ابن خلدون: من الولادة البيولوجية لابن خلدون إلى الموت الأنطولوجي للحضارة العربية

تكوين

تقديم:

شكَّل ابن خلدون حالة مفارقة وفريدة وبديعة على المستوى المعرفي، لكن تقهقر الحضارة العربية على المستوى الأنطولوجي، جعل فرادته وبداعته تتوارى عن البصائر لعدِّة قرون. فالمادة المعرفية التي انطوت عليها مقدمته، لم يكن العقل العربي إبَّان كتابتها، أي المقدمة، مؤهلاً لاستيعابها وتفهُّم أنساقها، فبعد عطاء كبير استمر لعدِّة قرون، ما أفضى إلى حضارة عظيمة؛ كان قد ركن، أي العقل العربي، إلى السَّلْبِ والكسل والهدوء والثبات، ولم تعد المعرفة تستهويه أو تُشكُّل عنصراً أساسياً من أساسات وجوده، إلى حدِّ تعطُّل الحضارة العربية برُمَّتِها عن العطاء، بل وخروجها عن الخدمة بشكلٍ كامل. فقد “كان كل شيء خلال القرن الثامن الهجري –الرابع عشر الميلادي- يشير إلى أن شمس الحضارة الإسلامية آخذة في الأفول. فلم يكن الناظر أينما توجه ببصره، سواء إلى الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية، يستطيع أن يستشف أيّ بريق من نور أو بصيص من الأمل، بل إنه كان يصطدم في كل المجالات بحقيقة مرة، تفرض نفسها فرضاً، حقيقة التقهقر والتراجع والانحطاط”[1] فالأمة العربية التي استطاعت أن تبني حضارة عظيمة قلَّ نظيرها في التاريخ كله، دبَّت فيها عوامل التفسُّخ والانهيار، وكان أوان خروجها من النسق الحضاري الفاعل قد حلَّ بالفعل، رغم مظاهر العَظَمَة التي انطوت عليها تلك الحضارة في عصورها الذهبية. فالعرب، على ما يقول غوستاف لوبون”: “عرقٌ يصلح أن يكون مثالًا بارزًا لتأثير العوامل التي تُهيمن على قيام الدول وعظمتها وانحطاطها”[2]

وهذا مصير ضروري ومفهوم لأي حضارة، تُولد ثم تنمو ثم تزدهر ثم تنهار، ففي اللحظات الأخيرة تستنفد هذه الحضارة أسباب قيامها الأصلية أو الأساسية، فلا تعود قادرة على تحمُّل أوزان المعمار الكبير الذي خلفته أو بنته على مدى قرون طويلة، ما يجعلها عرضة للنهب والسلب على المستويين الداخلي والخارجي.

ومن المفارقات العجيبة، أنَّ الأمة العربية التي اهتمت على مدار قرون طويلة بالمعرفة، ما ساهم في بلورة عظمتها، بدأت تتنكر للمعرفة في عصور انحطاطها، وذلك عبر إنتاج كتابات تجترُّ أكثر مما تُبدع. أحد الناجين الكبار من هذه اللازمة القاهرة، هو ابن خلدون، الذي كتب (المقدمة)، لكنها أُهملت إلى عصور متأخرة، ففي أزمنة الانحطاط صارت (المقدمة) كتاباً فائضاً عن حاجة عقول الناس في تلك العصور، الذين تخلوا عنها، أي عن عقولهم، وأحالوها إلى الأرشيف الذي لم يتم فتح ملفاته إلا بعد قرون طويلة ومؤلمة، وما زلنا نُعاني من تبعاتها حتى هذه اللحظة. فقد تحوَّلت الكتابة، بما هي انعكاس للحالة المعرفية، إلى نوع من التقليد الذي لا يُقدِّم ولا يؤخر في مسيرة الحضارة الإنسانية. وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك النمط الاجتراري في الكتابة، ساعة بُدئت كتابة التاريخ قوية في الثقافة العربية الإسلامية، ثم أخذ طابع الكتابة ينحدر شيئاً فشيئاً إلى أن وصل إلى مرحلة بائسة وتنمُّ عن يأس حضاري كبير. “وجاء من بعدهم [يقصد بعد المؤرخين الكبار في التاريخ الإسلامي] مَنْ عَدَلَ عن الإطلاق إلى التقليد، ووقف في العُموم والإحاطة عن الشأو البعيد، فقيَّدَ شوارد عصره، واستوعب أخبار أُفقه وقُطره، واقتصر على تاريخ دولته ومِصره، كما فعل حيَّانُ مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، والرَّقِيْقُ مؤرخ لأفريقية والدولة التي كانت بالقيروان. ثم لم يأتِ من بعد هؤلاء إلا مُقلِّدٌ، وبليد الطبع والعقل أو متبلدٌ، يَنْسِجُ على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثَّالِ، ويذهلُ عمَّا أحالتهُ الأيام من الأحوال، واستبدلتْ به من عوائد الأمم والأجيال، فيجبلون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأُول، صوراً قد تجرَّدت عن موادها، وصفاحاً انْتُضِيَتْ من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها، إنما هي لم تُعلم أصولها، وأنواع لم تُعتبر أجناسها، ولا تحققت فصولها، يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتِّبعاً لمن عُني من المُتقديمن بشأنها، ويُغْفِلُوْنَ أمرَ الأجيال الناشئة في ديوانها، بما أُعْوِزَ عليهم من تُرجمانها، فتستعجم صُحفهم عن بيانها، ثم إذا تعرَّضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً، مُحافظين على نقلها وهماً أو صدقاً، لا يتعرَّضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رَفَعَ رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعاً بعدُ إلى افتقاد أحوال مبادئ الدُّول ومراتبها، مُفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثاً عن المُقنع في تبايُنها أو تناسُبِهَا”[3]

فالذي كتبه ابن خلدون عن تداعيات الفعل الكتابي، فيما يتعلق بعلم التاريخ، شيء طبيعي في مسيرة الحضارات الإنسانية من جهة، وينسحب على بقية العلوم والمعارف في الحضارة ذاتها من جهة ثانية. فالتقهقر والانهيار لا يطال علماً دون آخر، بل يكون شاملاً لكل شيء. لكن المفارقة، مرة أخرى، أن هذه الحضارة التي انهار فيها كل شيء، حظيت بفيلسوف حصيفٍ ونابهٍ أرَّخ لذلك التقهقر والانهيار، ما يجعل من سؤال: هل وجود فيلسوف في لحظة انهيار شامل أمراً طبيعياً ومقبولاً، أم أنَّ ما حدث مع ابن خلدون، مع مقدمته تحديداً، يخرج عن نطاق المألوف، ويدخل في نطاق المعجزات؟

ولادة ابن خلدون البيولوجية:

ولد عبد الرحمن بن خلدون سنة 732هـ/ 1332م في تونس، وتوفي سنة 808هـ/ 1406م في القاهرة. بين هذين التاريخين: تاريخ ولادته البيولوجية، وتاريخ وفاته، الذي تزامن مع موتٍ معرفي للحضارة العربية الإسلامية؛ نَحَت حياة ابن خلدون منحى هائلاً على المستوى المعرفي، لكنه منحى بقي طيّ النسيان إلى أن بدأت تظهر بوادر إحياء العقل العربي من جديد، مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي.

على المستوى الشخصي وُلد عبد الرحمن بن خلدون لعائلةٍ مُهتمة بالعلم والأدب. فقد “تلقَّى فن الأدب عن والده، ثم أقبل يجتني ثمار العلوم بشغف، ويتردَّدُ على مجالسة العلماء الراسخين: مثل قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبي محمد الحضرمي، والعلامة الآبلي. ولم يكد يستوفي سن العشرين حتى تجلت عبقريته، واستدعاه أبو محمد بن تافراكين المستبد وقتئذٍ”[4]. “ولم يكن اتجاه والد ابن خلدون إلى العلم بدعا في هذه الأسرة، فقد نبغ من قبله في الأندلس والمغرب عدد كبير من أفرادها في كثير من العلوم…فكان لهذه الأسرة إذن قدم راسخة في السياسة والعلم معًا، وقد وصفها المؤرخ الشهير ابن حيان (من رجال القرن الحادي عشر الميلادي والخامس الهجري) في مرحلة مقامها بالأندلس فقال: “بيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة، ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية”[5]. فعن والده، وجزء من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى تونس، تلقَّى ابن خلدون بداياته العلمية الأولى. “قرأ عليهم القرآن وجوَّده بالقراءت السبع وبقراءة يعقوب، ودرس عليهم العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه على المذهب المالكي، وأصول وتوحيد، ودرس عليهم العلوم اللسانية من لغة ونحو وصرف وبلاغة وأدب؛ ثم درس المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضية فيما بعد[6]. ثم أخذ ابن خلدون بالترحال متجولاً في عدة بلدان. فقد “غادر تونس سنة 753هـ [1952م] إلى قفصة[7] ثم إلى بسكرة[8] ونزل فيها ضيفًا مكرمًا لدى صاحبها يوسف بن مزني. ثم خرج منها قاصدًا السلطان أبا عنان وهو يومئذ بتلمسان[9]، فلقيه على الطريق ابن أبي عمرو صاحب بجاية آيبًا من تلمسان، فصرفه عن قصد أبي عنان، وحمله على المسير معه”[10] “ثم  ارتحل إلى سلطان فاس الذي حظي عنده بمكانة فريدة، إلى أن أُتهِم بالتآمر للإطاحة بالسلطان، فزُجَّ بابن خلدون في السجن، الذي لبث فيه مدة من الزمن إلى أن خرج منه بعد وفاة السلطان أبي عنان. ثم رحل ابن خلدون إلى الأندلس ثم إلى إشبيلة كوسيطٍ بين ملك الأندلس وملك إسبانيا المُقيم في إشبيلية. ثم تنقل بين بلاد المغرب العربي والأندلس، ثم ارتحل إلى مصر وسافر لأداء فريضة الحج، ثم خرج إلى الشام أسيراً فالتقي هناك بتيمورلنك، ثم عاد إلى مصر وبقي فيها إلى أن توفي سنة 808هـ/ 1406م”[11]

موت الأمة الأنطولوجي:

ما بين سنة 1332م حيث ولد ابن خلدون، وسنة 1406م حيث توفي، كانت الأمة العربية الإسلامية تلفظ أنفاسها الأخيرة على مختلف المستويات: سياسياً وعسكرياً ومعرفياً واجتماعياً واقتصادياً ودينياً ونفسياً، ما أخرجها معرفياً من أي سباق حضاري، وللآن لم تستعد دورهها الريادي الذي مارسته لعدة قرون، قبل أن تتراجع وتنحلّ وتتفكك بالتالي. ولم يكن لهذا التفكُّك والانحلال أن يأتي فجأة أو بالضربة القاضية في زمن ابن خلدون، بل بدأت بوادره بالظهور قبل ذلك بكثير من الوقت. فبغداد، حاضنة واحدة من أقوى الحضارات في العصور الوسطى، كانت قد سقطت على يد المغول سنة 1258م، ما ساهم في تفكيك هذه الحضارة على المستوى السياسي. وهو بطبيعة الحال تفكّك، أي التفكُّك السياسي، محفوف بمخاطر جمة، وعلى جميع المستويات، إلى أن وصل إلى مرحلة موت حقيقي للحضارة ككل، عبَّر عنها ابن خلدون ذاته في مقدمته: “هذا ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيَّفَ الأُممَ وذهبَ بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدّول على حين هرمها وبلوغ الغاية مداها، فقلّص من ظلالها وفلَّ من حدّها، وأوهن سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السُّبُل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق ق نزل به ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته وعمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة”[12]

إقرأ أيضاً: ما هي المفاهيمُ الأساس التي يقومُ عليها مفهوم الدولة عند ابن خلدون؟

فمن الناحية السياسية، على ما يكتب محمد عابد الجابري، “كان هذا القرن [أي القرن الثامن الهجري] قرناً تفككت فيه جملة، الوحدات السياسية الكبرى التي حملت مشعل الحضارة الإسلامية في المغرب والمشرق. فالدولة العباسية أصبحت اثراً بعد عين، والامبرطورية الموحدية بدورها تلاشت واضمحلت، وهجمات البدو تزداد حدة وضغطاً على الأطراف، والحروب بين الدويلات والامارات لا تهدأ إلا لتشتد، والضغط المسيحي في الأندلس وكذا في شواطئ أفريقية يزداد تركيزاً، والمطالبة بالملك لم تعد تستند إلى أي أساس نظري أو ديني، وإنما على القوة فقط، على الشوكة والاتباع، وبتعبير ابن خلدون على العصبية وحدها… فالطابع العام الذي ساد الحياة السياسية في العالم الاسلامي، خلال هذا القرن، هو الفوضى وعدم الاستقرار، وما ينتج عن ذلك من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”[13]

ومن الناحية الفكرية، شُنَّت حملات ضدَّ الفلسفة والفلاسفة. “فبعد هجوم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة وبعد محنة ابن رشد ومنشور الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الذي أمر فيه بإحراق كتب الفلسفة. ثم فتوى ابن صلاح الشهرزوري التي ورد فيها “الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيع والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة” بعد كل ذلك لم تزد حملة الفقهاء على الفلسفة وعلومها إلا شدة وعنفاً، حتى قال الذهبي، وهو من علماء هذا القرن “إن الفلسفة الإلهية لا ينظر فيها من يرجى فلاحه، ولا يركن غلى اعتقادها من يلوح نجاحه. فإن هذا العلم في شق، وما جاءت به الرسل في شق. وما دواء هذه العلوم وعلمائها والقائمين بها علماً وعملاً إلا التحريق والاعدام من الوجود، إذ الدين ما زال كاملاً حتى عُربّتْ هذه الكتب ونظر فيها المسلمون، فلو أعدمت لكان فتحاً مبيناً. وعلى العموم، فإن النشاط الفكري في هذا العصر، عصر ابن خلدون، قد انحصر في جانبين اثنين: الدراسات الفقهية الجامدة التي اقتصر العمل فيها على الملخصات وشروحها وشروح الشروح، والتصوف الذي انقلب من تجربة وذوق ومشاهدة، إلى شعوذة وتضليل”[14]حتى الشِّعر، أحد أبرز معالم القوة الثقافية العربية على مرِّ العصور، انحدر هو كذلك في تلك الفترة، ومال إلى التقليد والاجترار والتكرار[15]

كتاب ابن خلدون

وسط ولادة ابن خلدون البيولوجية، وموت الأمة الأنطولوجي، وُلِد ابن خلدون ولادة معرفية كبيرة على المستوى الفردي، يوم أن كتب واحداً من أفضل الكتب في التاريخ الثقافي ليس العربي فحسب، بل والإنساني أيضاً. لكن هذه الولادة أُجْهِضت على المستوى الجمعي في ذلك العصر، فوسط جهالات مُستحكمة بسطت سيطرتها على عموم العالم العربي والإسلامي، كان شيئاً طبيعياً، لكنه مأساوي، أن يتم إجهاض مشروع ابن خلدون الفلسفي، فالأمة كاملة تعثرت وسقطت في هاوية عميقة، وكان صعباً عليها أن تستوعب كتاباً على درجة عالية من التطوُّر العقلي، لذا تمَّ إرجاء النظر فيه إلى عصور متأخرة، يوم أن بدأت الحياة تدبُّ، وإن ببطءٍ شديد، في عقل هذه الأمة من جديد.

رغم حالة التردِّي على المستوى الجمعي، كانت ولادة ابن خلدون هذه الولادة المعرفية الهائلة، شيء طبيعي لأُمةٍ أنتجت عقولاً فذة، وفي مجالات متعددة. أو بمعنى آخر، كان ابن خلدون هو التردُّد الفلسفي الأخير في تلك الحضارة، أو آخر نَفَس فلسفي عظيم فيها. فالحضارة التي لفظت أنفاسها الأخيرة، كان فيها بقية من حياة معرفية، هذه البقية هي مقدمة (ابن خلدون).

قبل ظهور ابن خلدون بقرنين كان الإمام “أبي حامد الغزالي” قد كفَّر الفلاسفة في عدِّة مواضع من كتابه (تهافت الفلاسفة)، رغم أن الكتاب، أي كتاب الغزالي، كتاب فلسفي بامتياز، لكنه كان يُعبِّر عن منزع فردي لدى الغزالي، لكن روح الأمة كانت في طريقها إلى الاستقرار الهُويَّاتي الأخير، لذا انحازت لكتابيه: 1- المنقذ من الضلال. و2- إحياء علوم الدين؛ أكثر من انحيازها لكتابه (تهافت الفلاسفة)[16]. رغم ذلك، أي رغم ميل الأمة إلى الاستقرار الهُوياتي، على حساب السؤال المعرفي، وما رافق ذلك من إقرار أخير ونهائي لصيغ الإجابات التي يمكن أن تُبقي الأمة في دائرة هويتها، مُـتجاوزة في الوقت ذاته، إشكالات أسئلتها، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور فيلسوفين كبيرين في الثقافة العربية الإسلامية: الأول ابن رشد، والثاني ابن خلدون؛ كعطاءٍ أخير لحضارة لفظت أنفاسها الأخيرة، ومع تلك اللفظات لفظت فيلسوفيها البارزين: إذ “كان على ابن رشد أن يرحل عن الحضارة الإسلامية إلى حضارة أخرى كانت في طريقها إلى البزوغ والتجلي الحضاريين. وبموازاة هذا الرَّحيل لأفكار ابن رشد، لم تحظى مقدمة ابن خلدون المُميزة بالثناء والتقدير في مجتمعٍ كان في طريقه إلى التحلُّل والفناء على المستوى الحضاري”[17]

الولادة المعرفية الجديدة لابن خلدون

لكن كأي إرث عظيم، لا يمكن أن يذهب سُدىً، حدث مع مقدمة ابن خلدون. فبعد قرون من الإهمال عادت إلى الواجهة المعرفية ليس العربية فحسب، بل والإنسانية أيضاً. فما “زال تراث ابن خلدون فريدا بين آثار التفكير الإسلامي، وما زال يحتفظ رغم كل العصور بكل قيمته وروعته وجدّته، ويتبوأ مقامه بين تراث التفكير العالمي. ولكن ابن خلدون الذي اكتشفه الغرب وعكف منذ أكثر من قرن على دراسة آثاره ونقدها وتحليلها، يُغمط في الشرق حقه، ويغمر ذكره، وينسى تراثه. وبينما ظهرت في الغرب عنه وعن تراثه تراجم وبحوث نقدية عديدة، إذا به لا يكاد يظفر بشيء من ذلك في الشرق موطنه وصاحب تراثه. وقد كان مما يدعو إلى الغبطة أن ذُكر ابن خلدون أخيرا، وترددت الدعوة لإحياء ذكراه لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولده؛ فاستجابت دوائر التفكير والأدب في جميع البلاد العربية لهذه الدعوة الكريمة، وأقيمت عدة حفلات علمية للاشادة بذكره وخالد آثاره، ولا سيما في تونس مسقط رأسه ومطلع مجده، وفي مصر مقام شيخوخته ومثوى رفاته، وحفلت المجلات والصحف العربية حينا بمختلف البحوث عنه؛ وبذلك مثلت ذكراه قوية بيننا مدى حين، والتفتت الأنظار نوعاً إلى قراءته ودرسه”[18]

بعد حوالي 90 سنة على ما كتبه “محمد عبد الله عنان” في كتابه (ابن خلدون: حياته وتُراثه الفكري)، كتب “محمد عابد الجابري” في مقدمة كتابه (فكر ابن خلدون – العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي): “إن مقدمة ابن خلدون قد قتلت بحثاً ودرساً: فكم من أطروحة قدمت في هذا الموضوع في الجامعات العربية وغير العربية، وكم من كتاب ظهر هنا وهناك ليقدم للقارئ العربي، وغير العربي فلسفة ابن خلدون الاجتماعية والتاريخية، علاوة على العديد من المقالات والأبحاث التي تظهر، بين حين وآخر، في المجلات المختصة وغير المختصة، في الحوليات والجرائد، إلى درجة أن الباحث اليوم، قد لا يتمكن مهما أوتي من صبر وأناة وواسع اطلاع، من استقصاء كل ما كتب ونشر حول ابن خلدون، بَلْلَ ان يقدم في الموضوع جديدا!”[19]

لكن، كما أُقدِّر، فإنَّ إعادة الاعتبار لابن خلدون تحديداً، لا تأتي من كثرة الأبحاث والدراسات حول حياته أو حول مقدمته، بل في إعادة الاعتبار إلى النهج الفلسفي برمَّته، بما هو طريق يُفضي إلى فهم عميق لحقيقة ما كتبه ابن خلدون في المقدمة، فهو ليس تأريخ محض، بقدر ما هو منهج فلسفي يسعى إلى فهم العالَم. فتعلمنا للمقدمة يمكن أن يندرج ضمن تعلُّم أي مادة تاريخية، حتَّى وإن كانت تتناول مواضيع فلسفية. أو نكتفي بما أُسميه عادة بإحضار المعرفة (إلى العقل)، أما مرحلة تحضير المعرفة (في العقل)، تماماً كما مارس هذا الدور، وباقتدار، ابن خلدون في مقدمته، فهذا هو المنشود. فأولى بدارسيه، وبدرجة أكثر مطلبيةً في العالَم العربي، أن تُدرس مقدمة ابن خلدون ضمن منهج فلسفي يُحضِّر معارفه (في عقله)، لتكون لديه القدرة على تفهُّم كيف كان لابن خلدون أن يُحضِّر المعارف التي قامت عليه مقدمته (في عقله)، بعد أن أحضر الكثير من المعارف، كخطوة ضرورية ومصيرية، (إلى عقله). فاستئناف القول الفلسفي في العالَم العربي، مُتخذاً من مقدمة ابن خلدون نموذجاً مبدئياً، لا يمكن الشروع به، اعتماداً على إحضار المقدمة (إلى عقله) بل تحضير معارف شبيهة بها (في عقولنا) لعصرنا هذا وللعصور التي تليه.

ومع هذا الإحياء للنهج الفلسفي، لا نكون قد أعدنا الاعتبار للتُراث العظيم الذي تركه لنا ابن خلدون في مقدمته، بل أعدنا الاعتبار –أيضاً- للعقل الإبداعي القادر على تحضير المعرفة (في عقله)، بدل أن يستمر في إحضار معارف الآخرين ومعارفه القديمة (إلى عقله)، بما يُبقيه في طور الانفعال بالوجود، وليس في طور الفعل به. فالمجال الذي يمكن أن تحفزه مقدمة ابن خلدون، مجال خصب وثري، وعلى درجة عالية من الأهمية المعرفية. فابن خلدون، في حديثه عن التاريخ، لا يكتفي بمجرد نقل الأحداث، بل يسعى إلى فهم جذورها العميقة، لكي يكون التعامل معها أكثر وضوحاً وفائدة. “وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرَّد النقل غثّاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أُصولها، ولا قاسوها بأشباهها، و لاسبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فَضَلُّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط”[20]. أي أنه يسعى إلى معرفة الوحدات الصغيرة التي ينبني عليها معمار العالَم الكبير، وهذا عمل فلسفي بامتياز، يحتاج إلى استحضار تراث ابن خلدون، كجزءٍ من نشاط عقلي فاعل في مرحلتين تاريخيتين: مرحلة كتابته ومرحلة تلقِّيه، وليس إحضاره كجزءٍ من تاريخنا الثقافي بعموميته.

 

قائمة المراجع:

[1]  فكر ابن خلدون: العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط6، 1994، ص 19.

[2]  حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، مكتبة الأسرة، وزارة الثقافة الأردنية، عمَّان، الأردن، 2018، ص 642.

صدرت الطبعة الأولى من الكتاب باللغة الفرنسية سنة 1884، وصدرت الترجمة العربية له لأول مرة سنة 1945.

غوستاف لوبون Gustave LeBon طبيب ومؤرخ فرنسي. ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو بفرنسا عام 1841م، درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا. اهتم بالطب النفسي. غزير الإنتاج، ولربما كان أكثر كتاب انتشر له في العالَم العربي، لا سيما في الـ 15 سنة الماضية هو كتاب (سيكولوجية الجماهير)، الذي حظي بأكثر من ترجمة للغة العربية، من أشهرها ترجمة المترجم السوري “هاشم صالح”.

[3]  مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، سورية، ط1، 2004، ص ص 83- 84.

[4]  حياة ابن خلدون ومُثل من فلسفته الاجتماعية، محمد الخضر حسين، مؤسسة هنداوي، 2013، ص 10.

النسخة الإلكترونية من الكتاب على الرَّابط التالي:

file:///C:/Users/Win%2010%20Pro/Downloads/%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9_%D8%A7%D8%A8%D9%86_%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86_%D9%88%D9%85%D9%8F%D8%AB%D9%84_%D9%85%D9%86_%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%AA%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9.pdf

علماً بأن الطبعة الأولى من الكتاب صدرت سنة 1924م.

[5]  مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دراسة وتحقيق وتعليق علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، ط7، 2014، ص 37.

[6]  المرجع السابق، ص 38.

[7]  من مدن الجنوب التونسي. للمزيد حول المدينة يمكن الرجوع إلى موقعها الرسمي على الرَّابط التالي:

http://www.gouvernorat-gafsa.gov.tn/presentation.php

[8]  بسكرة مدينة جزائرية تقع في الجهة الجنوبية الشرقية من الجزائر. لمزيد حولها، يمكن العودة إلى الرَّابط التالي:

https://biskra.mta.gov.dz/

[9]  تلمسان مدينة حدودية وساحلية في الجزائر. للمزيد حولها يمكن العودة إلى الرَّابط التالي:

https://tlemcen.mta.gov.dz/

[10]  حياة ابن خلدون ومُثل من فلسفته الاجتماعية، محمد الخضر حسين، مرجع سابق، مؤسسة هنداوي، 2013، ص ص 10- 11.

[11]  بالتصرف عن كتاب (حياة ابن خلدون ومُثل من فلسفته الاجتماعية)، مرجع سابق، ص ص 10- 24.

[12]  فكر ابن خلدون – العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص ص 19- 20.

[13]  المرجع السابق، ص ص 20- 23.

[14]  المرجع السابق، ص ص 31- 32.

[15]  كتاب العقل، معاذ بني عامر، سلسلة عيون الشِّعر العربي، مركز أبو ظبي للغة العربية، دائرة الثقافة والسياحة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2021، ص 13.

وقد كنت في هذا الكتاب، تتبعت تطوُّر مفردة العقل ومُشتقاتها في الثقافة العربية الإسلامية، كما تجلَّت في المدونة الشِّعرية، ابتداءً من أشعار العرب القديمة، وصولاً إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.

[16]  يمكن العودة إلى مقالة: (أيدي الإمام الغزالي: 1- يد الفيلسوف. 2- يد الصوفي. 3- يد الفقيه: عن مواضعات المشروع الهُويَّاتي الإسلامي)، موقع مؤسسة تكوين الفكر العربي، على الرَّابط التالي:

https://taqueen.com/%d8%a3%d9%8a%d8%af%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%85%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b2%d8%a7%d9%84%d9%8a-1-%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%8a%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%81-2-%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84/

[17]  أيدي الإمام الغزالي، المرجع السابق.

[18]  ابن خلدون: حياته وتُراثه الفكري، محمد عبد الله عنان، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، ط1، 1933، ص ص 5- 6.

[19]  فكر ابن خلدون – العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص 7.

[20]  مقدمة ابن خلدون، ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، سورية، 2004، ص 92.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete