الإسرائيليات وحركة التثّاقف في الفكر الإسلامي

  • تثاقف أم مؤامرة؟

في كل الثقافات وكل الأديان والمذاهب والطوائف والمدارس الفكرية توجد حركة تثاقف بنسبة معينة، وحينما نتحدث عن حركة التثاقف، فإننا نقصد ما كان يسميه دنيس كوش[1] بظواهر التماسّ بين الثقافات، إنها حركة طبيعية خاضعة للسيرورة الاجتماعية، كما تخضع لمتطلبات التواصل والاحتكاك الحضاري بين الشعوب والأفكار والثقافات. وبما أن الساحة الإسلامية لم تكن ساحة مقفلة على ذاتها، بفعل الاحتكاك الحضاري والتواصل مع أمم أخرى، وكذلك بفعل الحركات التوسعية للمسلمين في اتجاه مسالك حضارية متنوعة، فإن من شأن هذا التداخل أن يحدث هذا النوع من التماس والاحتكاك الثقافي. لكن المشكلة ليست في حجم حركة التثاقف التي عرفتها المجتمعات الإسلامية في الصدر الأول، بقدر ما هي في طريقة التعاطي مع هذه الأشياء بعقلية مؤامراتية تستحضر البعد الدراماتيكي في إنتاج مخزون يعطي للأشياء أبعادا، لم تدَر ربما حتى في خلد من أنتجوا هذا الكم الهائل من الإسرائيليات، وأقحموها بشكل أو بآخر ضمن التراث الإسلامي، والفكر الديني.

هذا المنظور يمكن أن يلتبس بنوع من أحكام القيمة، التي تفقد الباحث التعاطي الجاد مع هذا الموروث، وتجعله ينكر بعض ما قد يكون أثراَ من آثار التداخل والتماسّ الثقافي. فالإسلام لم يكن منعزلا عن محيطه الفكري والثقافي، والمسلمون لم ينشؤوا من فراغ، فقد كان منهم اليهودي والمسلم والصابئي والحنفي والمجوسي قبل أن يتحولوا إلى دين الإسلام، وبالتالي فمن الصعب أن يتحركوا من دوائر فارغة، بل سيفسرون ويحللون ويفهمون الدين الجديد وفق مسبقاتهم ومعارفهم ومداركهم. ولكي يجدوا لها السند والشرعية، والأحقية والجدارة والاستحقاق الفكري، فلا بد من نسبتها إلى النبي محمد، خاصة في ظل سيادة ثقافة روائية من الصعب التأكد من صحتها إلا في حدود القواعد والمسلمات التي جاء بها علماء الحديث والجرح والتعديل.

إن النظر إلى التماسّ الثقافي وحركة التثاقف على أنها جزء من مؤامرة كبرى قادها اليهود واليهودية ضد الإسلام، تشبه تلك النظرية التي ترى بأن حركة التمازج الثقافي نوعا من الهجانة البيولوجية، بصفتها ظاهرة سلبية، أو مرَضية في بعض الأحيان، لهذا سعت الأنثروبولوجيا الدينية دوما إلى أن تكون محايدة في قراءة بعض الظواهر الثقافية، فهي حينما تصف الشيء بأنه ينتمي إلى إسرائيليات فهي تحمِّل المصطلح محتوى وصفيا خالصا، لا يفترض موقفا مبدئيا من الظاهرة، أو الشيء المدروس.

إذن كيف تحكمت اليهودية والمسيحية في النسق الفكري الإسلامي؟

طبيعي أن الديانتين اليهودية والمسيحية قد سبقتا الإسلام بقرون طويلة، وبالتالي كان المجتمع العربي مهيأ لفهم مجموعة من العقائد والشرائع والمعاملات وفق المتاح ثقافيا، ونحن نعرف أن المجتمع المكي والمديني كان فيه تواجدا مهمّا ليهود ومسيحيين وأحنافا من بقايا الإبراهيمية الأولى. ولا ضير أن يفرز هذا الواقع تداخلا وتماسّاً بين كل المكونات الثقافية، لينصهر الكل في بوتقة واحدة، انتصرت فيها الرؤيتين اليهودية والمسيحية، من خلال الكم الهائل من الروايات ذات البعد الديني اليهودي والمسيحي من كل النواحي.

ما الإسرائيليات؟

تُعرَّف الإسرائيليات بمعنى الأخبار الواردة عن أهل الكتاب عموما، والتي ضمَّنها الرواة أحاديثهم ونسبوها إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، في حين أنَّ مصدرها توراتي أو إنجيلي. وفي هذا يقول محمد حسين الذهبي:” ولفظ الإسرائيليات وإنْ كان يدلّ بظاهره على القصص الذي يروى أصلا من مصادر يهودية- يستعمله علماء التفسير والحديث ويطلقونه على ما هو أوسع وأشمل من اّلقصص اليهودي. فهو في اصطلاحهم يدلّ على كلّ ما تطرّق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة منسوبة في أصل روايتها إلى مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما، بل توسّع بعض المفسرين والمحدثين فعدُّوا الإسرائيليات ما دسّه أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم على التّفسير والحديث من أخبار لا أصل لها في مصدر قديم، وإنّما هي أخبار من صنع أعداء الإسلام صنعوها بخبث نية، وسوء طوية، ثم دسّوها على التفسير والحديث، ليفسدوا بها عقائد المسلمين، كقصة الغرانيق، وقصة زينب بنت  جحش، وزواج النبي منها[2].

فالتّعريف السّابق كما رأينا يُحيلنا إلى أنّ المقصود الحقيقي من الإسرائيليات هو كلّ الروايات الدّخيلة على الإسلام وعقيدته سواء في مجال التفسير أو مجال الحديث. وتحمل تصوّرات أو عقائد أو أفكار مغايرة للنّسق الفكري والديني، وهذا ما أشار إليه محمود أبو رية أيضاً وغيره ممّن اشتغل على نقد الموروث الدّيني خاصّة جانب علم الحديث.[3] وهنا يطالعنا السّؤال الحقيقي لبروز هذه الروايات بوصفها تعبيرا عن واقع التثاقف الذي أشرنا إليه سابقا في الواقع الإسلامي: كيف وصلت الروايات الإسرائيلية إلى قلب الدّين الإسلامي؟ فنلخص إجابتنا في بعض ملامح الإشكال فيما يلي:

  • التثاقف بين المسلمين وأهل الكتاب: كان هناك تواجد كبير خاصة في المدينة للقبائل اليهودية، وبعد انتشار الإسلام في المناطق التي كانت تحت حكم اليهود والنصارى، أصبح هناك تفاعل بين هذه المكونات الثقافية، خاصة أن القرآن الكريم تحدث عن أنبياء بني إسرائيل. وفي الكثير من الأحيان، لم يكن يقدم التفاصيل الدقيقة حول بعض القصص، بل ترك فراغات وبياضات كان العقل المسلم يسعى إلى ملئها بالمتاح الثقافي حينذاك. لهذا لجأ المسلمون بمن فيهم الصحابة والتابعين الذين اعتنقوا الإسلام من الديانات السابقة، إلى كتب أهل الكتاب للحصول على مزيد من التفاصيل.
  • روايات الصحابة والتابعين: من أبرز الشخصيات التي لعبت دورًا في نقل الإسرائيليات إلى الإسلام كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وهما يهوديان اعتنقا الإسلام في عهد النبي محمد، وقد كان كعب الأحبار عالمًا يهوديًا، عرف عليه رواية الكثير من القصص التوراتية إلى المسلمين، وغالبًا ما استُشهد به في التفسير. كذلك عبد الله بن سلام كان له دور مشابه.
  • التأثر بالبيئة الثقافية: من الطبيعي أن يتأثر المسلمون بالبيئة التي يعيشون فيها، خاصة في المناطق التي كانت تعج باليهود والنصارى. فالمسلمون كانوا يلتقون مع أهل الكتاب في الحياة اليومية، وكان هناك نوع من الحوار الثقافي والديني بينهم. هذا الحوار ساهم في نقل بعض الأفكار والمفاهيم من التوراة والإنجيل إلى الفكر الإسلامي.
  • الترخيص بنقل الروايات عن أهل الكتاب: وهذا الأمر فيه نوع من الالتباس، إذ هناك من روى عن النبي محمد أنه قال: “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج”. وقد فهمها بعض المسلمين على أنها نوع من الإجازة والإباحة لنقل الروايات اليهودية أو المسيحية طالما أنها ليس هناك ما يناقضها من القرآن الكريم.
  • ظهور حركة الوضع في الحديث: والمقصود بالوضع هناك تلك الحركة التي ساد فيها الاختلاق والتشويه والتزوير في الروايات المختلفة، حيث عرف التاريخ أشخاصا يقومون بدور اختلاق أحاديث ونسبتها إلى النبي لأغراض سياسية أو دينية. وانطلاقا من هذا الوضع الثقافي تم إنشاء العديد من الروايات الإسرائيلية ووضعها في كتب الحديث والتفسير بهدف ملء الفراغات الحاصلة في بعض القصص الديني تحديدا.

إضافة إلى ما سبق يمكننا إضافة العامل السّياسي، فلقد استحكمَت في تلك المرحلة إيديولوجية الدّولة بما يسمح بتمرير معتقدات وتصوّرات تزكّي الإيديولوجية الحاكمة،ّ بغض النّظر عن صحتها من بطلانها. لقد أرجع الباحثون في هذا المجال، ومن اشتغل على نقد الموروث الدّيني في شقّه الروائي أصل هذه الروايات إلى مجموعة من الأشخاص الذين دخلوا الإسلام من ديانات سابقة، وروى عنهم بعض الصحابة كأبي هريرة وغيره.

لقد أشار بوهندي إلى ما يؤكّد فرضية تعدّد مصادر أبي هريرة، وهي خروجه إلى الطور. فحسب بوهندي قد التقى أبو هريرة بكعب الأحبار، وهي شخصية معروفة في التّاريخ الإسلامي بنقلها لأخبار أهل الكتاب. فمن هو يا ترى كعب الأحبار؟؟. هنا نستلهم ما قاله الدّكتور إسرائيل أبو ذؤيب عن حياته:” تتّفق جميع المصادر العربية على أنّ كعب الأحبار بن ماتع المكنّى أبا إسحاق كان يهوديا من حِمْيَر باليمن، وكلمة ماتع ليست من الأعلام المألوفة. أمّا لفظ كعب فمن الأعلام العربية التي كانت مألوفة عند يهود بلاد العرب. أمّا لفظ الأحبار فهو لفظ يطلق في بلاد العرب على العالم اليهودي “[4].

فرواية مالك عن أبي هريرة تؤكّد هذا اللّقاء حيث يقول:” خرجتُ إلى الطُّور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “. فاللقاء الأخير وهو شهادة من أبي هريرة على نفسه تطرح مجموعة من علامات الاستفهام حول ماهية هذا الخروج وسببه، ولماذا يضطرّ أبو هريرة إلى هذا السفر. فهل كان طالباً لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أم طالباً لعلم أخبار أهل الكتاب؟[5].

لقد كانت هذا الرّحلة إيحاء من أبي هريرة بضرورة شدّ الرِّحال إلى معابد اليهود، وأحبارهم، فيكون بذلك هو الواسطة، أو جسر العبور الذي من خلاله تمّ تمرير الثقافة الكتابية في شِقَّيها اليهودي والمسيحي إلى الثقافة الإسلامية، لغرض في نفس أبو هريرة قد قضاه. فبالرّغم من اعتراض بصرة بن أبي بصرة على أبي هريرة وسفره إلى الطُّور، إلا أنّه استطاع من خلال روايته أن يمرّر مجموعة من المؤشرات والدلالات التي تحتفي بقدسية المكان، والشخصية العالمة كعب الأحبار، وأسبقية الرواية الكتابية على ما هو موجود لدينا.

  • الإسرائيليات تشوه وجه النبوة: إبراهيم عليه السلام نموذجا:

إذا كانت الإسرائيليات جزءا من الثقافة الإسلامية، فإن الإشكال الذي يعترضنا هنا هو وجود العديد من القضايا والأفكار التي تحملها وتناقض القيم أو العقائد أو الأخلاق، وبالتالي فنحن أمام معضلة فكرية وثقافية تنسب إلى النبي محمد، مع أن امتداداتها التي يسفر عنها البحث هي امتدادات يهودية أو مسيحية. ولعل المثال الذي سنسرده الآن يجسد الحالة الفكرية التي تضعنا فيها بعض الروايات الإسرائيلية، حين يشوه وجه النبوة، وتعطى له دلالات قدحية دون أن يكون هناك قدرة على الدراسة والتمحيص، فليس كل ما نسب إلى النبي محمد، يمكن أن يكون صحيحا حتى لو صح في ميزان السند كما تعارف عليه المحدثون، فالرواية سند ومتن، وقد يصح السند ولا يصح المتن كما سنرى في الرواية التي سنجعلها منطلقا لنا في هذه الدراسة. وإذا كان إبراهيم عليه السلام يطرح في المنظور القرآني بأنه أبو الأنبياء وصدّيقهم، فإن هذه الرواية كشفت عن جانب آخر من الجوانب التي تهدم هذه الصورة المثلى، وتناقض المبادئ الإسلامية المتعارف عليها.

في صحيح مسلم:” عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة فإنّه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن النّاس فقال لها إنّ هذا الجبار إنْ يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك فإنْ سألك فأخبريه أنّك أختي فإنّك أختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار أتاه فقال له لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أنْ تكون إلاّ لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلمّا دخلت عليه لم يتمالك أنْ بسط يده إليها فقُبِضت يده قبضة شديدة فقال لها ادعي الله أنْ يطلق يدي ولا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين فقال ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أنْ لا أضرك ففعلت وأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له إنّك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرِجها من أرضي وأعطها هاجر قال فأقبلت تمشي فلمّا رآها إبراهيم عليه السلام انصرف فقال لها مهيم قالت خيرا كف الله يد الفاجر وأخدم خادما قال أبو هريرة فتلك أمّكم يا بني ماء السّماء “[6].

وقبل أن نتناول الرّواية بالتّحليل، ألفِتُ النّظر من جديد إلى أنّ القرآن لم يكن يوما أصلا معتمدا في البناء الروائي، ولكنه كان موظّفا بشكل من الأشكال كما سنرى لخدمة أغراض معينة، سيكشف التحليل عنها بمجرّد الدّخول في بنية الرواية السابقة. والرواية التي بين أيدينا أحد أهمّ الأدلّة على خطورة منهج التّجزيء والتّقسيم للنّصوص، مهْما كان انتسابها وقراءتها في سياقات مباينة لا تمتُّ لها بصلة. فباستخدام آلية التناقض الحاصل بين النظرية والتطبيق في هذه البنية نعالج مكونات هذه الرواية من خلال النقاط التالية:

  • صدّيق أم كاذب؟ !!!:

يمثل إبراهيم عليه السلام نموذجًا استثنائيًا في تاريخ الأديان والعقائد، فقد أثار إعجاب الجميع كونه نبياً ورمزاً للبحث عن الحقيقة. إبراهيم لم يكن نبيا فحسب، بل كان باحثاً عن الحقائق، وشخصية فكرية تميَّزت بالميل نحو الدليل والبرهان مهما كانت العواقب. هو الفتى الذي تحدى الثقافة الاجتماعية وكسر قواعدها، وهو الإنسان الذي لم يتردد في الهجرة بحثاً عن الحقيقة حين ضاقت به السبل. ومن خلال إصراره على البحث والاطمئنان القلبي، وضع إبراهيم أسس البحث العلمي الفعلي؛ فهو لم يكن يصدق أي أمر إلا إذا اطمأن قلبه به.

فكرة الإصلاح، وفقاً لإبراهيم، ليست تنظيراً فارغاً أو مثاليات عبثية، بل يجب أن يكون الإصلاح متجذراً في الواقع. لهذا السبب، لم تكن أبوّة إبراهيم عليه السلام للناس محصورة في مجرد علاقة بيولوجية، بل كانت أبوّة فكرية ومنهجية، تقوم على الصدق في القول والفعل. لقد بنى القرآن الكريم شخصية إبراهيم على أساس الصدق والنزاهة، وكان دائماً مثالاً يحتذى به في قول الحق والعمل به. هذا الصدق الشامل في التعامل مع النفس والآخرين، جعله نموذجًا مميزاً في التاريخ الديني والإنساني. كما أن القرآن أكد هذا المنهج الصادق في قوله: “واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً” و”ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل.” لكن، رواية أبي هريرة السابقة تطرح خطًا موازياً ومناقضا لهذا التصور القرآني، حيث تُنسب لإبراهيم ثلاث كذبات، وهو ما يناقض الصورة المثالية التي قدمها القرآن.

تُظهر الرواية أن إبراهيم كذب ثلاث مرات، وهو ادعاء يتم عبر تأويل وتجزئة النصوص القرآنية. فدعونا نلقي نظرة على ما اعتبرته الروايات “كذبات.” ووفقاً للمنظور القرآني، فإبراهيم هو مثال عن الإنسان الباحث عن الطمأنينة، ذلك الإنسان الجاد والمجتهد الذي لا يقنع إلا بما يمليه عليه ضميره وعقله، ومن يكن هذا حاله فمحال أن يكون كاذبا. فعندما تساءل عن كيفية إحياء الموتى، أو بحث عن الرب بين الكواكب والنجوم، كان ذلك جزءاً من رحلته الفكرية والعلمية. ففي الآية “فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم”، السقم هنا يُعبِّر عن حالة الباحث المتطلع إلى الطمأنينة النفسية، وهي حالة نفسية ممزوجة بعدم الرضا، وعدم الاستقرار النفسي، فهو توصيف صادق يكشف عن عمق النفسية التي كان ينظر بها إبراهيم النبي في ملكوت الله، حيث لا يشعر بالراحة والارتياح اتجاه كل المظاهر. لكن رواية أبي هريرة تعاملت مع هذه اللحظة ككذبة، وهو تأويل بعيد عن المعنى الأصلي للنص القرآني.

الكذبة الثانية المزعومة هي في قوله: “بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون.” هنا لجأ إبراهيم إلى تحطيم الأصنام ليضع قومه أمام الحقيقة، ويبيّن لهم من خلال الحجة العقلية ضعف آلهتهم الحجرية، فهل يمكن أن ينطق الصنم، بكل تأكيد لا، وإذا كان لا يستطيع ذلك فالأمر لا يستحق أن يكون إلها. فالذي لا يستطيع أن يرفع الضرر عن نفسه، لا يستطيع رده عن غيره. فالرواية تعاملت مع هذا الموقف على أنه كذب، في حين أن هذا الفعل كان جزءاً من مشروع إبراهيم الإصلاحي، لتبيان زيف عبادة الأصنام.

فإبراهيم لم يكن يوماً كاذباً، بل كان صادقاً مع نفسه ومع مجتمعه، وكان يسعى دائماً إلى الحقيقة حتى لو كلفه ذلك المعاناة أو الهجر. إن الكذب لا يبني شخصية مصلح أو قائد ديني، فلو كان إبراهيم كاذباً، لما تعرّض للاضطهاد أو عانى من الهجرة. إن الحقيقة هي التي جعلته مثالاً يُحتذى به على مرّ العصور. وفي النهاية، من يرغب في فهم شخصية إبراهيم بشكل أعمق، عليه أن يتأمل النصوص القرآنية ويطلع على مخطوطات قمران، التي تتماشى مع نفس الروح القرآنية في تقديم إبراهيم كنموذج للباحث عن الحقيقة.

  • هل سلم إبراهيم زوجته إلى الفرعون؟!!!:

أما الكذبة الثالثة حسب الرواية فهي التي قيل عنها: “وَقالَ بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي”.

هذه الرواية تتجاهل كما أكدنا سابقا أن نموذج إبراهيم كما طرحه القرآن الكريم هو نموذج محمل بالقيم بالنبيلة، لعل أهمها قيمة الصدق. وهذا ما أكد عليه القرآن، وأكدت عليه سيرته فيه. فقد روى القرآن أن إبراهيم كان صادقًا مع نفسه، وأنه لم يخشَ الملك الذي كان أمامه، وحاجه في إله وخالق الكون في الآية المشهورة، وجهر بالحق دون خوف أو مواربة، حتى بهت الذي كفر:” ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (سورة البقرة، الآية 258).”. إبراهيم، الذي هجر أباه ومجتمعه لعدم اقتناعه بما يؤمنون:” واذْكُرْ فِي الْكِتَـٰبِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ۝ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَا تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ۝ يَا أَبَتِ قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ۝ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيًّا ۝ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ۝ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ۝ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيٓ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ۝ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّيٓ عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا “. سورة مريم، الآيات 41-48.

فهل يقبل هذا النموذج الإنساني، الذي يتسم بالصلابة وصمود المواقف مهما كانت التحديات، أن يعطي زوجته لرجل غريب، متذرعًا بأنها أخته في الدين أو غيره كما تدّعي الرواية؟. يبدو أن الرواية تهدف إلى تمرير فكرة يهودية تتمثل في تسليم هاجر الجارية إلى سارة، وإثبات شرف النسل والعنصرية اليهودية التي ترفض أبناء العبيد. الرواية نفسها هي نص موجود في الكتاب المقدس، ولكن بصيغة إسلامية: ” “وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الْأَرْضِ، فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ، لِأَنَّ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْأَرْضِ. وَحَدَثَ لَمَّا قَرُبَ أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَ أَنَّهُ قَالَ لِسَارَايَ امْرَأَتِهِ: «إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ، فَيَكُونُ إِذَا رَآكِ الْمِصْرِيُّونَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذِهِ امْرَأَتُهُ، فَيَقْتُلُونِي وَيَسْتَبْقُونَكِ. قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ». فَحَدَثَ لَمَّا دَخَلَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ رَأَوْا الْمَرْأَةَ أَنَّهَا حَسَنَةٌ جِدًّا، وَرَآهَا رُؤَسَاءُ فِرْعَوْنَ وَمَدَحُوهَا لَدَى فِرْعَوْنَ، فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ. فَصَنَعَ فِرْعَوْنُ إِلَى أَبْرَامَ خَيْرًا بِسَبَبِهَا، وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأَتَانٌ وَجِمَالٌ. فَضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ. فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَبْرَامَ وَقَالَ: «مَا هَـٰذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟ لِمَاذَا لَمْ تُخْبِرْنِي أَنَّهَا امْرَأَتُكَ؟ لِمَاذَا قُلْتَ هِيَ أُخْتِي حَتَّى أَخَذْتُهَا لِي تَكُونَ زَوْجَتِي؟ وَالْآنَ هُوَذَا امْرَأَتُكَ، خُذْهَا وَاذْهَبْ». فَأَوْصَى عَلَيْهِ فِرْعَوْنٌ رِجَالًا فَشَيَّعُوهُ وَامْرَأَتَهُ وَكُلَّ مَا كَانَ لَهُ.” (سفر التكوين، 12: 10-20)

هل هذا هو النموذج الذي تبشّر به في الرواية؟ عمل لا يقوم به أبسط الناس، فكيف بمن كان أمة لوحده؟ هل تستمر الرواية الحديثية في الطرح العنصري اليهودي الذي يفرق بين الأسياد والعبيد؟ من الواضح أن الرواية متناقضة تمامًا مع الطرح القرآني، ونجد عذرًا لليهود بسبب عقيدتهم القائمة على فكرة العنصرية، كما تجسدها القصة المقتبسة من الكتاب المقدس:” وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لِإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ، فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هَـٰذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لِأَنَّ ابْنَ هَـٰذِهِ الْجَارِيَةِ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ». فَقَبُحَ الْكَلَامُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَجْلِ ابْنِهِ. فَقَالَ اللهُ لِإِبْرَاهِيمَ: «لَا يَقْبَحْ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلَامِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ، اسْمَعْ لِقَوْلِهَا. لِأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً، لِأَنَّهُ نَسْلُكَ».” (سفر التكوين، 21: 9-13. فلماذا يتسابق رواة الحديث وراء عنصرية بغيضة لا يقرّها القرآن ولا أي شرائع أخرى؟.

  • Haut du formulaire
  • Bas du formulaire
  • ثلاث كذبات أم أربع؟ !!!

عندما نمعن النظر بشكل أدق في الرواية السابقة:” فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ… “. فالملك حسب الرواية يطلب من المرأة الدعاء له ثم في الوقت نفسه يقول لها ولا أضرك:” ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ ففي كل مرة يشدّ أكثر ويعترف بقدرتها. فبماذا سيضرّها يا ترى وهي تملك مفاتيح شدّه؟. هذه العقلية الخرافية، والساذجة في رواية الأخبار، تكشف عن تهافت رواتها، وصناعها، وهي ثقافة كانت مستساغة حينما كانت العقلية الخرافية سائدة ومسيطرة على البنية الفكرية حينذاك. لكن حينما تفهم الخلفية التي يتحرك فيها هذا العقل، تدرك بأن أن الرواية كانت تريد أن تبسط رؤيتها اليهودية، وهي:” فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ مَهْيَا قَالَتْ رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ “.

أمّا عن الكذبات الثّلاث فلا ندري هل هي ثلاث أم أربع؟. فإذا كان ما قاله إبراهيم في شأن سارة إلى الفرعون صدقا وهو ما درج عليه المفسّرون وشرّاح الحديث أيضا من كونها أخته. فلم يبق من الرّواية إلاّ كذبتين. وإذا لم يكن ما قاله صدقا بل كذبا فقد أصبح عدد الكذبات أربعا وليس ثلاثا. كذبه على سارة إضافة إلى الفرعون فتأمل !!!.[7]

عموما لا يمكن أنْ نتحدَّث عن نبوي إنساني قرآني محتمل في ظلّ روايات مأزومة تضع نماذج غير قابلة للتطبيق، مناقضة للكمال البشري للأنبياء والرسل، ومصطدمة مع واقعهم وسيرتهم التاريخية. إنّنا نحتاج إلى إبراهيم النبي في دعوته للسّلام والهجر الجميل للعقل الجمعي المتأثر بثقافة الماضي، والمشبع بالحمولات الثقافية المختلفة. نحتاج لإبراهيم المؤسِّس للنظر في الكون، والنفس، والسائر على خطى التّجربة العلمية، غير آبهٍ بما قد تؤدي إليه النتائج. نحتاج إلى إبراهيم الصّادع بالحقّ، والجاهر بحججه أمام كل متسلِّط في الأرض، وكل قامع للحريات الفكرية والثقافية تحت أيّ مسمّى من المسمّيات. نحتاج لإبراهيم العادل عن كل قراراته حينما يدرك حجم الهوة التي قد تسقطه فيها عصبيته أو تصلب موقفه:” إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب[8]. هذا ما نحتاجه فعلا.

 

المراجع:

[1] – دنيس، كوش. مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية. ترجمة منير السعيداني. المنظمة العربية للترجمة،ط1،2007 . ص:92.

[2] – الذهبي، محمد حسن.(1990). الإسرائيليات في التفسير والحديث. (ط4). مكتبة وهبة. ص: 13/14

[3] – أبو رية، محمد.(ط6). أضواء على السنة المحمدية أو دفاعا عن الحديث. دار المعارف. ص: 117

[4] – إسرائيل، أبو ذؤيب.(2008). كعب الأحبار. راجع الكتاب وأعده للطبع: محمود عباسي. مطبعة الشرق التعاونية. شعفاط. القدس. ص: 21/22

[5] – بوهندي، مصطفى.(2002). أكثر أبو هريرة دراسة تحليلية نقدية. (ط1). الدار البيضاء. مطبعة النجاح الجديدة. ص: 63.

أبو رية، محمد.(1993). شيخ المضيرة أبوهريرة. (ط4). مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت. ص: 97

 

[6] – مسلم، محمد النيسابوري، صحيح مسلم، كتاب الفضائل/باب من فضائل إبراهيم الخليل، ح 2371، على الرابط التالي:

http://www.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?flag=1&bk_no=53&ID=7083

[7] – بوهندي، مصطفى، العقائد الإسرائيلية والتفسير الإسلامي، بحث مرقون بجامعة محمد الخامس الرباط، إشراف مولاي اسماعيل العلوي.

[8] – سورة هود الآية 75

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete