استحالةُ قتلِ الأب (الجزء الأول)

هاملت البريء

لنكن واضحين منذ البداية، فالطرحُ الذي أحاولُ تقديمهُ لا يتعلقُ إلَّا بقتل الأب parricide مع كل ما يتضمنُ ذلك من آثارٍ نفسيةٍ وحمولاتٍ رمزيةٍ. لا يتعلقُ الأمر فقط بمجرد موتٍ طبيعيٍّ للأب مهما كانت درجةُ الألم والعذاب والحزن والكَلَم الذي يمكنُ أن يتركهُ رحيل الأب في الابن أو الأبناء، كما لا يتعلقُ الأمر بقتل الأب على يد شخصٍ آخر غيرُ الابن، فبهذا المعنى الحصريِّ لن أُخضع للتحليل حالة قتل الأخ fratricide رُغم مكانتها المركزية في تاريخ الأديان الإبراهيميَّة على الأقل.

يمكنُ تبريرُ موقفي المُقتصرُ على “قتل الابن لأبيه” وإقصائي لقتل الأب على يد شخصٍ آخر حتى ولو كان أخاهُ، بردود فعل الابن أو الأبناء المتباينة على موت الأب أو قتله. ففي حالة الموت الطبيعيِّ للأب فإن مشاعر الحزن والكَلَم أو – على العكس منها – مشاعرُ الانعتاقِ والتحرُّرِ هي التي تهيمن على إبنه أو أبنائه. أمَّا في حالة قتل الأب على يد شخصٍ آخر حتى ولو كان أخاهُ، فإنَّ المشاعر التي قيمكنُ أن تُسيطر على الأبناء هي الغضبُ المدفوع برغبة في الثأر، لكن في حالة قتل الابن لأبيه، فإنَّ الشعور بالذنب الكاسح الناجمُ عن المسؤلية الشخصية في قتل الأب هو من يستولي على ضمير الابن القاتل بعد وقتٍ قصيرٍ من ارتكابه لجريمته التي لا تُغفرُ وتجعلهُ نهبًا لمشاعر الذنب التي لا تُحتمل حين تُولد وتنمو داخله وفي أعماق وجدانه وضميره مُحَوِّلةً حياتهُ إلى جحيم وهي تَنهشُ ضميرهُ من الداخل.

وفق هذا التحديد الدقيق لموضوعي، فإن القصتين الشهيرتين الخاصتين بقتل الأخ fratricide، وأقصدُ هنا قصة قتل قابيل لهابيل وتراجيديا هاملت لشكسبير لا تدخلا في صُلبِ الإشكالية التي أناقشها هنا وهي علاقة الابن والأب المُعقَّدة.

مما لا جدال فيه أن تراجيديا هاملت قد ألهمت – إلى جانب مسرحية أوديب ملكًا لسوفوكليس و الأخوة كارمازوف لدوستويوفسكي – نظريةَ فرويد بشأن ما يدعوه ﺑـ “عقدة اللأب”[1].

لكن لا توجدُ في هذه التراجيديا الشكسبيريّة قتلٌ للأب وإنما قتلٌ للأخ. لنتذكر أنه، ووفقاً لشكسبير، فإن الأمير هاملت ابن ملك الدانمارك (الذي يُدعى هاملت أيضًا) لم يقتل أباه ولم يكن يعلمُ حتى بجريمة قتله قبل أن يظهر شبحُ Ghost أبيه ليخبرهُ أنه قد قُتِل على يد أخيه الأكبرَ كلوديوس الذي وبعد قتل أخيه الملكُ هاملت، أخذَ مكانهُ على عرش الدنمارك وتزوج زوجتهُ جيرترود، والدة الأمير هاملت. بقراءتنا لهذه المسرحية الشهيرة، نلاحظ أنَّ شبح الملك المقتول يَتجلى في الخارج شبحًا Ghost مُستقلًا عن ابنه، بل وغريبًا عنهُ. يَصفُ شكسبير شبح الأب الملك هاملت بأنهُ شيءٌ thing أو “جثَّةٌ ميتةٌ” dead corse، وحيدًا، شاحبًا، حزينًا، مُرعبًا dreaded sight، متعطشًا للثأر لمقتله، ولهذا ظهرَ بسلاحه كاملًا أو وفقًا لكلمات شكسبير: «Armed at point exactly, cap-a-pe».[2] أودُّ هنا تأكيد فكرة “الخارج” الذي يُطِلُّ من ثناياهُ الأب/الملك ويُلقي بأوامر الانتقام على ابنه. فعلى خلاف الشعور بالذنب الذي يُولد في، ضمن، أو داخل قلب وضمير الابن القاتل لأبيه، فإنَّ الغضب والرغبة بالانتقام يتحركان بدافع خارجيٍّ. وللتوضيح أكثر أقول: فإن “الخارج” الذي أقصدهُ هنا ينشأ في مسرحية شكسبير عن لا مسؤولية الابن، أي الأمير هاملت، في مقتل والده وعدم تورطه فيها بأي شكلٍ من الأشكال. لهذا لا يبدو شبحُ الأب العائد مستقلًا وعلى مسافة من ابنه، بل عودتهُ تبدو بالنسبة للابن مزعجة ومنذرة ومخيفة. لقد استولى الرعبُ على الأمير هاملت حينما رأى شبح أبيه للمرة الأولى وتوسَّل إلى السماء بالرحمة مما قد يحملهُ شبحُ الأب من ويلاتٍ متضرِّعًا: “احمِنا أيتها الملائكة، يا رُسل الرحمة.”[3] بهذا يُبقي هذا “الخارجُ” الأبَ غريبًا عن ابنه ومقيمًا على مسافةٍ تفصلهُ عنهُ. هكذا أفهمُ المشاعر القلقة التي انتابت الأمير هاملت عندما علمَ بظهور شبحِ والده فخاطب نفسهُ بقلقٍ: “روحُ أبي مُسلَّحةٌ! كلُّ هذا يبدو سيئًا! – إنني أتوجَّسُ مأساة بشعة قادمة!”[4] يتعززُ هذا الرأيُ بسبب موقف هاملت الابن السلبيِّ اتجاه أوامر أبيه المتعطش للانتقام، والتي تطالبه بالثأر له. وباختصار يمكنُ القول إن عودة شبح الأب لم يُرحب بها هاملت الابن الذي أبقى على مسافة مكانية ونفسية من ذلك الشبح المخيف والغريب. هكذا وجدَ الابن هاملت في أوامر الأب المغدور نوعًا من البلوى أو محنة فُرضت عليه من الخارج أي خارجةً عن إرادته، وهو براءٌ من كل تلك الجريمة وتبعاتها. لنستمع إليه وهو يَندبُ ويَتَفَجَّعُ بعدما قابل شبحَ والدهِ للمرة الأولى:

“أجبني ولا تترك الجهل يُحطِّمني: لماذا مزقَت عظامك، التي صُليَّ عليها ونامت في الجدث، أكفانها؟ لماذا فَتح القبر الذي واريناك فيه بسلام، أشداقه الرخامية العريضة ليلفظك إلى هذا العالم من جديد؟ ماذا يعني كل ذلك؟ لماذا تأتي وأنت جثة ميتة بكامل سلاحك، لترى ضوء القمر وتحيل الليل رعبًا؟ ولماذا تخض خيالنا بعنف بأفكار عصية على عقولنا، نحن مجانين الطبيعة؟ قُل، لماذا هذا؟ وماذا يجب علينا أن نفعل؟”[5]

على خلاف تلك الغُربة والخارج الذي يبدو عليه الأب لابنه فإنَّ ما يهمني في هذا المقام على نحوٍ خاص، هو تلك العلاقة الداخلية أو الباطنية، التي تسم علاقة الابن ﺑـ الأب، أي بذلك الأب الذي يواصلُ الحياة في الابن بعد أن يقوم هذا الابن بقتله، فعلى العكس من تلك الاشتراطات والإكراهات المفروضة من الخارج، تعيشُ مشاعر الذنب داخل وعي ولا وعي الابن الذي قتل أباه وتدفعهُ من الداخل أيضًا، إلى التكفير عن هذه الجريمة التي لا يستطيعُ احتمالها بعد اقترافها. لكن حالة الأمير هاملت تختلف عن حالة الابن القاتل لأبيه، لنمنحه البراءة إذًا من جريمة قتل الأب ولنفحص الآن ملف متهمٍ آخر وهو أوديب الذي يتهمهُ فرويد بقتل أبيه، الملك لايوس.

الأبُ العصيِّ على الموت عند فرويد

بعد تفنيد إمكانية قتل الأب/الرب عند الآلهة، لننزل من سماء جبل الأولمب إلى الأرض أي من الأسطورة إلى الدين، لنختبر ما إذا كان قتل الأب ممكنًا عند البشر. في نزولنا هذا قد ندرك دون عناء أن مرحلة الانتقال من الأساطير السماوية إلى الأديان الأرضية لم يحدث دفعةً واحدةً فقد تمظهرت الأديان عبر الزمان والمكان، أي التاريخ والجغرافيا عن طريق عقائد وطقوس وعبادات مختلفة وأحيانًا متناقضة، مما جعلها غالبًا متصارعة. حتى الديانات التوحيدية التي تفترض انتمائها إلى نفس البيت وإيمانها بنفس الرب الواحد لا تشذُّ عن القاعدة، ويكشفُ تاريخها عن سلسلة من الحروب الماضية والحاضرة وربما المستقبلية المعلنة أو الصامتة فيما بينها.

لكن قبل التوقف عند الديانات الإبراهيمية أو التوحيدية، أودَّ أن أعكف على ما درجنا على تسميته تبعًا لإميل دوركهايم ﺑـ “الأشكال الأولية للحياة الدينية”. وبتحديدٍ أدق، سأحاولُ في الصفحات القليلة القادمة تحليل هذه الأشكالُ الأولية في الطوطمية، مستخدمًا نظرية قتل الأب، التي صاغها فرويد في ثلاثة نصوص رئيسةٌ على الأقل وهي: الطوطم والتابو (1913) و “دوستويوفسكي وقتل الأب” (1928) ثم قلق في الحضارة (1930). في أعماله هذه، يُؤطرُ فرويد قتل الأب على يد ابنه (أو أبنائه مجتمعين) في عقدة نفسية يسميها تارةً ﺑـ “عقدة قتل الأب” وتارةً ﺑـ “عُقدة أوديب”.

أوديب الذي لم يتخلص من أبيه بقتله

بوصفه قارئًا ممتازًا للأدب، يعثرُ فرويد في تراجيديا سوفوكليس الشهيرة أوديب ملكاً[6] صياغةً مُبدعةً لحدث “قتل الأب”. لنتذكر أنَّ هذه التراجيديا الإغريقية هي استعادة للأسطورة (أسطورة أوديب) المعروفة عند الإغريق بوصفها ملحمة تتلخصُ حبكتها في رذيلتين: قتل الأب le parricide وسِفاح القربي l’inceste. قبل عدة قرون من ظهور تراجيديا سوفوكليس كان هوميروس قد استحضر هذه الأسطورة في الأوديسة إذ ورد على لسان أوديسيوس أنهُ شاهد في أثناء نزوله إلى مملكة الموتى “والدة أوديب، جوكاست، التي ارتكبت، دون علمٍ منها، الرذيلة الأعظم، فقد تزوجت ابنها، قاتل أبيه وزوج أمه.” [7] ومع أن هذه الأسطورة كانت متداولة عند الإغريق إلا أن الفضل في شهرتها يعود بشكل أساسيٍّ لسوفوكليس الذي كرَّس لها سلسة من المسرحيات التراجيدية هي أدويب في كولونوس، انتيغون، وأوديب ملكًا. في هذه التراجيديا الأخيرة هناك ثلاثةُ أبطال في خلفية الأحداث هم: “قتل الأب” و”سفاح القربي”، لكن أيضًا، ومرةً أخرى، “القدر المحتوم”. يتجلى في هذه التراجيديا بوصفهِ لعنةً تطالُ جميع أفراد إحدى الأسر الملكية المكوَّنة من لايوس الأب وجوكاست الأم وأوديب ابنهما الوحيد. وقد حاول هؤلاء الثلاثة كُلٌّ بطريقته تجنبَ مصائرهم السيئة وتغيير أقدارهم لكن عبثًا. فهنا أيضًا يتجلى القدر بوصفه محتومًا، تراجيديًا، لا يمكنُ تجنبهُ أو تغييرهُ. يصفُ لنا سوفوكليس تلك اللعنة، التي أحاقت بهم بصوت جوكاست التي تروي لأوديب (زوجها وابنها دون معرفة أي منهما بذلك) أنها عندما كانت حاملًا “جاء وحيٌّ إلى الملك لايوس […] وأخطرهُ أنَّ عليه أن يموت على يد ابنه الذي سيكون له مني..”[8] وفقًا لإفادة الأم جوكاست (التي ستتكشف عن نقص بل وتزوير في الوقائع) فإن الأب هنا هو من يسعى في التخلص من ابنه، فلذة كبده، لكي يغيرَ مجرى القدر ويمنع وقوع اللعنة فهي تضيف: “بعد ثلاثة أيام بالكاد من مولد الطفل، قيَّد لايوس قدميه وأمر برميه من على جبل مهجور.”[9] لكن جوكاست زوجة لايوس (وزوجة ابنها وابنه أوديب بعد سنوات) ستظهرُ شريكةً متواطئة مع الأب في محاولة “قتل الإبن، ابنهما الوحيد. فالاعترافات التي تم انتزاعها من خادمها القديم – الذي كان شاهدًا على الواقعة ومنفذًا لأوامرها في الماضي – تُظهرُ أنها هي من سلمته الطفل “لكي يتركه يموت”.[10] لكن وبعد تَسلُّمَهُ المولود الجديد ليقتله، يشعر خادم الملكة بالشفقة على الطفل الرضيع فيمنعُ نفسه من قتله. ولأنهُ كان يعتقد بإمكانية تخليص الملك والملكة من طفلهما دون إماتته، فقد أعطى الطفل لرجل عجوز يعيش في مملكةٍ أخرى بعيدةً قائلًا في نفسه إنَّ هذا الرجل “سيحمله إلى الخارج بعيدًا جدًّا عن بلده.” [11]هكذا سَينقذُ أوديب الذي سيمنحهُ الراعي العجوز للملك بوليب وزوجته الملكة ميروب زعيما مملكة كورنثة اللذان سيتعهدان بتربية أوديب بوصفه ابنهما دون أن يخبراه بحقيقة أصله حين يكبر. هكذا ينشأ الفتى بوصفه ابن ملك وملكة كورنثة، لكن وفي إحدى السهرات “وسط وليمة” يسمعُ من أحد المدعويين السكارى أنهُ “طفلٌ غير شرعيٍّ”. مجروحًا في كرامته، يسعى أوديب في كشف الحقيقة بأي ثمن ومعرفة أصله الحقيقي. وبسؤاله للعراف فيبوس عن الأمر، سيعيدُ عليه هذا الأخير تلك النبوءة نفسها التي قيلت للايوس وجوكاست أبواه الحقيقيين قبل أن يولد، وهو أنَّ مصيرهُ قتل أبيه والزواج من أمه. ولأنه ظلَّ يعتقدُ أن بوليب وميروب ملك وملكة كورنثه هما أبواه الفعليين فإنه سيبتعدُ عن كورنثه باحثًا عن مكان آخر لتجنب مصيره. لكنه وفي محاولةِ تجنب قدره فإنه يحققه، فسيلتقي في طريقه برجل هرم يحرسه خمسة رجال، يضربُ أوديب بعصاه الرجل الهرم الذي لم يكن سوى أبيه الحقيقي لايوس فيسقطُ هذا الأخير ميتًا من العربة التي كان يركبها. [12]هكذا يقتل أوديب أباه وفقًا لسوفكليس. حقًا! هل نجح أوديب فعلًا بإنهاء حياة أبيه والانتهاء منه؟ سوف نجدُ بعد قليلٍ أنَّ هذه الجريمة لم تقع أصلًا.

ولكي أدافع عن موقفي هذا، فمن المفيد التذكير بالفرضيات الثلاث التي أتيتُ على ذكرها سابقًا وهي: 1- استحالة قتل الرب فهو خالد لكونه فكرة غير مادية، أي أبدية بالمعنى الأفلاطونيّ للكلمة 2- أنَّ الإنسان فانٍ وذلك بسبب (أو بفضل) انتمائه إلى العالم الحسيِّ الماديِّ والجسدي  3- والجانبُ الإنسانيُّ عند أنصاف الآلهة يجعلهم فانين أيضًا. لكن إذا كان قتلُ الأب/الرب مستحيلًا عند الآلهة، لماذا لا يكون ذلك مُمكنًا في عالم البشر الفانين على عكس الآلهة الخالدين؟ ألم يقضي أوديب على أبيه الذي سقط جثة هامدة؟ كيف أجرؤ إذًا على الإدعاء بأن قتل الأب مستحيل عند البشر؟

لقد رأينا في كلٍ من ثيوغونيا كيف يُجسِّد الأب (الذي يعني الرب أيضًا) القانونَ والسُّلطة المُقدَّسة والقوَّة المُهابة والمحسودة في مقابل الأُم التي تُمثِّلُ الحب و الابن الذي يُجسِّد الطموح في الوصول إلى سلطة الأب. وبسبب كون الابن ضحية الأب وهو لا يزالُ طفلًا، فإنهُ سيتحول إلى جلاد عندما يشتد عوده ويستحوذ على سلطة أبيه فيصبح أباً بدوره، بهذا المعنى الذي يتجسدُ الأب في القانون والسلطة والقوة، فإن لايوس الأب لم يمت بعد أن قتله ابنه أوديب إذ لم يتغير شيءٌ في مملكة الأب وقوانينه وسلطته. كيف؟ حسنًا، لنلاحظ أن أوديب، الابن قد أعاد تجسيد كامل سلطة الأب وقد حافظ حرفيًا على مهام لايوس الأب المقتول بأن: 1- أن يكون ملك طيبة ويحكمها و2- أن يصبح زوج جوكاست. لا شيء تغير فعليًا هنا سوى الاسم. وقد شاهدنا من قبل هذا السنياريو في حالة كرونوس، الذي بعد أن أسقط والده أورانوس عن عرشه، تولى مهامه كما هي دون أي تغير يُذكر. فقط أحتل مكان أبيه بوصفه ملكًا على الآلهة محافظًا على نظامه، وعلى غرار والده عذَّب أطفاله أيضًا ثم عرف في النهاية مصير أبيه نفسه. وهذا ينطبق على أسطورة زيوس[13] الذي حافظ على استمرارية الحكم الأبوي في اليونان القديمة.

في حالة أوديب لا يتغير شيءٌ كذلك. فقط نبدِّلُ الأسماء لكن الأب بوصفه قانونًا يظلُّ حاضرًا دائمًا حتى بعد قتله المزعوم. لا يهمُّ الاسم هنا فسواء أكان لايوس أم أوديب، فإن نظام الحكم الأبويِّ ظلَّ كما هو دون تغييرٍ. وبعد زمنٍ قصيرٍ من قتل أوديب لأبيه أصبح هو الأب الذي يُبقي على حياة من ظن أنهُ قتله. بهذا المعنى لا يَحلُ الابن أوديب مكان الأب لايوس، بل يعيدُ وضعه في الحياة وفي السُّلطة عن طريق حفاظه على استمرارية حكمه. هكذا حتى وإن غاب الأب قليلًا بعد محاولة اغتياله، فإنهُ سيعودُ قويًا حيًّا على يد من حاول قتله والتخلص منه…

 

المصادر والمراجع:

[1] لقد كان لأعمال شكسبير بعامة ومسرحية هاملت بخاصة أثرًا واضحاً في نظرية فرويد عن عقدة أوديب التي تحضر فيها العلاقة المعقدة بين الابن وأبيه حتى أنه يمكننا القول إن أشباح المسرح الشكسبيريِّ تسكنُ نصوص فرويد. كما ستؤثر مسرحية هاملت، بتأويلات فرويد لها، في كتاب الفيلسوف جاك دريدا أطياف ماركس (1993) وعلى تصوراته بعامة بشأن “الشبحية”  spectralité .

[2] The Works of Shakespeare, The Tragedy of Hamlet, edited by Edward DOWDEN, METHUEN AND CO. London, 1899, p.25

[3] Ibid., p. 39.

[4] Ibid., p. 28.

[5] Ibid, p. 39-40

[6] من الأكيد أن اهتمام فرويد بأسطورة أوديب لا يقتصر على نصوصه الثلاثة المذكورة أعلاه إذ تكشف الرسائل التي أرسلها لصديقه فليس Fliess ابتداءً بتلك المؤرّخة بتاريخ 15 أكتوبر 1897 اهتماماً كبيراً من قبل أب التحليل النفسي بهذه التراجيديا لسوفوكليس. كما أننا نعثر على بعض الاستشهادات السابقة على نصوصه هذه مأخوذة من مسرحية أوديب ملكاً مثل في كتابه تفسير الأحلام (1990) الأمر الذي يؤكد أن هذه المسرحية الإغريقية قد رافقت ميلاد التحليل النفسيّ واستمرت بإلهامها حتى موت فرويد، بل وما بعد ذلك.

[7] Homère, Odyssée, trad. Victor Bérard, Gallimard, 1999, XI, 257-287, p. 213.

كما أننا نعثر على حضور لأسطورة أوديب في أعمال تراجيدية أخرى سابقة على مسرحية أوديب ملكاً لسوفكليس. فبالإضافة إلى المقاطع القصيرة جداً التي تأتي على ذكرها كل من الإلياذة و الأوديسية لهوميروس نجدها حاضرة في الفينيقيات ليوربيدس وكذلك في مسرحية لايوس، أوديب، والسبعة ضد طيبة لأسخيليوس.

[8] Sophocle, Œdipe roi, in Théâtre complet de Sophocle, trad. Robert Pignarre, 1964, Flammarion, p. 122.

[9] Ibid., p. 123.

[10] Ibid., p. 135.

[11] Ibid., p. 135.

[12] Ibid., p. 125.

[13] كما كان الأمر عليه مع أبيه كرونوس، توجب على زيوس أن يواجه اللعنة الإلهية التي كانت تتنبأ بأن أحد أبنائه سيسقطُ حكمهُ. بعد سماعه بتلك النبوءة/اللعنة يحافظُ زيوس على تقاليد الآلهة الآباء المسكونين بالخوف من انقلاب أبنائهم عليهم، فعلى غرار أبيه كرونوس وجده أورانوس، سيحاولُ زيوس تحريف قدره عن مساره المحتوم، ولكنه بدل أن يبتلع أبناءه كما فعل أبيه كرونوس فإنه سيبتلع أمهم نفسها، أي زوجته ميتيس. يروي لنا هزيود هذا الفصل من أسطورة زيوس كما يلي” ولكن بما أن ميتيس كانت ستضع مولودتها أثينا، إلهة المياه اللازوردية، فإن زيوس سيخدع قلبها بكلامه المعسول ليحبسها في أحشائه. لقد فعل ذلك بناء على نصيحة جيا وأورانوس اللذين نصحاه بذلك خوفاً من أن يستولي أحد غيره من الآلهة الخالدين على  إمبراطورية السماء؛ فالنبوءة كانت تقول بأنه من ميتيس سيخرج أطفال بذكاء عميق، أولهم تلك البنت بالمياه اللازوردية، ذات الريشات الثلاث، التي تعادل أباها بالقوة والحكمة، ثم ابنٌ  بقلب كبير والذي سوف يصبح حاكماً للآلهة وللبشر. متحسبًا من هذا الخطر، يحبس زيوس زوجته الشابة في أحشائه، لكي تكشف له وهي مختبئة فيه  الخير من الشر.” أنظر:

La Théogonie, op. cit., p. 28-29.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete