحية المخاطب. وليس أدل على هذا الاتجاه من كثرة دوران أدوات النداء فيه، سواء كان المنادى هو ((الناس)) أو ((بني آدم)) أو ((الذين أمنو)) أو ((الكافرون)) أو ((أهل الكتاب))، هذا بالإضافة إلى نداء المخاطب الأول بالنبي أو الرسول”([17])، ولمفهوم الخطاب بالضرورة دور كبير في التعامل التأويلي مع القرآن، حيث يضع الأفق التاريخي والسياق الاجتماعي والحادثة التي جاء من أجلها ضمن العملية التأويلية، ويضع فارق بن لهجة الخطاب وطريقته.

قصة ابني آدم وجدل القرآن والإنسان

ويضع نصر فارقاً بين السياق النصي والسياق الخطابي، فالسياق الخطابي أوسع يتطلب تحليل أدوات الرفض، والتأكيد، والإزاحة، والتفكيك، والتركيب المتضمنة في منطوق الخطاب القرآني؛ بمعنى أنه يحيل انتباهنا إلى الطبيعة الخطابية للقرآن، وليس لطبيعته النصية. فالتركيز على الطبيعة النصية، أفضى به إلى أن أصبح كتاباً، لكل فئة تعدّه كتاباً كما تهوى؛ فيراه جمهور المسلمين كتاب تشريعي قانوني، وتراه التيارات السلفية كتاباً تاريخياً، وعلمياً، وقانونياً، واقتصادياً… إلخ([18])، يرون فيه كتاباً حاوياً لكل العلوم والمعارف الكونية، ومن ثم تنسب الجهود والنتائج العلمية إلى النص، وترفض أي نتائج مغايرة وفقا لطبيعة العلم المتغيرة. وكذا أيضا يرفضون أي دراسة تاريخية موضوعية تقوم على أسس علمية تتعارض مع فهمهم للخطاب القرآني.

نقد فكر نصر حامد أبو زيد

كلمة الله، والقرآن الحي، والمصحف.

يقيم نصر أبو زيد نقده للمفهوم العلمي للنص الذي يطرحه، على التمييز بين ((كلام الله)) وهو المُعَبِر عن المطلق في ذاته، والقرآن في مرحلة الخطاب الشفهي وهو ما يسميه نصر ب ((الخطاب الحي)) نسبة إلى قدرته التفاعلية، وبين المصحف، أو كما يسميه ((النص الصامت))([19]). ويمثل ((كلام الله)) -في فكر أبو زيد- كلامًا مطلقًا مفارقًا لا يمكن تداركه، فكلام الله لا يمكن أن يستنزف ومن المستحيل حصره وغير محدد بلغة معينة حيث إنه إلهاً للعالمين، في حين أن القرآن محدود في الفضاء البشري، لذا يعد القرآن تجليا لكلمة الله. بالرغم من الإشارات المتعددة داخل المصحف إلى نفسه ب “كلام الله” فإن نصر يرى أنه أشار أيضا إلى أن كلامه (أي الله) لا يأتي إلا من خلف حجاب، وكذلك نزل القرآن عن طريق جبريل إلى النبي ﷺ، وهذا ما يجعله يصر على أن العملية التواصلية –التي تفترض بالضرورة مراعاة عقلية ولغة المُخاطب– تفضي بنتيجة مهمة مفادها أن ((كلام الله)) ليس هو القرآن، بل إن القرآن هو تجلي ((كلام الله)) وهو (مطلق)، في التاريخ الإنساني وهو (نسبي)([20]). فليس للنسبي أن يفهم المطلق إلا في حدود نسبيته، وعلى ذلك يقيم نصر التفرقة بين كلام الله والقرآن.

ويضع أبو زيد تعريفاً للقرآن في خطابه، حيث يقول: “يقترح علماء اللغة أن كلمة القرآن مشتقة إما من القرآن (للجمع أو الجمع) أو من القرآن (للتلاوة). وهنا أُفضل المعنى المعجمي الثاني للحقيقة الواضحة للغاية، وهي أن القرآن نُقل في الأصل إلى النبي محمد شفهياً. ويوضح الأدب الإسلامي في كل مكان أن الروح القدس كان ينقل أو يلهم في البداية بعض الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل جلسة من جلسات الوحي، في حين كان النبي يتلوها بعد ذلك على رفاقه”([21]). إذن فالقرآن يمثل الخطاب الشفهي للقرآن الذي أنزل به إلى النبي محمد ﷺ، وما تم إبلاغه بعد ذلك للناس عن طريق النبي محمد ﷺ وطريقة تداوله في هذا العصر؛ بيد أن المصحف كانت أولى مراحل تنفيذه في عهد الخليفة الثالث ((عثمان بن عفان)) (ت:35هـ/ 656م)، وكان أول مراحل تشكل المصحف (النص الصامت) في عملية جمعه وتدوينه التي يطلق عليها نصر عملية التقنين، ويرى أنه في عملية التجميع والتدوين تم إهمال الترتيب التاريخي لهذه الخطابات، بل تم دمجها في وحدات أكبر “السور” وتم ترتيب هذه السور حسب أحجامها، فوضعت السور الأطول في المقدمة والأقصر في نهاية المصحف؛ أي استبدال الترتيب الزماني الذي يعرف باسم ((ترتيب النزول)) ب (بترتيب التلاوة)) وهو المعروف الآن([22]). وحسب رؤية أبي زيد للمرويات التراثية، فإن عملية التقنين والجمع تمثل أولى عمليات بناء المصحف في صورته النهائية، حيث إنه تم تجميعه في عهد الصحابة من دون التنقيط والإعراب، ولكنه مر بمرحلة إضافة التنقيط والإعراب بعد ذلك بوقت ليس بقصير على حد قوله([23]).

ويرى أبو زيد أنه بالإضافة إلى البعد الإنساني في عملية الوحي بوصفها فعلاً تواصلياً؛ أي مخاطبة الله عز وجل البشر بلغتهم وطريقة استيعابهم، هناك بعد إنساني آخر لا يمكن إنكاره في عملية التقنين والتجميع، وعملية إعادة الترتيب، وعملية تحويل الرسم الصامت إلى نص مقروء من خلال إضافة التنقيط وعلامات الإعراب([24]). والبعد الإنساني في عملية التقنين والتنقيط والإعراب، حسب نسقه الفكري أدى إلى خلق قناعة بأن القرآن ((نص))، ومن ثم تم تجاهل طبيعته الأصلية التي يراها طبيعة تداولية بوصفه ((خطابات)) متعددة السياقات من جهة ومتعددة المستقبلين من جهة أخرى([25]).

ومن ثم جاء طرح أبو زيد للقرآن بوصفه خطاباً، وهو يمثل عودة إلى الخطاب الشفهي للقرآن، قبل تَشَكُّله كنص في (المدونة الرسمية كما يسميها أركون) المصحف. لرفع التناقض بين أجزاء النص وبعضها؛ ومن ثم فهم كل خطاب، من خلال لهجته وسياقه وتأثيره في المتلقي. فالنص بنية واحدة تضمن افتراض أنها متكاملة؛ ومن ثم سعت التفسيرات القديمة لرفع التناقض بين أجزائه؛ بيد أن التعامل معه كخطاب له تفاعلاته الاجتماعية، أو خطابات كما يطرح نصر، تتضمن أن كل جزء ينتمي إلى سياق مختلف، وموقف اجتماعي مختلف، ومن ثم يختفي أي تناقض تبعاً لفهم كل خطاب في سياقه.

ويساهم المفهوم الجديد الذي يقدمه في بناء رؤية جديدة للوحي؛ تفتح الباب أمام تعدد القراءات وتمكن الباحثين من استخدام المناهج القرائية المعاصرة في البحوث القرآني، ومن ثم تقديم قراءات أكثر واقعية وقابلية للاستيعاب داخل الأطر الاجتماعية، حيث لا يقصر الوحي على معناه الحرفي ويلقي الضوء على البعد الرمزي الذي يحمله الطابع الديني ولا سيما الوحي بطبيعة الحال، ويلفت الانتباه للدور الإنساني كمتلقي الخطاب في صياغة الوحي، حيث لا يمكن للخطاب أن يتجاوز عقل ولغة المخاطب، وما يفضي إليه ذلك من أنسنة القراءات المقدمة سلفًا، وفتح الباب أمام القراءات الجديدة.

تبعا للمفهوم الذي يطرحه نصر عن القرآن بوصفه خطابًا، يعد القرآن هو الصورة الأرضية المشروطة بآليات استيعاب وإدراك الإنسان المعني بهذا الوحي، وليس كلام الله في ذاته (وهو غير قابل للحصر أو التحديد)، وما يعنيه هذا من غياب أي قراءة مطابقة للمراد الإلهي من النص، وإلا فقد النص طبيعته الراهنية، وأصبح القارئ يملك عقلًا إلهيًا، استطاع من خلاله فهم المراد من النص؛ الكامن في الضمير الإلهي، وينتج عن ذلك أن كافة القراءات المقدمة محكومة بإطارها الإنساني المحدود، وهو ما يفضي إلى إمكانية تعدد القراءات، وبناء أنساق فكرية متعددة تساهم بدور تنافسي في بناء الوعي العربي الإسلامي.

والتعامل مع القرآن على أنه خطاب يضع الواقع الذي جاء مخاطبًا إياه في شبه الجزيرة العربية عام 610 م ضمن السياق القرائي له، ولا يعني هذا أنه يقف عند هذا الزمن وفي تلك الأطر الاجتماعية بقدر ما يعني أنها مقدمة ضرورية لفهمه. ويتعامل معه على انه النسخة الأرضية من القرآن أي الخاضعة للفهم الإنساني ومناهجه وأدواته؛ ومن ثم يصبح متجدد القراءات دائما بتجدد المناهج المعرفية، والعقل الإنساني. فيمكن القول باختصارٍ شديد أن نصر يرى القرآن إلهي التنزيل إنساني الفهم، وخاضع لملكات الإنسان ومنتجاته المنهجية والمعرفية.

المراجع:

[1] – محاضرة نصر حامد  أبوزيد  عام 2008، في مكتبة الاسكندرية بعنوان (إعادة تعريف القرآن)، وراجع أيضا، جمال عمر، أنا نصر  أبوزيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019، صـ 262، 263، 268.

[2] – راجع، نصر  أبوزيد، التجديد والتحريم والتأويل (بين المعرفة العلمية والخوف من التفكير)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2014، صـ 200.

[3] – راجع، نصر أبو زيد، مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، صـ 24-25.

[4] – نصر أبوزيد، مفهوم النص، صـ 31-32.

[5] – راجع، محمد سالم العنيمي، القراءات الحداثية للنص القرآني، وأثرها على العقيدة، الدار المصرية العربية، القاهرة، 2016، صـ 172.

[6] – راجع، نصر حامد أبوزيد، نقد الخطاب الديني، ط3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2007 صـ 106.

[7] – أبو زيد، نقد العقل الديني، ص 88

[8] – أبو زيد، دوائر الخوف(قراءة في خطاب المرأة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط4، 2007، ص 70

[9] – محاضرة (إعادة تعريف القرآن) سبق ذكرها. راجع أيضا، جمال عمر، أنا نصر أبو زيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019، ص 262، 263، 268

[10] – أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل ص 207

[11] – المصدر السابق، ص. 205

* – مقتديا في هذا الأمر بالمنهج الجنيولوجي عند نيتشه، وهو منهج ” قيمة الأصل، وقيمة الأصالة “؛ أي البحث في شروط تكون المفاهيم من حيث هي أعراض لعلاقة المعرفة بالسلطة … راجع، السيد ولد أباه، التأويل والتنوير (دراسة في مشروع أبو زيد)، دار المنظومة، مجلة المشكاة، ع1، جامعة الزيتونة، 2003، ص 99- 128

[12]– – Encyclopaedia of Qur’an Index Volume, General Editor Jane Dammen McAuliffe, Georgetown University, Brill, Leiden–Boston–Köln 2001, part 2 , Nasr Hamid Abu-Zayd (Everyday Life, Qurān In Introduction) p.p 86

[13] – ibid.

[14] – أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، ص 194

[15] – محاضرة أبو زيد (إعادة تعريف القرآن).

[16] – يلدز (سهيلة)، القرآن والهرمنيوطيقا، دار مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019، ص 120

[17] – أبو زيد، مفهوم النص، ص 57

[18] – أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، ص 201-202

[19] – أبوزيد، التجديد والتحريم والتأويل، صـ 194.

[20] – Abu Zayd (Nasr), The Qur’an: God and Man in Communication, inaugural  lecture for the Cleveringa Chair at Leiden University (November7th, 2000), pp3-4.

https://scholarlypublications.universiteitleiden.nl/handle/1887/5337

[21] – Abu Zayd (Nasr), The Qur’an: God and Man in Communication, inaugural  lecture for the Cleveringa Chair at Leiden University (November7th, 2000), pp2

https://scholarlypublications.universiteitleiden.nl/handle/1887/5337

[22] – أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، ص 191

[23] – المصدر السابق، ص 191

[24]  المصدر السابق، ص  191 – 192

[25] – أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، ص 192

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete