الإجماع النصي والإجماع الإجتهادي… مقاربة معرفية

تكوين

مدخل:

ظلَّ الإجماع مدار خلاف واسع منذ بداية تأسيس علم أصول الفقه، سواء من حيث إمكانه ودائرة انطباقه، هل هو إجماع كامل الأمّة أم إجماع الصحابة وحدهم، أم إجماع فقهاء العصر أو المصر؟ وهل ينسخ الإجماع بإجماع جديد؟ وقد تأرجح الأصوليون إجمالا ما بين قصر الإجماع في إجماع الصحابة الذي اعتبره أبو زهرة “الإجماع الوحيد المتَّفق عليه”، فيضيق مجاله ويكاد يندمج في السنة النبوية، وبين التوسع فيه ليشمل إجماع العلماء في مصر معين (كإجماع أهل المدينة لدى الإمام مالك)، أو إجماع جيل بعينه، أو حتى إجماع الأمّة بكامله كما قال القاضي عبد الجبار من المعتزلة والباقلاني من الأشاعرة” ([1])

وإذا كانت كتب أصول الفقه السنية تجمع على حجّية الإجماع (في مقابل الشيعة والأباضية والنظَّام من المعتزلة) إِلاَّ أن مفهوم الإجماع لم يرق -في الحقيقة- إلى مستوى المعيار التصوري المحكم، على الرغم من أن الإمام الغزالي اعتبره (أعظم أصول الدين) فظلَّ أصلا نظريا أو مسلّمة عقدية نابعة من مبدأ وحدة الجماعة وعصمتها([2])

الإجماع كنص ديني ثابت:

وعلى هذا الأساس فإن المشكل المحوري الذي طرح نفسه هو تأسيس حجية الإجماع فقد كان على العلماء المشتغلين بأصول الفقه أن يبرهنوا على أن الإجماع يستند إلى النصين التأسيسيين من قرآن وسنة، فحسب العقيدة الإسلامية لا شيء يمكن أن ينظر إليه على أنه صالح وملزم إن لم يكن مؤسسا بشكل أو بآخر على هذه المصادر، وعدم تأسيس الإجماع على هذه النصوص يعد خطرا فهو يعني أن هؤلاء الفقهاء الذين ساهموا في صياغة الإجماع كانوا يشرعون الأحكام للأمة بأنفسهم. غير أن الفقهاء لم تمنح لهم سلطة إصدار الأحكام وإنما هم وباقي الأمة مجرد بشر خاضعين للرحمة الإلهية وهذه الرحمة تظهر في حقيقة الوحي. ([3])

ومن الواضح أن الشافعي نفسه قد انتبه إلى هذه الإشكالات، فراح يؤسس حُجية الإجماع على القرآن بنحو ما رُوي عن المزني والربيع: كنا يوما عند الشافعي، إذ جاء شيخ، فقال له أسأل؟ قال الشافعي: سل. قال أيش الحجة في دين الله؟ فقال الشافعي: كتاب الله قال: وماذا؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: ومن أين قلت اتفاق الأمة من كتاب الله؟، فتدبر الشافعي (رحمه الله) ساعة. فقال الشيخ أجلتك ثلاثة أيام فتغير لون الشافعي، ثم إنه ذهب، فلم يخرج أياما. قال: فخرج من البيت [ في ] اليوم الثالث، لم يكن بأسرع أن جاء الشيخ فسلم، فجلس، فقال: حاجتي؟ فقال الشافعي ( رحمه الله ): نعم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} لا يصليه جهنم على خلاف [سبيل] المؤمنين، إلا وهو فرض قال: فقال: صدقت وقام وذهب. قال الشافعي: قرأت القرآن في كل يوم وليلة ثلاث مرات حتى وقفت عليه”([4])

وإذ يبدو أن هذه الآية التي تم الإستدلال بها هى آية ذات سياق خاص يتباين بالكلية مع ما أراد الشافعي تثبيته والإحتجاج به، فهذه الآية هى خطاب للكفار والمشركين الذين كذبوا النبى (ص)، ولم يتبعوه، وذلك على النحو الذى أقره الطبرى فى تفسيره أنها  “نزلت في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الأبيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدًّا، مفارقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه” ([5])

وهذا ما جعل بعض علماء السنة كإمام الحرمين “الجوينى” و”أبو حامد الغزالى”، يجعلوا الإستدلال بهذه الآية هو استدلال ساقط على حد تعبير الجوينى، الذى يقول: “أوجه سؤالاً واحداً يسقط الإستدلال بالآية، فأقول: إن الرب تعالى أراد بذلك من أراد الكفر، وتكذيب المصطفى (ص)، والحيد عن سنن الحق…، فلا يبقى للمتمسك بالآية إلا ظاهرٌ معرض للتأويل، ولا يسوع التمسك بالمحتملات فى مطالب القطع” ([6])، ويقول الغزالى هى “كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل أيضاً على دلالة الظواهر” ([7])

وبجانب ذلك فقد استدل الشافعى، فى اثبات حجّية الإجماع ببعض الأخبار المنسوبة إلى الرسول (ص)، فقال: “فإن قال قائل: فهل من شيء يدل على ذلك وتشده به? قيل: “أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسارٍ عن أبيه:” أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله قام الله فينا كمقامي فيك، فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا فمن سره بحبة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجلٌ بامرأةٍ، فإن الشيطان ثالثهم، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن”([8])

وقد تتفاوت هذه الأخبار من حيث القوة والضعف، وهذا ما جعل الجوينى لا يتمسك بها، فيقول: “فإن تمسك مثبتوا الإجماع بما روى عن النبى (ص) أنه قال: “لا تجتمع أمتى على ضلالة”، وقد روى الرواة هذا المعنى بألفاظ مختلفة، فلست أرى للتمسك بذلك وجهاً، لأنها من آخبار الآحاد، فلا يجوز التعلق بها فى القطعيات، ولا حاصل لقول من يقول: هذه الأحاديث متلقاه بالقبول، فإن المقصود من ذلك يؤول إلى أن الحديث مجمع عليه، وقصاراه إثبات الإجماع بالإجماع، على أنه لا تستبت هذه الدعوة أيضاً مع اختلاف الناس فى الإجماع، ثم الأحاديث متعرضة للتأويلات القريبة المأخذ الممكنة، فيمكن أن يقال قوله “لا تجتمع أمتى على ضلالة” بشارة منه، مشعرة بالغيب، فى مستقبل الزمان مؤذنة بأن أمته عليه السلام لا ترتد إلى قيام الساعة، وإذا لم يكن الحديث مقطوعًا به نقلًا، ولم يكن فى نفسه نصًا، فلا وجه للإحتجاج به فى مظان القطع” ([9])

الإجماع الأصل الدلالي للسنة:

لم يكتف الشافعى باعتماده على القرآن في تأسيسه للسنة كنص قطعي الثبوت قطعي التشريع، ([10]) فإنه لجأ كذلك للإجماع لتأكيد هذا الإثبات فالإجماع -بحسب ما أقر- لا يكون أبدًا إلا عن سنة ثابتة سواء هذه السنة خبر العامة، أو خبر الخاص فيقول: فقال لي قائل: قد فهمت مذهبك في أحكام الله ثم أحكام رسوله وأن من قبل عن رسول الله فعن الله قبل بأن الله افترض طاعة رسوله وقامت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم كتابا ولا سنة أن يقول بخلاف واحد منهما وعلمت أن هذا فرض الله. فما حجتك في أن تتبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله ولم يحكوه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ أتزعم ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبدا إلا على سنة ثابتة وإن لم يحكوها؟

قال: فقلت له: أما اجتمعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله فكما قالوا، إن شاء الله. ما ما لم يحكوه فاحتمل أن يكون قالوا حكاية عن رسول الله واحتمل غيره ولا يجوز أن نعده له حكاية لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعا ولا يجوز أن يحكي شيئا يتوهم يمكن فيه غير ما قال. فكنا نقول بما قالوا به اتباعا لهم. ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم وقد تعزب عن بعضهم. ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف لسنة رسول الله ولا على خطأ، إن شاء الله” ([11])

وبالتالى فمن خلال أن الإجماع لا يكون أبدًا إلا عن سنة ثابتة وإن لم ينطقا بذلك، فهو بذلك يثبت الإجماع بثبوت السنة من جهة، ويثبت السنة بثبوت الإجماع من جهة أخرى، فحجّة الإجماع وقوة إلزامه إنما تؤسس على السنة، وحجّة السنة وقوة إلزامها إنما تؤسس بدورها على الإجماع.

وبهذا يكون الإجماع على حد تعبير إمام الحرمين “الجوينى” ليس حجة قاطعة فى ذاته، وإنما هو حجة قاطعة طالما أنه مستندٌ إلى حجة قاطعة بالضرورة ألا وهى “السنة”، فيقول: “الإجماع عصام الشريعة وعمادها، وإليه إستنادها، الإجماع حجة قاطعة، لأن العلماء إذا أجمعوا على حكم، فإذا ألفنياهم قاطعين بالحكم، لا يرجعون فيه رأياً، ولا يرددون قولاً، فنعلم قطعاً أنهم أسندوا الحكم إلى شيء سمعى قطعى عندهم، فإن ذا التحصيل لا يطمع فى كون إجماع الناس حجة لعينه، وإنما المطلوب المكتفى به إستناده إلى حجة” ([12])

وإذ يبدو هكذا أن هذا لم يكن المقصد الكلي الذي يرمى إليه الشافعي، وهو إثبات وقوع الإجماع، وكذلك السنة، إذ لم تكن الإشكالية فى حصول الإجماع ووقوعه كالإجماع فى بعض القضايا الإجتماعية والشئون السياسية وهذا ما عبر عنه الشافعى بقوله: “أجمع المسلمون على أن يكون الإمام واحدا والقاضي واحدا والأمير واحدا”. وهو ما عبر عنه “رضوان السيد” بالأصل السياسي للإجماع.

إقرأ أيضاً: الاجتهاد والحضور في العالم

وكذلك السنة التي ربما كان من دواعى تدوينها عوامل اجتماعية وسياسية، إذ لما انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وحدثت الفتن واختلاف الآراء، وكثرت الفتاوى، أخذوا في تدوين وجمع الحديث، وذلك على النحو الذى أقر به ابن حجر بقوله: “اعلم علمنى الله وإياك أن آثار النبى (ص) لم تكن فى عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة فى الجوامع…، ثم حدث فى أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء فى الأمصار وكثر الإبتداع من الخوارج والروافض ومنكرى الأقدار، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح160ه، وسعيد بن أبى عروبة 156ه، وغيرهما” ([13]).

ولكن الإشكالية تكُمن بالطبع فى كيفية تحويل الدلالة القائمة على ذلك الإجماع وتلك السنن من دلالة الإجتماعي السياسي إلى دلالة التشريع الدينى، فالإجماع وفقًا للشافعي لا يكون أبدًا عن رأى، وإنما على سنة مجتمع عليها، فيقول: “ما اجتمع المسلمون عليه وحكوا عمن قبلهم الاجتماع عليه وإن لم يقولوا هذا بكتاب ولا سنة فقد يقوم عندي مقام السنة المجتمع عليها وذلك أن إجماعهم لا يكون عن رأي لأن الرأي إذا كان تفرق فيه” ([14]).

وإذا حصل هذا الرأى وهذا “الإجتهاد” لا يكون هو كذلك إلا عن كتاب أو سنة أو إجماع، فيقول: “ليس لي ولا لعالم أن يقول في إباحة شيء ولا حظره ولا أخذ شيء من أحد ولا إعطائه إلا أن يجد ذلك نصا في كتاب الله أو سنة أو إجماع أو خبر يلزم فما لم يكن داخلا في واحد من هذه الأخبار فلا يجوز لنا أن نقوله بما استحسنا ولا بما خطر على قلوبنا ولا نقوله إلا قياسا على اجتهاد به على طلب الأخبار اللازمة ولو جاز لنا أن نقوله على غير مثال من قياس يعرف به الصواب من الخطأ جاز لكل أحد أن يقول معنا بما خطر على باله ولكن علينا وعلى أهل زماننا أن لا نقول إلا من حيث وصفت” ([15])، “فلا يكون الإجتهاد إلا لمن عرف الدلائل عليه من خبر لازم كتاب أو سنة أو إجماع” ([16])

ومن ذلك ينقد الشافعى الإستحسان، إذ “أنكره هو وأصحابه، وكفروا أبا حنيفة فى القول به تارة، وبدّعوه أخرى، وقد قال به مالك، ومنقسماً أقساماً، فمنه ترك الدليل للمصلحة، ومنه ترك الدليل للعرف، ومنه ترك الدليل لإجماع أهل المدينة، ومنه ترك الدليل للتيسر لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق” ([17])

فالإستحسان بما أنه اجتهاد قائم على المصلحة والعرف، وفقًا لمقتضيات الواقع الإجتماعى، فهو على حد تعبير الشاطبى “الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي” ([18])، لذلك أنكره الشافعى وفقاً لما أقره فى كتابه “إبطال الإستحسان”، فيقول: “لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكما أو مفتيا أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم وذلك الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا لا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان” ([19])

وينقد كذلك “إجماع أهل المدينة”، لأنه إجماع ليس قائم على خبر للرسول (ص)، بل إجماع قائم على الإجتهاد والمصلحة التي تتوافق مع عمل أهل المدينة، فمالك كان لا يأخذ بالسنة إلا التي كانت معمولا به فى واقع المدينة، ولا يأخذ بها كذلك إلا إذا عاضد هذه السنة إجماع أهل المدينة، فالسنة لدى مالك أو -بالأحرى قبل الأصول- كانت سنة ذات أبعاد إجتماعية وثقافية محددة، تدور فى فلك الواقع الإجتماعي، وهذا المعيار الذى وضعه مالك، أى “عمل أهل المدينة وإجماعها”، والذى على أساسه كان يتخير السنة التى يؤخذ بها، كان نتيجة للإشكاليات التى صاحبت السنة خاصة إشكالية الثبوت، فكان مالك يدرج الأحاديث المتباينة مع بعضها البعض، وترك الباب مفتوحاً للإجتهاد والمصلحة والعرف، وهذا التباين والإختلاف بين الأحاديث الذي عابه الشافعى على مالك، لأنه أدرج هذه الأحاديث دون محاولة للتوفيق بينها، كما حاول الشافعى بإستخدامه آلية “الناسخ والمنسوخ”، وفى هذا الشان يقول منتقدًا مالك: “إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نترك لرسول الله حديثا أبدا إلا حديثا وجد عن رسول الله حديث يخالفه، وإذا اختلفت الأحاديث عنه فالاختلاف فيها وجهان: أحدهما أن يكون بها ناسخ ومنسوخ فنعمل بالناسخ ونترك المنسوخ، والآخر أن تختلف، ولا دلالة على أيها الناسخ فنذهب إلى أثبت الروايتين فإن تكافأتا ذهبت إلى أشبه الحديثين بكتاب الله وسنة نبيه” ([20])

ويوضح الرازى جملة الإعتراضات التي قدمها الشافعى لمالك، فيقول: حاصل هذه الإعتراضات يرجع إلى حرفين، الإعتراض الأول: أن مالكًا يروى الحديث، ثم يترك العلم به، وهذا يقتضى تقديم عمل علماء المدينة على قول الرسول (ص)، وإنه لا يجوز. والإعتراض الثانى: وهو أن مالكاً، إذا احتاج إلى التمسك بقول عكرمة: ذكره. وإذا لم يحتج اليه تركه، فهذا ان صح عن مالك، أورث ذلك طعنا فى روايته، وفى ديانته” ([21])

وبالتالي فالإجماع من هذا المعنى يكون نصًا دينيًا ثابت المعنى والدلالة أى “قطعي الدلالة” إذا صح التعبير، لأنه لا يكون حاصلًا أبدًا عن رأى أو اجتهاد نابع من تفاعل الجماعة مع واقعها الإجتماعى التاريخى، بل قائم على خبر “سنة” ثابتة عن الرسول (ص)، وكذلك السنة المجتمع عليها، بما فيها “خبر” الآحاد هى كذلك قطعية الدلالة بما أنها مؤسسه بالضرورة على الإجماع القطعي الدلالة.

وهكذا فقد كان كان همه المركزي الحصول على اليقين في مصادر التشريع وأدلته فتركت الوظائف التشريعية عنده في المصدرين الأولين، ووجد للمصدر الرابع وظائف تنظيمية علائقية، لكنه – بسبب من النظرة السالفة الذكر بالذات- ما استطاع أن يجد مكانا للإجماع في منظومته فاختلت فيها العلاقة ما بين الإلهي والإنساني، أو الموحى والتاريخ. وقد كان يمكن له أن ينكر الإجماع كما أنكر الاستحسان، غير أن هذا التصغير للدور الإجماعي ومكانه إن يكن قد أتى من جهة بسبب التوسّع في فهم دور السنة” ([22])

ومن ثمَّ فإذا كان الشافعى قد راح فى رسالته يؤكد على قطعية السنة من حيث الثبوت والتشريع على القرآن، فإنه مضى يؤسس قطعيتها من حيث الدلالة والمعنى على الإجماع، وبالتالى أضحى التفسير والمعنى الذى تقدمه السنة للقرآن تفسيرًا قطعيًا ثابتًا طالما أن هذا التفسير مجمع عليه إجماعًا قطعى كذلك، فهذا الإجماع أو بالأحرى السنة المؤسسَّة من قبل هذا الإجماع، هى النص الوحيد الذى يقدم الدلالة والتفسير الصحيح والنهائى والثابت للنص القرآنى، وبما يترتب على ذلك بالضرورة أن أهل السنة و أصحاب الحديث هما الجماعة الوحيدة التى تقدم ذلك التفسير القطعى الصحيح.

فإن ذلك يعنى أن الإجماع لا يكون فحسب على ما أجمع عليه السلف من نصوص وروايات ثابتة وصحيحة، بل ما أجمعوا عليه من تفسير ودلالة هذه النصوص هو كذلك ثابتًا وصحيحًا، إذ لا يقف الإجماع بهذا المعنى على تأسيس النص فحسب، بل يتعدى ذلك إلى مضمونه ودلالاته.

الإجماع كمفهوم معرفي:

قد تعارف الأصوليون إذا عدوا أصول الفقه أن يبدأ بذكر القرآن أولا والسنة ثانيا والإجماع ثالثا والقياس رابعا، وكذلك يبحثونها على هذا الترتيب لا نكاد نجد منهم من شذ عن هذا الوضع، ولهذا الترتيب الذي التزموه أسباب يذكرونها، فأما البداية بالقرآن لأنه أول أصول الشريعة وجودا، ولأنه في الشرع أصل مطلق من كل وجه وبكل اعتبار، ويليه السنة، ويليه الإجماع لتوقف موجبتيه عليهما، فهو كما يقول (الإسنوى) “فرع عنهما” وأخيراً القياس([23])، ولكن هل بالفعل الإجماع فرع فقط عن القرآن والسنة؟ بمعنى هل القرآن والسنة فقط هما مصدر الإجماع؟

لنأخذ مثلا قوله تعالى “فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث…..” “النساء 11″، أقر المفسرون بالإجماع في هذه الآية أن للأم ثلث ما بقى بعد إخراج نصيب الزوج، وليس ثلث ما ترك كما عند (ابن عباس)، والغريب فى هذه الآية على وجه الخصوص، أن لا القرآن ولا السنة أثبتوا أن للأم ثلث ما بقى، فظاهر القرآن لا يشتمل على لفظ ثلث ما بقى، وهذا ما عبر عنه ابن عباس بقوله “لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقى”، ولا نجد حديث يثبت ذلك الأمر أيضًا، فإلى أى شيئ إستند المفسرون ليجمعوا بأن للأم ثلث ما بقى؟

لقد إستند المفسرون فى إجماعهم بأن للأم ثلث ما بقى، إلى رأى (زيد بن ثابت)، بحسب ما  روى عن عكرومة قال: أرسل بن عباس إلى زيد بن ثابت فسأله عن إمرأة تركت زوجها وأبويها، قال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقى، فقال: أتجده فى كتاب الله، أو تقوله برأى؟ قال: أقوله برأى، لا أفضل أما على أب” ([24])

وذهب المفسرون والفقهاء إلى قول “زيد بن ثابت”، والعدول على قول “ابن عباس”، وذلك على النحو الذى أقره القرطبى لأن “هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال، وللأب ما بقي وهو السدس، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل. وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم، وبخس الأب حقه برده إلى السدس؛ فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد” ([25])

 ومن ثمَّ فهو إجماع نابع عن إجتهاد بشري لأحد الصحابة، وقد أخذ المفسرون بهذا الرأى وذلك الإجتهاد لأنه يتوافق مع واقعهم الإجتماعى، ومن هنا لم ينطلق المفسرون والفقهاء من النص القرآني بل انطلقوا من المجتمع ذو الثقافة الأبوية الذكورية التي تأبى أن يكون للمرأة نصيب أعلى من الرجل، فكانت تلك الثوابت الثقافية هي المحرك الأساسي الذي ينطلق منه المفسرين وكانت هي المرتكز الذي يفسرون على أساسه النص القرآني. لا سيمَّا يعلل (ابن العربى) لماذا يكون نصيب الأب أعلى من الأم فى جميع الحالات التى تشير إليها الآية السالفة، فيقول: “فإن عدم الولد فَضَلَ الأب الأم بالذكورة والنصرة ووجوب المؤنة عليه، وثبتت الأم على سهمٍ لأجل القرابة” ([26])

فإن ذلك يعنى أننا هنا إزاء إجتهاد ورأى لأحد الصحابة لا يستند إلى أى نص دينى، وإنما يستند بالأحرى على واقع إجتماعى مشروط بثقافة محددة، ومن ثم فنحن هنا إزاء إجتهاد قد تم الإجماع عليه.

ومثالا آخر يتعلق بدية المرأة، فقد أجمع الفقهاء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وذلك باستثناء الأصم وابن عطية إذ قالوا: ديتها مثل دية الرجل، حجة الفقهاء أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك، ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل، فكذلك في الدية. وحجة الأصم قوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية” ([27])

لقد شرع قوله تعالى فى حد القصاص فى القتل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ..} (البقرة: 178)، ولئن كان السبب في تشريع هذه الآية هى المساواة بين الناس جميعًا فى القصاص فى القتل، “لأن المعتبر في القصاص المساواة، ولهذا سمي قصاصا مأخوذ من قول القائل التقى الدينان فتقاصا أي تساويا أصلا ووصفا” ( )، وكذلك فى الدية فى قوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) (النساء: 92)، وقد أقر الفقهاء بالفعل على المساواة بين الرجل والمرأة فى القصاص، وذلك لما أقرته آية القصاص، إلا انهم قد ميزوا بينهم فى الدية، بحسب ما اقره الشافعى بقوله: “ولم أعلم ممن لقيت مخالفا من أهل العلم في أن الدمين متكافئان بالحرية والإسلام فإذا قتل الرجل المرأة عمدا قتل بها وإذا قتلته قتلت، ولا يختلفان في شيء إلا في الدية فإذا أراد أولياؤها الدية فديتها نصف دية الرجل“([28])

وعلى الرغم من اعتماد كلا من الأصم وابن عطية على القرآن فى تأسيس المساواة فى الدية بين الجنسين إلا أن الإجماع قد صار على التمييز بينهم فى ذلك لعدة عوامل اجتماعية وذلك على النحو الذى أقره ابن القيم تحت باب الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض بقوله: “وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة، وأما الدية فلما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية وهي الدية فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما” ([29])

وإذا كان حجة الفقهاء فى إجماعهم على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، مستند على إجماع الصحابة، فهذا الأخير إنما يؤسسة الرأى والإجتهاد.

ويبقى السؤال والإشكال وهو إذا كان الإجماع هو إجتهاد بشرى نابع من ثقافة مجتمع المفسرون أنفسهم، فلماذا يظل هذا الإجماع حُجة دينية ثابتة إلى الآن؟! خاصة مع اختلاف القدماء أنفسهم، علاوة على وضعهم قاعدة “لا إجماع مع مخالفة الواحد أو الأنثين”، فهل علينا أن نقبل إجتهادات هؤلاء وتفسيراتهم باعتبارهم ناطقين رسميين لله عز وجل؟! بل وحصر تلك التفسيرات فى معنى واحد ثابت ونهائي على الرغم من التعددية وإختلاف الآراء بينهم.

 

قائمة المراجع:

[1])انظر، مقاصد الشرع ومحاولات تجديد المنظومة الأصولية إعداد : د. عبد الله السيد ولد أباه

حيث اختلف الأصوليون في تعريف الإجماع اختلافًا كثيرًا تبعًا لاختلافهم في كثير من مسائل الإجماع المتعلقة بأركانه وشروطه وأحكامه. فمن ذلك ما عرفه بأنه “اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه السلام في عصر من العصور على أمر أو حكم شرعي”، ومنهم من يعرف المجتهد أنه (الفقيه)، وبعض الأصوليين يضع بدل كلمة المجتهد (علماء الأمة) وبعضهم يقول أنه أهل الحل والعقد. انظر، على عبد الرازق، الإجماع فى الشريعة الإسلامية، دار الفكر العربي، ص 9

[2]) انظر، مقاصد الشرع ومحاولات تجديد المنظومة الأصولية إعداد : د. عبد الله السيد ولد أباه

[3]) انظر، حمادي ذويب، تأسيس سلطة الإجماع، مركز ابن غازي للأبحاث.

[4]) انظر، الشافعى، أحكام القرآن، وقد صار بعض العلماء على نهج الشافعى فى الإستدلال على حجية الإجماع من القرآن، فنجد أبو بكر الجصاص، يستدل بجانب الآية السالفة ببعض الآيات الأخرى كقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاۗ..} (البقرة: 143)، فيقول: هذه الآية دالة على حجة الإجماع من وجهين: أحدهما قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} والوسط العدل فى اللغة، يعنى هم عدول. فلما وصف الله تعالى الأمة بالعدالة اقتضى ذلك: قبول قولها وصحة مذهبها، والوجه الثانى: قوله تعالى: {لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًاۗ..}، فجعلهم شهداء على من بعدهم، كما جعل الرسول شهيداً عليهم، ولا يستحقون هذه الصفة إلا وقولهم حجة، وشهادتهم مقبولة…”، ودليل آخروهو قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..} (آل عمران: 110)، فشهد للأمة بهذه الخصال، ولو جاز إجماعهم على الخطأ لما كلنوا بهذه الصفة، ولكانوا قد أجمعوا على المنكر، وتركوا المعروف، وقد أمننا الله عن وقوع ذلك منهم، بوصفه إياهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر”، ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (لقمان: 15)، وفى الأمة لا محالة من أناب إليه فوجب اتباع جماعتها” انظر، الفصول فى الأصول” .

[5]) الطبرى، جامع البيان عن تأويل آى القرآن، سبق ذكره، ج9، ص204، 205.

[6]) الجوينى، البرهان فى أصول الفقه، دار الكتب العلمية، ج1، ص262

[7] ) انظر، المستصفى، دار الحديث، ج1، ص428

[8]) الشافعي،  الرسالة، سبق ذكره

[9]) الجويني، البرهان فى أصول الفقه، ج1، ص262، ولكن ليس معنى ذلك أن الجوينى لم يعتبر الإجماع حجة، بل الإجماع على حد قوله هو “عصام الشريعة وعمادها”، إذ أنه ليس حجة فى ذاته، إنما هو حجة قاطعة لإستناده على حجة قاطعة بالضروة كما سنبين، وهذا ما أدركه سابقه الشافعى كذلك وحاول تأكيده.

[10]) انظر، أسماء العماوي، السنة وإشكاليات التأسيس، مؤسسة مؤمنون بلا حدود

[11]) الشافعى، الرسالة، سبق ذكره، ص 371، 472

[12]) إمام الحرمين الجوينى، البرهان فى أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م، ج1، ص263، 264

[13]) ابن حجر العسقلانى، هدى السارى مقدمة فتح البخارى، ت: محمد فؤاد عبد الباقى، محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، ص6

[14]) الأم، ج9، ص276

[15]) الأم، ج9، ص263

[16]) الأم، ج9، ص264

[17]) ابن العربى، المحصول فى أصول الفقه، ت: حسين على البدرى، سعيد عبد اللطيف فودة، دار البيارق للنشر والتوزيع، بيروت، ص131

[18]) الشاطبى، الموافقات، مصدر سابق

[19]) الشافعي، الأم، مصدر سابق

[20]) الأم، سبق ذكره، ج9، ص80

[21]) الرازى، مناقب الشافعى، ص54، وإذ يبدو أن الرازى قد راح يدافع عن مالك وعلم أهل المدينة وإجماعهم، فقد رد الإعتراض الأول بقوله: “ولمالك أن يجيب عنه، فيقول: هذه الأحاديث ما وصلت إلينا إلا برواية علماء المدينة، فهؤلاء

[22]) رضوان السيد: الشافعي والرسالة: دراسة في تكون النظام الفقهي في الإسلام، الاجتهاد، العدد 9، خريف 1990 ص100.

([23]) على عبد الرازق، السابق، ص6

([24] ) القرطبى، سبق ذكره، ص 95

[25]) القرطبى، سبق ذكره، ج5، ص50، 51

[26]) ابن العربى، أحكام القرآن، سبق ذكره، ج1، ص457

 ( ([27]فخر الدين الرازى، مفاتيح الغيب،

[28]) الشافعى، الأم، ج7، ص253

[29]) ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار ابن الجوزى، ج1، ص435، 436

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete